28 مارس,2024

القرب من الله

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى: (السابقون السابقون ، أولئك المقربون ، في جنات النعيم )1.

مدخل:

التقرب إلى الله سبحانه وتعالى غاية وقوام كل عبادة وعمل في الإسلام ، ومن دونه لا عبادة هناك ، بل هو الغاية من خلق الإنسان ، لأنه إنما خلق الله الخلق لعبادته ، والتقرب له تعالى هو قوام العبادة.

كما أن التقرب له عز وجل روح الدين وثمرة حياة الإنسان الذي يتكامل به في حركته التكاملية الصاعدة إلى الله ، فقيمة الإنسان وعمله في مقدار قربه من الله.

فكلما كان الإنسان حاضر القلب في صلاته ، كان قريـبا من الله تعالى ، لأن حضور القلب الذي هو جوهر الصلاة ، هو الذي يكسب المصلي حالة التقرب إلى الله عز وجل.

وعلى أي حال تـتحدث هذه الآيات عن صنف من أصناف الناس في يوم القيامة وهم السابقون ، كما تحدثت الآيات عن أنهم مقربون من الله سبحانه وتعالى.

والقريب من أسماء الله الحسنى ، وهو إما أن يلحظ بالنسبة إلى الذات المقدسة ، قال تعالى: (إن ربي قريب مجيب).2

أو يلحظ بالنسبة إلى رحمته الواسعة ، قال تعالى : (إن رحمة الله قريب من المحسنين)3 .

القرب من الله سبحانه :

هذا وقد يكون القرب من الله سبحانه بالنسبة إلى خلقه ، ويصح أن يعبر عنه باللطف ، والعناية والرعاية والقدرة ، وغير ذلك.

وقد يكون من المخلوق بالنسبة إلى الله عز وجل ، وهو حالة انقطاع إلى الله تبارك وتعالى، بحيث لا يعلم حقيقتها إلا المتقرب إليه جلت عظمته.

لكن التقرب من العبد إلى الله ، ليس من قبيل القرب المكاني أو القرب الزماني ، لأن الله تعالى يحيط بالمكان والزمان ، ولا يحويه مكان ولا زمان حتى يمكن أن يتقرب الإنسان منه على فاصل مكاني أو زماني خاص.

ذلك أن القرب المكاني أو الزماني يحوي دائما تقارناً بين النقطتين المتقاربتين ، فإذا كان زيد قريـباً من عمرو كذلك قريـباً من زيد ، ومن غير الممكن أن يكون زيد قريـباً من عمرو ، مع كون عمرو بعيداً منه.

فهذا التقارن الدائم ، إنما يجري في القرب المكاني والزماني ، وهو قرب مادي.

أما القرب من الله سبحانه ، فلا يكون كذلك لكونه قرباً معنوياً ، والأمر فيه يختلف فقد يكون أمر قريـباً من أمر آخر ، مع أن الآخر بعيد عنه ، وليس بالضرورة أن يكون بينهما تقارن.

وقرب الإنسان من الله سبحانه وبعده عنه من هذا القبيل ، فإن الله قريب من عباده بلا شك ، لكنهم قد يكونوا بعيدين عنه.

معنى القرب والبعد :

ويمكننا أن نؤكد ما ذكرناه ، من خلال استعراض بعض الأمثلة التي تشير إلى اختلاف القرب والبعد بين الله سبحانه وبين عباده.

فقد يكون القرب بمعنى العلم والمعرفة والإحاطة ، بينما البعد يعني الجهالة ، ولا ريب في أن الله تعالى قريب من عباده ، عالم بهم مطلع على سرائرهم ، محيط بهم ، والعبد بعيد عن الله غير عارف به.

وقد يكون القرب بمعنى الذكر ، والبعد بمعنى الغفلة أو النسيان ، والله تعالى ذاكر لعباده بينما عباده ينسونه ولا يذكرونه.

وقد يكون القرب بمعنى الحب والرأفة والشفقة ، فالله تعالى يحب عباده ويرأف بهم ، ويشفق عليهم ، بينما عباده يعرضون عنه ويصدون عن ذكره ، والله تعالى قريب من عباده لا يحجبه عنهم شيء ، بينما عباده تحجبهم عنه سيئاتهم ، وذنوبهم ، فتبعدهم عنه.

فاتضح لنا مما تقدم أن القرب والبعد منه سبحانه وتعالى ، يغاير القرب والبعد المكاني والزماني في مساحة المكان والزمان.

أنحاء القرب وسبله :

وإذا وصلنا إلى معرفة معنى القرب من الله تعالى ، نتساءل عن كيفية التحصل عليه ، إذ كيف يتسنى للعبد أن يكون قريـباً من الله تعالى ، وما هي السبل والوسائل التي تحقق له ذلك ؟ …

وعند الجواب عن ذلك نقول :

إن هناك مجموعة من الوسائل للتقرب إلى الله تعالى سبحانه ، نشير في المقام إلى أهمها :

الأول : ذكر الله تعالى.

الثاني : التحلي بالصفات الإلهية،بمعنى أن يسعى الإنسان إلى اكتساب الصفات الجمالية للذات المقدسة،والتنـزه عن الصفات السلبية التي تنـزه الذات المقدسة عنها،مثلاً يسعى الإنسان ليكون كريماً كما أن الله سبحانه وتعالى كريم،مع ملاحظة الفرق بين الكرم الإلهي الغير متناهي،وكرم الإنسان المحدود.

الثالث : العمل الصالح.

الرابع : الجهاد والشهادة.

الخامس : الإحسان وخدمة الخلق.

السادس : الدعاء.

السابع : الصيام.

ورغبة منا في إتمام الفائدة وتحصيلها ، سنحاول التعرض لهذه الأمور بنحو من التفصيل ، إذ أن هذه الأمور المذكورة مضافاً لكونها سبلاً للقرب من الله سبحانه وتعالى ، هي وسائل لتكميل النفس أيضا وتربـيتها وتزكيتها.

ذكر الله :

وهو يعني ارتباط الإنسان وتعلقه بالله سبحانه ، بعدما تحقق منه الإيمان به ، وبعد معرفته له ، اللذان يعدان أساس كل ارتباط وتقرب إليه تعالى.

ويمكن عدّ الذكر نقطة بداية الحركة الباطنية والسير والسلوك نحو القرب من رب العالمين.

لأن السالك يرتفع من خلاله فوق أفق المادة ، ليصبح أكثر كمالاً حتى يحظى وينال مقام القرب من الحق تعالى.

فذكر الله بمنـزلة روح العبادات وهو أكبر هدف لتشريعها ، لأن قيمة أي عبادة بمقدار توجه العبد.

هذا وقد وردت عندنا الكثير من الوصايا حول ذكر الله سواء في الآيات أم في النصوص الحديثية.

قال تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)1.

وقال سبحانه : (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والأبكار)2.

وقال عز من قائل : (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعوداً وعلى جنوبكم)3.

وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً )4 .

وعن أبي عبد الله (ع) قال: من أكثر ذكر الله أظله في جنـته5.

وعنه (ع)في رسالته لأصحابه قال:وأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار،فإن الله أمر بكثرة الذكر،والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين،واعلموا أن الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلا ذكره بخير[1].

وقال(ع):قال الله لموسى،أكثر ذكري بالليل والنهار وكن عند ذكري خاشعاً وعند بلائي صابراً واطمئن عند ذكري واعبدني ولا تشرك بي شيئاً إليّ المصير،يا موسى اجعلني ذخرك وضع عندي كنـزك من الباقيات الصالحات[2].

وجاء في وصية النبي(ص)لأبي ذر أنه قال:عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض[3].

وعن الحسن بن علي(ع)قال:قال رسول الله(ص):بادروا إلى رياض الجنة،فقالوا:ما رياض الجنة؟…قال:حلق الذكر[4].

وعن أبي عبد الله الصادق(ع)قال:قال رسول الله(ص):ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل في الفارين له الجنة[5].

المقصود من الذكر :

بعد ما عرفنا ما للذكر كعبادة من الأهمية ، نحتاج أن نعرف ما هو المقصود منه ، فهل هو الذكر اللفظي اللساني ، مثل سبحان الله ، والحمد لله ولا إله إلا الله ، أو أن المقصود منه شيء آخر ؟ وهل يمكن أن يكون لهذه الألفاظ أثر وفائدة مع عدم وجود التوجه الباطني؟

جاء في الحديث ، فيما ناجى به موسى (ع) ربه : إلهي ما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه؟… قال : يا موسى أظله يوم القيامة بظل عرشي وأجعله في كنفي)[6].

ونلاحظ هنا أن الحديث استعمل الذكر اللساني والذكر القلبي ، وهذا المضمون وارد في نصوص كثيرة أيضا.

نعم غالبا ما يستعمل للدلالة على التوجه القلبي والحضور الباطني ، وهذا هو الذكر الكامل الحقيقي.

فذكر الله عبارة عن حالة لرؤية الله روحانياً والتوجه الباطني إلى رب العالمين ، فحين يجد العبد ربه حاضراً وناظراً ويجد نفسه في محضر الخالق ، لن يرتكب المحرمات ويترك الواجبات.

ولهذا ليس ذكر الله عملا سهلا ، فعن أبي عبد الله (ع) قال:أشد الأعمال ثلاثة:إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى لها منهم بشيء إلا رضيت لهم منها بمثله،ومواساتك الأخ في المال وذكر الله على كل حال،ليس سبحان الله،والحمد لله،ولا إله إلا الله والله أكبر فقط،ولكن إذا ورد عليك شيء أمر الله به أخذت به وإذ ورد عليك شيء نهى الله عنه تركته[7].

وعن أمير المؤمنين(ع)قال:لا تذكر الله سبحانه ساهياً ولا تنسه لا هياً واذكره ذكراً كاملاً يوافق فيه قلبك لسانك ويطابق إضمارك إعلانك ولن تذكره حقيقة الذكر حتى تنسى نفسك في ذكرك وتفقدها في أمرك[8].

هذا وقد اتضح من العرض السابق أن ذكر الحضور القلبي والتوجه في هذه النصوص على أساس كونه مصداقاً فقط،وليس المقصود أن الخطرات القلبية والتصورات الذهنية لا تكون لها أية نتيجة،بل المطلوب هو الحضور القلبي والتوجه الباطني المؤثر،بحيث يكون من علاماته الالتزام بأوامر الله سبحانه وتعالى،واجتناب ما نهى عنه.

لكن هذا المعنى الذي ذكرناه لا ينفي أهمية الأذكار اللفظية،مثل:لا إله إلا الله،والحمد لله،وسبحان الله،وكونها من المصاديق الحقيقية للذكر.

بل إن نفس هذه الكلمات تعتبر إحدى مراتب ذكر الله تعالى،مضافاً لكونها تنبع من القلب.

ولهذا كل من يردد هذه الأذكار بلسانه،لابد أن يكون لديه توجه قلبي ولو كان التوجه ضعيفاً.

هذا ويعتبر ترديد هذه الأذكار وقراءتها من وجهة نظر الشرع الشريف،من الأمور المطلوبة التي يستحق مؤديها على أدائها الثواب،نعم لابد من أن يكون ذلك مع قصد القربة.

مراتب الذكر:

الذكر مقام واسع،له مراتب ودرجات كثيرة،تبدأ من أدنى مرتبة من مراتبه،اللفظي واللساني،وتستمر لتصل إلى مرتبة الانقطاع الكامل والشهود والفناء.

هذا ومراتب الذكر هي:

المرتبة الأولى:

هي المرتبة التي يؤدي فيها الذاكر أوارداً خاصة،بقصد القربة إلى الله تعالى لأنه يكون متوجهاً إلى الله بقلبه دون أن يلتفت إلى معانيها.

المرتبة الثانية:

هي التي تحتوي على تكرار الألفاظ من الذاكر بقصد القربة،لكنه مضافاً لذلك يتذكر معانيها في ذهنه،وبه تختلف عن المرتبة الأولى.

المرتبة الثالثة:

وهي التي يحصل فيها متابعة من اللسان للقلب،بحيث يكرر الذكر،وذلك لأن القلب متوجه إلى الله وهو يدرك المعاني والمفاهيم لأذكار الإيمان في باطن ذاته،فيأمر القلب اللسان بالقيام بالذكر.

المرتبة الرابعة:

وهو التي يكون فيها الذاكر والسالك إلى الله متوجهاً بقلبه توجهاً كاملاً نحو الله ولديه حضور باطني فيراه حاضراً وناظراً ويشاهد نفسه في محضره.

وهذه المرتبة تختلف فيها أحوال السالكين،حيث فيها الكامل،كما فيها الأكمل،كل حسب ما وصل إليه مع الله من خلال قطعه للحجب الدنيوية وقطع جميع العلاقات غير العلاقات الحقيقية.

يقول أمير المؤمنين(ع):ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله وبعده ومعه.

وقد سئل(ع)يوماً:هل رأيت ربك حين عبدته؟فقال(ع):ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره،قيل:كيف رأيته؟قال(ع):ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار،ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان.

وقال(ع):إلهي هب كمال الانقطاع إليك،وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك،حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور،فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك[9].

وعن أبي عبد الله الحسين(ع)في دعاء عرفة:كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟…أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك؟…متى يكون هو المظهر لك،متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟…ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟…عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً[10].

—————————————————

1 سورة الواقعة الآيات رقم

2 سورة هود الآية رقم 61

3 سورة الأعراف الآية رقم 56

1 سورة آل عمران الآية رقم 191

2 سورة آل عمران الآية رقم 41

3 سورة النساء الآية 103

4 سورة الأحزاب الآية 41

5 الوسائل ج4 ص1182

[1] المصدر السابق ص 1183.

[2] المصدر السابق ص 1182.

[3] بحار الأنوار ج 93 ص 154.

[4] المصدر السابق ص 156.

[5] بحار الأنوار ج 93 ص 163.

[6] المصدر السابق ص 156.

[7] المصدر السابق ص 155.

[8] المصدر السابق ص 151.

[9] مفاتيح الجنان.

[10] مفاتيح الجنان، دعاء عرفة.