حكم ما لا فلس له من الأسماك(1)

لا تعليق
خواطر حوزوية
10
40

[size=6][/size]
[font=arial]المعروف بين أصحابنا تقيـيد حلية السمك ليؤكل بما إذا كان له فلس، بل كاد أن يكون هذا الحكم متسالماً عليه بينهم، كما أن الأشهر هو حرمة ما لا فلس له من الأسماك.[/font]
هذا وينبغي قبل التعرض لما ذكر في المسألة من الاستدلال والنقض، من الإشارة إلى بعض كلمات الأصحاب في المسألة، خصوصاً وأن مسألتنا من المسائل الأصلية:

قال الصدوق(قده) في الهداية: كُل من السمك ما له فلوس، ولا تأكل ما ليس له فلوس[1].

أقول: أشار(قده) إلى أن ما يحل أكله من الأسماك هو خصوص ما له فلس، ولا يحل أكل ما لا فلس له. نعم ليس في عبارته هذه ما يشير إلى حصر حلية حيوان البحر في خصوص السمك الذي له فلس فلاحظ.

وقال في كتابه المقنع: وكُل من السمك ما كان له قشور، ولا تأكل ما ليس له قشور[2].

أقول: عبارته(قده) هنا مثل عبارته في كتابه الهداية كما هو واضح، لكنه أشير في النسخة المطبوعة إلى أن الذيل الوارد في هذه العبارة وهو حرمة ما لا فلس له من الأسماك غير موجود في بعض النسخ، ولو تم هذا لكانت عبارته متعرضة فقط لعنوان ما يحل أكله، لكنها غير مشتملة على ما يحرم وعليه يصعب استكشاف حرمة ما لا فلس منه حينئذٍ.

اللهم إلا أن يقال: بأن تعرضه لبيان خصوص ما يحل وسكوته عما يحرم يكشف عن حرمة ما سكت عنه بدليل الإن، وعندها لا تخـتلف عبارته هنا عن عبارته السابقة، فتأمل.

وقال أيضاً في الكتاب المزبور: ولا تأكل الجري ولا المارماهي ولا الزمير ولا الطافي، وهو الذي يموت في الماء فيطفو على وجه الماء[3].

أقول: تعرض لبيان حرمة أكل ثلاثة أنواع من الأسماك بالخصوص، مع أنها مما لا فلس له، والظاهر أن ذلك يعود لكون النصوص قد اشتملت على ذلك.

هذا والمراد من الجري هو:

والمارماهي هو:

والزمير هو:

وقال المفيد في المقنعة: ويؤكل من صيد البحر كل ما كان له فلوس من السموك، ولا يؤكل منه ما لا فلس له، ويجتنب الجري والزمار والمارماهي من جملة السموك، ولا يؤكل الطافي منه، وهو الذي يموت في الماء فيطفوا عليه[4].

أقول: لقد حصر(ره) ما يحل من صيد البحر في خصوص السمك مما له فلس، وهذا يعني أن بقية الحيوانات البحرية حتى لو كان لها شبيه على أرض اليابسة ويحل أكلها مثل البقر وما شابه، فإنه محرم، كما أنه نص على أن ما لا فلس له من الأسماك يحكم بحرمته. وأشار إلى التنصيص على خصوص ثلاثة أنواع من الأسماك مع أنها مما لا فلس لها وهي الجري والزمار والمارماهي وذلك لتعرض النصوص إليها بنفسها كما سيظهر عند استعراض النصوص، فانتظر.

وقال السيد المرتضى: ومما انفردت به الإمامية تحريم أكل الثعلب والأرنب والضبّ، ومن صيد البحر الجري والمارماهي والزمار وكل ما لا فلس له من السمك[5].

أقول: ذكر(ره) أن الحكم بحصر حلية ما في البحر في خصوص ما له فلس من الأسماك دون البقية، من منفردات الإمامية. هذا وسيأتي أن هناك من العامة من وافقنا في حصر الحلية في خصوص الأسماك دون غيرها من الحيوانات البحرية كأبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، لكن أبا حنيفة حكم بحلية مطلق الأسماك من دون تفصيل.

وقال الشيخ في الخلاف: لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك، ولا يؤكل من أنواع السمك إلا ما كان له قشر، فأما غيره مثل: المارماهي والزمّير وغيره، وغير السمك من الحيوان مثل: الخنـزير والكلب والفأرة والإنسان والسلحفاة والضفادع، فإنه قيل: ما من شيء في البر إلا ومثله في الماء، فإن جميع ذلك لا يحل أكله بحال.

وقال أبو حنيفة: لا يؤكل غير السمك، ولم يفصل. وبه قال بعض أصحاب الشافعي.

وقال الشافعي: جميع ذلك يؤكل. وقال المزني: السمك وغيره، وقال: غير الحوت كالحوت. وقال الربيع: سئل الشافعي عن خنـزير الماء، فقال: يؤكل. وقال في السَلَم: يؤكل فأر الماء. ولما دخل العراق سئل عن اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى في هذه المسألة، فإن أبا حنيفة قال: لا يؤكل، وقال ابن أبي ليلى: يؤكل، فقال الشافعي: أنا على قول ابن أبي ليلى. وبه قال أبو بكر، وعمر، وعثمان، وابن عباس، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو هريرة، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وابن أبي ليلى.

وفي أصحاب الشافعي من قال: يعتبر بدواب البر، فما يؤكل لحمه من دواب البر فكذلك دواب البحر، وما لا يؤكل البري منه فكذلك البحري.

دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم. وأيضاً قوله تعالى:- (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) وهذه ميتة ولحم خنـزير ولم يفرق.

وروى ابن عمر: أن النبي(ص) قال: أحلت لنا ميتـتان ودمان، فالميتـتان: السمك والجراد، والدمان: الكبد والطحال. فمن قال: يحل من الميتة غير هذا فقد ترك الخبر[6].

أقول: نقلنا كلامه بطوله، لكونه قد أشتمل على عدة أمور جديرة بالملاحظة، لكن لما كان بعضها غير مربوط بمحل بحثنا فإننا لن نتعرض لها، وإنما نشير إليها إشارة فقط، فنقول:

1-نص على حصر ما يحل من صيد البحر في خصوص السمك الذي له فلس، فلا يحل غيره، سواء من الأسماك، أم من غيره من بقية حيوانات البحر.

2-أشار إلى قولٍ بحلية كل ما كان في البحر مما له مثيل في البحر، ولعل هذا القول لبعض أصحابنا، وربما يشهد لهذا الاحتمال أنه ذكره بعد أقوال العامة، مما يعني أنه لو كان لأحدهم لما جعله مستقلاً عنهم، خصوصاً وأنه عند استعراض تلك الأقوال قد نسبها لأصحابها، بل تعقيـبه هذا القول بقوله(ره) مباشرة ربما أشعر بذلك، فتأمل.

3-حكى عن أبي حنيفة القول بحلية جميع أنواع الأسماك من دون تفصيل بين كونها مما له فلس وما لا فلس له، وهو قول بعض أصحاب الشافعي أيضاً.

4-أشار إلى وجود خلاف بين فقهاء العامة في حلية بقية أنواع حيوانات الماء، فبعضهم يحكم بحليتها بقول مطلق، وبعضهم يحكم بحلية خصوص ما كان له شبيه، وحرمة غيره.

5-ذكر أن الشافعي له عدة أقوال في مسألة دواب البحر غير السمك.

هذا وقد استند الشيخ(قده) إلى مدعاه من خلال ثلاثة أدلة، أثنان منها مربوطان بحصر الحلية في خصوص السمك، والثالث لإثبات حرمة بقية حيوانات البحر، أما الأولان، فهما الإجماع والنصوص وسيأتي التعرض إليها، وأما الثالث فعبارة عن الآية الشريفة التي أشار لها في كلامه(ره).

ولا يخفى أنه لا يمكن الاعتماد على هذا الإجماع المدعى في كلماته، لسببين:

الأول: عدم تمامية المقتضي.

الثاني: وجود المانع.

أما بالنسبة للأول، فقد خالفه هو(ره) في كتابيه الأخبار كما ستأتي الإشارة إلى ذلك، وهذا بنفسه كاشف عن عدم تحقق إجماع في المسألة. اللهم إلا أن يقال بأنه لما كان الشيخ(ره) معلوم النسب، فلا يضر ذلك بحجية الإجماع شيئاً، فتأمل.

وأما بالنسبة للثاني، فيكفينا أنه إن لم يكن مقطوع المدرك، فلا ريب في كونه محتمله، وعليه لا يصلح الاعتماد عليه فلاحظ.

هذا كله مع غض الطرف عن كون هذا الإجماع من إجماعات شيخ الطائفة، وأنه في كتابه الخلاف، إذ قد قرر في محله أن إجماعات الشيخ(ره)لا عبرة بها، ذلك لكونها إجماعات على القاعدة، كما أن ما صدر منه من الاجماعات في كتابه الخلاف، ملحوظ فيها جانب الاحتجاج على الخصم، وليس ملحوظاً فيها عنوان الدليلية وما يعتبر فيه، وبعبارة أخرى: إن الاجماعات الصادرة منه في كتابه الخلاف إنما هي للاحتجاج وإسكات الخصم، فلا يعتمد عليها.

نعم فصل شيخنا الأستاذ(دامت أيام بركاته) في مجلس الدرس، فلم يقبل برد كافة الاجماعات الصادرة منه(ره) في كتابه الخلاف، بل جعلها على أقسام، وأشار إلى أنه يقبل من إجماعاته في الخلاف ما صدر منه بقول: عليه إجماع الطائفة فإنهم لا يخـتلفون. بدعوى أنه لا يكون فيها ما يأتي في غيرها من كونه إجماعاً على القاعدة، أو كونه إجماعاً لأهل عصر واحد.

لكن الإنصاف أنه مع إحراز أن هذه الإجماعات قد صدرت منه على نحو الاحتجاج والإسكات للخصم، فلا يمكن القبول بهذا التفصيل، فلاحظ.

وقال في كتابه النهاية: وأما حيوان البحر، فلا يستباح أكل شيء منه، إلا السمك خاصة.

والسمك يؤكل منه ما كان له فلس، ويجتنب ما ليس له فلس. والجري لا يجوز أكله على حال، وكذلك الطافي، وهو الذي يموت في الماء فيطفو عليه. وأما المارماهي والزمار والزهو، فإنه مكروه شديد الكراهية، وإن لم يكن محظوراً. ولا بأس بالكنعت، ولا بأس بالربيثاء[7].

أقول: نص(ره) على أن الحلية في حيوان البحر مخصوصة بالسمك، وعليه لا يحل شيء من الحيوانات الموجودة فيه، من دون فرق بين كونه له شبيه على اليابسة، وبين كونه مما لا شبيه له. وقد خص المحلل من السمك بما كان له فلس، لكنه نص على أن الجري والمارماهي والزمار يكره أكلها، ولا يحرم مع أنها مما لا فلس له، فهذا يعني أنه يحكم بحلية كافة أسماك البحر، لكنه يكره أكل ما لا فلس له، لكن هل يعني ذلك أنها مأخوذة على نحو الطريقية. أو أن الحلية مع الكراهة منحصرة في خصوص هذه الأنواع الثلاثة دون غيرها، وذلك مقتضى الجمع بين النصوص المتعارضة كما سنشير إلى ذلك عند التعرض إليها، وهذا يعني أنها مأخوذة على نحو الموضوعية، فلا مجال للتعدي عنها إلى غيرها، بل لو قيل بالتعدي كان ذلك من القياس المحرم، لعدم كونه منصوص العلة، فلاحظ.

والإنصاف أن عبارته تحتمل كلا الوجهين، لكن القدر المتيقن منها هو الاحتمال الثاني، وعليه يقال بأنه يحكم بحلية ما له فلس من الأسماك، وما لا فلس له يحكم بحلية خصوص هذه الأنواع الثلاثة. وهذا سوف يكون مقتضى تخصيص دليل الحرمة بعدما دلّ الدليل على الحلية في خصوص هذه الأشياء مما لا فلس له.

هذا وقد أشار إلى حلية الكنعت، ولعل ذلك يرجع للتشكيك في ثبوت الفلس لها، مع أنه قد تضمنت النصوص أنها مما له فلس ونصت على حليتها، كما أشار إلى حكم الربيثاء، مع أنها ليست من الأسماك وذلك للنص الخاص عليها.

ومن جميع ما ذكرناه يتضح أن الشيخ(ره) قائل بعدم حرمة كافة الأسماك مما لا فلس له، وعدم حصر الحلية لحيوان البحر في خصوص ما له فلس، وهذا يعني عدم تمامية ما تقدم منه من دعوى الإجماع في كتابه الخلاف، إلا أن يقال بالاحتمال الذي ذكرناه هناك من كونه(ره) معلوم النسب، فلا يضر خلافه بتحقق الإجماع.

وقال(ره) في الكتاب المزبور في المكاسب المحظورة: وبيع الجري، والمارماهي والطافي، وكل سمك لا يحل أكله، وكذلك الضفادع، والسلاحف، وجميع ما لا يحل أكله حرام[8].

أقول: لا يخفى أن هذه العبارة تناقض ما تقدم منه في العبارة السابقة، لأنه قد حكم في العبارة السابقة بحلية هذه الأمور، لكنه يكره أكلها، ومقتضى ذلك هو جواز إيقاع المعاوضة عليها، إما لكونها مما ينـتفع به، لو جعلنا المناط في جواز المعاوضة على الشيء كونه مما له منفعة عقلائية معتد بها يتسابق العقلاء مع وجودها على بذل الثمن بإزائها، أو لو قلنا أن الضابطة هي حلية الشيء، لأن الله إذا حرم شيئاً، فقد حرم ثمنه، ومقتضى أن هذه الأشياء مكروهة عدم حرمتها، فيحل ثمنها حينئذٍ.

وهنا قد حكم(قده) بالحرمة، وهذا يعني إما أنه لا منفعة عقلائية معتد بها فيها، وعليه لا يحل إيقاع المعاوضة عليها، وإما لكونها محرمة، فإن الله إذا حرم شيئاً، فقد حرم ثمنه.

هذا وقد دافع عن هذا التناقض الموجود في كلماته(ره) المحقق الحلي في كتابه نكت النهاية، فإنه بعدما نقل عبارته السابقة في المكاسب المحظورة في ذيل عبارته الأولى في الصيد والذبائح، قال: فقد جعله في المسألة الأولى مكروهاً، وفي هذا الموضع حراماً لا يحل أكله.

الجواب: الوجه أنه مركونه شديد الكراهية، وليس بمحظور، ويدل عليه الأصل، وعموم القرآن، وما روى الحلبي وغيره عن أبي عبد الله(ع): لا يكره شيء من الحيتان إلا الجري.

وأما النهي عن بيعه، فإنه عول في ذلك على روايات منها رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: كان علي(ع) يركب بغلة رسول الله(ص) ثم يمرّ بسوق الحيتان، ثم يقول: لا تأكلوا ولا تبيعوا ما لم يكن له من السمك قشر.

فالاختلاف منشأه اختلاف الأحاديث، واختياره(رض) ضبط ما نقل. والصواب عندي الكراهية بيعاً وأكلاً[9].

أقول: حاصل ما أفاده(ره) جمعاً بين كلامي الشيخ(قده) أن ما صدر منه ليس تناقضاً، وإنما يرجع ذلك لوجود نصوص خاصة في المسألة، قد دعته إلى الحكم بكراهة الأكل، وحرمة البيع، وعلى هذا يجوز أكله، لكنه لا يجوز إيقاع المعاوضة عليه، نعم لا مانع من ثبوت حق الاختصاص فيه، مثله مثل ما لا تقع المعاوضة عليه كما هو محرر في المكاسب المحرمة، فراجع.

هذا وللشيخ(ره) في كتاب الحدود من النهاية كلام يؤيد ما ذكره في المكاسب المحظورة، فقد ذكر في حديثه عن حدّ شرب الخمر: يعزر آكل الجري والمارماهي، ومسوخ السمك كلها، والطحال، ومسوخ البر، وسباع الطير وغير ذلك من المحرمات، فإن عاد أدب ثانية، فإن استحل شيئاً من ذلك وجب عليه القتل[10].

ومن الواضح أن مقتضى هذا الكلام منه(ره) الحكم بحرمة تناول هذه الأشياء، وإلا لم يكن هناك وجه لاستحقاق آكلها التعزير لو كانت محللة كما لا يخفى.

هذا وفي البين كلام نافع للشهيد الثاني في المسالك يرتبط بالمقام في التعليق على فتوى الشيخ(ره) المذكورة، قال(قده): وأعجب ما فيه-مع اختلاف الفتوى-حكمه بقتل مستحل المارماهي، فإن كل من خالفنا من العلماء مجمعون على حله، وأصحابنا مختلفون فيه كما عرفت، حتى هو من جملة القائلين بحله في النهاية والتهذيب والاستبصار، ومستحل المحرم إنما يقتل إذا استحل ما أجمع المسلمون على تحريمه، بل لا يكفي ذلك حتى يكون قد علم بتحريمه من دين الإسلام ضرورة كالخمر والميتة، وأين هذا مما أكثر المسلمين على حله حتى الشيخ(ره)[11].

وقال في المبسوط بعد تقسيمه الحيوان إلى ثلاثة أضرب:….والسمك عندنا لا يؤكل منه إلا ما كان له فلس، فأما ما ليس له فلس مثل المارماهي والجري وغير ذلك، فلا يحل أكله، وعندهم يحل جميعه[12].

أقول: أشار إلى أن المحلل عند الشيعة هو خصوص ما كان له فلس، بينما حكم العامة بحلية جميع أنواع الأسماك من دون تفصيل بين كونه له فلس، وبين كونه مما لا فلس له.

نعم خالف(ره) هنا ما أختاره في كتابه النهاية من قوله هناك بحلية الجري والمارماهي والزمير، وحكمه هنا بحرمتها.

ثم إنه قد يقال: إن تعبيره(قده): عندنا، يشير إلى وجود إجماع في المسألة.

لكنه مردود، بأن قوله: عندنا، يشير به كما أشرنا إلى خصوص الشيعة في مقابل العامة، فكأنه يريد بيان اختصاص المذهب الشيعي بهذا، لكن لا وضوح فيه لكونه إجماعياً بينهم.

على أنه لو سلمنا بكونه إجماعاً، فلا ريب في عدم حجيته لكونه من الإجماع الاحتجاجي، أعني ما يذكر احتجاجاً على الخصم، ومجاراة له، فلاحظ.

وقال سلار في المراسم: الصيد على ضربين: صيد البر، وصيد البحر. وصيد البحر على ضربين: سمك وغير السمك. فغير السمك لا يؤكل. والسمك على ضربين: الجري والزمر والمارماهي والطافي، وغير ذلك. فالأول كله محرم، وما عداه على ضربين: ما له فلس من السموك وما لا فلس له، فالأول حل والثاني حرام.

أقول: نص في البداية على حصر الحلية من حيوان البحر في خصوص الأسماك، ثم حصر ما يحل منها في خصوص ما كان له فلس، دون ما لا فلس له.

وقال أبو الصلاح الحلبي في الكافي: ما يحرم أكله على ضربين: أحدهما يتعلق التحريم بعينه، الثاني بوقوعه على وجه. الضرب الأول:……وما لا فلس له من السمك ودواب البحر[13].

أقول: لقد نص على أنه يحرم من صيد البحر جميع دواب البحر بما في ذلك ما لا فلس له من الأسماك.

وقال ابن زهرة في الغنية: ولا يحل من السمك إلا ما كان له فلس[14].

وقال ابن إدريس في السرائر: وأما حيوان البحر، فلا يستباح أكل شيء منه إلا السمك خاصة، والسمك يؤكل منه ما كان له فلس، وهو القشر، فأما ما لم يكن له قشر، وإن انطلق عليه اسم السمك، فلا يحل أكله، فعلى هذا التحرير، الجري-بكسر الجيم والراء وتشديدها وتشديد الياء أيضاً، لا يجوز أكله، وكذلك الجريث-بكسر الجيم أيضاً وتشديد الراء وكسرها-فلا يجوز أكله. ولا يجوز أكل الطافي وهو الذي يموت في الماء فيطفو عليه. وكذلك لا يجوز أكل المارماهي، ولا الزمار والزهو بالزاء المعجمة، لأنه لا قشر له، ولا هو سمك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته: وأما المارماهي، والزمار، والزهو، فإنه مكروه شديد الكراهية، وإن لم يكن محظوراً.

وهذا غير مستقيم ولا صحيح، لأنه مخالف لأصول مذهبنا، ولأن إجماع أصحابنا بغير خلاف بينهم أنه لا يؤكل من حيوان البحر إلا السمك، والسمك لا يؤكل منه إلا ما كان له فلس، وهذه الأجناس التي ذكرها لا تسمى سمكاً لا لغة ولا عرفاً، وليس لها أيضاً فلس، وإنما هذا خبر واحد أورده إيراداً، لا اعتقاداً، كما أورد أمثاله مما لا يعمل عليه.

إلا أنه(ره) عاد، وقال في نهايته أيضاً: يعزر آكل الجري، والمارماهي، ومسوخ السمك كلها، والطحال البر…..-إلى أن قال-فإن عاد أدب ثانية، فإن استحل شيئاً من ذلك وجب عليه القتل. هذا آخر كلامه(ره).

فمن يوجب عليه القتل باستحلاله لآكله، كيف يجعله مكروهاً غير محظور، وإنما ذلك خبر واحد أورده على ما رواه ووجده[15].

أقول: نقلنا كلامه(ره) بطوله لأنه قد تضمن أموراً ثلاثة:

أولها: أن ما يحل من حيوان البحر منحصر في خصوص الأسماك، وعليه لا يحكم بحلية شيء آخر غيرها.

ثانيها: تنحصر حلية الأسماك في خصوص ما كان له فلس، وأما ما لا فلس له، فيحرم تناوله.

ثالثها: مناقشة شيخ الطائفة(ره) في حكمه بحرمة الأنواع الثلاثة من الأسماك، أعني الجري والمارماهي والزمير. فأشكل عليه بالتالي:

أولاً: أن ما ذكره(ره) من الحكم بحلية هذه الأمور مخالف لأصول مذهبنا.

ثانياً: إن الإجماع بغير خلاف بين الأصحاب، منعقد على حصر ما يؤكل من حيوان البحر في خصوص السمك، وحصر ما يؤكل من السمك في خصوص ما له فلس.

ثالثاً: إن هذه الأنواع الثلاثة لا تسمى سمكاً، لا لغة ولا عرفاً.

رابعاً: إنها مما ليس له فلس.

خامساً: إن مستنده(ره) في الحكم بحلية هذه الأمور هو خبر آحاد، أورده نقلاً لا اعتقاداً منه بحجيته، وهو كغيره من الأخبار التي أورده وهو لا يعتقد بها ولا يعمل بمضمونها. ويشهد لما ذكرناه من أنه لا يعمل على طبق هذا الخبر الدال على حلية هذه الأمور، ما ذكره في كتاب الحدود من النهاية في الحديث عن حد شرب الخمر، حيث حكم هناك بأن آكل هذه الأمور يعزر، وإن استحلها وجب عليه القتل.

ولا يخفى أن ما ذكره قابل للمناقشة:

أما الأول: من كونه مخالفاً لأصول مذهبنا، فإنه سيأتي عند التعرض لنصوص المسألة أن هناك ما يدل على الحلية، فلا وجه لكونه مخالفاً لأصول المذهب.

ولذا قال العلامة(قده) في المختلف: وأعلم أن هذا القول من ابن إدريس في غاية التحريف، وكيف يخالف الشيخ أصول مذهبنا مع أنه الممهد لها!؟ لكنه(ره)اتبع في ذلك الروايات[16].

وأما الثاني: فإن هذا الإجماع لا وجه للاعتماد عليه، إذ أن مخالفة مثل شيخ الطائفة(ره) لا ريب في أنها مانعة من تحققه، إلا بناءاً على ما ذكرناه سابقاً من أنها مخالفة معلوم النسب فلا تكون ضائرة. مضافاً إلى كونه إجماعاً مدركياً، ولا أقل من كونه محتمله.

وأما الثالث: فلا مجال لقبوله أصلاً، لأن العرف يسميها أسماكاً، حيث أن المدار عند العرف في تسمية الحيوان البحري سمكاً كونه آخذاً للشكل المألوف والمعروف عندهم. على أن منع صدق الاسم عليها لغة عهدته على مدعيه كما لا يخفى.

وأما الرابع: فهو مصادرة واضحة كما لا يخفى.

وأما الخامس: فإنه يبتني على مختاره هو(ره) من القول بعدم حجية خبر الواحد ما لم يكن هناك ما يوجب الإطمئنان بصدوره، لكنه لا ينسجم مع المنسوب لشيخ الطائفة من القول بحجية خبر الثقة مطلقاً.

وقال الفقيه يحيى بن سعيد الحلي في الجامع: ولا يحل من صيد البحر سوى السمك، فقد قيل: فيه مثل كل ما في البر، ولا من السمك إلا ذو الفلس[17].

أقول: أشار إلى حصر ما يحل من البحر في خصوص الأسماك، مع أنه قد قيل بكون البحر يشتمل على حيوانات مثل حيوانات البر المتصور كونها محللة لانطباق نفس الصورة عليها، فيشملها ما دل على حلية حيوان البر لو كان لها إطلاق، وتنحصر حلية الأسماك في خصوص ما كان له فلس منه، لا مطلقاً.

وقال المحقق في الشرائع: في حيوان البحر: ولا يؤكل منه إلا ما كان سمكاً له فلس، سواء بقي عليه كالشبوط والبياح، أو لم يـبق كالكنعت. أما ما ليس له فلس في الأصل كالجري، ففيه روايتان، أشهرهما التحريم، وكذا الزمار والمارماهي والزهو، لكن أشهر الروايتين هنا الكراهية.

أقول: أشار(ره) إلى أن المحلل من حيوان البحر هو خصوص السمك الذي له فلس، مما يعني أن غيره من حيوانات البحر يحكم بحرمتها، وعدم حلية أكلها، من غير فرق في ما يحل أكله منها بين بقاء الفلس عليه لحين الخراج، وبين سقوطه عنه قبل خروجه مثلاً. كما أشار إلى وجود اختلاف في النصوص بالنسبة إلى أربعة أنواع من الأسماك، وهي: الجري والزمار والمارماهي والزهو. ثم حكم بكون أشهر الروايتين في الجري هي التحريم، بينما أشهرهما في البقية هي الكراهية.

وعلى هذا نستطيع القول بأن المحقق(قده) لا يحكم بالحرمة في كل ما لا فلس له من الأسماك، بل يحكم بحلية بعضها على كراهية، وهي المارماهي والزمير والزهو.

وقال الشهيد الثاني في المسالك: حيوان البحر إما أن يكون له فلس، كالأنواع الخاصة من السمك، ولا خلاف بين المسلمين في كونه حلالاً، وما ليس على صورة السمك من أنواع الحيوان، ولا خلاف بين أصحابنا في تحريمه.

وبقي من حيوان البحر ما كان من السمك وليس له فلس، كالجري والمارماهي والزمار. وقد اختلف الأصحاب في حله بسبب اختلاف الروايات فيه، فذهب الأكثر -ومنهم الشيخ في أكثر كتبه- إلى تحريمه مطلقاً، لصحيحة محمد بن مسلم….

وذهب الشيخ في كتابي الأخبار إلى إباحة ما عدا الجري، لصحيحة الحلبي……

ومما ذكرناه يظهر ما ذكره المصنف من أن في الجري روايتين. والمراد الجنس بالتحريم والتحليل، وأن أشهرهما بين الأصحاب التحريم. وإنما نسب القول بالتحريم إلى الشهرة خاصة لما قد عرفت من أن روايات الحل صحيحات الأسناد كثيرة، وقد كان يمكن الجمع بينها وبين ما دل على التحريم بالحمل على الكراهة، لكن الأشهر بينهم التحريم.

وكذلك ظهر اختلاف الرواية في المارماهي والزمار. وأما الزهو فقد دخل في عموم الروايات الدالة على الحل، ومما ورد فيه بخلاف ذلك رواية محمد بن سليمان بن جعفر….

وهذه الرواية مع قطع النظر عن سندها لا تدل على التحريم، بل غايتها الكراهة. لكن قوله فيها: إنه سمك ليس له قشر. إن كان من كلام الإمام أو ثبت، فيتناوله النهي في الأخبار السابقة.

والمصنف(ره)اختار في هذه الثلاثة الكراهة. وهو مذهب الشيخ في النهاية وتلميذه القاضي، وهو حسن. لأنه طريق الجمع بين الأخبار. والمانعون حملوا أخبار الحل على التقية. وليس بجيد[18].

أقول: ما يهمنا من كلامه(قده) أمران:

الأول: أن الطريق الصحيح للجمع بين الروايات الظاهرة في المنع، والظاهرة في الحلية، هو حمل النصوص الناهية على الكراهة.

الثاني: أن القائلين بحرمة ما لا فلس له من الأسماك، فضلاً عن الأنواع الأربعة الواردة في كلام المحقق(قده) جعلوا المعارضة بين طائفتي النصوص مستقرة، وعمدوا إلى الترجيح، فرجحوا الروايات الدالة على الحرمة على الدالة على الحلية، بحمل ما دل على الحلية على التقية، لموافقتها للعامة. لكنه هو(قده) لم يستحسن هذا الحمل، والظاهر أن مرّده إلى أن الترجيح فرع استقرار المعارضة وعدم امكان الجمع العرفي بين النصوص، وأما معه فلا وجه للترجيح كما لا يخفى.

وقال الفقيه الماهر صاحب الجواهر عند حصر ما يؤكل من حيوان البحر في خصوص السمك: بلا خلاف أجده فيه بيننا، كما اعترف به في المسالك، بل عن الخلاف والغنية والسرائر والمعتبر والذكرى وفوائد الشرائع الإجماع عليه، وهو الحجة بعد تبينه على وجه يمكن دعوى تحصيله، وإن وسوس فيه بعض متأخري المتأخرين لاختلاف الطريقة.

وعند حصر حلية السمك بكونه له فلس، قال: أي قشر كالورق.

وعند الحديث عن ما لا فلس له في الأصل كالجري وأن فيه روايتين، أشهرهما التحريم، قال: بل هي إن لم تكن متواترة فمقطوعة المضمون باعتبار تعاضدها وروايتها في الكتب الأربعة وغيرها وتعدد كيفية دلالتها…..-إلى أن قال-فمن الغريب بعد ذلك ميل بعض الناس إلى القول بالكراهة، جاعلاً لها وجه جمع بين الأخبار التي لا يخفى على من لاحظها إباء جملة منها لذلك، على أن الجمع فرع التكافؤ المفقود هنا من وجوه:

منها: موافقة رواية الحل للعامة التي جعل الله الرشد في خلافها، بل لا يخفى على من لاحظها الإيماء فيها لذلك……-إلى أن قال- ومع ذلك كله، مضافاً إلى الشهرة العظيمة، بل هي إجماع، وإلى ما سمعته من محكي الإجماع، لا ينبغي الوسوسة في الحكم المزبور، خصوصاً في مثل هذا الزمان الذي كاد أن يكون من ضروري المذهب. فمن الغريب وسوسة بعض متأخري المتأخرين فيه التي نشأت من اختلال الطريقة، وكان المنشأ لها ولأمثالها ثاني الشهيدين، بل والمصنف في بعضها حتى في مثل المقام……إلا أنه قد ظهر مما ذكرناه من النصوص والاجماعات وغيرها عدم الفرق بين الجميع في الحرمة التي يجب حمل ما خالفها على التقية التي هي مرجح آخر لما ذكرنا من النصوص المعتضدة بالشهرة ومحي الإجماع[19].

أقول: نقلنا بعض الموارد من كلامه(قده) وأعرضنا عن ذكر بعضه خصوصاً النصوص الدالة على الحرمة أو الحلية، وذلك لأننا سنتعرض لها عند استعراض الأدلة.

وعلى أي حال، فقد أتضح من خلال كلامه(قده) الإصرار على القول بالحرمة، وأنه لا مجال للقول بغير ذلك، لكون النصوص الدالة على الحلية تفتقر إلى تمامية أصالة الجهة مما يجعلها محمولة على التقية، ومعه لا مجال للاعتماد عليها، لما عرفت أن التعارض فرع التكافؤ في الحجية، وروايات الحلية لا تكافؤ روايات الحرمة لعدم تمامية أصالة الجهة فيها، فتسقط عن الحجية في بيان المراد الجدي ولو حين المعارضة.

وأشار إلى وسوسة بعض المتأخرين في الحكم بالحرمة، ولعل يقصد المحقق السبزواري(ره) في كفاية الأحكام. كما تعرض إلى أن أول من فتح باب القول بالحلية في ما لا فلس له هو الشهيد الثاني، وإن كان المحقق(قده) هو أول من أشار إلى بدء هذا القول من خلال ما ذكره في المقام.

وقال المحقق في المعتبر: في حيوان البحر: ولا يؤكل منه إلا سمك له فلس، ولا فرق لو زال عنه كالكنعت.

وقال أيضاً: وفي حرمة الجري روايتان: أشهرهما التحريم، وفي الزمار والمارماهي والزهو، روايتان. والوجه الكراهة.

قال السيد الطباطبائي في الرياض: بغير خلاف بيننا، وبه صرح في المسالك. بل عليه الإجماع في الخلاف والغنية والسرائر. وهو الحجة المؤيدة بعمومات ما دل على حرمة الميتة، السليمة عما يصلح للمعارضة عدا عمومات ما دل على حل صيد البحر الشامل لما عدا السمك، وما دل على حل الأزواج الثمانية، وغيرها منا لكتاب والسنة.

ويضعّف الأول: بتبادر السمك منه خاصة، مع استلزام العموم حل كثير من حيواناته المحرمة بالإجماع والكتاب والسنة، لاشتمالها إما على ضرر أو خباثة أو نحوهما من موجبات الحرمة، فلا يمكن أن يبقى على عمومه الظاهر من اللفظة على تقدير تسليمه، لخروج أكثر أفراده الموجب-على الأصح-لخروجه عن حجيته، فليحمل على المعهود المتعارف من صيده، وليس إلا السمك بخصوصه.

والثاني: بانصرافه بحكم التبادر وغيره إلى حيوان البر دون غيره.

وأما أصالة البراءة والإباحة فيكفي في تخصيصهما ما قدمناه من الإجماعات المنقولة، المعتضدة بفتاوى الأصحاب كافة-التي كادت أن تكون بالإجماع ملحقة، بل لعلها إجماع في الحقيقة-المخالفة لطريقة العامة كما ذكره جماعة. وعليها حملوا ما روي في الفقيه من المرسلة: كل ما كان في البحر مما يؤكل في البر مثله جائز أكله، وكل ما كان في البحر مما لا يجوز أكله في البر لم يجز أكله. فتأمل بعض متأخري الطائفة في المسألة غير جيد.

ويحل ما (له فلس)من السمك، بلا خلاف بين المسلمين على الظاهر المصرح به في كلام جماعة. والنصوص به بعد الكتاب مستفيضة بل متواترة[20].

أقول: تعرض(قده) لمسألتين في المقام تبعاً للمحقق(ره):

الأولى: ما يحل من حيوان البحر، وقد استعرض ما يصلح دليلاً للقائلين بتوسعة دائرة الحلية لتشمل كل ما كان له مثيل على اليابسة، وأجاب عنها، ولما لم نكن بصدد الحديث عن هذه المسألة، فلا نتعرض لما أفاده فيها.

الثاني: حصر حلية السمك في خصوص ما كان له فلس، وإن كان يلقي فلسه الذي عليه كالكنعت. واستدل له بالإجماع، وبالكتاب، ولعله يعني قوله تعالى:- ( أحل لكم صيد البحر) وجملة من النصوص المتواترة.

وعن الأنواع الأربعة، الجري والزمير والمارماهي والزهو، بعد استعراض النصوص الواردة في المسألة، قال: أما حمل الأخبار المانعة على الكراهة-كما أحتمله من متأخري المتأخرين جماعة-فالمناقشة فيه واضحة من وجوه عديدة، سيما مع إمكان الجمع بينها وبين الأخبار المبيحة بحملها على التقية، لوضوح المأخذ في هذا الحمل من الاعتبار والسنة المستفيضة بخلاف الحمل على الكراهة، إذ لا شاهد عليه من كتاب ولا سنة، ولا يرتكب إلا حيثما يكون المتضمن للنهي المحمول عليها مرجوحاً بالإضافة إلى ما قابله وعارضه بحيث يتعين طرحه، ولا بأس بارتكاب ذلك في هذه الصورة من دون شاهد ولا قرينة، لكون العمل فيها بالراجح حقيقة، وارتكاب الحمل في مقابله طرحاً له جداً.

وأما ارتكابه في صورتي تكافؤ المتعارضين أو رجحان ما تضمن النهي من دون شاهد أو قرينة-كما في مفروض المسألة-فهو مما لا وجه له.

ووجود لفظ الكراهة في بعض الأخبار لم يمكن جعله على الحمل المزبور قرينة بعد وضوح عدم ثبوت المعنى المصطلح عليه له الآن في الأزمنة القديمة، مع كونه أعم منه ومن الحرمة لغة، فإرادة الأول منه دون هذه من دون قرينة فاسدة.

مع أن القرينة على إرادة الحرمة قائمة، منها-زيادة على ما مرّ إليه الإشارة-ورود النهي والتصريح بالحرمة في بعض الأخبار المتقدمة، فإنهما ظاهران في التحريم غايته، سيما مع كون متعلق النهي في أكثرها الطافي ونحوه أيضاً، وقد أجمع على كونه بالإضافة إليهما للحرمة، فليكن بالإضافة إليه لها أيضاً وإلا يلزم استعماله في معنيـيه الحقيقي والمجازي الغير الجائز قطعاً، فتأمل جداً.

ومقتضى القاعدة إرجاع المشكوك-وهو هنا لفظ الكراهة-إلى النهي الظاهر في الحرمة، كما أن مقتضاها إرجاع الظاهر إلى النص. هذا مع أن ركون علي(ع) وسيره في الأسواق للنهي عن الجري ونحوه يناسب الحرمة لا الكراهة، كما لا يخفى على من له أدنى فطنة.

وبالجملة لا شبهة في المسألة، ولو قلت: إنه من بديهيات مذهب الإمامية، لما كذبت[21].

أقول: تعرض(قده) لما ذكره بعض الأصحاب من الجمع بين النصوص الواردة في المسألة بحمل ما دل على حرمة ما له فلس على الكراهة جمعاً بين الطائفتين، وأن الداعي لهم لعمل ذلك التمسك بقاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.

وأجاب عنه، بأن هذا الجمع لا شاهد له، مما يجعله جمعاً تبرعياً، مضافاً إلى أن نكتة الجمع المذكورة غير موجودة في المقام، حيث لا يصار إلى حمل النهي الوارد في النص على الكراهة، إلا إذا كان النهي بالإضافة إلى ما قابله مرجوحاً، وهذا وإن كان بحسب الكبرى لا بأس به، لأنه مقتضى العمل بالراجح، لكن لا معنى لارتكابه في حال تكافؤ المتعارضين أو رجحان ما تضمن النهي من دون شاهد ولا قرينة.

ومن هنا، فقد رجح حمل النصوص المجوزة على التقية، كما صنعه غيره من الأعلام.

وسيأتي منا تسليط الضوء أكثر على مناقشته للجمع بالحمل على الكراهة إن شاء الله عند معالجة الأدلة، فانتظر.

وقال العلامة في إرشاد الأذهان: الثالث: في حيوان البحر: ويحرم كله، إلا السمك ذا الفلس[22].

وقال المحقق الأردبيلي: المشهور بين الأصحاب تحريم حيوان البحر إلا السمك الذي له فلس فإنه الحلال، وقد ادعي إجماع المسلمين على حل السمك الذي فيه فلس، وإجماع الأصحاب على تحريم ما ليس بصورة السمك من سائر حيوان البحر، وهو غير ظاهر، وسيجئ اختلافهم في السمك الذي لا فلس له، مثل الجري والمارماهي والزمار.

فنقل عن الأكثر التحريم مطلقاً لصحيحة محمد بن مسلم….وصحيحة حماد بن عثمان…-إلى أن قال-وذهب الشيخ في كتابي الأخبار إلى إباحة ما عدا الجري، لصحيحة محمد الحلبي، قال…قال الشيخ في الكتابين: فالوجه في هذين الخبرين….وأيده بصحيحة زرارة…وصحيحة محمد بن مسلم…فهذان الخبران صريحان في عدم تحريم شيء من السمك الذي لا قشر له، خرج ما أجمع على تحريمه-بحيث لا يمكن تأويله-بالنص والإجماع، مثل الجري إن صح ما قيل فيه، وبقي الباقي.

ويؤيده الأصل، والعمومات، وحصر المحرمات بالآية والأخبار المتقدمة، فتأمل.

ولكن يـبعد حمل تلك الأخبار الكثيرة جداً على الكراهة خصوصاً ما يدل على فعله(ع) من ركوب بغلة رسول الله(ص) وآله، والرواح إلى السوق وجمع أهله، ومنعهم عن البيع والأكل، فإن مثل هذا لا يعمل للمكروه.

وأيضاً لابد من إخراج الجري أو الجرّيث من الكراهة وإدخالهما في التحريم، فلابد من التأويل فيما يدل على حصر المحرمات في غيره مثل الآية والأخبار.

وأيضاً إن الأولى(الدالة على التحريم)أكثر، مع أنه يمكن حمل الأخيرتين على التقية، أو على عدم التحريم بالكتاب أو التحريم الغليظ، مثل تحريم الخنـزير، ويؤيده كثرة القائل، فتأمل فإن المسألة من المشكلات[23].

أقول: الظاهر منه(قده) في بداية المسألة القول بحلية جميع أنواع الأسماك، لكنه في آخر كلامه التـزام بالحرمة، وذلك بذكر ما يدل عليها، وعدم قابليته للتأويل أو الحمل على الكراهة، وأنه لابد من تأويل ما دل على الحلية بقول مطلق بما دل على الحرمة مما لا يقبل الحمل على الكراهة.

وقال العلامة في المختلف بعد تعرضه لصحيحي زرارة ومحمد بن مسلم الآتيـين: وأعلم أن هذه الأخبار وإن كانت صحيحة، لكنها دلت على كراهة الجري، والحق تحريمه، فهي إذن قد خرجت مخرج التقية.

والأولى في الزمار والمارماهي والزهو: التحريم، لأنه قول أكثر علمائنا، حتى أن الشيخ الذي أفتى بإباحتها أفتى بتحريمها أيضاً، وقد ورد على ذلك أخبار…[24].

أقول: لقد حكم بحرمة الجري، لكون النصوص الدالة على حليته تفتقر إلى تمامية أصالة الجهة، فتكون صادرة تقية، وعليه لا تدخل دائرة الحجية حينئذٍ.

كما أن مقتضى إفتاء أكثر الأصحاب بحرمة الزمار والمارماهي والزهو، هو القول بالحرمة فيها، وكأن هذا كاشف ولو بطريق الإن عن وجود خلل في النصوص التي دلت على حليتها، كما يحتمل أن منشأ ذلك الترجيح بالشهرة الفتوائية المشار إليها في مقبولة عمر بن حنظلة: خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ الناذر، فإن المجمع عليه لا ريب فيه[25].

وقال المحقق السبزواري في كفاية الأحكام: في حيوان البحر: لا أعرف خلافاً بين المسلمين في حل السمك الذي له فلس، ويدل عليه عموم الآيات والأخبار. والمعروف من مذهب الأصحاب تحريم ما ليس على صورة السمك من أنواع الحيوان البحري.

وادعى صاحب المسالك نفي الخلاف بين أصحابنا في تحريمه، ولم يظهر لي دليل عليه، بل الآيات والأخبار بعمومها على خلافه.

واختلف الأصحاب في السمك الذي لا فلس له، فمن ذلك الزمار والمارماهي والزهو، والمشهور بين الأصحاب التحريم.

وذهب جماعة منهم الشيخ إلى الكراهة وهو أقرب، جمعاً بين الأخبار الدالة على التحريم، والنافية له مع دلالة عموم الآية على الحل.

والروايات في الجري مختلفة، قال المحقق: أشهرهما التحريم. والمسألة مشكلة، ومقتضى قواعد الاستدلال الحل[26].

أقول: أفاد بأن ما عليه الأصحاب من حصر حلية حيوان البحر في خصوص السمك، مما لا دليل عليه. بل الدليل على خلافه، تمسكاً بعموم الآيات القرآنية، ولعله يشير إلى مثل قوله تعالى:- ( أحل لكم صيد البحر)[27] وقوله تعالى:- (يا أيها الناس كلو مما في الأرض حلالاً طيباً)[28]، وقوله تعالى:- ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنـزير)[29]، وكذا عمومات الأخبار دالة على ذلك أيضاً.

ثم تعرض لمسألتنا، فذكر أن هناك خلافاً بين الأصحاب في السمك الذي لا فلس له، فذكر قولاً بالحرمة، وقولاً بالكراهة، واستقرب القول بالكراهة، جمعاً بين النصوص الدالة على الحرمة والدالة على الكراهة، مضافاً لعموم الآية القرآنية على الحل، وهي قوله تعالى:- ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه…الآية)[30].

هذا وبعد استعراض كلمات الأصحاب في المسألة نخلص إلى أن الأقوال في المسألة هي:

الأول: الحكم بحرمة جميع أنواع الأسماك، ما عدا ما كان له فلس، وإن كان لا يـبقى، وهذا هو المشهور بين الأصحاب، بل ادعى عليه الإجماع في كلمات غير واحد كما سمعت.

الثاني: القول بحلية جميع أنواع الأسماك، وإن كان يكره أكل ما لا فلس له.

الثالث: الحكم بحلية ما له فلس منها، والتفصيل بين ما لا فلس له، فيحكم بحلية جميعه ما عدا الجري والمارماهي والزمار والزهو.

الرابع: الحكم بحرمة خصوص الجري من الأسماك ليس إلا، والبناء على حلية البقية.

هذا وينبغي تنقيح مقتضى الأصل العملي، وبيان الدليل الاجتهادي من عموم أو إطلاق، يمكن الرجوع إليهما لو لم تنهض أدلة المسألة للدلالة على شيء مما ذكر من الأقوال، خصوصاً وأنه قد عرفت من خلال عرض كلمات الأصحاب أن نصوص المسألة متعارضة، فربما لم يمكن الجمع العرفي بينها، فتستقر المعارضة، وتفقد المرجحات، فعندها يكون المرجع هو التساقط، فعليه لابد من معرفة ما يصلح الرجوع إليه حينئذٍ من دليل اجتهادي أو أصل عملي.

الأصل العملي:

لا إشكال في أن مقتضى أصالة الحل والإباحة التي مفادها: أن الأصل في الأشياء هو الإباحة من حيث الحكم التكليفي، وهي بمثابة الأصل الأولي في الأشياء، الحكم بحلية كافة أنواع الأسماك من دون فرق بين ما كان له فلس وما لم يكن له، وبين كونه من الجري أو من المارماهي والزمير والزهو.

نعم لو قيل بعدم جريان أصالة الحل في الشبهات الحكمية، كما عليه بعض مشايخنا الإخباريـين[31]، فلا ريب في أنه لن يكون المرجع حينئذٍ أصالة الحل.

بل سوف يرجع عند الشك في الحرمة إلى أصالة البراءة القاضية بعدم الحرمة.

والرجوع للبراءة، لا ينفع بناءاً على مقالة القائلين بعدم جريانها في الشبهات التحريمية، ولذا سوف يكون المرجع حينئذٍ هو أصالة الاحتياط.

ولذا وفقاً لمسلك بعض مشايخنا الإخباريـين، لن يكون الأصل العملي في البين هو أصالة الحل، ولا البراءة، وإنما سوف يكون الاحتياط هو المرجع،كما ظهر بيانه.

——————————————————————————–

[1] الهداية ص 307.

[2] المقنع ص 423.

[3] المصدر السابق.

[4] المقنعة ص 576.

[5] الانتصار ص 400، مسألة رقم 229.

[6] الخلاف ج 6 ص 29 المسألة 31.

[7] النهاية، كتاب الصيد والذبائح باب ما يستباح أكله من سائر أجناس الحيوانات وما لا يستباح.

[8] النهاية كتاب المكاسب المحظورة ب 4 ص 99.

[9] نكت النهاية ج 3 ص 78.

[10] النهاية، كتاب الحدود، باب الحد في شرب الخمر.

[11] مسالك الأفهام ج 12 ص 14.

[12] المبسوط ج 6 ص 276.

[13] الكافي في الفقه ص 276.

[14] غنية النزوع ج 1 ص 397.

[15] السرائر ج 3 ص 98-99.

[16] مختلف الشيعة ج 8 ص 304.

[17] الجامع للشرائع ص 380.

[18] مسالك الأفهام ج 12 ص 14.

[19] جواهر الكلام ج 12 من الطبع الكبير ص 667-672.

[20] رياض المسائل ج 13 ص 361.

[21] المصدر السابق ص 368-370.

[22] إرشاد الأذهان ج 2 ص 111.

[23] مجمع الفائدة والبرهان ج 11 ص 187-190.

[24] مختلف الشيعة ج 8 ص 305.

[25] وسائل الشيعة ب من صفات القاضي ح

[26] كفاية الأحكام ج 2 ص 596.

[27] سورة المائدة الآية رقم 96.

[28] سورة البقرة الآية رقم 29.

[29] سورة الأنعام الآية رقم 145.

[30] سورة الأنعام الآية رقم 145.

[31] الحدائق الناضرة ج 1 ص 141.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة