19 أبريل,2024

الإحباط والتكفير

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم لا يبخسون* أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون)[1].

اشتمل القرآن الكريم على مفهومين تكررا في كثير من آياته المباركة، وهما الإحباط والتكفير، ويبدو أنه لم يختلف أحد من علماء المسلمين في ثبوت التكفير، وتحققه وفقاً لتوفر أسبابه ومعطياته، إلا أنهم اختلفوا كثيراً في ثبوت الإحباط، فبين مانع من ثبوته بصورة مطلقة، وبين ملتـزم بثبوته كذلك، وبين قائل بالتفصيل، وهكذا.

ومن الطبيعي أن أول مراحل الخلاف التي وقعت بينهم وقعت في حقيقة الاحباط، وبيان المقصود منه، فهل يقصد منه إبطال المعصية المتأخرة للطاعة المتقدمة، أو أن المقصود منه أن العقاب الثابت للمعصية سوف يكون سبباً في إبطال وانتفاء ثواب الطاعة المتقدمة. مع أن هذين المفهومين ، أعني الإحباط والتكفير قد وردا في كلمات أهل اللغة، فعرف اللغويون الإحباط بأنه الإبطال، وجاء في تعريف التكفير أن منشأه الكفر الذي هو الستر والتغطية.

وينبغي أن نوقع الحديث ضمن محورين:

الأول: حول الإحباط مفهوماً وحقيقة، وما يرتبط به من أمور.

الثاني: التكفيـــــــــر.

حقيقة الإحباط:

إن مقتضى وقوع الخلاف بين المسلمين في ثبوت الإحباط، وعدمه، أوجب تعدد المعاني المحتملة في بيان حقيقته، فإن بعضها المذكورة في كلماتهم مرجعها إلى نفي ثبوته، ومن ثمّ الالتـزام بتأويل ما ورد من آيات مباركة، أو نصوص شريفة تضمنت الإشارة إليه، أو التعبير عنه، وسيتضح هذا في ما يأتي، وعلى أي حال، فإن المحتملات المذكورة في بيان حقيقته هي:
الأول: البناء على أن المقصود من الإحباط عبارة عن إبطال الأجر والثواب، وليس المقصود منه بطلان العمل، ولا نفي آثاره الشرعية المترتبة عليه، سواء كانت تلك الآثار آثاراً دنيوية، أم كانت آثاراً أخروية. توضيح ذلك:

إذا أدى المكلف صلاته، ثم قام بعدها بعقوق والديه، فلن يكون العقوق الذي هو معصية متأخرة موجباً لبطلان الطاعة المتقدم صدورها عنه، كما أن العقوق لن يوجب سلب الآثار المترتبة على أداء الصلاة، سواء كانت الآثار دنيوية، أم كانت آثاراً أخروية. نعم إن المعصية المتأخرة، سوف توجب انتفاء الثواب المترتب على الطاعة المتقدمة.
وقد يسأل، أي فرق بين انتفاء الثواب، وبين بطلان الطاعة؟

قلت: الفرق بينهما واضح، لو لم يكن إلا في عدم استحقاق المكلف العقاب على تركه الطاعة، فلا يقال بأن المكلف لم يصلِ ليكون مستحقاً للعقوبة على تركه إياها، نعم يقال هو لا يستحق ثواباً على أدائها، فلاحظ.

ومن الواضح أنه وفقاً لهذا المعنى، فلن يكون المقصود من لفظ الإحباط معناه الحقيقي، إذ قد عرفت أنه يقصد منه الإبطال، ووفقاً لهذا التعريف، فليس المقصود منه ذلك، ضرورة أنه بناءً على هذا التعريف، فلن تكون المعصية المتأخرة مبطلة للطاعة المتقدمة.
وهذا يعني أن المنكرين للقول بالإحباط يمكنهم أن يحملوا الآيات الشريفة التي تضمنت التعبير بالإحباط أو النصوص المباركة على مثل هذا المعنى، فلا تغفل.

الثاني: أن يكون المقصود من الإحباط هو إبطال الأثر المطلوب من العمل الصالح وسقوطه، فلا يتحصل المكلف على السعادة الدنيوية، ولا السعادة الأخروية المرجوة من طاعته. توضيح ذلك: لا ريب في أن كل من يقدم على دفع صدقة، فإنه يرجوا من ذلك سعادة في الدنيا بدفع البلاء والسوء عنه، وعن دويه، وكذا سعادة أخروية بنيله الثواب الجزيل من الله سبحانه وتعالى، لكن لو أعقب تلك الصدقة مناً أو أذى، كان ذلك المن والأذى موجباً لعدم تحقق الأثر المطلوب تحصيله من الصدقة المدفوعة، سواء كان الأثر الدنيوي، أم الأثر الأخروي.

وهذا المعنى للإحباط والعرض لحقيقته لا يختلف عن سابقه في عدم كونه موافقاً لمعناه الحقيقي، بل هو حمل له على حقيقة مغايرة لمعناه، وإن كان متضمناً لشيء من ذلك في الجملة.
وعلى أي حال، فإن كلا المحتملين المذكورين ممكنان ثبوتان، ويمكن حمل الأدلة المشتملة على الإحباط  عليهما إثباتاً، لكن شريطة ألا يكون هناك معنى آخر محتمل يمكن حمل الإحباط عليه، فلاحظ.

الثالث: الالتـزام بأن الإحباط يعني بطلان العمل، وذلك بإيجاد سبب الإبطال عن طريق ارتكاب بعض المعاصي والذنوب، فصوم المكلف شهر رمضان يبطله استماعه إلى الغناء، كما أن زيارته لقبر المولى أبي عبد الله(ع) تبطلها الغيبة الصادرة منه أثناء الزيارة، أو بعدها. وهذا يعني أن المقصود من الإبطال فيه إبطال حقيقي، وليس إبطالاً ادعائياً مجازياً، للعمل المأتي به سابقاً صحيحاً، فينقلب باطلاً، وعليه لا يبقى توقع لما يرتجى من الحسنة والطاعة.

الرابع: البناء على أن الإحباط إلغاء للعمل وإبطال له، إلا أن ذلك لا يعني أن العمل قد تحقق ومن ثمّ تم إبطاله، وإنما يبنى على أن العمل الصادر من المكلف متقوم بأمرين، أحدهما يمثل المحقق للعمل، والثاني يكون بمثابة الشرط المعتبر توفره لحصول العمل وتحققه، ويكون هذا الشرط بمثابة الشرط المتأخر الذي يعتبر توفره في العمل إلى آخر الوقت، بحيث لو أخل المكلف بهذا الشرط في أي آنٍ من الآنات كان ذلك مانعاً من تحقق العمل خارجاً لأن المشروط عدم عند عدم شرطه، ولنقرب ذلك بمثال: إن الصلاة التي تحقق للمكلف الطاعة، والثواب مشروطة ولو بنحو الشرط المتأخر بعدم صدور المعصية منه، فلو قطع رحمه مثلاً، كان ذلك مانعاً من حصول الطاعة، لا من باب أن الطاعة كانت موجودة ثم أزيلت وأبطلت بالمعصية، وإنما الطاعة مشروطة بشروط تحققها من جهة، وبعدم الاتيان بالمعصية بعدها، فيكون عدم إيجاد المعصية بعدها شرطاً دخيلاً في ترتب الأثر المرجو من الصلاة، وانطباق عنوان الطاعة عليها، ولذا متى صدرت المعصية منه كان ذلك مانعاً من تحققها في الخارج، فلا يقال أنه أطاع، لأنه لم يأت بكافة الشروط المعتبرة في هذا العمل، الذي منه ترك المعصية، فلاحظ.

وبالجملة، وفقاً لهذا المعنى، فلن يكون هناك ثواب كي ما يقال أنه زال بسبب المعصية المتأخرة، كما لا مجال للقول بأن هناك طاعة، وقد زالت تلك الطاعة بسبب المعصية المتأخرة، بل إن العمل الصادر وهو بنحو الطاعة لا زال معلقاً على تحقق كافة الأجزاء المرتبطة به، والتي منها عدم المعصية، فما لم تتحقق، لا يبنى على حصوله.

ولا يذهب عليك أن هذا المحتمل قريب جداً من المحتملين الأول والثاني، في كونهم جميعاً ينفون الإحباط حقيقة، إلا أنهم يواجهون مشكلة وجود مثل هذا التعبير في الآيات المباركة من جهة، والنصوص الشريفة من جهة أخرى، وبالتالي يعمدون للتغلب على هذه المشكلة من خلال إيجاد التأويل في المعنى المقصود بواحد من هذه المحتملات.
ثم إن من القائلين بالاحتمال الرابع في حقيقة الإحباط غير واحد من أعلامنا، كشيخنا الطوسي(ره) في تفسيره البيان، وكذا شيخنا الطبرسي(ره) في تفسيره مجمع البيان، وغيرهم.

مع الاحتمال الثالث وأدلة الطرفين:

هذا ولا يخفى أن الذي وقع مورداً للنـزاع بين الاحتمالات الأربعة المذكورة في بيان حقيقة الاحباط إنما هو الاحتمال الثالث، فما بين من ألتـزم باستحالته، وامتناع حصوله خارجاً، وما بين من بنى على إمكانية تحققه ووقوعه.

وقد استدل القائلون باستحالته، بدليلين، عقلي، ونقلي:

أما الدليل العقلي، فحاصل ما ذكروه: إن القول بالتحابط بين الطاعة والمعصية يستلزم الظلم، ذلك أن من أساء وأطاع، لا يخلو حاله عن أحد حالات ثلاثة:
1-أن تكون طاعته أكثر من إساءته.
2-أن تكون إساءته أكثر من طاعته.
3-أن تتساوى طاعته واساءته.

فإذا بني على أن الاساءة المتأخرة توجب بطلان الطاعة المتقدمة، فسوف يتساوى من كانت طاعته أكثر من اساءته، ومن كانت اساءته أكثر من طاعته في أن كليهما ستكون الإساءة المتأخرة موجبة لبطلان طاعته المتقدمة، من دون فرق بين كون الطاعة المتقدمة أكثر أو أقل، ومن الطبيعي أن هذا ظلم لمن كانت طاعته أكثر من اساءته، فلاحظ.
وهذا الدليل يتم بناءً على أحد القولين المذكورين في التحابط الحقيقي، وهو ما يسمى بالإحباط المحض، بمعنى أن المعصية المتأخرة مسقطة تماماً للطاعة المتقدمة، من دون أن يلحظ النسبة ما بينهما، فلا يلتفت إلى أن الطاعة أكثر من المعصية، أو أن المعصية أكثر من الطاعة.

أما لو بني على القول الثاني في التحابط، وهو المعبر عنه بالموازنة، فلا ريب في عدم صدق عنوان الظلم كما لا يخفى، ذلك أنه ووفقاً لهذا القول، يلتـزم بملاحظة مقدار الطاعة ومقدار المعصية، فلو كانت الطاعة أكثر من المعصية، إنما تكون المعصية مسقطة لمقدارها من الطاعة، ويبقى الزائد على حاله، وكذا لو كانت المعصية أكثر من الطاعة أسقطت الطاعة بمقدارها من المعصية ويبقى الزائد على حاله، وبالتالي ليس في البين ظلم من قريب أو بعيد.

وأما الدليل النقلي، فإن القول بالتحابط يتنافى والعديد من الآيات الشريفة، مثل قوله تعالى:- (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)[2]. وقوله تعالى:- (إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً)[3]، وقوله سبحانه:- (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم)[4]. فإن المستفاد من هذه الآيات المباركة هو بقاء الأعمال على حالها، وعدم تأثر الطاعة المتقدمة بالمعصية المتأخرة، فإن مقتضى رؤية الإنسان ما يعمله من خير يوم القيامة، وما يعمله من شر، يعني أن المعصية المتأخرة لم تؤثر شيئاً في طاعته المتقدمة، وإلا فلن يره، وكذا مقتضى أنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، يعني أن الذنوب المتأخرة لا توجب بطلان الطاعات المتقدمة، وإلا للزم أنه تعالى قد أضاع عمل من أحسن، وهكذا الحديث في الآية الثالثة، بل يجري ما ذكر في العديد من الآيات الشريفة التي يمكن استعراضها في المقام، لإفادة نفس المعنى.

ولا يخفى أن تمامية الدليل المذكور تعتمد على الالتـزام بالتحابط بالقول الأول، أعني التحابط المحض، أما بناءً على القول بالموازنة، فلا مجرى له، إذ أن الرؤية المرجوة من العمل الصالح ترى وفقاً لمبدأ الموازنة بالبيان السابق الذي عرضه عند الجواب عن الدليل الأول، وكذا عدم إضاعة أجر من أحسن عملاً، وهكذا.

والحاصل، بناءً على القول بثبوت الموازنة بين العمل الصالح والعمل السيء، لن تكون هناك أدنى مخالفة للمضمون القرآني، فلا تغفل.
ومن خلال ما تقدم يتضح إمكانية القول بالتحابط، لكن بنحو الموازنة، وليس التحابط المحض، وعليه سوف تجري المحتملات الأربعة المتقدمة في بيان حقيقته.

نعم يبقى أن هناك مانعاً يمنع من البناء على الاحتمال الثالث من تلكم المحتملات، وهو لزوم خلف الوعد، فإن مقتضى ما صدر منه سبحانه وتعالى من وعد، على ما يصدر من الإنسان من علم، طاعة كان أو معصية، يستدعي ترتب الأثر على ذلك، ومن الطبيعي أن هذا الأثر، قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، ومجرد إحباطه بالعمل المتأخر يتنافى والوعد الصادر منه سبحانه، فيكون مانعاً من القبول به، فتأمل.

وعليه، سوف يكون الأمر دائراً بين الاحتمالات الثلاثة، والظاهر أن بعضها أيضاً لا يخلو عن شيء، فلو لاحظنا الاحتمال الرابع منها على سبيل المثال، فإنه لن يجري في كافة الموارد التي ذكر فيها عنوان الإحباط، كما يتضح للقارئ عن إحاطته بأسباب الإحباط. مضافاً إلى أن البناء عليه يستلزم فساد الطاعة المأتي بها، وهذا يستوجب قضائها لو كانت مما تقضى كالصلاة أو الصوم أو الحج، ولا قائل بذلك.

اللهم إلا أن يلتـزم بأن ما دل على القضاء لما فات من الأعمال مخصوص بما إذا كان موجب الخلل والبطلان أمراً غير الإحباط، فلا يرد الإشكال المذكور، فتأمل.
وبالجملة، إن البناء على أي واحد من المحتملات الثلاثة غير الاحتمال الثالث أمر ممكن.

طريق آخر لنفي الإحباط بمعناه الحقيقي:

هذا وقد يلتـزم بطريق آخر يبنى من خلاله على القول بعدم ثبوت التحابط بين الأعمال، وذلك من خلال معرفة حقيقة الثواب والعقاب في الآخرة، فإن الآراء فيها ثلاثة:
الأول: البناء على أنهما من قبيل الأمور الوضعية الجعلية، فكما أن صاحب العمل يجعل أجرة لمن يقوم بأداء ذلك العمل له، وكما أن الوالد يحدد عقاباً أو جائزة لولده بناء على ما يصدر منه من عمل، فكذلك، الثواب والعقاب، فإنهما مجعولان بهذا النحو، فمن أطاع استحق الثواب، فهو كالأجير، ومن عصى استحق العقاب، فهو كالولد الذي خالف أوامر والده، وعصاه.

الثاني: ما يستفاد من كلمات العلامة الطباطبائي(ره)أنهما مخلوقان لنفس الإنسان حسب الملكات التي اكتسبها في هذه الدنيا، بحيث لا يمكن لصاحب هذه الملكة السكون والهدوء إلا بفعل ما يناسبها[5]، وقد أوضح هذا المعنى:
بأن كلاً من الأعمال الإجرامية أو الصالحة التي تصدر عن الإنسان في عالم الطبيعة تُوجد في النفس ملكة مناسبة لها، بسبب تكرار العمل وممارسته، وهذه الملكات النفسانية ليست شيئاً مفصولاً عن وجود الإنسان، بل تشكل حاق وجوده وصميم ذاته، فالإنسان الصالح والطالح إنما يحشران بهذه الملكات التي اكتسباها في الحياة الدنيوية عن طريق الطاعة والمعصية، ولكل ملكة أثر خاص يلازمها.

وعليه، فالثواب والعقاب مخلوقان للنفس قائمان بها على نحو لا يتمكن من ترك الإيجاد، فالإنسان الصالح الذي ترسخت فيه الملكات الصالحة في هذه الدنيا، لا يفكر إلا في الأمور الصالحة، ولا تهدأ نفسه إلا بالتفكير فيها. وفي مقابله الإنسان السيء الذي ترسخت فيه الملكات الخبيثة، فلا يتفكر إلا في الأمور الشريرة والرديئة[6].
الثالث: ليس الثواب والعقاب إلا عبارة عن تمثل العمل في الآخرة وتجليه بوجوده الأخروي فيها من دون أن يكون للنفس دور في تلك الحياة.

ويعتمد هذا الرأي على أن لأي عمل من الأعمال صورتين، دنيوية، وأخروية، فالصلاة لها صورة في عالم الدنيا، كما أن لها صورة في عالم الآخرة، فالثواب أو العقاب يعني حضور تلك الصورة الأخروية لعمل الإنسان فيرى الإنسان تلك الصورة فيكون ثوابه، أو يكون عقابه.

ولا يخفى أن الاستدلال على نفي التحابط في المقام إنما يتصور على الرأي الأول دون الرأيـين الآخريـين، فإن فيهما كلاماً ليس هذا مورد ذكره.
ويقرب الاستناد إليه بناءً على المحتمل الرابع من المحتملات الأربعة التي ذكرت في حقيقة التحابط، بأن يقال: إن من حق من جعل الثواب أن يشترط على من يعمل أن يستمر على العمل بكيفية معينة، فلو أخلّ بتلك الكيفية، فإنه لن يكون مستحقاً لذلك الثواب، وهذا يعني أن استحقاق الثواب مشروط ليس بالإتيان بالطاعة فقط، بل بعدم الاتيان بالمعصية، وهذا أمر طبيعي وفقاً لكون الثواب والعقاب من الأمور الوضعية الجعلية[7].

ثم إن التقريب المذكور إنما يتم بناءً على الالتـزام بأن الثواب استحقاق، وليس تفضلاً، أما لو بني على أنه تفضل وليس استحقاقاً، فلن يتم التقريب المذكور، فلاحظ ولا تغفل.
ثم إنه لو قيل بثبوت التحابط بين الأعمال، فهل يستدعي تحققه أن يموت الإنسان على المعصية لكي يكون محبطاً لما سبقها من أعمال، بحيث لو تاب لم يكن ذلك موجباً لتحققه، أم يبنى على حصوله ووقوعه خارجاً بمجرد تحقق المعصية، فلو تاب بعد ذلك لم تكن توبته مؤثرة في ما تقدمها من إحباط؟ احتمالان، بل قولان، والظاهر من القائلين به البناء على الثاني منهما، بل الظاهر من الأدلة لو تم القول به، ولو في الجملة هو ذلك.

دائرة التحابط:

قد يتصور البعض أن التحابط من الأمور التي تختص دائرتها بخصوص الأعمال العبادية للإنسان، فتؤثر المعاصي والذنوب اللاحقة في خصوص العبادات السابقة.
إلا أنه تصور خاطئ، والصحيح البناء على سعة دائرة الإحباط وعدم تقيـــيدها بخصوص العبادات، ليكون شاملاً لكل ما يصدر عنه من أفعال يسعى من خلالها لنيل السعادة، فيلتـزم بشموله لمطلق أفعاله.

أسباب الإحباط:

بقي أن نشير في ختام الحديث عن الأسباب التي أشير إليها في القرآن الكريم لحصول التحابط، وسوف نذكر جملة منها، ويمكن للقارئ العزيز متابعة ذلك في الآيات الشريفة:
منها: الارتداد بعد الإسلام، قال تعالى:- (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم)[8].
ومنها: مجادلة الرسول ومشاقته، قال تعالى:- (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم)[9].

ومنها: كراهة ما أنزل الله تعالى، قال سبحانه:- (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)[10].
ومنها: إساءة الأدب مع النبي(ص)، قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)[11].

ومنها: الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة، وهي الآية التي أفتتحنا بها حديثنا، قال عز من قائل:- (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم لا يبخسون* أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون)[12].

التكفيـــــــــــــر:

بقي أن نختم الحديث حول التكفير، وقد عرفت منا في مطلع البحث عدم وقوع خلاف بين المسلمين في ثبوته ظاهراً، وأن المقصود منه اسقاط الذنوب المتقدمة بالطاعة، نعم يجري فيه ما تقدم في التحابط، من أن المسقَط هو العقاب، والمسقِط هو الثواب، أم أن المسقَط هو نفس العمل، والظاهر هو الأول، ولا يأتي في البين أن إسقاط العقاب بالثواب ظلم، فإنه إحسان، ولا مجال للقول هنا بخلف الوعد، فإن الموجود في العقاب هو وعيد، وليس وعداً بخلاف الطاعة، فإن الموجود فيها وعد، وليس وعيداً، فلاحظ.
 

[1] سورة هود الآيتان رقم 15-16.
[2] سورة الزلزلة الآيتان رقم 7-8.
[3] سورة الكهف الآية رقم 30.
[4] سورة التوبة الآية رقم 102.
[5] الميزان في تفسير القرآن ج 1 ص 91-93.
[6] الإلهيات ج 1 ص 295.
[7] الإلهيات ج 2 ص 869.
[8] سورة البقرة الآية رقم 217.
[9] سورة محمد الآية 32.
[10] سورة محمد الآية 9.
[11] سورة الحجرات الآية رقم 22.
[12] سورة هود الآيتان رقم 15-16.