26 أبريل,2024

العنف أسبابه وعلاجه

اطبع المقالة اطبع المقالة

مدخل:

يتصور البعض أن مشكلة العنف من المشاكل الطارئة والحديثة التي ظهرت في المجتمع البشري أخيراً، وأنها لم تكن موجودة من قبل، فهي واحدة من الظواهر التي طرأت على المجتمع نتيجة وجود التطور والتغيرات الكبيرة التي أصابت المجتمع بأكمله، سيما بعد ظهور الثورة الصناعية، التي نتج عنها وجود جيل صريع الحيرة والقلق والاضطراب. وكذا نتيجة وجود جملة من الأهداف التوسعية والجشع اللامتناهي لدى الحكام وأصحاب السلطات.

تاريخ العنف:

لكن ما ذكر غير صحيح، ذلك أن مشكلة العنف مشكلة قديمة وليست وليدة هذه التطورات التي يعايشها المجتمع اليوم، بل هي قديمة بقدم البشرية، ويمكن القول بأن أول ظهور لها يوم قام قابيل بقتل أخيه هابيل، عندما قدما قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فدعى ذلك إلى أن يقتل قابيل هابيل، وقد قابله هابيل بالرفق، قال تعالى:- (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك)[1].فعملية القتل التي قام بها قابيل ممارسة للعنف.

ثم تطور هذا العنف من نوع فردي إلى عنف جماعي، بأشكال متعددة، فكان عنفاً جماعياً قبلياً، وكان عنفاً جماعياً طائفياً، وكان عنفاً جماعياً قومياً، وكان عنفاً جماعياً فئوياً، وهكذا.

وقد أكد القرآن الكريم في العديد من آياته الشريفة على حالة التطور الموجودة للعنف وذلك من خلال إشارته إلى تعرض أنبيائه ورسله إلى ذلك الذين كانوا يطمحون للعيش على الأرض بسلام.

ومن تلك النماذج، أنه لما ارتد بنو إسرائيل وعمدوا إلى عبادة الأصنام، قاموا بتعذيب الأنبياء وقتلهم، وحولوا بيت المقدس إلى سجن رسمي للأنبياء ومن تبعهم، وقد ذكر التاريخ جملة منهم، مثل آخيا، ويوشع، وعاموص في عهد الملك اليهودي الوثني(ياريعام).

وقد عانى النبي إلياس من الطاغية(آحاب)الوثني، وعانى أشعيا من(آحاز بن يوثام)،

وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه المعاناة، قال تعالى:- (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون)[2]، وقال سبحانه:- (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون)[3]، وقال عز من قائل:- (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيـين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم)[4].

وقد ذكر في المصادر التاريخية أن السبب في قصم المملكة اليهودية هي الجريمة النكراء التي كانت منهم بحق السيد المسيح وأمه العذراء(ع). حيث أنه بعدما اعتقل ثبت للوالي براءته، إلا أن اليهود أصروا عليه وسلمه للحاخامات، فصلبوه حسب دعواهم.

وقد تعرض خليل الرحمن(ع) للحرق، وقصته في ذلك مشهورة، ونشر زكريا بالمنشار، وإسماعيل بن حزقيل قتلوه وسلخو جلدة وجهه وفروة رأسه.

وقد عانى نبينا الكريم محمد(ص) أشد المعاناة من العنف، حتى قال(ص): ما أوذي نبي مثل ما أوذيت.

تعريف العنف:

بعد اتضاح أن العنف كان وجوده بوجود البشرية، وتأصل جذوره، نحتاج التعرف على هذا المفهوم ومعرفة ما هو المراد منه.

إن العنف كغيره من المفاهيم، له معنيان، معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح، ونعني بالاصطلاح الشريعة المقدسة.

أما معنى العنف في اللغة، فهو ضد الرفق، ويراد به الشدة والخُرق، كما يستفاد ذلك من كلمات اللغويـين، فقد ذكر ابن منظور في اللسان في تعريفه: هو الخُرق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق[5].

وفي كتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري عرفه بأنه: التشديد في التوصل إلى المطلوب[6].

ولا يخفى أن التعريف الذي ذكره أبو هلال لا يخـتلف عن التفسير الذي حكيناه عن ابن منظور، لأنهما يؤولان إلى معنى واحد.

وأما تعريفه في الاصطلاح، فالظاهر أنه لم ترد هذه اللفظة في القرآن الكريم، إذ يجد المتـتبع خلو آياته الشريفة من ذلك.

نعم وجدت نادرة في النصوص المعصومية، فعن رسول الله(ص)قال: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه[7].

وعن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: وأعلم أن من عنف بخيله كدحت فيه بأكثر من كدحها في عدوه، وأعلم أن لكل شيء حداً، فإن جاوزه كان سرفاً، وإن قصر عنه كان عجزاً، فلا تبلغ بك نصيحة السلطان إلى أن تعادي له حاشيته، وخاصته، فإن ذلك ليس من حقه عليك[8].

وقال(ع) أيضاً: ومن العلماء من إذا وُعِظ أنف، وإذا وَعَظ عنف[9].

وقد عقب هذا الحديث الشريف العلامة المجلسي(ره) ببيان، جاء فيه: قوله(ع): من إذا وعُظ أنف، أنف أي استكبر عن قبول الحق، وإذا وَعَظ عنف، أي تجاوز الحد، والعنف ضد الرفق.

هذا ويمكننا من خلال ملاحظة النصوص الإسلامية التوصل إلى أن مفهوم العنف في اصطلاح الشريعة لا يغاير حقيقته في كلام اللغويـين، وأنه عبارة عن صورة من صور الشدة تخالف اللطف والرفق.

ومن الواضح أن هذا التعريف المذكور لا يأخذ في تحقق مفهوم العنف خارجاً قيد الفتك بالأرواح والقتل للأنفس، بحيث يضيق المفهوم، بل ما ذكر من التعريف يثبت سعة في حقيقة هذا المفهوم، ذلك لأن المستفاد من معناه اللغوي والروائي أنه عبارة عن صورة من صور الشدة التي تخالف اللطف والرفق. نعم ربما أدى التكرار في العنف إلى الفتك بالأرواح وقتل الأنفس.

وقد تتضح هذه الحقيقة للعنف-وأنه أوسع دائرة من التحديد بالفتك بالأروح والقتل للأنفس- وأنه يعني الشدة بصورة جلية من خلال قوله تعالى:- (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)[10]. حيث ذكر الشيخ الطبرسي(ره) في تفسير قوله تعالى:- (غليظ القلب)أي قاسي الفؤاد غير ذي رحمة ورأفة[11].

هذا وقد ذكر بعضهم أن معرفة حقيقة العنف كمفهوم تعتمد كلياً على ملاحظة الاتجاهات الثلاثة التي للعنف، وتلك الاتجاهات هي:

الأول: العنف هو الاستخدام الفعلي للقوة المادية لإلحاق الضرر والأذى بالذات أو بالأشخاص الآخرين، وتخريب الممتلكات للتأثير على إرادة المستهدف.

وعلى هذا الأساس، فإن السلوك العنيف يتضمن معنى الإرغام والقهر من جانب الفاعل، والخضوع أو المقاومة من جانب المفعول به أو المستهدف.

الثاني: العنف هو الاستخدام الفعلي للقوة المادية أو التهديد باستخدامها.

وهذا التعريف يوسع المفهوم ليشمل التهديد بالقوة إلى جانب الاستخدام الفعلي لها، أي ليشمل السلوك القولي إلى جانب السلوك الفعلي.

الثالث: ينظر هذا الاتجاه إلى العنف باعتباره مجموعة من الاختلالات والتناقضات الكامنة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع، ولذا يطلق عليه اسم العنف الكلي، ويتخذ عدة أشكال:

منها: غياب التكامل الوطني داخل المجتمع وسعي بعض الجماعات للانفصال عن الدولة، وغياب العدالة الاجتماعية وحرمان قوى معينة داخل المجتمع من بعض الحقوق السياسية وعدم إشباع الحاجات الأساسية، كالتعليم والصحة والمأكل….الخ….لقطاعات عريضة من المواطنين، والتبعية على المستوى الخارجي[12].

وبناءً على هذا سوف تكون حقيقة العنف، أنه كل سلوك فعلي أو قولي يتضمن استخداماً للقوة أو تهديداً باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين، وإتلاف الممتلكات لتحقيق أهداف معينة.

وأما علماء النفس، فقد أحالوا حقيقة العنف إلى أنه سلوك ينـتج عن الإحباط، فقد عرفه بعضهم بأنه: نمط من أنماط السلوك ينـتج عن حالة إحباط، ويكون مصحوباً بعلامات التوتر ويحتوي على نية مبيتة لإلحاق ضرر مادي أو معنوي بكائن حي، أو بديل عن كائن حي.

وحاصل ما ذكر، أو العنف ينحل إلى ثلاثة أمور على سبيل مانعة الخلو:

فهو سلوك لكنه إما أن:

1-ينطوي على استعمال غير مشروع للقوة.

2-أو النية بالتهديد باستعمال القوة.

3-أو على توهين الآخر بدوافع ذاتية وخارجية.

ومن الواضح أن العنف بهذا المعنى يبرز حقيقة في كل عمل يهدد أمن الناس الجسدي، أو ممتلكاتهم.

أنواع العنف:

للعنف أنواع متعددة يظهر فيها، فهو قد يكون عنفاً فردياً، وقد يكون جماعياً، وهو على أقسام كما سيتضح، وهذا يستدعي الإشارة إلى هذه الأقسام وبيانها بصورة موجزة:

العنف الفردي:

ونعني به العنف الذي يقصد من ورائه غايات شخصية، ويقرب من الجريمة.

والسبب في وجود العنف الفردي يرجع إلى أن الرغبات والتوجهات والنـزعات الفكرية عند الأفراد ليست على مستوى واحد، ومن ثمّ تختلف طريقة إشباع هذه الرغبات لغرض تحقيق الأهداف.

ولا ريب في أن هذا يسبب حدوث اختلاف وتعارض بين الأفراد، مما يؤدي إلى عدم الانسجام، بل ربما التصادم بالضرب وممارسة العنف، وهو ما يتنافى وأبسط الحقوق الإنسانية.

ثم إن الممارسين للعنف الفردي غالباً أفراد وقعوا فريسة لطغيان العواطف من الإحباط وخيـبة الأمل والبؤس واليأس، فيعمدون إلى القيام بجملة من الأعمال تخـتلف فيها المسميات من فرد لآخر، فبينما يسميها الأول عمليات إرهابية، يسميها منفذها عملية استشهادية بطولية.

أسباب العنف الفردي:

وعندما نود دراسة أسباب العنف الفردي يمكننا ذكر عدة عوامل تؤدي إلى ذلك:

منها: معايشة مشاهد عنيفة، قد يكون مصدرها الأسرة مثلاً.

ومنها: ممارسة العنف ضدهم.

ومنها: تعرضهم لحالة من الإحباط في الحياة.

العنف الأسري:

ولعل سببه هو الضعف والجهل والتخلف، فإنها أسباب تؤدي إلى تفكك الأسرة، مما ينجم عنه نشوء أشخاص غير أسوياء يسهل إغواءهم، فيتوفر داخلهم الحقد على المجتمع ككل.

مضافاً إلى ما سبقت الإشارة إليه في الحديث عن العنف الفردي، فإنه يأتي هنا، لأن أفراد الأسرة ليسوا على توجه وميول واحدة، مما يؤدي إلى حصول الاختلافات والتعارض، ومن ثمّ المواجهة بين الأفراد فترتفع حدة التصادم وتستخدم بعض الأساليب التي تؤدي إلى العنف من ضرب وما شابه.

هذا وربما جعل السبب الأساس للعنف الأسري الرجل، ويبرر ذلك من خلال ذكر أسباب عدة:

منها: معايشته لمشاهد عنيفة.

ومنها: ممارسة العنف عليه.

ومنها: حالة الإحباط التي يصاب بها في الحياة العملية.

ومنها: حالة الإحباط التي يصاب بها في الحياة الوظيفية.

فإن جميع هذه الأمور وغيرها، تجعله يسلك مع من هم أضعف منه، أعني الأبناء والزوجة سلوكاً يتسم بالعنف.

ومن الطبيعي أن الأسرة التي يمارس الرجل فيها العنف على زوجته بأشكال مختلفة يسود فيها الخصام والحقد والعداوة، ويكتوي بأثر ذلك الأبناء.

وللزوجة دور واضح في زيادة العنف الأسري داخل الأسرة من عدمه، ذلك لأنها لو قامت بمقاومة الزوج، ربما أدى ذلك إلى استخدامه المزيد من العنف عليها وعلى أبنائها وبأشكال مختلفة. بينما لو صبرت الزوجة على عنف زوجها على أمل أن يغير الزوج من سلوكه، أو لقناعاتها أن العنف إرث الرجل من آبائه بمقتضى السلطة الذكورية، فلا ريب أن ذلك يوجب بقاء مقدار العنف على حاله، أو من شأنه أن يقلل منه.

وعلى أي حال، هناك جملة من الآثار السلبية التي تترتب على العنف الأسري وحالة الصراع الزوجي، تبدأ من الطلاق، لينجم عن ذلك ضعف الرقابة الأسرية على الأبناء، بل ربما فقدانها، فينخرطون في البيئات الفاسدة وتتلقفهم الأحضان الإجرامية.

العنف الجماعي:

وهو الذي يمارس من قبل القوى والحركات السياسية ضد الأنظمة المستبدة، أو الذي تمارسه القوى الحاكمة ضد معارضيها.

صور العنف الجماعي:

وله صورتان:

الأولى: العنف الجماعي المادي، وهو ما يصيب جسم الإنسان من تعذيب وإبادة، واضطهاد، وترحيل وسجن.

الثانية: العنف الجماعي المعنوي، وهو ما يتضمن أعمالاً تصيب الناس في إرادتهم وتفكيرهم ووعيهم، مثل خداع الفكر، وغسل الدماغ وما شابه.

هذا وللعنف الجماعي أفراد:

الأول: العنف الاقتصادي:

وهو الذي يحصل نتيجة دوافع اقتصادية، ولتحقيق أهداف اقتصادية، وهو ما يمارس من قبل الطبقة الغنية في المجتمع على الطبقات الفقيرة.

ومن الواضح أن السبب الأساس في وجود مثل هذا العنف يعود لسوء الأحوال الاقتصادية، لأن سوئها موجب لحصول الإحباط واليأس والحقد على المجتمع، فيؤدي ذلك إلى الانتقام منه.

فالفقر في حد ذاته دافع لارتكاب جرائم العنف، كما أن ما يصاحبه من أوضاع اجتماعية ونفسية وعوامل خارجية قد تولد الإحساس بالظلم والاضطهاد، وبالتالي التورط في ارتكاب جرائم العنف.

الثاني: العنف الثقافي والاجتماعي:

وهو العنف الذي تمارسه بعض الجماعات المتطرفة ضد بعض التقاليد أو القيم السائدة في المجتمع، وذلك من خلال الاحتجاج والرفض والمعارضة للظواهر الوافدة على المجتمع من خارجه، أو القيام بمقاطعة كل ثقافة غريبة عن بيئة المجتمع وأخلاقه.

الثالث: العنف السياسي:

ويقصد منه الممارسات التي تتضمن استخداماً فعلياً للقوة أو تهديداً باستخدامها لتحقيق أهداف سياسية تتعلق بشكل نظام الحكم وتوجهاته الإيديولوجية، وبسياساته الاقتصادية والاجتماعية[13].

هذا ولا ينحصر العنف السياسي في خصوص العمل العسكري من خلال شن الحروب، بل له أشكال أخرى يمكن ممارسته من خلالها، مثل الحظر والمنع من التعامل التجاري مع الآخرين، أو السماح بذلك لكن في حدود ضيقة.

ثم إن بعضهم ذهب إلى أن خير سبيل لتحقيق الحضور للحركة الإسلامية سياسياً هو اللجوء لممارسة العنف المسلح ضد الأنظمة الحاكمة، على أساس أن ذلك يؤدي إلى الاعتراف بها كقوة سياسية لها شأن.

وقد فند هذه النظرية العلامة شمس الدين(قده) في كتابه فقه العنف المسلح، حيث ناقشها وأكد على صحة خلافها، مستنداً في ذلك إلى التجارب الكثيرة للحركات السياسية الأخرى في العالم.

أسباب العنف ومناشئه:

لا ريب أن لكل واحد من أنواع العنف التي سبقت الإشارة إليها أسباباً تؤدي إلى حصوله ووجوده خارجاً، وقد تكون متداخلة بعضها مع بعض، وقد ينفرد بعض الأنواع بأسباب دون البقية. وقد أشرنا في ما تقدم إلى جملة من تلك الأسباب كالتي ذكرناها عند الحديث عن العنف الفردي مثلاً.

لكن المقدار الذي يمكن جعله عنصراً مشتركاً فيها هو سببان رئيسيان:

الأول:التعصب.

الثاني: التطرف.

التعصب:

وهو عبارة عن الانحياز لشيء أياً ما كان ذلك الشيء، فقد يكون فكرة، وقد يكون معتقداً، أو شخصاً، ويكون التعصب إما مع الشيء المتعصب له، أو ضده. فإن كان مع الشيء المتعصب له، فيبرز من خلال الدفاع عنه والمساندة له ومؤازرته، ولو كان ضده، فيبرز بمقاومته.

ويمكن القول بأن للتعصب فردين، أحدهما يكون ممدوحاً وهو ما إذا كان يبرز صورة اعتزاز بمعتقد أو مذهب أو قومية مثلاً لكن دون أن يؤدي إلى كراهية الآخرين واحتقارهم أو الاستعلاء عليهم. أما التعصب المذموم، فهو التعصب الذي يأخذ الشكل العدواني.

ويمكن تقسيم التعصب أيضاً إلى تعصب فردي، وإلى تعصب جماعي.

هذا وقد دعى الإسلام إلى الوسطية والاعتدال في المنهج السليم، فلا يتعصب الإنسان ويكون حاداً في مواقفه مع الآخرين، كما دعى(ص) إلى نبذ العصبية فقال: ليس منا من دعى إلى عصبية، وليس منا من قاتل على العصبية، وليس منا من مات على عصبية.

وتتضح صورة روح التسامح في الإسلام ونبذ العصبية في التوجيه الإلهي للمسلمين في كيفية التعامل مع جملة من الكفار، يقول تعالى:- (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)[14].

على أن سيرة رسول الإنسانية عامرة بمثل هذه الصور المعبرة عن تقدير الإنسانية واحترامها ونبذ العصبية ورفضها.

ومن الواضح أن هذا كله يدعو إلى فتح باب الحوار والتسامح بين الأفراد، والاستعاضة عن العصبية العمياء بذلك.

وهذا يعني أن لا تكون الاحتقانات الداخلية سبباً إلى تبني خيار العنف والقوة، بل المطلوب دائماً هو ضبط النفس والاعتدال.

التطرف:

ونعني به مجاوزة الحد الأعلى لفهم أمر ما. وهو بهذا المقدار يتنافى والأطروحة الإسلامية، حيث يقول سبحانه:- (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)[15].

وعلى أي حال، فللتطرف مصاديق متعددة، منها التطرف الفكري، وهو من أبرز الأسباب المؤدية للعنف، حيث نجد أن أشخاصاً يقتلون آخرين لمجرد الاختلاف المذهبي والعقائدي بينهم.

منهج أهل البيت:

وفي المقابل نجد منهج أئمتنا(ع) على خلاف، إذ يجد القارئ لسيرتهم(ع) أنهم كانوا يعيشوا حالة من الانفتاح على الآخر، من دون ملاحظة جهة الانتماء المذهبي له، كما أن توجيهاتهم لأتباعهم تضمنت الدعوة لمشاركة المسلمين في مناسباتهم وتشييع جنائزهم، وزيارتهم وما شابه ذلك.

معالجة الإسلام للعنف:

وقبل أن نتعرف المنهج الإسلامي في معالجة العنف، علينا أن نعرف الموقف الإسلامي منه، حيث أن القارئ للقرآن الكريم يجده قد أكد من خلال العديد من آياته على لزوم تجنبه، من دون فرق بين نوع ونوع أو صورة وصورة منه، ويتضح ذلك مثلاً من خلال دعوته تعالى للسلم في آيات السلم، قال تعالى:- (وإن جنحو للسلم فاجنح لها)[16]، وقال تعالى:- (يا أيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة)[17].

ونجد ذلك أيضاً في دعوته للصفح والعفو، قال تعالى:- (وأن تعفوا أقرب للتقوى)[18]، وقال سبحانه:- (فاعف عنهم واستغفر لهم)[19].

وفي دعوته لترك العنف في الممارسة للحياة، قال تعالى:- (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)[20]، وقال أيضاً:- (ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً)[21].

ودعى إلى ترك العنف القولي من خلال آياته التي تضمن الدعوة إلى ترك عنف اللسان، قال سبحانه:- (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله)[22]، وقال تعالى:- (ولا يغتب بعضكم بعضاً)[23].

ودعى أيضاً إلى ترك العنف في التفكير، فقال سبحانه:- (يا أيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيراً من الظن)[24].

ولم تخلو السنة الشريفة أيضاً من الدعوة إلى نبذ العنف وتجنبه، فقد تكثرت النصوص عنهم(ع) في هذا المجال، فعن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: الرفق يمن والخرق شؤم[25].

وعن أمير المؤمنين(ع): فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك….ممن لا يثيره العنف[26].

والتاريخ الإسلامي أيضاً يؤكد على الأطروحة الإسلامية في نبذ العنف ورفضه، حيث أن الحروب التي فرضت على المسلمين لم يتجاوز عدد القتلى فيها من الطرفين الألف قتيل.

ومن أجلى المصاديق على ما ذكرناه دور الرسول(ص) في مكة يوم فتحها، فمع ما لاقاه هو ومن معه من المسلمين إلا أنه قابل ذلك بالعفو والصفح، لا بالانتقام.

ويوم أرسل جعفر الطيار مع جيشه أوصاهم بجملة وصايا تؤكد هذا المعنى. وقد سار على ذلك خليفته من بعده أمير المؤمنين(ع) كما ينقل التاريخ في أنه نادى مناديه يوم صفين يدعو أهل الشام للرجوع لطريق الحق قبل القتال.

هذا ونجد أصولاً أصيلة في دعوة الإسلام لنبذ العنف، وهي:

1-عدم جواز الحرب الهجومية إلا بشروط خاصة.

2-عدم جواز الجهاد إلا مع العدو المحارب بشروط خاصة.

3-عدم جواز مباغتة العدو قبل إنذاره.

4-عدم جواز قتل النساء والأطفال والشيوخ المعتزلين للحرب.

5-وجوب معاملة الأسرى معاملة حسنة ووجوب إطعامهم.

6-عدم جواز التمثيل بالعدو، وعدم جواز الغدر به.

7-عدم جواز قطع الشجر المثمرة في أرض العدو بقصد الإضرار به.

وعلى أي حال فقد طرح الإسلام منهجاً لعلاج العنف يمكن عرضه في مرحلتين:

الأولى: المعالجة الذاتية.

الثانية: المعالجة التشريعية.

أما المرحلة الأولى، فيكون ذلك من خلال تربية الفرد تربية صالحة تقوم على أساس المحبة والرفق ليجعل منه فرداً صالحاً طيـباً ووديعاً في بيته ومجتمعه.

وأما المرحلة الثانية، وهي المرحلة التشريعية، فنقصد منها سن القوانين الصارمة التي تردع عن العنف وتواجهه حتى لو وصلت إلى درجة الإعدام، وهذا يستفاد من قانون القصاص الذي سنه القرآن الكريم وأشير إليه في غير واحدة من آياته الشريفة.

والغرب وإن كان بالأمس يرفض هذا القانون ويعتبره خلاف الإنسانية لكنه اليوم وجد أنه الطريق الأسلم لتطبيق السلام وإحلاله في المجتمع البشري فعاد اليوم يدعو إليه.

——————————————————————————–

[1] سورة المائدة الآية رقم 28.

[2] سورة البقرة الآية رقم 87.

[3] سورة البقرة الآية رقم 101.

[4] سورة آل عمران الآية رقم 21.

[5] لسان العرب ج 9 ص 429.

[6] الفروق اللغوية ص 241.

[7] صحيح مسلم ج 16 ص 362.

[8] مستدرك الوسائل ج 2 ص 188.

[9] بحار الأنوار ج 2 ص 108.

[10] سورة آل عمران الآية رقم 159.

[11] مجمع البيان ج 2 ص 426.

[12] العنف السياسي بين الإسلاميـين والدولة الحديثة.

[13] ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية ص 50.

[14] سورة الممتحنة الآية رقم 8.

[15] سورة البقرة الآية رقم 143.

[16] سورة الأنفال الآية 61.

[17] سورة البقرة الآية رقم 208.

[18] سورة البقرة الآية رقم 237.

[19] سورة آل عمران الآية رقم 159.

[20] سورة الأعراف الآية رقم 56.

[21] سورة الإسراء الآية رقم 37.

[22] سورة الأنعام الآية رقم 108.

[23] سورة الحجرات الآية رقم 12.

[24] سورة الحجرات الآية رقم 12.

[25] الكافي ج 2 ص 119.

[26] نهج البلاغة.