تأملات في الخطبة الشعبانية (5) – العطاءات الثلاثة (3)

لا تعليق
من القلب إلى القلب
3
0

المغفرة

القسم الثالث من العطاءات الثلاثة التي ذكرها المصطفى(ص) في خطبته المباركة، هي المغفرة، وأول ما نحتاج التعرف عليه هو حقيقة المغفرة، فنقول:

هناك تعبيران وردا في القرآن الكريم، وقد وردا أيضاً في النصوص الشريفة:

الأول: الاستغفار.

الثاني: المغفرة.

وقد يتصور الكثير أن المفهومين يشيران إلى معنى واحد، وأنه لا فرق بينهما.

لكن ما ذكر غير صحيح، وذلك لوجود الفارق بين المفهومين، فالاستغفار عبارة عن: طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى، ويكون ذلك إما بالقول، وإما بالعمل من خلال فعل الطاعات والخيرات التي توجب غفران الذنوب.

وأما المغفرة: هي عبارة عن التغطية والستر. نعم زاد بعضهم في تعريفها فذكر أنها عبارة عن حالة من الوقاية التي تحصل للإنسان، والتي يتمكن من خلالها من دفع الضرر والأذى عن نفسه. ويقربون معناها المذكور بالمغفر الذي يضعه المقاتل على رأسه، فإن منشأ تسميته بذلك إما لكونه يستر الرأس، أو لدفعه الأذى عنه.

واستخدمت بعدئذٍ في غفران الذنوب، بمعنى العفو والتجاوز عن المعاصي، وعما يصدر من الإنسان من مخالفات لله سبحانه، على أساس أنه سبحانه يستر هذه المعاصي، أو يخلق في الإنسان حالة تقتضي أن يكون متقياً لآثارها.

فالمقصود إذاً من مغفرة المولى سبحانه وتعالى لعبده، ستره عليه ذنوبه وعيوبه، وتطهيره من العذاب، ومحو سيئاته عنه.

ومن الواضح أن الاستغفار مرحلة متقدمة للمغفرة، بمعنى أن الاستغفار يكون أسبق رتبة منها، نعم لا يشترط في حصول المغفرة الاستغفار المسبق، إذ يمكن أن يغفر الله سبحانه وتعالى للإنسان من دون أن يسبق ذلك استغفار، كما أنه لا يلزم أن يتعقب الاستغفار مغفرة، فربما يستغفر الإنسان لكن الله سبحانه وتعالى لا يغفر له.

هذا ويستفاد من الراغب الأصفهاني في المفردات أن بين العفو والمغفرة نوع تساوي في المفهوم، لتقريره أن العفو بمعنى المغفرة.

وما ذكره له وجه، بلحاظ المصاديق الخارجية، حيث أنهما متحدان، لكن من حيث الجانب الذهني والتصوري فالظاهر أن بينهما اختلافاً، لأن العفو هو إعفاء العبد من الذنب، وتركه بلا ذنب، وهو يعني محو ذنوبه، بينما المغفرة كما عرفت، تعني الستر والتغطية، فقد يستر الله على عبده ذنوبه، فلا يطلع عليه أحد، لكن لا يعني ذلك محوها عنه.

موجبات المغفرة:

ثم إن المغفرة من الأمور التي تحتاج إلى موجبات لتحققها خارجاً، نعم قد يفيضها الباري سبحانه وتعالى كرماً منه على عبيده، لأن المغفرة من مصاديق الرحمة، كما أن الرحمة من مصاديق البركة.

وعلى أي حال، نشير إلى جملة من موجبات المغفرة الإلهية، التي متى أوجدها الإنسان كان مستوجباً لنيل هذا العطاء الرباني:

التوبة والندم الذنب:

ينبغي للطالب المغفرة من الله سبحانه أن يتقرب إليه بتوبة صادقة خالصة يظهر فيها ندمه على ما اقترفه من ذنوب سابقة وما عمله من خطايا، حتى يفيض الله سبحانه عله مغفرته ويستر عليه ذنوبه.

إدخال السرور على المؤمن:

فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: إن من موجبات المغفرة: إدخال السرور على أخيك المسلم، وإشباع جوعته، وتنفيس كربته، ناهيك عما لو قضى الإنسان حاجة أخيه المؤمن، فإن ذلك من الأمور الموجبة لتحقق المغفرة له، ولأنقل هنا قصة تحكى عن كليم الله موسى بن عمران(ع)، حيث كان في طريقه ذاهباً إلى طور سيناء، فمرّ على كوخ متواضع جداً، كان يسكن فيه أحد الزهاد، فاستهواه أن يدخل فيه، ويسأل عن حال الزاهد.
وهكذا دخل.. فوجد الرجل يأكل الطعام، وكان موسى -في تلك اللحظة- يعاني من الجوع والتعب والإرهاق. لكنه لم يجد أي دعوة من الزاهد للاشتراك معه في الطعام.
ولما همّ موسى بالرحيل، طلب الزاهد من موسى أن يسأل الله-فيما يسأل-عن مكانته في الجنة. ووعده موسى خيراً.. وارتحل عنه.. وفي ذات الطريق مرّ موسى على كوخ آخر لزاهد ثان، ولكنه لم يكن متواضعاً كالكوخ الأول فاستهواه-كذلك-أن يدخل فيه.. وصدفة وجد الرجل يهم بأكل طعامه وكانت عبارة عن رمانة واحدة، وما إن دخل موسى حتى قام له الزاهد، وأجلسه على سفرته، وقدّم له نصف رمانته باصرار.
ولما همّ موسى بالرحيل سأله الزاهد أن يسأل الله، فيما يسأل عن مكانته في الجنة.. وعده موسى خيراً.. وارتحل عنه.
على طور سيناء تذكر موسى مقالة الرجلين فسأل الله عن الأول، فجاءه الجواب: بشّره إن مكانه النار!
وسأل عن الثاني، فجاءه الجواب: مكانه الجنة!
ولما سأل موسى: ولِمَ يا ربّ؟
قال الله: (يا موسى.. إن الأول بخيل. أكل طعامه بحضورك، ولم يقدم لك شيئاً. والثاني كريم لم يملك سوى رمانته التي قدّم لك نصفها. فالثاني يدخل الجنة لعطفه والأول يدخل النار لبخله).
وحينما دخل موسى على الزاهد الأول، وأخبره بمقالة الله. قال لموسى: يا موسى.. إذا كان لابد أن أحترق بالنار فأسأل ربك أن يجعل النار ضيقة حتى لا يدخلها غيري، أو يجعلني واسعاً حتى أملأ النار..
قال له موسى: ولِمَ؟
فأجاب: لا أريد أن يتعذب غيري معي.
وجاء موسى-بعد ذلك-إلى الطور، فسأل الله تعالى ، فجاءه الجواب: (يا موسى.. اخبر صاحبك إني قد أوجبت له الجنة لأنه أراد الخير لغيره).

فنلاحظ أن الزاهد الأول، أعطاه الله الجنة، لمجرد عطفه على الآخرين، فكيف لو كان الإنسان يعطف عليهم، ويدخل السرور في قلوبهم، ويقضي حوائجهم.الطعام من الإيمان ، وأنه

بذل الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام:

فقد ورد عن رسول الله(ص) قوله: من موجبات المغفرة، بذل الطعام، وإفشاء السلام، وحسن الكلام.

أداء الفرائض.

التواجد في الأماكن المقدسة:

كعرفات، والمراقد الطاهرة للأئمة المعصومين(ع)، وأولاده(ع).

الموت على حب آل محمد(ص).

صيام شهر رمضان وقيامه:

فقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[1]. وجاء عنه(ص) قوله: إن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.

تفطير صائم:

واحد من الأمور التي توجب المغفرة في هذا الشهر الكريم تفطير صائم كما نص على ذلك رسول الله(ص) في الخطبة، قال(ص): من فطر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عز وجل عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه. وسيأتي منا في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى الحديث عن فضل تفطير الصائمين، فأنتظر.

غفران الذنب في رمضان:

بعدما عرفنا حقيقة المغفرة، وعرفنا موجبات تحصيلها، ينبغي أن يصرف عنان البحث للحديث عن كيفية تصور حصول المغفرة في شهر رمضان المبارك، ذلك لأن غفران الذنوب يوجد فيه احتمالان:

الأول: أن يكون المقصود من غفران الذنوب والمغفرة في شهر رمضان المبارك، أن الله سبحانه وتعالى يغفر للإنسان ما يصدر منه من معاصي وخطايا، لأن الإنسان لا ينفك عن ارتكاب المعصية والخطيئة في حياته الاعتيادية، فيكون مستحقاً للعقوبة وفقاً لما عمل من عمل، إلا أن الله سبحانه وتعالى يعفو عنه، ببركة شهر رمضان المبارك، وهذا مثل قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم* تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون* يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم)[2]، فإنه سبحانه وتعالى أعطى المغفرة لمن، أعطاها للمجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فكذلك أعطى المغفرة في شهر رمضان.

ومثل ذلك قوله تعالى:- (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً)[3]، فإن اجتناب كبائر الذنوب صار سبباً لأن يغفر الله سبحانه وتعالى صغائرها.

والحاصل، إن المقصود من المغفرة أن الله سبحانه وتعالى يمحو ذنوب ومعاصي الإنسان في شهر رمضان، ويزيلها من صحيفة عمله، فلا يستحق عليها عقوبة أصلاً.

الثاني: أن يكون المقصود من المغفرة هو غفران تبعات الذنوب، ولو كانت الذنوب صادرة من الآخرين، وليس من الإنسان نفسه. توضيح ذلك:

إن للذنوب آثاراً تكوينية على الإنسان، بل على المجتمع نفسه، بحيث يتفاعل المجتمع مع الذنوب التي تصدر فيه، ويترك ذلك آثاراً وخيمة عليه، وقد يظهر آثارها في عالم الدنيا، وقد يظهر في عالم الآخرة.

وقد أشارت لهذا المعنى جملة من الآيات القرآنية، و النصوص الشريفة، قال تعالى:- (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثيرا)[4]، وقال سبحانه:- (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)[5]، وقال عز من قائل:- (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعةٌ أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد)[6]، ومن الآيات أيضاً:- (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)[7].

ومن النصوص المباركة، ما جاء عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: أما أنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل:- (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير). وعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: من قارف ذنباً فارقه عقل لم يعد إليه أبداً.

ومن الأمثلة البارزة دعاء كميل وهو الدعاء الذي اعتاد المؤمنون على قراءته في ليالي الجمع، وفي ليلة النصف من شعبان، فقد قال(ع): اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنـزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تـنزل البلاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء.

وقد وردت نصوص عديدة في بيان هذه الذنوب التي توجب هذه الآثار، لا يسع المجال لذكرها بطولها، وإنما نشير إلى جملة منها، فالذنوب التي تهتك العصم، هي شرب الخمر، واللعب بالقمار، وفعل ما يضحك الناس من المزاح واللهو، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب.

والمقصود من العصم التي تهتكها الذنوب، رفع الموانع عن الموبقات ليتردى بها العبد دون أن يوفقه الله للامتناع عنها بإحدى وسائل الامتناع، بحيث يكله إلى نفسه الأمارة بالسوء.

وعليه، إذا دخل شهر رمضان المبارك، فإن الله سبحانه وتعالى يرفع هذه التبعات والآثار المترتبة على الذنوب والمعاصي الصادرة من الناس.

هذا والظاهر أن المقصود من المغفرة هو الاحتمال الثاني، لأن حمل المغفرة على المعنى الأول يستلزم أن تحمل في بعض موارد الاستعمال القرآني على معنى مجازي، أما لو بنينا على حملها على المعنى الثاني، فإنه لا يستوجب ذلك، ولنوضح ذلك بصورة موجزة وتفصيله يطلب من محله:

لقد تضمنت غير واحدة من الآيات الشريفة الحديث عن مغفرة ذنوب جملة من أنبياء الله سبحانه وتعالى، كقوله تعالى في شأن نبينا محمد(ص):- ( إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك)[8]، فإن المغفرة هنا للنبي(ص)، ونحن نعتقد أنه(ص) معصوم منذ ولادته، ولا نتصور صدور معصية منه حتى تغفر له، وكذا قوله تعالى في شأن الكليم موسى(ع):- (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم)[9]، فإنه معصوم لا تصدر منه المعصية، فلو حملنا المغفرة على المعنى الأول، فلابد من التصرف في الظهور في أمثال هاتين الآيتين، بحملهما على خلاف معناهما الظاهر، بعكسه لو حملناها على المعنى الثاني، فإن المقصود من المغفرة رفع التبعات المترتبة على ذنوب قومهما ومعاصيهم.

وبالجملة، إن المقصود من المغفرة التي تكون في شهر رمضان المبارك هي عبارة عن محو الآثار السيئة للذنوب في هذا الشهر المبارك، وهذا المعنى تساعد عليه جملة من النصوص، من أن الله لا يعذب، وأن النار مغلقة الأبواب، وأنه لا ينـزل العقاب، وأمثال ذلك.

خاتمة:

هذا وينبغي أن نختم الحديث بالإشارة إلى أن الترتيب الذي ورد في كلامه(ص) ليس ترتيـباً اعتباطياً، لما نعتقده من أنه(ص) لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، عليه فلابد من وجود نكتة لهذا الترتيب، والظاهر أن الترتيب تنازلي، بمعنى أن أفضل هذه المراتب هي البركة، وبعدها تأتي الرحمة، وأدناها مرتبة هي المغفرة، وذلك لأن المغفرة نوع من أنواع الرحمة الرحمانية، كما أن الرحمة، بركة من البركات الإلهية، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور.

——————————————————————————–

[1] أمالي الطوسي

[2] سورة الصف الآيات رقم 10-12.

[3] سورة النساء الآية رقم 35.

[4] سورة الشورى الآية رقم 30.

[5] سورة التنزيل الآية رقم 21.

[6] سورة الرعد الآية رقم 31.

[7] سورة النحل الآية رقم 112.

[8] سورة الفتح الآية 1-2.

[9] سورة القصص الآية رقم 16.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة