26 أبريل,2024

مدفن الرأس الشريف

اطبع المقالة اطبع المقالة

مدفن الرأس الشريف

اختلف المؤرخون في تحديد موضع دفن رأس الإمام الحسين(ع)، فذكرت أقوال تضمنتها كلمات المؤرخين:

المدينة المنورة:

القول الأول: وقد ذهب إليه ابن سعد في طبقاته، والبلاذري في أنساب الأشراف، وذكر ذلك أيضاً القاضي النعمان المغربي في كتابه شرح الأخبار، وأورده يحيى بن الحسن الجرجاني في الأمالي الخميسية للشجري، قال: أخبرنا أبو مّحمد الحسن بن علي الجوهري، بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا محمد بن العباس بن حيويه، من لفظه، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري، قال: حدَّثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدَّثنا محمد بن الحسن، قال “كان بنو أميَّة مجتمعين عند عمر بن سعد فسمعوا صياحا فقالوا: ما هذا؟ فقيل: نساء بني هاشم يصحنَ لمَّا رأينَ رأس الحسين (ع)، فقال: مروانُ بن الحكم:

 

عجَّت نساءُ بني زبيدة عجَّة       كعجيج نسوتنا غداة الأربد

وذكر اليافعي في مرآة الجنان: واختلف الناسُ أين حُمل الرأسُ المكرَّم من البلاد، وأين دُفن، فذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني أنَّ يزيد حين قدِم عليه رأسُ الحسين بعث إلى المدينة .. وبعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص وهو إذ ذاك عاملُه على المدينة.

 

كما حكى ذلك ابن الجوزي، حيث قال بأنه قد دفن في البقيع إلى جانب أمه السيدة الزهراء(ع)، من قبل حاكم المدينة وهو عمرو بن سعيد، فإنه بعدما وصل الرأس إلى المدينة، وضع بين يديه، وأخذه من أرنبة أنفه، ثم أمر به، فكفن ودفن في البقيع.

وقال السيِّد الأمين في أعيان الشيعة: وفي كتاب جواهر المطالب لأبي البركات شمس الدين محمد الباغندي الشافعي كما في نسخةٍ مخطوطةٍ في المكتبة الرضويَّة عند ذكر أحوال الحسين (ع): وأمَّا رأسُه فالمشهور بين أهل التاريخ والسِيَر أنَّه بعثه ابنُ زياد الفاسق إلى يزيد بن معاوية، وبعث به يزيدُ إلى عمرو بن سعيد الأشدق لطيم الشيطان، وهو إذ ذاك بالمدينة فنصَبه ودُفن عند أمِّه بالبقيع.

وقد نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن شيخه أبي جعفر الإسكافي أنَّه وصف خبر حمل رأس الحسين (ع) إلى المدينة بالخبر المشهور.

 

وهذا القول يعتمد على أمرين، لابد من توفرهما كي ما يلتـزم به:

الأول: أن يكون قبر السيدة الزهراء(ع) معروفاً، ومحدداً لكل أحد، وأنه في البقيع، وليس مخفياً لا يعلم به كل أحد.

الثاني: أن تشتمل المصادر التاريخية ما يثبت أن الرأس الشريف للإمام الحسين(ع)، قد وصل إلى أرض المدينة بعدما كان في بلاد الشام.

 

ويكفي لرد الأمر الأول، أن المشهور تاريخياً أن القبر الشريف للسيدة الزهراء(ع) ليس معروفاً، وهل أنه في بقيع الغرقد، أو أنه في الروضة الشريفة، أو أنها في بيتها المبارك.

وأما الثاني، فإنه بعد التسليم بوصول الرأس الشريف إلى أرض المدينة المنورة، فإنه مخالف لما هو المشهور بين المسلمين على دفنه في كربلاء المقدسة غير واحد منه، كالشبرواي والقزويني، وأبي ريحان البيروني، بل هو المشهور بين علماء الطائفة المحقة، كما ذكر ذلك ابن شهراشوب، بل عن غواص بحار الأنوار(ره) أن عليه عمل الطائفة، وقبله ابن نما الحلي، المشعر بوجود اجماع بينهم على ذلك، فتأمل.

 

في سوريا:

القول الثاني: وينحل هذا القول إلى ثلاثة أقوال:

أحدها: أن موضع دفن الرأس الشريف، هو مدينة دمشق، وأنه قد دفن فيها بعدما وصل إليها من كربلاء، عن طريق الكوفة.

ثانيها: أن موضع الدفن هي مدينة حلب، وقد أشار إليه ابن تيمية في رسالته التي كتبها جواباً عن سؤال حول رأس الإمام الحسين(ع).

 

ثالثها: أن الرأس قد دفن في مدينة الرقة الواقعة على شاطئ الفرات، في مسجد فيها، وقد حكاه سبط ابن الجوزي عن عبد الله بن عمر الوراق، ذكره في كتاب المقتل.

وقد أختلف القائلون بالقول الأول وأنه مدفون في دمشق، على أقوال:

الأول: أنه مدفون في باب الفراديس، وقد سمي ذلك المكان بمسجد الرأس، وقد حكاه سبط ابن الجوزي عن ابن أبي الدنيا، وعن الواقدي، والبلاذري في تاريخه.

الثاني: أنه مدفون في دار الأمارة في دمشق.

الثالث: أنه في المقبرة العامة لدفن المسلمين.

الرابع: أنه في جامع دمشق، وقد سمي المكان برأس الإمام الحسين(ع)، ويزوره الناس.

 

وليس لهذه الأقوال ما يسندها ويبرهن عليها، فإن الأقوال المذكورة مجرد إدعاءات وردت في كلمات من قالها، ولفقدان ما يدل عليها. مضافاً إلى أن حصول الاختلاف شاهد على ضعفها، ومانع من الأخذ بها.

 

مصر:

القول الثالث: فقد اشتملت بعض الكلمات على أن الرأس الشريف قد دفن في بلاد مصر، وقد عولج التساؤل المتبادر إلى الأذهان عن كيفية وصول الرأس المبارك إلى أرض مصر بذكر كيفيتين في نقله إليها:

الأولى: ما ذكره الشعراني، من أن نقله إلى أرض مصر قد تم بواسطة السيدة زينب(ع)، وأنها التي قامت بنقله معها من المدينة المنورة إلى أرض مصر، وقامت بدفنه فيها بعدما جاءت به معها.

الثانية: ما أفاده المقريزي، من أن النقل قد تم بواسطة الفاطميـين، وأنهم قاموا بنقله من باب الفراديس في دمشق إلى عسقلان، ومنها حمل إلى القاهرة بعد ذلك، عن طريق البحر في اليوم العاشر من شهر جمادى الآخرة، وذلك في سنة 548 في أيام المستنصر بالله العبيدي، صاحب مصر والذي قام بعملية النقل من دمشق إلى القاهرة هو سيف المملكة، مع القاضي المؤتمن بن مسكين.

 

وتعتمد الكيفية الأولى، على ثبوت سفر السيدة العقيلة(ع) من أرض المدينة إلى مصر، حتى يحكم بأنها نقلته(ع) معها إليها، ومع عدم ثبوت السفر المذكور، لن يبقى وجه يستند إليه.

وعند الرجوع للسيرة الطاهرة للسيدة الحوراء(ع)، لا نجدها تشتمل على ما يثبت حصول السفر من المدينة المنورة التي رجعت إليها مع ركب السبايا، لأرض مصر، فضلاً عن أنه لا يوجد ما يثبت أن المرقد الموجود هناك للسيدة زينب(ع).

ثم إنه لو رفعت اليد عما تقدم، وألتـزم بالسفر منها إلى مصر، فإن ذلك لن يكون مباشرة بعد عودتها من الشام، بل كان ذلك بعد مدة، وهذا يعني أن الرأس كان عندها خلال هذه الفترة، وأنه لم يدفن مباشرة، وهذا مستبعد جداً، لمنافاته للجوانب الشرعية، وأبعد منه أن يكون قد دفن، ثم بعد ذلك تمت عملية استخراجه من أجل نقله إلى مصر ودفنه فيها، لعدم وجود ما يوجب ذلك.

 

على أنه يكفي لرد هذه الكيفية عدم القول بنقل الرأس الشريف بواسطتها، إلا من الشعراني، وهذا الانفراد منه دون غيره من الباحثين والمؤرخين، مانع من القبول به.

وأما الكيفية الثانية، فتقوم على الالتـزام بحصول دفن الرأس الشريف في دمشق في باب الفراديس، في سنة واحد وستين من الهجرة النبوية، وبقي هناك حتى سنة خمسمائة وثمانية وأربعين من الهجرة، وقد تم نقله منه في تلك السنة إلى مصر. وقد عرفت عدم وجود ما يدل على هذا القول، هذا كله بعد التسليم أن الفاطميـين قد قاموا بعملية النقل.

 

بلاد فارس:

القول الرابع: ومن الذين ألتـزموا بأن موضع الرأس الشريف في بلاد فارس، وبالتحديد مدينة مرو أحمد عطية، فقد ذكر ذلك في دائرة المعارف الحديثة، والظاهر أن منشأ هذا القول ما ذكر من قيام أبي مسلم الخراساني، بنقله من دمشق إليها بعدما استولى على دمشق، وقام بدفن الرأس الشريف في دار الأمارة، وبنى عليه رباطاً.

 

ولم يعرف بين المؤرخين أحد يقول بهذا القول، مضافاً إلى خلو المصادر التاريخية عما يدل عليه، كما أنه يعتمد على التسليم بحصول عملية دفن الرأس في دمشق، حتى يلتـزم بحصول عملية نقله إلى مدينة مرو، ومع البناء على عدم تمامية ذلك كما سمعت، فإنه سوف يسقط القول المذكور عن القبول.

 

في النجف الأشرف:

القول الخامس: أن الرأس الشريف قد تم دفنه في النجف الأشرف عند قبر أمير المؤمنين(ع)، وقد قاله جملة من كبار علماء الطائفة، كالكليني(ره)، فقد عقد باباً في كافيه تحت عنوان موضع رأس الحسين(ع)، ذكر فيه روايتين، تحددان موضع دفن الرأس المبارك، وبناءً على أنه(ره) ملتـزم بكل ما تضمنه كتابه، وآخذ به، يكون مختاره في تحديد موضع دفن الرأس هو النجف الأشرف.

وأيضاً ابن قولويه القمي، في كتابه كامل الزيارات، وهو ملتـزم بكل ما تضمنه كتابه، حتى قيل أنه يحكم بصحة جميع ما تضمنه من نصوص.

 

وكذلك الشيخ الطوسي(ره)، فقد ذكر في كتابه تهذيب الأحكام النصوص التي تحدد موضع دفن الرأس الشريف.

ومن القائلين بذلك أيضاً الشيخ الحر العاملي(ره)، فقد ذكر في كتابه وسائل الشيعة النصوص التي تحدد موضع دفن الرأس.

 

وقد يظهر القول بذلك أيضاً من المجلسي(ره)، لأنه بعدما حكى القول بشهرة دفن الرأس مع الجسد عن علماء الطائفة، أشار إلى وجود نصوص تحدد أنه مدفون في النجف الأشرف عند قبر أمير المؤمنين(ع)، قال(ره) في كتابه بحار الأنوار: والمشهور بين علمائنا الإمامية أنه قد دفن رأسه مع جسده، رده علي بن الحسين(ع)، وقد وردت أخبار كثيرة في أنه مدفون عند قبر أمير المؤمنين(ع)[1]. نعم ذكر في كتاب المزار عند حديثه عن قبر أمير المؤمنين(ع)، أن موضع رأس الإمام الحسين(ع) عند قبر أمير المؤمنين(ع)، وسوف يأتي أن هذا التعبير مشعر، أو مشير إلى أنه المكان الذي وضع فيه، وليس المكان الذي قد دفن فيه. وهذا يوحي بأن العلامة المجلسي(ره) قائل بمقولة المشهور، وليس قائلاً بهذا القول، فتأمل. ويساعد على ذلك تعقيبه على خبر يونس الآتي، بقوله: وإنما يزار ويصلى ههنا لكونه محلاً للرأس المقدس وقتاً ما[2].

 

ولو قيل: إنه(ره) ذكر في زيارة أمير المؤمنين(ع) بقوله: ينبغي أن يزور الإمام الحسين عند قبر أمير المؤمنين صلوات الله عليهما، مما يلي رأسه، مما ذكره محمد بن المشهدي في المزار الكبير، وذكر أن الصادق(ع) زار رأس الحسين(ع) عند رأس أمير المؤمنين(ع)[3].

 

قلت: إن العبارة المذكورة ليست واضحة في التـزامه بأن الرأس الشريف قد دفن في النجف الأشرف، لأن مجرد الزيارة لا تعني أنه مكان الدفن، بل قد تكون الزيارة أيضاً بلحاظ كونه مكاناً قد وضع فيه الرأس المبارك.

وقد ينسب القول بذلك أيضاً للمحدث النوري(ره) في كتابه مستدرك الوسائل، اعتماداً على عنون باباً في مستدركه بعنوان: استحباب زيارة رأس الحسين(ع) عند قبر أمير المؤمنين(ع)، وذكر في ذلك الباب ثلاث روايات، وجاء في الثالثة منهن أن ابن المشهدي في مزاره يروي أن الإمام الصادق(ع) زار رأس الحسين(ع) عند أمير المؤمنين(ع) وصلى عنده أربع ركعات[4].

 

وقد عرفت منع ذلك بما تقدم ذكره تعقيباً على نسبة ذلك للعلامة المجلسي(ره).

وربما نسب القول به أيضاً إلى السيد ابن طاووس(ره)، لأنه نقل نصوصاً في كتابه فرحة الغري، تشير إلى دفن الرأس الشريف عند قبر أمير المؤمنين(ع).

وقد احتمل ذلك صاحب الجواهر(ره)، لأنه ذكره ظاهراً لمعالجة ما يتصور من معارضة بين النصوص التاريخية الدالة على أن الدفن كان في كربلاء، وبين النصوص الروائية الدالة على أنه قد دفن في أرض النجف عند قبر أمير المؤمنين(ع).

 

وقد تضمنت النصوص ذكر موضعين لدفن الرأس الشريف:

الموضع الأول: أنه قد دفن في منطقة الحنانة، وهو موضع معروف فيه مزار يقصد.

الموضع الثاني: أنه في حرم أمير المؤمنين(ع).

 

وكيف ما كان، فإن النصوص المذكورة دليلاً على هذا القول طائفتان:

الأولى: ما تدل صراحة على أن موضع مدفن الرأس الشريف، عند قبر أمير المؤمنين(ع):

منها: ما رواه عمر بن عبد الله بن طلحة النهدي، عن أبيه، قال: دخلت على أبي عبد الله(ع)-فذكر حديثاً حدثناه-، قال: مضينا معه-يعني أبا عبد الله(ع)-حتى انتهينا إلى الغري، قال: فأتى موضعاً فصلى ثم قال لإسماعيل: قم فصل عند رأس أبيك الحسين(ع)، قلت: أليس قد ذهب برأسه إلى الشام؟ قال: بلى، ولكن فلان مولانا سرقه فجاء به فدفنه ههنا[5]. ودلالته على المدعى واضحة جداً وصريحة، فقد تضمن نصه(ع) على أن الرأس قد دفن عند قبر أمير المؤمنين(ع).

نعم قد اشتمل سنده على أحمد بن أحمد بن حامد، وهو لم يذكر في المصادر الرجالية، كما أن يزيد بن إسحاق شعر، مجهول الحال.

 

ومنها: ما رواه يزيد بن عمر بن طلحة، قال: قال لي أبو عبد الله(ع) وهو بالحيرة أما تريد ما وعدتك؟ قلت: بلى-يعني الذهاب إلى قبر أمير المؤمنين(ع)-قال: فركب وركب إسماعيل وركبت معهما حتى إذا جاز الثوية وكان بين الحيرة والنجف عند ذكوات بيض نزل ونزل إسماعيل، ونزلت معهما فصلى وصلى إسماعيل وصليت فقال لإسماعيل: قم فسلم على جدك الحسين(ع)، فقلت: جعلت فداك أليس الحسين(ع) بكربلاء؟ فقال: نعم، ولكن لما حمل رأسه إلى الشام سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين(ع)[6]. وقد رواها ابن قولويه أيضاً في كتابه كامل الزيارات.

وهو كسابقه من حيث الدلالة، إلا أن سنده يعاني مشكلة، لاشتماله على راويـين مجهولين، وهما: يحيى بن زكريا بن موسى، ويزيد بن عمر بن طلحة.

 

ومنها: مرفوعة علي بن أسباط، قال: قال أبو عبد الله(ع): إنك إذا أتيت الغري رأيت قبرين: قبراً كبيراً، وقبراً صغيراً، فأما الكبير فقبر أمير المؤمنين(ع)، وأما الصغير، فرأس الحسين(ع)[7].  وهي واضحة الدلالة أيضاً فإن التعبير بالقبر يشير إلى كونه مدفوناً هناك. نعم مقتضى كونها مرفوعة يسلب منها الحجية، ويمنع من الاستناد إليها.

 

ومنها: ما رواه يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله(ع)-في حديث-أنه ركب وركبت معه حتى نزل عند الذكوات الحمر، وتوضأ ثم دنا إلى أكمة فصلى عندها وبكى، ثم مال إلى أكمة دونها ففعل مثل ذلك، ثم قال: الموضع الذي صليت عنده أولاً موضع أمير المؤمنين، والآخر موضع رأس الحسين(ع)، وإن ابن زياد لما بعث برأس الحسين بن علي إلى الشام رد إلى الكوفة فقال: أخرجوه منها لا يفتن به أهلها، فصيره الله عند أمير المؤمنين(ع)، فدفن، فالرأس مع الجسد، والجسد مع الرأس[8].

ودلالة هذه الرواية على المطلوب وفقاً لنقل صاحب الوسائل(ره)، أما بناء على ما جاء في المصدر، وهو كامل الزيارات، فلا تدل على المطلوب، لأن الوارد في المصدر لا يتضمن التعبير بكلمة(فدفن)، بل هي زائدة في الوسائل، وربما يكون ذلك راجعاً لنسخة الكامل التي كانت عنده.

 

ومع وجود الاختلاف، سوف يكون الأمر من صغريات الدوران بين أصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة، بالنسبة للكامل، وأصالة عدم الغفلة بالنسبة للزيادة في جانب الوسائل، وبناءً على أن هذين أصلين عقلائيـين، فلا مناص عن التساقط، لعدم وجود ما يوجب ترجح أحدهما على الآخر، أما بناء على منع وجود مثل هذين الأصلين عند العقلاء، فلا مناص من العمد إلى ترجيح إحدى النسختين على الأخرى، فإما أن يكون الترجيح لنسخة الكامل الموجودة بأيدينا، والتي لا تتضمن كلمة(فدفن)، أو نسخة صاحب الوسائل المشتملة على ذلك.

 

ولعل الترجيح يكون للنسخة الموجودة بأيدينا، ويساعد على ذلك ذيل الخبر، وهو قوله: فالرأس مع الجسد، والجسد مع الرأس، فإن هذا التعبير لا ينسجم مع البناء على كون موضع دفن الرأس عند قبر أمير المؤمنين(ع)، بل يساعد على أنه قد رد إلى كربلاء، لأنه لو بني على ترجيح نسخة الوسائل المشتملة على التعبير بكلمة(فدفن)، سوف يكون في البين تهافت، لأنه لن ينسجم أنه مدفون في النجف الأشرف عند أمير المؤمنين(ع)، وأنه مع الجسد والجسد في كربلاء، ومن المستبعد جداً أن يكون الجسد الشريف في النجف الأشرف.

 

اللهم إلا أن يكون النظر إلى ما تضمنته النصوص، من التقاء أجساد الأوصياء مع أجساد الأنبياء، واجتماعهم، فيكون التعبير الوارد في النص ناظراً لذلك، فتأمل جيداً.

وللعلامة المجلسي(ره) بيان على النص المذكور، فقد ذكر(ره) احتمالين في العبارة المذكورة:

الأول: أن يكون المقصود من قوله(ع): فالرأس مع الجسد، أي بعدما دفن الرأس هنا ألحقه الله بالجسد، وإنما يزار ويصلى ههنا لكونه محلاً للرأس المقدس وقتاً ما.

الثاني: أن يكون المقصود من الإلحاق، كون جسد الإمام أمير المؤمنين(ع) كالجسد بالنسبة للرأس الشريف للإمام الحسين(ع)، وعليه يكون المقصود من الإلحاق، هو إلحاق رأس الإمام الحسين(ع) بجسد أمير المؤمنين(ع)، أي كونه معه.

وقد استبعد(قده) الاحتمال الثاني، وهو ظاهر في بناءه على الاحتمال الأول[9].

 

ثم إن الرواية المذكورة تعاني مشكلة سندية، فقد تضمن سندها يونس بن ظبيان، وطريق توثيقه رواية ابن أبي عمير عنه، بناءً على القبول بكبرى المشائخ الثقات، والمقرر في محله تمامية الكبرى، إلا أن الكلام في الصغرى، فإنه لم يثبت رواية ابن أبي عمير عنه، ومع التسليم، فلقائل أن يقول بأن المطلوب روايته عنه منفرداً، والرواية المدعى روايته إياها عنه، ليست كذلك، بل عنه وعن غيره. كما يمكن المناقشة في سندها أيضاً بوجود علي بن أحمد بن أشيم، فإنه مجهول، وإن كانت رواياته تفوق الخمسين مورداً.

 

الطائفة الثانية: ما تضمنت التعبير بموضع الرأس، وليس مدفنه:

منها: ما رواه مبارك الخباز، قال: قال لي أبو عبد الله(ع): أسرجوا البغل والحمار، في وقت ما قدم وهو في الحيرة، قال: فركب وركبت حتى دخل الجرف، ثم نزل فصلى ركعتين، ثم تقدم قليلاً آخر فصلى ركعتين، ثم تقدم قليلاً آخر فصلى ركعتين، ثم ركب ورجع، فقلت له: جعلت فداك ما الأولتين، وما الثانيتين، والثالثتين؟ قال: الركعتين الأولتين موضع قبر أمير المؤمنين(ع)، والركعتين الثانيتين موضع رأس الحسين(ع)، والركعتين الثالثتين موضع منبر القائم(ع)[10]. والتعبير بكلمة(موضع)، يحتمل فيه أمران:

الأول: أن يكون مشيراً إلى تحديد المكان الذي دفن فيه الرأس الشريف، فإنه يعبر عن ذلك بالموضع وفقاً للمتفاهم العرفي.

الثاني: أن يكون المقصود منه المكان الذي وضع فيه، وليس الذي دفن فيه، وهو استعمال عرفي أيضاً.

 

ولا يبعد البناء على الثاني، ولا أقل من احتمال كونه المتبادر عند إطلاق اللفظ عادة، فتأمل.

والحاصل، إن التعبير المذكور ليس واضحاً وصريحاً في الدلالة على تحديد المكان الذي قد دفن فيه الرأس الشريف.

ثم إن سند الخبر قد اشتمل على محمد بن أحمد بن داوود، وقد خلت كلمات الرجاليـين من النص على وثاقته، نعم بنى بعض الأعاظم(ره) على وثاقته من خلال التعبيرات التي وردت في حقه من النجاشي، وما تضمنه كلامه من توصيف له، لكون ذلك لا يقصر عن التوثيق[11].

 

وقد يمنع من الاستناد للخبر المذكور لشبهة الإرسال، فإن الشيخ(ره) لم يذكر طريقه إلى أحمد بن محمد بن داوود في المشيخة، فيكون الخبر مرسلاً.

ويتغلب على ذلك بوجود طريق للشيخ(ره) إلى أحمد ذكره في الفهرست إلى جميع كتبه ورواياته.

كما أن السند قد تضمن محمد بن تمام، وهو مجهول الحال، واحتمل الأردبيلي(ره) في جامع الرواة، أن يكون تمام تصحيف همام، بقرينة كثرة رواية محمد بن أحمد بن داوود عنه، ولم يقبل ذلك بعض الأعاظم(ره)، لاختلاف كنيتيهما[12].

 

ومنها: ما رواه أبان بن تغلب، قال: كنت مع أبي عبد الله(ع) فمر بظهر الكوفة فنـزل فصلى ركعتين ثم تقدم قليلاً فصلى ركعتين ثم سار قليلاً فنـزل فصلى ركعتين، ثم قال: هذا موضع قبر أمير المؤمنين(ع)، قلت: جعلت فداك والموضعين اللذين صليت فيهما؟ فقال: موضع رأس الحسين(ع)، وموضع منـزل القائم(ع)[13]. ويجري في دلالة الخبر المذكور ما تقدم ذكره في الخبر السابق عليه، من وجود الاحتمالين.

وقد يدعى أن المقصود بالموضع في الخبر المذكور هو موضع الدفن، وليس المحل الذي وضع فيه الرأس الشريف، بقرينة ذكره(ع) موضع قبر أمير المؤمنين(ع)، فإنه لا يقصد من ذلك المكان الذي وضع فيه، بل يقصد منه المكان الذي قد دفن فيه.

 

وهو وإن كان محتملاً، لكنه لا ينفي الاحتمال الآخر، خصوصاً بملاحظة الموضع الثالث الذي تضمنه الخبر وهو موضع بيت القائم(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، فإنه إشارة إلى المحل الذي هو فيه، وموضعه، ما يبقي للاحتمال الثاني مجال.

ثم إن الخبر المذكور قد تضمن سنده سهل بن زياد، وهو موضع خلاف بين الرجاليـين، ومقتضى التحقيق البناء على ضعفه، أو لا أقل من كونه مجهول الحال بعد تعارض التوثيق والتضعيف، وتساقطهما.

ومنها: ما رواه المفضل بن عمر، قال: جاز الصادق(ع) بالقائم المائل في طريق الغري فصلى عنده ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة؟ فقال: هذا موضع رأس جدي الحسين بن علي(ع)، وضعوه ههنا[14]. وقد اشتمل سنده على علي بن محمد بن متويه القلانسي، وهو لم يذكر بشيء في المصادر الرجالية.

 

ووفقاً لما تقدم، سوف يكون مستند هذا القول هو خصوص الطائفة الأولى من النصوص دون الثانية، لما عرفت أن من المحتمل أن يكون المقصود منها الإشارة للمكان الذي وضع فيه الرأس الشريف، وليس محل دفنه.

وقد منع بعضهم من الاستناد للنصوص المذكورة لتحديد موضع دفن الرأس الشريف، لكونها ضعيفة الأسناد، فلا تصلح للتمسك بها على المدعى.

وما ذكر صحيح كما سمعت، لأنه لم يخلو نص منها من ملاحظة سندية، إلا أنه يمكن التغلب على ذلك بأحد أمور:

الأول: الاستفادة من التوثيقات العامة، فإن بعض النصوص المذكورة وقعت في كتاب كامل الزيارات، وقد شهد ابن قولويه في مقدمة كتابه بوثاقة جميع من وقع في أسناده، وقد قبل بذلك جملة من الأعلام كصاحب الوسائل(ره)، وكان عليه بعض الأعاظم، وشيخنا التبريزي(ره)، مدة من الزمن، إلا أنهما عدلا عن ذلك في ما بعد، وهو مختار بعض الأعلام المعاصرين(حفظه الله).

 

ويمنع من القبول بهذا العلاج، كونه جواباً صغروياً، ليس مقبولاً عند الجميع، فلا يصلح الاستناد إليه للتغلب على المشكلة السندية.

الثاني: إن الواقع في أسناد أغلب النصوص مجاهيل، وليسوا ضعافاً، وقد ذكروا أن المجاهيل نوعان:

أحدهما: أن يكون وصف الراوي بالمجهولية ناشئاً من تعارض التوثيق والتضعيف، وتساقطهما لعدم وجود ما يوجب الترجيح لأحدهما على الآخر.

ثانيهما: أن يكون منشأ المجهولية عدم ذكره في المصادر الرجالية.

 

والأول منهما لا مجال لعلاجه، دون الثاني، فإنه يمكن للفقيه أن يحكم بوثاقته لبعض الأمور، مثل وقوعه في أحد المصادر التي حكم بصحة جميع مروياتها، أو شهد مؤلفها بوثاقة جميع من وقع في أسناده، أو ملاحظة مؤلف الكتاب الذي نقل عنه، وأمثال ذلك.

ولما كان الواقعون في أسناد النصوص محل البحث من النوع الثاني، فإنه يمكن البناء على اعتبار مروياتهم، لأن الناقل لهذه النصوص، هم الشيخ الكليني(ره)، وهو من شهد في حقه، وابن قولويه، والذي يشهد بوثاقة جميع من وقع في أسناد كتابه، وشيخ الطائفة(ره)، وهذا يوجب الوثوق بقبول مرويات هؤلاء، بل لا يبعد أنه يشكل عنصراً للبناء على وثاقتهم، فتأمل.

 

الثالث: إنه لابد من تحديد المسألة المبحوث عنها في المقام، وأنها مسألة فرعية، أو مسألة تاريخية، فلو كانت الأولى بلحاظ أن المقصود هو إثبات استحباب زيارة رأس الإمام الحسين(ع)، كما نص على ذلك صاحب الوسائل عندما عنون الباب بعنوان: باب استحباب زيارة رأس الحسين(ع) عند قبر أمير المؤمنين(ع)، فإنه لابد وأن يحرز صدور الخبر الدال على ذلك، لأنه يتضمن نسبة الحكم لله سبحانه وتعالى، ولا يكون ذلك إلا بإحراز أصالة الصدور فيه من أحد الطرق الموجبة لذلك، فعندها يكون ضعف الخبر سنداً، ولو بوجود مجهولين فيه مانع من الاستناد إليه. أما لو كانت المسألة محل البحث مسألة تاريخية، فإنه لا يعتبر فيها اعتبار الأسناد، وإنما يكفي أن يكون المصدر معروفاً، ومعلوم المؤلف، ولا يكون الخبر منافياً للقاعدة العقلية.

 

ولا ريب أن المسألة محل البحث من النوع الثاني، أعني أنها مسألة تاريخية وليست مسألة فرعية، وهذا يعني أنه لا يعتبر في النصوص المراد الاستدلال بها أن تكون معتبرة الأسناد، نعم يعتبر أن لا تكون مكذوبة، وهو محرز ظاهراً في المقام، وعليه لن يكون في البين ما يمنع من الاستناد إليها.

 

في كربلاء المقدسة:

القول السادس: أن الرأس الشريف قد أعيد إلى الجسد المبارك ودفن معه، في يوم العشرين من شهر صفر من قبل الإمام زين العابدين(ع)، وقد اشتهر هذا القول بين علماء الفريقين، فمن القائلين به:

1-هشام بن السائب الكلبي.

2-السيد المرتضى(ره).

3-ابن حجر الهيثمي.

4-أبو الريحان البيروني.

5-الفتال النيسابوري.

 

وقد ذكر غواص بحار الأنوار(ره) أنه المشهور بين علماء الإمامية. وقال السيد ابن طاووس: أن عليه عمل الطائفة.

وقد تقرر في محله أنه يكفي لثبوت موضوع ما من المواضيع التاريخية وجود شهرة عليه، فإذا أحرزت كان ذلك موجباً لثبوته.

والظاهر أنه لا مجال للمناقشة في قيام الشهرة التاريخية بين الفريقين على أن موضع دفن الرأس الشريف في أرض كربلاء المقدسة.

 

وقد أوجب وجود شهرة في المقام للقول بدفن الرأس الشريف في كربلاء مع الجسد المبارك، وقوع اختلاف بين الباحثين، فإن مقتضى وجود نصوص دالة على أن موضع دفن الرأس عند قبر أمير المؤمنين(ع) يستدعي البناء على أنه مدفون هناك، كما أن وجود شهرة تاريخية تستدعي الالتـزام بأن موضعه في كربلاء.

 

ولا يخفى أنه لو أحرز حصول إعراض من المؤرخين عن النصوص الدالة على أن موضع دفنه في النجف الأشرف كان ذلك مانعاً من الاستناد إليها، لأن مناط حجية خبر الواحد هو سيرة العقلاء، ولا ريب أن إعراضهم عن الخبر الموجود بأيديهم، يمنع من الوثوق باعتباره وقبوله، ويكشف عن وجود خلل فيه دعى إلى الاعراض عنه.

 

ومع وجود هذه الشهرة الدالة على أن موضع دفن الرأس الشريف في كربلاء، لا مجال للبناء على هذه النصوص، لأن بناءهم على ذلك كاشف عن إعراضهم عنها.

 

 

————————————–

[1] بحار الأنوار ج 45 ص 146.

[2] المصدر السابق ج 97 ص 244.

[3] المصدر السابق ص 292-293.

[4] مستدرك الوسائل ج 10 ص 227.

[5] وسائل الشيعة ج 14 ب 32 من أبواب المزار وما يناسبه ح 2 ص 399.

[6] المصدر السابق ح 3 ص 400.

[7] المصدر ح 7 ص 402.

[8] المصدر السابق ح 8 ص 402.

[9] بحار الأنوار ج 97 ص 244. ولعل ملاحظة الاحتمال الأول تساعد على كونه(ره) قائل بأن الرأس الشريف مدفون عند قبر أمير المؤمنين(ع)، وهذا لعله أفضل من المحاولات التي تقدمت الإشارة إليها.

[10] وسائل الشيعة ج 14 ب 32 من أبواب المزار وما يناسبه ح 1 ص 398.

[11] معجم رجال الحديث ج 15 ص 346.

[12] معجم رجال الحديث ج 16 ص 153-154.

[13] المصدر السابق ح 4 ص 400.

[14] المصدر السابق ح 6 ص 402.