29 مارس,2024

حلق اللحية(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

حلق اللحية(1)

 

قد خلت مصادر القدماء(رض) من التعرض لمسألة حلق اللحية، والظاهر أن أول من تعرض لذلك هو ابن سعيد الحلي في كتابه الجامع للشرائع قال: ويكره القزع، وقال: اعفوا اللحى وحفوا الشوارب وينبغي أن يؤخذ من اللحية ما جاوز القبضة ويكره نتف الشيب وكان علي(ع) لا يرى بأساً بجزه[1].

ولم يتعرض(ره) لحكم الحلق وعدمه، إذ لم يشر إلى حرمة حلق اللحية أو جوازه. نعم لو قيل بتمامية دلالة الخبر المنقول عنه(ص) في كلامه أمكن القول بأنه يفتي بالتحريم. مع أنه لم يعهد من ابن سعيد في الجامع فتواه بمتون الأخبار ولذا يشكل القول بأنه يفتي بالحرمة.

ومن بعده تعرض لحكمها الشهيد الأول وفخر المحققين(قده) حيث ذكرا أنه يحرم حلق لحية الخنثى لاحتمال كونها رجلاً.

وممن تعرض حكمها وقال بالحرمة المجلسي الأول في شرحه على الفقيه الفارسي وقال: أن حرمة حلق اللحية هي ظاهر أكثر العلماء.

ومن بعده قال ولده غواص بحار الأنوار في البحار: إن حرمة حلق اللحية مشهورة بين العلماء[2].

ومن بعدهم تعرض لحكمها الفيض الكاشاني في كتابه الوافي فإنه بعد نقله عدة أخبار قال: وقد مضى في كتاب الحجة حديث أمير المؤمنين(ع): أن أقواماً حلقوا لحاهم وفتلوا شواربهم فمسخوا.

وقد أفتى جماعة من فقهائنا بتحريم حلقها، وربما يستشهد لهم بقوله سبحانه حكاية عن ابليس اللعين:- (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله)[3].

ولا ظهور في كلامه(قده) بأنه يفتي بالحرمة حيث أنه نقل الفتوى بذلك عن بعض فقهائنا واستشهد لهم بالآية أما أنه يفتي بذلك فلا يستفاد من عبارته. ويؤيد ذلك بل يشهد له أنه لم يعنون الباب بعنوان حرمة حلق اللحية بل عنونه بعنوان حكم جز اللحية والشارب وشعر الأنف. نعم لو قيل أن الأخبار التي ذكرها وهي تتضمن الأخذ من اللحية ما زاد عن القبضة دالة على المنع كان له وجه، فتأمل.

نعم ذكر في المفاتيح في باب أصناف المعاصي أن منها حلق اللحية قال: لأنه خلاف السنة التي هي اعفاؤها ولمسخ طائفة بسببه.

وقال أيضاً في منهاج النجاة ملحق بخلاصة الأذكار في فصل ترك المعاصي: من المحرمات حلق اللحية وتصوير ذوات الأرواح وهجاء المؤمنين.

وممن أفتى بالحرمة صاحب الوسائل حيث عقد باباً في وسائله بعنوان: باب عدم جواز حلق اللحية واستحباب توفيرها قدر قبضة أو نحوها[4].

وكذلك حدى حدوه المحدث النوري(ره) في المستدرك حيث عقد باباً سماه: باب عدم جواز حلق اللحية واستحباب توفيرها قدر قبضة[5].

وقال شيخنا المحدث البحراني(قده): الثانية: الظاهر كما استظهر جملة من الأصحاب كما عرفت تحريم حلق اللحية لخبر المسخ المروي عن أمير المؤمنين(ع) فإنه لا يقع إلا على ارتكاب أمر محرم بالغ في التحريم. وأما الإستدلال له بآية:- (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله).

ففيه: أنه قد رود عنهم(ع) أن المراد دين الله فيشكل الاستدلال بها على ذلك وإن كان ظاهر اللفظ يساعده[6].

ومراده(قده) من الأصحاب هو الشيخ الكليني والشيخ الصدوق(قده) لأنه قد نقل عنهما في هذا المقام مجموعة من النصوص الواردة في مسألة اللحية وبناءاً على مسلكه(قده) من أن هذين الكتابين فتاوى لهذين العلمين قال أنهما يقولان بالمنع والحرمة.

وقد تعرض صاحب الجواهر للمسألة في باب الإحلال من الإحرام بحلق الرأس قال: الظاهر عدم حرمة حلق المرأة رأسها في غير المصاب المقتضي للجزع للأصل السالم عن معارضة دليل معتبر اللهم إلا أن يكون شهرة بين الأصحاب تصلح جابراً لنحو المرسل المزبور بناءاً على إرادة الإطلاق فيكون كحلق اللحية للرجال.

هذا وقد نقل المحقق الطهراني آغا بزرك(ره)  عن السيد الداماد القول بجواز الحلق لكن على كراهية في كتابه شارع النجاة[7].

وهو مختار السيد بحر العلوم أيضاً كما هو الظاهر من منظومته قال:

وإن الأصلحــــا في             الشارب الحف كإعفاء اللحى

حيث يستفاد من جعله الأصلح في الإعفاء مثله مثل الحف أنه يجوز الحلق لكن على كراهية.

وقد تحصل مما تقدم أمران:

الأول: أن المسألة ليست إجماعية عند الأعلام بل لم تدون في مجاميع القدماء منهم. إلا إذا قلنا أن الشيخ الكليني والشيخ الصدوق(ره) يفتيان بالحرمة وقلنا أن كتابيهما من المجاميع الفتوائية أمكن القول بتدوينها عندهما، وهذا غير بعيد.

إلا أنه مع ذلك لا ينفع في إثبات إجماع في المسألة.

فما في كلام بعض الأعاظم(قده) من دعوى إجماع الشيعة في المسألة[8] قد أتضح ما فيه.

الثاني: إن المسألة ليست من المسائل المشهورة عند الأعلام، ويشهد لذلك عدم تحريرها بينهم كما عرفت من خلال تأريخ المسألة، خصوصاً مع وجود نصوص قد يدعى دلالتها على الحرمة.

اللهم إلا أن يقال أن المسألة لما كانت من المسائل الواضحة جداً لم تحتج إلى تدوين، وهو كما ترى.

ولا بأس تتميماً للفائدة، من الإشارة إلى شيء من فتاوى علماء الجمهور:

ذكر في الفقه على المذاهب الأربعة: يحرم حلق اللحية ويسن أن لا تزيد في طولها على القبضة فما زاد عليها يقص.

وقال المالكية: يحرم حلق اللحية ويسن سنة خفيفة قص الشارب وليس المراد قص جميعه بل السنة أن يقص طرف الشعر النازل على الشفة العليا.

وقال الحنابلة: يحرم حلق اللحية ولا بأس بأخذ ما زاد على القبضة منها وتسن المبالغة في قص الشارب.

وقال الشافعية: يكره حلق اللحية والمبالغة في قصها فإن زادت على القبضة فإن الأمر فيه سهل خصوصاً إذا ترتب عليه تشويه الخلقة والتعريض به[9].

أدلة التحريم:

وقد استدل على حرمة الحلق بمجموعة من الأدلة:

الأول: قوله تعالى:- (ولآمرنهم فيغيرن خلق الله)[10].وتقريب الاستدلال بها على المدعى أن يقال: إن الآية المباركة في مقام إعطاء كبرى مفادها:- أنه لا ريب في أن تغيير خلق الله سبحانه وتعالى فعل شيطاني توعد الشيطان البعث إليه تمرداً منه على الباري عز وجل وسعياً منه فيما يغضبه تعالى ولا يوافق أغراضه ويعزز هذا المعنى ذيل الآية المباركة الدال على خسران كل من أنساق مع الشيطان في أفعاله والكاشف عن مبغوضية تغيير خلق الله بغضاً يؤدي إلى الخسران، وبعد تمامية هذه الكبرى نقول:

إن الصغرى في المقام هي حلق اللحية، إذ لا ريب في أن حلقها تغيير لخلق الله سبحانه وتعالى فتكون النتيجة هي القول بحرمته وكونه فعلاً شيطانياً يستوجب الخسران.

ويبتني الاستدلال بالآية المباركة على كلمة الخلق فلابد من ملاحظة معناها فإنها تأتي لمعنيين:

الأول: أن يكون الخلق بمعنى إيجاد الشيء فيكون تغيير خلق الله يعني التبديل فيما أبدعه الله سبحانه وتعالى وأوجده.

الثاني: أن يكون بمعنى تقدير الأمور والأشياء وتدبيرها.

ولا إشكال أنه على المعنى الأول المستفاد هو حرمة التغيير من الآية المباركة، إلا أنه لا مناص من حملها على تغيير خاص لما هو الواضح والمرتكز في الأذهان من عدم كون مطلق التغيير حراماً ومبغوضاً الأمر الذي يوجب أن لا ينعقد للآية معنى كلي.

وعلى هذا فلابد من أن يثبت من خارج حرمة التغيير في مورد معين حتى يحرز إندراجه في التغيير المقصود في الآية مثلاً لابد أن يثبت أن حلق اللحية حرام بوصفه تغييراً لخلق الله سبحانه حتى يمكن إدراجه تحت مفاد الآية الكريمة.

أما لو أخذ المعنى الثاني فلا يخفى أن الآية عليه تكون أجنبية عن المقام، إذ المراد بتغيير خلق الله نقض تدبيره وما رسمه للبشر.

وقد وردت رواية فسرت التغيير المعني في الآية المباركة بكونه تبديل دين الله والفطرة التي فطر الناس عليها بحيث يقوم الوالدان بتهويد أو تنصير ولدهما[11] وقد عبر عنها سبحانه وتعالى في الكتاب المجيد بأنها خلق الله قال تعالى:- (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)[12].

وبعبارة أخرى: إنا نمنع كلا المقدمتين على سبيل مانعة الخلو فإنه إما أن حلق اللحية لا يعد تغييراً لخلق الله أو أنه لا دليل على حرمة مطلق التغيير لخلقه سبحانه لأنه من المعلوم بالبداهة أنه لا يحرم كل تغيير لخلق الله سبحانه فنتف شعر الإبط وحلق الشوارب وشق الأنفاق والأنهار وحفر الأبار وإزالة الجبال كل ذلك تغيير لخلق الله سبحانه، ومن المعلوم أن بعضها لا سبيل للحياة إلا من خلاله. نعم حرمة تغيير ما من خلق الله سبحانه لا إشكال فيه. إلا أن كون حلق اللحية من ذلك التغيير المحرم ممنوع.

وقد أحتمل بعض الأعاظم(قده) أن المراد بالتغيير في الآية اللواط والمساحقة لأن الغاية التي خلق لها الرجال هو الحرث لإيجاد النسل والنساء كالأرض الصالحة للحرث فإعراض كل منهما عما خلق له تغيير لخلق الله تعالى[13].

وهو بعيد، لأن التغيـير الوارد في كلامه، تغيـير في الجهة وليس تغيـيراً في الخلقة، فجهة خلق الرجل أن يكون فاعلاً وقد تغيرت وصار مفعولاً مع بقاء خلقته، إذ هي لم تتغير بعد أن صار مفعولاً، بل بقي مخلوقاً للفاعلية.

الثاني: النصوص التي تضمنت الأمر بإعفاء اللحى وحف الشوارب والنهي عن التشبه باليهود والمجوس، فإن الأمر دال على الوجوب، وإذا كان الإعفاء واجباً فالحلق محرم قطعاً، لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده:

منها: مرسل الصدوق قال: قال رسول الله(ص): حفوا الشوارب واعفوا اللحى ولا تشبهوا باليهود[14].

ومنها: خبر علي بن غراب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده(ع) قال: قال رسول الله(ص): حفوا الشوارب واعفوا اللحى ولا تشبهوا بالمجوس[15].

ومنها: قوله(ص) لرسولي كسرى: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا_يعنيان كسرى_فقال رسول الله(ص): لكن أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي[16]. وتقوم دلالتها على تحديد المقصود من الإعفاء:

قال في الصحاح: اعفاء اللحية أن يوفر شعرها من عفى الشيء إذا كثر.

وقال في القاموس: اعفى اللحية وفرها والعافي الوائد والوارد والطويل الشعر وعفى شعر البعير كثر واعفاه من الأمر برأه[17].

وقال في المصباح المنير: عفى الشيء كثر ….وقال السرقسطي عفوت الشعر أعفوه وعفواً وعفيته وأعفيه عفياً تركته حتى يكثر ويطول ومنه: أحفوا الشوارب واعفوا اللحى[18].

وذكر المحدث الكاشاني(قده) في الوافي: أن الإحفاء هو الإستقصاء في الأمر والمبالغة فيه وإحفاء الشارب المبالغة في جزه. والإعفاء الترك وإعفاء اللحى يوفر شعرها من عفى الشيء إذا كثر وزاد[19].

والحاصل: أن المستفاد من مجموع هذه الكلمات أن الإعفاء عبارة عن الترك فيكون الأمر الوارد منه(ص) بإعفاء اللحية يعني أمر منه بتركها ولما كان الأمر للوجوب والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده كانت النتيجة هي حرمة الحلق.

ثم إن الأمر بإعفائها ليس على إطلاقه بل المراد منه القدر المشترك بين حف الشوارب وبين إعفائها فكأنه قال أتركوها بالمعنى المقابل لحف الشوارب. على أنه لو لم يقبل هذا أمكن التمسك بما يدل على جواز الأخذ منها.

وأجاب عنها بعض الأعاظم(ره) بجوابين:

الأول: ضعف أسنادها، لأنها بين ما هو مرسل، أو مشتمل على من لم تثبت وثاقته.

الثاني: إن أقصى ما يمكن استفادته من هذه النصوص هو الاستحباب، لما هو معلوم من أن اعفاء اللحى ليس واجباً جزماً، بل الزائد عن القبضة الواحد مذموم[20].

وبعبارة أخرى كما عن شيخنا التبريزي(قده) إن الواجب على تقديره إنما هو رؤية الشعر في الوجه فلابد من حملها على الاستحباب لأن التوفير غير واجب قطعاً[21].

وفيه: أن الأمر بالإعفاء ما هو إلا كناية عن عدم الحلق بقرينة ما ورد في المستدرك عن علي(ع) قال: قال رسول الله(ص): حلق اللحية من المثلة ومن مثل فعليه لعنة الله. مضافاً إلى أن مفاد النصوص هو طبيعي الإعفاء فلا معنى لأن يقال أنها لم تقيد بحد ومن المعلوم عدم وجوبه مطلقاً.

والتحقيق أن يقال: أن الإعفاء كما عرفت من كلمات اللغويين إما أن يراد منه الترك أو أن يراد منه التكثير.

وعلى الأول تكون النصوص لولا ضعف أسنادها دالة على حرمة الحلق لكونه منافياً للترك، غاية الأمر يقيد اطلاقها بما دل على عدم وجوب تركها مهما طالت كما أشرنا له في تقريب الاستدلال.

وعلى الثاني فإن هذه النصوص تدل على وجوب التكثير وبما أن الثابت عدم الوجوب فيحمل الأمر فيها على الاستحباب ولا مجال حينئذٍ لاستكشاف الحرمة من هذه النصوص.

نعم يمكن أن يناقش في دلالة الأمر على الوجوب في هذه النصوص من خلال أنه قد ورد في سياق الأمر بإحفاء الشوارب وهو مستحب بلا ريب وهذا تطبيق لما جرى عليه الأعلام(رض) في الفقه من أنه إذا وردت أوامر عديدة في سياق واحد وعرفنا استحباب بعضها فإن ظهور الباقي في الوجوب يختل بناءاً على أن دلالة الأمر على الوجوب وضعية، إذ يلزم من إرادة الوجوب تغاير مدلولات تلك الأوامر مع ظهور وحدة السياق في إرادة معنى واحد من الجميع. نعم بناءً على مختار مدرسة المحقق النائييني(ره)، من أن دلالة على الأمر على الوجوب بحكم العقل، فإنه يمكن التفكيك بين الجمل، فيلتزم بظهور بعضها في الاستحباب، وظهور البقية في الوجوب.

وقد يقال: أن الأمر بالإعفاء في اللحية ليس حكماً أولياً وإنما هو حكم ثانوي ولائي نشأ للاجتناب عن التشبه باليهود والمجوس فمتى زال التشبه بنحو من الأنحاء تزول الحرمة لأن الحكم الثانوي لا يبقى ما بقى الدهر.

ويشهد له ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) عندما سئل(ع) عن قول رسول الله(ص): غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود. فقال (ع): إنما قال(ص) ذلك والدين قل، فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما أختار[22]. وعليه لا تكون الأخبار واردة في مورد التشريع وإنما موردها حكم ولائي.

إلا أن يقال بأن التشبه من قبيل الحكم لا من قبيل العلل فلا يدور الحكم مداره.

الثالث: ما دل على أن حلق اللحية يستوجب المسخ مما يكشف ذلك عن الحرمة، لأن المسخ لا يكون إلا في أمر عظيم كما سمعته في كلام المحدثين الجليلين الكاشاني والبحراني(ره) وإلا لم يستوجب ذلك.

وهو خبر حبابة الوالبية قالت: رأيت أمير المؤمنين(ع) في شرطة الخميس ومعه درة ولها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار ويقول لهم: يا بياعي مسوخ بني اسرائيل وجند بني مروان فقام إليه فرات بن أحنف فقال يا أمير المؤمنين: وما جند بني مروان؟فقال له: أقوام حلقوا اللحى وفتلوا الشوارب فمسخوا[23].

والحاصل أن المسخ الذي وقع عليهم إنما كان لارتكابهم المحرم وهو حلق اللحية وفتل الشوارب، لأن المسخ لا يكون في ارتكاب الحلال.

وفيه أولا ً: مضافاً إلى ضعف السند بورود محمد بن إسماعيل وعبد الله بن أيوب وعبد الله بن هاشم، أن حلق اللحية ليس من الكبائر التي تستدعي المسخ.

ولو قيل أن نفس الحلق للحية يعد مسخاً لقلنا بأنه خلاف الظاهر، بل الظاهر أن جند بني مروان لما حلقوا لحاهم وفتلوا شواربهم مسخوا إلى أشكال تلك الحيوانات التي تباع في سوق الكوفة.

ثانياً: قد يقال أنها أجنبية عن المقام لأن موردها ما إذا أجتمع الأمران: أعني حلق اللحية وفتل الشوارب بينما محل بحثنا هو حلق اللحية.

الرابع: ما دل على أن حلق اللحية من المثلة وهو خبر الجعفريات قال(ص): حلق اللحية من المثلة ومن مثل فعليه لعنة الله[24].

وتقريبه على المدعى: من المعلوم أن اللعن حرام وهو لا يكون إلا على أمر عظيم يدل بالالتزام على حرمته. فعلى هذا نستكشف من دعاء المعصوم هنا على حالق اللحية بعد إدخاله تحت عنوان المثلة حرمة حلقها. بل لو قيل أن نفس تنـزيل الحلق منـزلة المثلة مشعر بالحرمة لما كان بعيداً.

وأورد عليه بعض الأعاظم(قده): مضافاً لضعف السند بأن المثلة هي التنكيل بالغير بقصد هتكه وإهانته بحيث تظهر آثار الفاعل بالمنكل به وعليه تكون الرواية دالة على حرمة هتك الغير بإزالة لحيته فلا ترتبط بحلق اللحية اختياراً مباشرة أو بتسليط الغير على الحلق[25].

وأوضحه شيخنا التبريزي(قده)فقال: أن المعتبر في تحقق عنوان المثلة أمران:

الأول: إيقاع النقص بالغير.

الثاني: كون الإيقاع بقصد هتكه وتحقيره.

فلا يتحقق العنوان فيما إذا حلق الإنسان لحيته بداعي تجميله أو نحوه كما هو موضع البحث. والحاصل إن المستفاد من الرواية أن حلق لحية الغير بقصد هتكه والتنقيص به مثلة حكماً أو موضعاً[26].

وقد يعمق هذا الجواب من خلال ملاحظة كلمات أهل اللغة في المثلة فنقول:

قال في تاج العروس: مثل بفلان نكل به تنكيلاً بقطع أطرافه والتشويه به ومثل بالقتيل جدع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه ونهى أن يمثل بالدواب وأن تؤكل الممثول بها وهو أن تنصب وتقطع أطرافها حية.

فإن المستفاد منه أن التمثيل لا يكون من الإنسان بنفسه فلا يقال مثل الإنسان بنفسه، بل هو فعل بالغير يعبر عنه بالتنكيل فهو يتضمن إذن شيئاً من قصد الإهانة والإذلال وإيقاع النقص به.

وقال في معجم مقاييس اللغة: وقولهم مثل به إذا نكل هو من هذا أيضاً لأنه المعنى فيه أنه إذا نكل به جعل ذلك مثالاً لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه ويقولون مثل بالقتيل جدعه.

والمستفاد منه أن التمثيل أيضاً تنكيل بالغير وهو لا يكون إلا بإيقاع النقص على الغير بقصد إذلاله وإهانته.

وجاء في لسان العرب: ومثل بالرجل نكل به وهي المثلة يقال مثلت بالحيوان إذا قطعت أطرافه وشوهت به ومثلت بالقتيل إذا جدعت أنفه وأذنه ومذاكيره أو شيئاً من أطرافه ومثل بالقتيل جدعه.

وهو صريح كسابقيه في كون التمثيل لا يكون إلا على الغير بقصد الإذلال والإهانة.

وفي الصحاح: مثل بالرجل نكل به.

وفي نهاية ابن الأثير: مثلت بالحيوان أمثل به مثلاً إذا قطعت أطرافه وشوهت به ومثلت بالقتيل إذا جدعت أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه والاسم المثلة.

وأما مثّل بالتشديد فهو للمبالغة ومنه الحديث: نهى أن يمثل بالدواب. أي تنصب فترمى أو تقطع أطرافها وهي حية.

والحاصل من مجموع هذه الكلمات أن اللفظ قد وضع لما إذا كان هناك تنكيل وإهانة وإذلال كما أنه لا يكون إلا على الغير لا على الإنسان نفسه.

ويلاحظ عليه: بأننا سلمنا أن المراد من المثلة هو ما ذكر إلا أن ذلك لا يقتضي اعتبارهما في حلق اللحية فإن الرواية حاكمة على ما دل على حرمة المثلة لدلالتها على مصداق تعبدي للمثلة والمنـزل منـزلة المثلة مطلق حلق اللحية لا مع قصد الهتك. وعلى هذا يكون المستفاد من الدليل الحاكم أن مطلق حلق اللحية بمثابة المثلة.

وأما اعتبار جميع شرائط المثلة في الحلق فهذا يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه فحلق الإنسان لحيته بالاختيار ومن دون قصد الهتك فرد تعبدي للمثلة وهو حرام.

إن قلت: لا أقل من الانصراف فيها إلى حلق لحية الآخرين بقصد إهانتهم وإذلالهم لكونها الحالة الطبيعية للمثلة.

قلت: بأنه لا منشأ للانصراف المذكور لظهور الحديث في مبغوضية الحالة الخاصة في نفسها وبعنوانها الأولي وتطبيق المثلة عليها تعبدي نظير قوله(ص): الشيب نور فلا تنتفوه، حيث لا مجال لحمله على خصوص ما إذا كان بهياً.

والتحقيق في الجواب أن يقال: أنه لابد لنا من ملاحظة مساق الخطاب في هذا الخبر حيث أنه تارة يكون الخطاب قد سيق لبيان حرمة حلق لحية الغير وأخرى يكون الخطاب سيق لبيان حلق الإنسان لحيته فعلى المعنى الثاني لو بنينا على أن المثلة كما هو المستفاد من كلمات أهل اللغة وأشير له في جواب بعض الأعاظم وشيخنا التبريزي(ره) فإن الخبر يكون دالاً على الحرمة من خلال أن تطبيق عنوان المثلة على حلق اللحية إن كان عنائياً فهو دال على الحرمة بلحاظ تنـزيله منـزلة المثلة كما قد أشرنا له في الجواب وهي محرمة، وإن كان التطبيق حقيقياً فإن ذلك يكشف عن التجوز في استعمال الكلمة فتحفظ دلالة الرواية على الحرمة.

هذا وقد أورد عليها أيضاً بأن اللعنة لا تستلزم حرمة العمل لأنها وردت في المكروهات فقد ورد: يا علي لعن الله ثلاثة: آكل زاده وحده وراكب الفلاة وحده والنائم في بيت وحده.

وأجاب عنه بعض الأعاظم(ره): بثبوت الفرق بين الإخبار بكون فلاناً ملعوناً أي بعيد عن رحمة الله تعالى وبين إنشاء الدعاء عليه فإنه حرام على سائر المكلفين فضلاً عن النبي(ص) إلا أن يرتكب المدعو عليه محرماً فيستحق الدعاء عليه بإبعاده عن رحمة الله تعالى[27].

وأورد عليه شيخنا التبريزي(دام ظله)في الإشكال والجواب فقال: ولا يخفى ما في الإشكال والجواب فإن اللعن ليس هو البعد مطلقاً بل البعد الناشىء عن الطرد والغضب وهذا لا يكون إلا مع حرمة الفعل ولا يفرق في ذلك بين انشائه أو الإخبار يكون الفاعل لكذا ملعوناً ومطروداً حيث أنه لو لم يكن فعله محرماً فلا موجب لطرده ولعنه واللعن في مثل تأخير الصلاة عن وقتها محمول على مثل ما إذا كان التأخير للاستخفاف بها[28].

هذا وقد يوضح ما أفاده شيخنا المذكور بأن يقال:

الأول: إنشاء لعن المؤمن وهو حرام لا يسوغه مجرد ارتكاب المحرم فلا يصدر من المعصوم(ع).

وأما ما ورد من اللعن على لسانه(ص) فيمكن حمله على بيان حرمة العمل لا بيان جواز لعن المؤمن للمكلفين كما ورد في الخمر: لعن الله غارسها وشاربها. فإنه لبيان حرمة العمل ولا يدل على جواز لعن المؤمن.

الثاني: الإخبار عن بعد الشخص عن الله تعالى بسبب عمله وهو جائز لمن يرى الواقع فيخبر إلا أنه خارج عن لعن المؤمن المحرم وإذا ورد في كلام المعصوم(ع) فلا بأس بحمله على بيان حرمة العمل لا جواز لعن المؤمن إذا ارتكب محرماً.

والإنصاف تمامية دلالة الخبر على الحرمة لكن المشكلة تكمن في ضعفه السند حيث أن كتاب الجعفريات الذي أعتمده شيخنا المحدث النوري(ره) يشك في كونه هو الكتاب الأصل إلى غير ذلك من التأملات المانعة عن الوثوق بالكتاب فلا وثوق بأخباره فضلاً عن عدم تضمن نصوصه الكتب الحديثية المعول عليها بين أصحابنا فيكون ذلك شاهداً سلبياً في الحجية.

 

 

[1] الجامع للشرائع ص 30.

[2] بحار الأنوار ج ص

[3] الوافي ج 4 ص 658.

[4] الوسائل ب 2 من أبواب آداب الحمام.

[5] مستدرك الوسائل ب 40 من أبواب آداب الحمام.

[6] الحدائق ج 5 ص 561.

[7] الذريعة ج 5 ص 13.

[8] مصباح الفقاهة ج 1 ص 330.

[9] الفقه على المذاهب الأربعة ج 2 ص 54.

[10] سورة النساء الآية 119.

[11] التبيان ج 3 ص 334.مجمع البيان ج 3 ص 195.الكشاف ج 1 ص 566.الميزان ج 5 ص 86.

[12] سورة الروم الآية 30.

[13] محاضرات في الفقه الجعفري ج 1 ص 287.

[14] الوسائل ب 67 من أبواب آداب الحمام ح 1.

[15] المصدر السابق ح 2.

[16] المستدرك ب 40 من أبواب آداب الحمام ح 2.

[17] القاموس المحيط ج 4 ص 364.

[18] المصباح المنير ص 419.

[19] الوافي ج4 ص 657.

[20] مصباح الفقاهة ج 1 ص 332.

[21] إرشاد الطالب ج 1 ص 145.

[22] نهج البلاغة ص 471.

[23] الوسائل ب 67 من أبواب آداب الحمام ح 4.

[24] المستدرك ب 40 من أبواب آداب الحمام ح 1.

[25] مصباح الفقاهة ج 1 ص 332.

[26] إرشاد الطالب ج 1 ص 147.

[27] مصباح الفقاهة ج 1 ص 333.

[28] إرشاد الطالب ج 1 ص 147.