29 مارس,2024

شرطية الأعلمية في مرجع التقليد (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

أدلة المانعين:

أما المانعون من تقليد المفضول، أو المشترطون لتقليد الفاضل، فقد استدلوا أيضاً بأمور لإثبات مدعاهم:

الأول: الإجماع، فقد نقله الشريف المرتضى(ره) في كتابه الذريعة، والمحقق الثاني، والشهيد الثاني، وأيده المقدس الأردبيلي، وأعتمد عليه الشيخ الأعظم(ره) في رسالته في التقليد، وجعله هو الحجة في إثبات ذلك.

لكن يوجد أمام هذا الإجماع مشكلتان:

الأولى: إن المسألة خلافية، كما اعترف بذلك الشيخ الأعظم(ره) نفسه بذلك، وعبر عن القول باشتراط تقليد الأعلم بأنه الأشهر.

الثانية: إنه من الإجماعات المدركية لو سلم انعقاده، وقد عرفت المنع من الاستناد إليها.

الثاني: النصوص، وهي مجموعة روايات:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث.

وقد ذكرت عدة تقريـبات لدلالتها على اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد:

الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم(ره)، وحاصله: إن بابي الفتوى والحكومة متحدان حكماً للإجماع المركب، فإذا وجب الترافع إلى الأعلم لفصل الخصومة، وجب الرجوع إليه لأخذ الفتوى أيضاً، لأن الإجماع المركب قد قام على أن كل من اشترط الأعلمية لفصل الخصومة يشترطها في مرجع التقليد، ولا عكس، أي أن من يشترطها في مرجع التقليد لا يلزم أن يشترطها في القاضي.

ولا يخفى أن هذا الكلام يعتمد على حجية الإجماع المستند إليه في مقام إثبات الدعوى، فلو قيل أن الدليل على الدعوى غير تام-كما هو الصحيح- فعندها سوف تسقط الدعوى عن المقبولية وتتحول إلى دعوى بلا دليل، هذا أولاً.

ثانياً: إن الأعلمية المرجحة في باب القضاء أعلمية إضافية، ذلك لأنها تلاحظ بالإضافة إلى حاكم آخر، أما هي في باب الاجتهاد فإنها حقيقية، ذلك لكونها ملحوظة بالإضافة إلى جميع الفقهاء.

الثاني: إن بين الحكم والفتوى ملازمة، فكما أنه يرجع في الحكم عند الاختلاف إلى الأعلم، فكذلك يرجع عند الاختلاف في الفتوى إليه أيضاً.

ولا يخفى أن تمامية هذا الوجه تعتمد اعتماداً كلياً على ثبوت الملازمة بين الأمرين من جميع الجهات.

وهذا غير صحيح، إذ أنه في الحكم والقضاء لا يجوز الحكم بما يخالف الآخر، وهذا بخلافه في الفتوى، إذ يجوز ذلك، كما أنه يجوز للحكمين المجتهدين حين الاختلاف الرجوع إلى ثالث بخلافه في المجتهدين المختلفين في الفتوى، فلاحظ.

الثالث: ما ذكره الشيخ(ره) أيضاً، وقواه المحقق الرشتي(قده)، وأختاره بعض كبار المحققين من أعلامنا المعاصرين(دامت أيام بركاته) كما حكي ذلك عنه، وحاصله:

إن المراد من الحكم في الرواية هو الفتوى، بمعنى الإخبار عن حكم كلي بنحو القضية الحقيقية، وليس المراد منه الحكم الاصطلاحي، وهو الإنشاء لفصل الخصومة.

وبعبارة أخرى: إن السؤال الوارد في المقبولة منصب على الشبهات الحكمية، وهي لا تتلائم مع الحكم الاصطلاحي، ويدل على ذلك اختلاف الحكمين لأجل اختلاف أحاديثهم(ع) في حكم المسألة، ولهذا أرشد(ع) السائل إلى ترجيح أحد الحكمين على الآخر بالأفقهية والأصدقية، ثم الترجيح بمرجحات الخبرين المتعارضين.

وبعبارة ثالثة: يمكن تقسيم المقبولة إلى ثلاثة مقاطع يدل:

الأول: على القضاء وفصل الخصومة.

والثاني: على باب الاجتهاد والتقليد لتعيـين تقليد الأعلم.

والثالث: على الترجيح بين الخبرين المتعارضين.

فيكون السؤال فيها منصباً على الشبهة الموضوعية بداية، إلا أنه لما وصلت النوبة إلى اختلاف الحاكمين الحاصل من اختلاف الخبرين، وهي شبهة حكمية، رجح الإمام(ع) بالأفقهية.

وقد أورد على البيان الثالث من هذا التقريب بعض الأعاظم(قده) وتبعه على ذلك بعض الأعلام(حفظه الله) وشيخنا الأستاذ(دام ظله) بأن الرواية ليست متعرضة لأمور ثلاثة، بل هي ناظرة لخصوص أمرين فقط، وهما القضاء والحكومة، فهي واردة فيهما دون الأمر الثالث وهو اختلاف المفتيـين، ويشهد لذلك التعبيرات التي وردت فيها، فلاحظ.

والإنصاف أن الإيراد المذكور غير وارد، ضرورة أن المدعى أن الرواية مطلقاً واردة في مسألة اختلاف الفقيهين في الفتوى، ولا أقل من كون مورد الترجيح بالأعلمية هو مورد اختلاف الفقيهين.

وأضاف الأستاذ(دام بقاه) إشكالين غير الإشكال السابق، وهما:

الأول: أن الرواية موضوعها مطلق، وهو الاختلاف في الدين والميراث، ولم يعمد الإمام(ع) إلى التفصيل بين كون المختلفين من الفقهاء، أو من غيرهم.

ومن المعلوم أن ترك الاستفصال دليل العموم، فيفيد جواز الرجوع حتى إلى المجتهدين، ولو كان المراد هو الفتوى لما أمكن لهما الرجوع.

الثاني: إن الرواية قررت الأعلم منهما، وهذا مدار القضاء، بينما في الفتوى هو الأعلم من الكل.

ويمكن إيضاح إشكاله(طال بقاه) بأن الترجيح في المقبولة بين المختلفين ترجيح إضافي، ذلك لأنها قررت ترجيح أحدهما على الآخر، وهذا يختص بباب القضاء، لأن الترجيح بين القاضيـين، بخلافه في باب التقليد، فيلزم أن يكون الترجيح بنحو القضية الحقيقة، بمعنى أن يكون الأعلم من جميع الفقهاء، لا من خصوص من وقع الاختلاف معه، فلاحظ.

وما أفاده(حفظه الله) من الإشكالين مردود، فالأول منها يكفي في جوابه أنه خلاف الظاهر جداً من المقبولة، ضرورة أنها متعرضة لبيان أن المختار من أصحابنا، أي من رواة الحديث الذي يعني اتصافه بكونه من الفقهاء، فلاحظ.

وأما الثاني، فيعتمد كما بينا على أنه أخذ الأعلم في باب القضاء بالمعنى الإضافي، أما لو أخذ بالمعنى الحقيقي، فلا يتم ما أفاده.

هذا وقد أورد على دلالة المقبولة بعض الأعيان(قده) بأن المقبولة قد اشتملة على ذكر أربعة أوصاف وهي الأعدلية والأفقهية والأصدقية والأورعية، والظاهر أن المعتبر توفر الصفات الأربع لتكون مرجحاً واحداً، وهذا غير متحقق في المقام، لأن مقامنا هو تحقق صفة واحدة وهي الأعلمية[1].

وهو كما ترى، لكونه خلاف الظاهر، ضرورة أن كلامه(ع) بصدد بيان ما يمكن أن يكون موجباً للترجيح وهذا يعني أن توفر واحدة من هذه الصفات كافٍ لتحقق الغرض، فلاحظ.

وأورد على دلالتها بعض الأعاظم(قده) بما حاصله: إن الرواية أجنبية عن المدعى، وذلك لأن موردها هو الحكم والترجيح لأجله، حيث لا مناص في الخصومات من فصلها، ولا معنى للتخيـير لاستلزامه بقاء الترافع بحاله، وعلى هذا لا مجال للتعدي عنها لعدم المانع من التخيـير في موردنا[2].

هذا ولنا سؤال على ما أفاده(قده)، فنقول: ما هو الموجب للحكم بترجيح حكم الأفقه؟…

إن كان الموجب لترجيح قوله، يعود لأفقهيته، فقد ثبت المطلوب، لأننا بصدد بيان أن الأفقهية موجبة للترجيح، ولأن المورد شبهة حكمية.

أو أن يكون الموجب لذلك شيء آخر، فعندها لابد من ملاحظة ما هو ذلك الشيء، فإن أحرز وإلا كان المورد من صغريات الترجيح بلا مرجح.

اللهم إلا أن يدعى أن مسألة الترجيح مسألة تعبدية، وهذا بعيد جداً، فتأمل.

هذا وعمدة الإشكال المتصور على تقريب دلالة المقبولة على المدعى هو: أنه قد أتضح من خلال تقريب دلالتها أبتناء ذلك على أن تكون الشبهة الواردة فيها شبهة حكمية، فلو كانت الشبهة شبهة موضوعية لن تكون دالة على المدعى، وهذا يستوجب أن يكون ظهورا لمقبولة في المدعى من الوضوح بمكان، فما لم يكن كذلك، لن يصح الاستناد إليها في مقام الاستدلال، ذلك لأن احتمال إرادة الشبهة الموضوعية يبقى وارداً، خصوصاً وأن الفرض أن لا معين لظهور المقبولة في الشبهة الحكمية.

هذا والذي يظهر من المقبولة أنها ظاهرة في الأعم من الشبهة الحكمية والموضوعية، بل لا يبعد أن يقال بأنها مجرد فرض ذهني، لا وجود له في الخارج، وهو ما يطلق عليه بالفقه الفرضي.

هذا ويوجد تقريب آخر لدلالتها حكاه بعض مشائخنا عن أستاذه أحد كبار المحققين من المعاصرين(دامت أيام بركاته)، وحاصله:

إن المقبولة واردة في المفتيـين والمجتهدين، وعند إختلافهما فلابد من تقليد الأعلم والأفقه، والوجه في ذلك:

إن في دلالة المقبولة احتمالات أربعة، أو خمسة، أو أكثر، ولما كانت الاحتمالات ضعيفة يتعين هذا الاحتمال وينحصر الأمر فيه.

ولتوضيح ذلك أكثر أقول:

إن الاحتمالات الواردة في الرواية هي:

1-أن تكون واردة في القضاء.

2-أن تكون واردة في الحكومة.

3-أن تكون واردة في الفتوى.

4-أن تكون واردة في صدرها في الحكومة وفي ذيلها واردة في الفتوى.

5-أن يكون صدرها وارداً في القضاء وذيلها في الفتوى.

6-أن يكون ذيلها وارداً في القضاء، ووسطها وارداً في الاجتهاد والتقليد، وذيلها في الخبرين المتعارضين.

ويلاحظ عليه: إن مجرد نفي بعض الاحتمالات الواردة لا يعين الباقي منها، لأن المدار في الظهور النوعي، فنفي بعض الظهورات لا يعينه في الباقي منها، إذ لا يعامل الظهور معاملة القسمة الثنائية الحاصرة، لأن مجرد وجود هذه الاحتمالات لا ينفي وجود غيرها.

اللهم إلا أن يكون نظره(دامت أيام بركاته) أن المحتملات المتصور لظهور المقبولة منحصرة في خصوص ما ذكرناه، فيكون المورد من صغريات القسمة الحاصرة، فتأمل.

ثم إننا لو سلمنا بالاحتمال الذي أشرنا إليه، إلا أنه لا يمكن القبول بما أفاده(أطال الله في بقائه)، وذلك لأن المقبولة واردة في قاضي التحكيم وليست واردة في القاضي المنصوب، وهذا يوجب كونها أجنبية عن المورد كلياً.

فالإنصاف أن تقريب الاستدلال بها وإن كان قوياً جداً، لكن كثرة الإيرادات عليها موجبة للريب، وبالتالي يكون للتوقف في الاعتماد عليها مجال.

ومنها: معتبرة داود بن الحصين عن أبي عبد الله(ع) في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال: إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر[3].

ولا يخفى صراحتها في تقديم قول الأفقه حين الاختلاف والمعارضة.

أقول: هذه الرواية لها طريقان رويت من خلالهما:

الأول: وهو معتبر، وهو طريق الشيخ(ره).

الثاني: وهو طريق ضعيف، وهو طريق الصدوق(قده)، فإنه مشتمل على الحكم بن مسكين، وقد قرر في محله أنه لم يوثق.

ويجري في هذه المعتبرة عين ما تقدم في المقبولة من حيث تقريب الدلالة، ومن حيث الإيراد، فلا حاجة للإعادة.

ومنها: خبر موسى بن أكيل عن أبي عبد الله(ع) قال: سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فأختلفا فيما حكما، قال: وكيف يختلفان؟ قلت: حكم كل واحد للذي أختاره الخصمان، فقال: ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه[4].

أقول: الخبر المذكور من متفردات الشيخ(ره)، وقد عرفت غير مرة التوقف في ما انفرد(ره) به. كما أنها ضعيفة سنداً لوجود ذبيان بن حكيم، فإنه لم يوثق، هذا من حيث السند، وأما من حيث الدلالة، فيجري فيها عين ما جرى في المتقدمين عليها، فلاحظ.

ومنها: ما جاء في الوسائل عن النبي(ص)، قال: من أمّ قوماً وفيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى السفال يوم القيامة.

ودلالتها على المدعى من خلال أن الظاهر أن المقصود من الإمامة ليست إمامة الصلاة، وإنما المقصود منها الإمامة بمعنى القيادة الدينية التي تعني المرجعية، وهذا يفيد اعتبار تقليد الأعلم وتقديمه على غيره.

ويلاحظ على الاستدلال بها، أولاً: أنها ضعيفة سنداً بالإرسال.

ثانياً: إن الاستدلال بها يعتمد على أن المقصود من الإمامة القيادة الدينية التي تعني المرجعية، لكن لو قلنا بأن المقصود من الإمامة في الخبر المذكور الإمامة العظمى، بمعنى الخلافة الإلهية، فلا ريب في كونها أجنبية عن المقام. والظاهر أن المقصود هو المعنى الثاني دون الأول، إّ لم يكن عصر رسول الله(ص) عصر فقه كما هو واضح.

إن قلت: إن مقتضى الإطلاق المتصور في الخبر المذكور البناء على شموله لكلا الأمرين، ومعه يحكم بدلالة الخبر على المدعى.

قلت: ومقتضى الإطلاق المذكور البناء على اعتبار الأعلمية في إمام الجماعة، وكذا في أمير الجيش، لأنهما إمامان، ولا قائل به، ولا موجب لتخصيصه، فمع بطلان التالي يبطل المقدم، إلا أن يدعى وجود فرق بين الموارد، فتأمل.

ومنها: ما جاء في نهج البلاغة في عهد الإمام(ع) لمالك الأشتر(رض): ثم أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمسكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصرهم على تكشف الأمور[5].

والظاهر أنه لا علاقة له بموردنا، ذلك لأنه في مقام بيان صفات الشخص الذي ينبغي أن يختار.

وبعبارة أخرى: إن الخبر ناظر إلى الفرد المتحلي بمجموعة من الصفات والفضائل النفسانية، وعليه يحمل معنى الأفضلية، لا أنها بمعنى الأعلمية.

هذا ولو سلمنا دلالتها على ذلك، فإن العهد المذكور للحمل على الاستحباب أقرب منه للحمل على الوجوب، لأنه لو كان لازماً لكان على مالك أن يتولى ذلك بنفسه، لأن الإمام(ع) لم يعبر بقوله: لأفضل منك، فتأمل.

مضافاً إلى أن بين الأعلم والأفضل عموم من وجه، لأن الثاني يقصد منه الأكمل في الصفات النفسانية، ولم يعهد إطلاقه على الأعلم بين القدماء، نعم إطلاقه على الأعلم من الاستعمال المحدث.

ثم إن ما ذكرناه كله بعد الفراغ عن تمامية السند، وإلا فالسند ضعيف، مثله مثل ما جاء في نهج البلاغة، من صحة النسبة لأمير المؤمنين(ع)، لكن لا يوجد طريق معتبر.

هذا وقد حاول بعض مشايخنا(حفظه الله) تصحيح سند عهد أمير المؤمنين(ع)، إلى مالك الأشتر، وذلك لوجود طريقين للعهد:

الأول: وهو طريق النجاشي له، وهو كالتالي: أخبرنا ابن الجندي، عن علي بن همام عن الحميري عن هارون بن مسلم عن الحسين بن علوان عن سعد بن طريف عن الأصبغ بالعهد.

وهذا الطريق يواجه مشكلتين:

الأولى: عدم وثاقة ابن الجندي إلا بناء على القبول بكبرى وثاقة جميع مشائخ النجاشي.

الثانية: إن علي بن همام لا وجود له في كتب الرجال. نعم احتمل بعض المحققين(قده) وجود تصحيف، والصحيح أبو علي بن همام، وهو محمد بن همام، لرواية ابن الجندي عنه، فعندها يكون ثقة[6].

الثاني: طريق الشيخ، وهو كالتالي: ابن أبي جيد عن محمد بن الحسن عن الحميري عن هارون بن مسلم والحسن بن طريف جميعاً عن الحسين بن علوان الكلبي عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة.

وهذا الطريق فيه عدة إشكالات:

أولها: عدم توثيق ابن أبي جيد، إلا بناءً على التسليم بتمامية الكبرى القائلة بوثاقة جميع مشائخ النجاشي.

ثانيها: وجود الحسين بن علوان وفي وثاقتة مجال للتأمل.

ثالثها: وجود سعد بن طريف، وقد تعارض فيه كلامي الشيخ والنجاشي.

رابعها: وجود الأصبغ، ولا دليل واضح على وثاقته.

خامسها: إن المشكلة الأساسية في أن الشيخ(ره) لم يقم بنقل متن العهد، فلا يمكن الاستفادة من طريقه.

فتحصل من جميع ما ذكر أنه لا مجال للبناء على اعتبار العهد، لعدم تمامية الطريق إليه، والله العالم.

ومنها: ما جاء في البحار نقلاً عن عيون المعجزات أن الإمام الجواد(ع) خاطب عمه: يا عم إنه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك لم تفتِ عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلم منك[7].

ودلالتها على المدعى واضحة، ضرورة أنها واردة مورد الفتوى، وأن المفتي لا يحق له الافتاء لو كان بين ظهراني الأمة من هو أعلم منه. كما أنها من حيث الدلالة على اعتبار ذلك في المفتي مطلقة من دون لحاظ مخالفة فتواه للمفضول من عدمها.

وقد سلم بدلالتها على اعتبار الأعلمية مطلقاً في المفتي، بعض الأعاظم(قده)[8]، ومثل ذلك حكي عن الفقيه العلامة الشيخ حسين الحلي(ره)، حيث ذكر دلالة الحديث على عدم جواز الإفتاء من شخص مع وجود من هو أعلم منه، لعمل الناس بفتواه، فيدل على عدم حجية فتوى غير الأعلم في حقهم[9].

أقول: لقد ذكر المفيد(ره) هذه الرواية في كتابه الاختصاص، لكنه لم ينقل الذيل الذي هو محل الشاهد، مما يعني أن في البين اختلافاً بين النسخ، وهذا يمنع من الوثوق بالخبر فلا يمكن الاعتماد عليه، خصوصاً وأنه لا موجب لترجيح إحدى النسختين على الأخرى.

ومع رفع اليد عما ذكرنا، يمكن الخدشة في دلالتها، بأن يقال: الظاهر أنها مختصة بموردها، لما فيها من إيهام للناس بأن المنصب متعين في عبد الله، وهو الأولى به، مما يكون تغريراً للناس عن طريق الحق، فتأمل، هذا أولاً.

ثانياً: من المحتمل، أن النظر في الرواية إلى النهي عن الفتوى بغير علم، فتكون ناهية عن الجهل البسيط، فتأمل.

هذا كله، مع الغض عن ضعفها السندي، كما هو واضح، فلاحظ.

الثالث من الأدلة: أقربية فتوى الفقيه الأعلم إلى الواقع:

إن فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى العالم حين الاختلاف بينهما، لأن الأعلم أوسع إطلاعاً وأكثر إحاطة من غيره، ولما كان قوله أقرب للواقع، فلا ريب في أن العقل يقدم قوله لأن قول الفقيه طريق للأحكام الإلهية، فيتعين تقليد الأعلم.وأورد عليه بعض الأعاظم(قده) بما حاصله: إن كون فتوى الأعلم أقرب للواقع إنما تصح بناءً على كون المراد من الأقربية، الأقربية الشأنية الاقتضائية الطبعية، أي ون الأعلم من شأنه أن تكون فتواه أقرب للواقع من فتوى غيره، ولكن تبقى مشكلة عدم كون الأٌربية الطبعية ملاكاً للتقليد ولا لوجوبه.

أما لو أريد من الأقربية، الأقربية الفعلية بالإضافة لفتوى غير الأعلم، فلا يمكن التسليم بذلك، لإمكان موافقة قول غير الأعلم للمشهور، ولفتيا أساطين المذهب ممن هم أعلم من الحي بمراتب، بينما فتوى الأعلم مخالفة للمشهور، ومع كونها كذلك كيف تكون أقرب للواقع[10].

وأورد عليه شيخنا الأستاذ(دامت بركاته): بأن المختار في الأقربية، هو الشق الثاني، أي الأقربية الفعلية. وأما إيراد مخالفة المشهور، فمدفوع بأن مدار الأقربية الفعلية هو حصولها من طريق معتبر لا من غيره، بيان ذلك:

إن قول المشهور وأساطين المذهب ساقط عن الاعتبار بالموت، فلا مجال للأخذ به إلا من خلال الحي، فضمه لقول العالم ضم الغير حجة إلى الحجة، وهو كضم الحجر للإنسان، فتسقط المرجحات الخارجية، وتبقى الداخلية منها، فيكون قول الأعلم من الحيـين أقوى طريقاً فيقدم.

أقول: مراده(دام ظله)من المرجحات الداخلية، هي الأمور القائمة بنفس المفتي كالأعلمية، وأما المرجحات الخارجية ككون رأيه موافقاً للشهرة، أو الأمارة أو غير ذلك.

هذا ويرد عليه: بأن المدار في عموم الترجيح وخصوصه على حال دليل الترجيح، ولا يفرق في حكم العقل المدعى بين المرجحات الداخلية والخارجية.

مضافاً إلى أن هذا الترجيح لقول الأعلم-لو تم-فهو ترجيح نسبي، ولا دليل عليه إذا لم يصل إلى حد يجعل أحدهما حجة والآخر غير حجة، فتأمل.

كما أن الحجية لا تدور مدار الأقربية وغيرها، بل مدار الأقربية هو صدق العناوين المأخوذة في أدلة الحجية وعدمه، وعدم مطابقة فتوى المشهور ليس دليلاً يوجب الأقربية.

الرابع: إن تقديم قول المفضول مع وجود الأفضل تقديم للراجح على المرجوح، وهو قبيح.

أقول: إن هذا يصلح دليلاً لحكم العقل بتقديم قول الأعلم لأقربيته على الواقع.

وكيف كان، فيرد عليه: بأنه أخص من المدعى لعدم شموله ما إذا كان الظن الحاصل من فتوى المفضول أقوى من الحاصل من فتوى الفاضل لموافقته للمشهور مثلاً، كما لا يشمل صورة تساوي الظنين الحاصلين من فتوى كليهما.

الخامس: سيرة العقلاء:

فقد جرت سيرتهم منذ القدم على الرجوع للأخبر والأعلم في كل فن عند الاختلاف بينه وبين العالم والخبير، فنراهم يقدمون قوله على غيره، ويرون أفضليته عليه وأولوية العمل به دون من سواه.

والإنصاف أن هذا هو عمدة ما يمكن أن يستدل به على لزوم تقليد الأعلم حين الاختلاف.

وقد أورد على الاستدلال بها بعض الأعلام(قده) بالتالي:

إن التقرير المذكور للرجوع للأعلم من قبل العقلاء إنما يجري بالنسبة للأمور العرفية، لأنهم يعمدون إلى البحث عن الأقرب إلى الواقع والأقدر على الكشف عنه. ولذا لو لم يحصل لهم وثوق بقوله، أو حصل لهم شك فيه، فإنهم لا يـبالون بالرجوع إليه. بل لو رأوا والحال هذه أن المفضول أقدر من الفاضل لرجعوا للمفضول وتركوا الفاضل.

أما بالنسبة للقضايا الشرعية، فإن ملاك الرجوع للفقيه ليس الأقربية إلى الواقع والأقدرية على إصابة الواقع، بل المدار على تعنون المجتهد بعنوان الفقيه والناظر في الحلال والحرام والعارف بالأحكام وما إلى ذلك.

ولا ريب في أن هذه العناوين يستوي فيها الأعلم وغيره، من حيث صدقها عليهما[11].

وفيه: إنه بعد التسليم أن المدار على توفر هذه العناوين في مشروعية التقليد، لكن السيرة المدعاة في المقام، بمثابة المخصص لما دل على المشروعية، وبالتالي هي تفيد أن المعتبر هو خصوص من كان فاضلاً فلا مشروعية لتقليد المفضول.

هذا وقد أحتمل بعض الأعيان(قده) أن السيرة المدعاة من قبل العقلاء على الرجوع للفاضل وتقديم قوله على المفضول، إنما هي من باب حسن الاحتياط، لا من باب اللزوم، والقرينة على ذلك رجوعهم إلى المفضول بمجرد تحقق أعذار غير وجيهة، كبعد الطريق، وكثرة المراجعين، ومشقة الوصول وإن كانت قليلة، وأمثال ذلك مما يعلم بأنه لو حكم إلزاماً بالترجيح لماكانت تلك الأعذار وجيهة لدى العقل والعقلاء، هذا مع علمهم إجمالاً باختلاف الرأي بين أصحاب الفن[12].

ويلاحظ عليه أولاً: بعد التسليم بتحقق المراجعة من قبل العقلاء للمفضول مع وجود

الفاضل، فذلك لعدم إحراز الخلاف بينهما، وقد عرفت في تقرير السيرة أنها منعقدة على الرجوع للفاضل حال اختلافه مع المفضول لا مطلقاً، فلاحظ.

ثانياً: لو سلمنا أنهم يرجعون للمفضول حتى مع إحرازهم اختلافه إياه، فالظاهر أن ذلك في غير الأمور المهمة والصعبة التي يلام الإنسان على التقصير فيها.

وقد أورد بعض المعاصرين(قده) على التمسك بالسيرة من خلال دعوى عدم وجودها أصلاً، مشيراً إلى عدم إحراز بنائهم على ذلك، كيف وإلا لزم تعطيل المفضول في المهن مع أنه ليس كذلك[13].

وضعفه واضح، ضرورة أنه إذا كان الداعي لعدم إحراز البناء ما ذكره، فإنه يكفي لعدم تعطيل المفضول في المهن، حال الاتفاق وعدم الاختلاف، خصوصاً وأن موارد الاختلاف غالباً لا تكون من الكثرة بمكان، فلاحظ.

——————————————————————————–

[1] رسالة الاجتهاد والتقليد ص 104.

[2] التنقيح ج 1 ص

[3] وسائل الشيعة ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 20.

[4] وسائل الشيعة ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 45.

[5] نهج البلاغة قسم الرسائل والكتب رقم 53.

[6] قاموس الرجال ج ص

[7] بحار الأنوار ج ص

[8] التنقيح في شرح العروة ج 1 ص 141.

[9] حكاه عنه تلميذه آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم(حفظه الله) في كتابه مصباح المنهاج ج 1 ص 80.

[10] التنقيح في شرح العروة ج 1 ص 147.

[11] الاجتهاد والتقليد بحث فقهي استدلالي مقارن ص 382.

[12] رسالة الاجتهاد والتقليد ص

[13] الفقه ج 1 120.