29 مارس,2024

منهج التعايش

اطبع المقالة اطبع المقالة

الحديث الرابع:

عن معاوية بن وهب قال:قلت له:كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟…

قال(ع)تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون،فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدون الأمانة إليهم.

أقول:لقد كان لأئمة أهل البيت(ع)عمل يتركز على بناء الكتلة الصالحة من خلال قواعدهم الشعبية،وقد كانت لهم عدة أهداف وغاية وراء عملهم هذا،على رأسها حفظ الوجود الإسلامي والكتلة البشرية.

كما كانوا يهتمون بعملية المحافظة على المجتمع الإسلامي،كهدف ثانٍ لبناء الكتلة الصالحة،في نظرهم(ع)وقد كان للكتلة الصالحة دوره المتميز في المحافظة على المجتمع الإسلامي سواء أيام حضور الأئمة(ع)أم بعد الغيبة الكبرى لإمامنا المنتظر(عج).

فلم يكن بناء هذه الكتلة لمجرد تكثير الأنصار والمهتدين أو لتوسعة الإفراد الصالحين والاستعانة بهم في العمل السياسي،الذي كان يمارسه الأئمة(ع)،فحسب،وإنما كانت هناك أهداف أخرى أعمق ترتبط بالأهداف العامة للأئمة(ع)على جميع المستويات والأبعاد،تؤديها هذه الكتلة الصالحة من خلال وجودها وتماسكها.

هذا ويتضح الدور الذي قامت به تلك الجماعة بملاحظة الأمور التالية:

1-قيام الكتلة الصالحة بالمحافظة على قوة المجتمع الإسلامي وتماسكه من خلال الدفاع عنه أمام أعدائه الخارجيـين والداخليـين،فقد كان للشيعة دور كبير في صد عمليات الغزو الأجنبي التي واجهها العالم الإسلامي في المرحلة المتأخرة من زمن العباسيـين في الحروب الصليبية من خلال الحمدانيـين أو الأدارسة في شمال أفريقيا أو محاربة الغزو المغولي في الشرق الإسلامي،وما رواء النهر.

كما أن الأهم من ذلك الوقوف أمام الغزو الثقافي التي ابتليت به الأمة فقام شيعة أهل البيت بتوجيه من أئمتهم(ع)بالمواجهة لحركات الإلحاد والزندقة،والوقوف أمام موجات التفسخ الأخلاقي التي عمت حاضرة العالم الإسلامي في المدينة المنورة ومكة والكوفة والبصرة والشام وبغداد وغيرها،حيث يظهر ذلك واضحاً من خلال المطارحات والمناقشات والمدارس التي أسسها اتباع أهل البيت والأخلاق التي كانوا يتصفون بها ومقاومتهم لمظاهر الانحلال والفساد والظلم.

2-تقديم القدوة الصالحة في المجتمع الإسلامي في عصر كادت فيه أن تطغى المنافع الذاتية والمصالح الخاصة وتشترى فيه ضمائر الناس وألسنتهم ويتاجر بالدين والحديث عن النبي(ص)لتبرير مختلف التصرفات السلوكية.

ولهذا نجد اهتمام أئمتنا(ع)بهذه الناحية حتى دعى الإمام الصادق(ع)أصحابه وشيعته أن يكونوا القدوة الصالحة والأسوة في السلوك بين المسلمين للمحافظة على المجتمع الإسلامي من جهة ولهداية الناس إلى طريق الحق من جهة أخرى.

فقد روى زيد الشحام قال:قال لي أبو عبد الله(ع):اقرأ على من ترى أنه يعطيني منهم ويأخذ بقولي السلام،وأوصيكم بتقوى الله عز وجل،والورع في دينكم،والاجتهاد لله،وصدق الحديث،وأداء الأمانة،وطول السجود،وحسن الجوار،فبهذا جاء محمد(ص)،وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً،فإن رسول الله(ص)كان يأمر بأداء الخيط والمخيط،صلوا عشائركم،واشهدوا جنائزهم،وعودوا مرضاهم،وأدوا حقوقهم،فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري،فيسرني ذلك ويدخل علي منه السرور،وقيل هذا أدب جعفر،وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره،وقيل هذا أدب جعفر،والله لحدثني أبي(ع)أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي(ع)فيكون زينها،آداهم للأمانة،وأقضاهم للحقوق واصدقهم للحديث،إليه وصاياهم وودائعهم،تسأل العشيرة عنه فتقول من مثل فلان إنه آدانا للأمانة واصدقنا للحديث.

فالفقرة الأخيرة من الحديث تشهد بشكل واضح على الدور الذي حققه اتباع أهل البيت.

3-دور شيعة أهل البيت في قضية الانسجام والتعايش مع بقية أطراف المجتمع الإسلامي والمسلمين من بقية المذاهب الإسلامية،وهذا هو الذي يشير له مضمون الحديث محل البحث.

حيث تعرض إلى بيان المنهج الذي ينبغي أن يكون عليه اتباع أهل البيت،مع الذين يخالفونهم في الانتماء العقائدي والفكري،إذ نجد ذلك واضحاً من خلال سؤال معاوية عن ذلك.

وكيف قدم له الإمام الصادق(ع)في جوابه المنهج الذي ينبغي أن يتبع ويسلك.

وعلى أي حال،فقد كان شيعة أهل البيت يمارسون مع هذه الأطراف التقية من أجل تحقيق الانسجام وترسيخ روح التعايش بين المسلمين وتأكيد التماسك بين الجماعات الإسلامية.

والتقية وإن كانت في أحد أبعادها قد حققت لشيعة أهل البيت عنصراً من عناصر الحماية لوجودهم والوقاية من عمليات القمع التي كان يمارسها أعداؤهم المتسلطون ضدهم،ولكنها لم تطرح في مدرسة أهل البيت من خلال هذا البعد فقط.

بل طرحت في بعد آخر،وهو تحقيق الوحدة والانسجام في المجتمع الإسلامي،ولذا نجدهم يحرضون شيعتهم على إيجاد روح التضامن والتكافل والوفاء بالعهود والمواثيق مع بقية أطراف المجتمع،كما نجدهم يحثونهم على المعاشرة وحسن الجوار والحضور في الجنائز والتواجد في المساجد وعيادة المرضى مع التأكيد على عدم إمكان الاستغناء عن الناس والحاجة إليهم،كما وجدنا الإشارة لذلك من الإمام الصادق(ع)في الحديث الثالث الذي سبق الحديث عنه.

هذا وقد التزم أتباع أهل البيت بهذه التوصيات ومارسوها من موقع القوة والقدرة،ولذلك لم يعرف عن شيعة أهل البيت أنهم مارسوا عمليات القمع والاستئصال ضد اتباع المذاهب الإسلامية الأخرى حتى في الحالات التي كانوا يمسكون فيها بأزمة الأمور،وإنما كانوا يتمسكون دائماً بالصبر والسكوت وتحمل ألوان الأذى والهضم لحقوقهم الطبيعية بهذا النهج.