19 أبريل,2024

مكة وأهم ما فيها

اطبع المقالة اطبع المقالة

يذهب أكثر إخواننا المؤمنين إلى حج بيت الله الحرام،أو أداء مناسك العمرة المفردة،وكثيراً ما يفتقدون المعرفة بالمعالم الموجودة في مكة المشرفة،ولهذا أداء لخدمة للأخوة الحجاج،نحاول أن نقدم هنا بعض التعريف بالمعالم الموجودة في مكة المكرمة،ونـتمنى أن يشركنا الحجاج وهم ضيوف الرحمن في دعائهم.

الكعبة المشرفة:

هي البيت الحرام،سميت بذلك كما في كلمات اللغويـين لتكعيـبها أي تربيعها،وهي البناء المقدس الذي أقامه النبي إبراهيم(ع)،وجددته قريش قبل البعثة،وجدد بعد ذلك غير مرة،وقد طهره النبي(ص)من الأصنام التي وضعتها قريش فيه في عام الفتح،وكان غير مسقوف،ثم سقف وكسي الديباج.

هذا وترسل كسوة الكعبة من مصر كل عام منذ عهد الملك الصالح نجم الدين.

وقد حج إليها العرب في الجاهلية،ويحج إليها المسلمون من مختلف الأقطار،تسمى البيت،والبيت العتيق،والبيت الحرام.

معنى البيت الحرام:

روى حنان قال:قلت لأبي عبد الله(ع):لم سمي بيت الله الحرام؟قال:لأنه حرم على المشركين أن يدخلوه.

والحرمة هنا،يمكن أن تكون مأخوذة من الاحترام يعني البيت المحترم،كما يمكن أن تكون مأخوذة من الحرمة بمعنى المنع،لأنه يمنع فيه شرعاً عدة أمور:

احتقاره،والصيد فيه،والقتال فيه،ودخول المشركين فيه،ودخوله لأول مرة أو بعد شهر من الدخول السابق بغير إحرام،إلى غير ذلك كما هو مذكور في الكتب الفقهية.

معنى البيت العتيق:

قد يكون مأخوذاً من العتق بمعنى الحرية،لأنه ليس ملكاً لأحد غير الله سبحانه،كما يمكن أن يكون مأخوذاً من العتق وهو التقادم لأنه مبني في الزمن القديم جداً.وقد وردت في معناه عدة أخبار:

منها:خبر أبي خديجة عن أبي عبد الله(ع)يقول فيه:وإنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق.

أقول:يعني الطوفان.

ومنها:ما عن أبي حمزة الثمالي قال:قلت لأبي جعفر(ع)في المسجد الحرام لأي شيء سماه الله العتيق؟قال:ليس من بيت وضعه الله على وجه الأرض إلا له رب وسكان يسكنونه غير هذا البيت فإنه لا يسكنه أحد،ولا رب له إلا الله وهو الحرم،وقال:إن الله خلقه قبل خلق الخلق،ثم خلق الله الأرض من بعده فدحاها من تحته.

ومنها:ما عن أبي جعفر(ع)قال:قلت له:لم سمي البيت العتيق؟قال:لأنه بيت حر عتيق من الناس ولم يملكه أحد.

وصف الكعبة:

تقع تقريـباً في وسط المسجد،على شكل حجرة كبيرة مرتفعة البناء مربعة الشكل على وجه التقريب،يعني مكعبة،أو ما يعرف في الهندسة بمتوازي الأضلاع.

يـبلغ ارتفاعها خمسة عشر متراً،وفي ضلعها الشرقي يقع الباب ويرتفع عن الأرض نحو مترين،ويدخل الفرد إلى غرفة في داخلها،وهي مملوءة في أرضها إلى حد الباب،ولكن سقفها سقف الكعبة.

ويلاصق جدارها من أسفلها بناء يسمى الشاذروان،وهو بقية الأساس الذي بنى عليه النبي إبراهيم(ع)الكعبة،بمعنى أنها حين جدد بناؤها بنيت أصغر،وبقي الأساس.

أركان الكعبة:

وللكعبة أركان أربعة:

1-الركن العراقي،ويقع في شماله.

2-الركن اليماني،ويقع في الغرب.

3-الركن اليماني،ويقع في الجهة الجنوبية.

4-الركن الأسود في الجهة الشرقية،وفيه يقع الحجر الأسود،وهو حجر ثقيل صقيل بيضي الشكل أسود اللون مائل إلى الحمرة،وقطره 30 سم،وجعلوا له إطاراً من الفضة،وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.

وقد بنيت الكعبة بالحجارة الصماء،وسطحها مفروش بألواح المرمر،وفي أعلى الجدار الشمالي يوجد الميزاب،وهو مصنوع من الذهب الخالص مطل على حجر إسماعيل.

كسوة الكعبة:

وكسوة الكعبة من الحرير الأسود المتين،يقومون بتغيـيرها كل عام يوم عيد الأضحى في احتفال رسمي.

وفي الثلث الأعلى للكسوة سكة أو شريط بلون فاتح تكتب عليه الآيات القرآنية بشكل زخرفي،وإذا نزعت الكسوة قسمت قطعاً بين الحجاج للتبرك بها.

ويقال أن أول من كسى الكعبة المشرفة هو تبع أبو بكر بن أسعد،كساها بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة،وتبعه خلفاؤه،ثم أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض،وكلما بلي منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصي.

ووضع قصي على العرب رفادة لكسوتها سنوياً،واستمر ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة بن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش تكسوها سنة.

وقد كساها النبي(ص)بالثياب اليمانية،وكان على ذلك حتى حج الخليفة العباسي المهدي شكا إليه سدنة الكعبة تراكم الأكسية على سطح الكعبة،وذكروا أنه يخشى سقوطه،فأمر برفع تلك الأكسية،وإبدالها بكسوة واحدة كل سنة،وجرى العمل على ذلك حتى اليوم.

وللكعبة كسوة من الداخل،وأول من كساها من الداخل أم العباس بن عبد المطلب لنذر نذرته في ابنها العباس.

والركن من الكعبة هو الزاوية وليس الجدار المسطح،وبصفتها مكعبة،فإن لها أركاناً أربعة تـتجه إلى الجهات الأربع تقريباً.

الحجر الأسود:

عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله(ع)قال:كان الحجر الأسود أشد بياضاً من اللبن،فلولا ما مسه من أرجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا بريء.

وعن بكير بن أعين قال:سألت أبا عبد الله(ع)،لأي علة وضع الله الحجر في الركن الذي هو فيه،ولم يوضع في غيره؟ولأي علة يقبل؟ولأي علة أخرج من الجنة؟ولأي علة وضع فيه ميثاق العباد والعهد ولم يوضع في غيره؟وكيف السبب في ذلك تخبرني،جعلت فداك فإن تفكري فيه لعجب؟

قال:فقال:سألت وأعضلت في المسألة واستقصيت،فافهم وفرغ قلبك وأصغ سمعك أخبرك إن شاء الله.

إن الله تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود وهو جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق،وذلك أنه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان،وفي ذلك المكان تراءى لهم ربهم،ومن ذلك الركن يهبط الطير على القائم،فأول من يـبايعه ذلك الطير وهو والله جبرئيل،وإلى ذلك المقام يسند ظهره وهو الحجة والدليل على القائم وهو الشاهد لمن وافى ذلك المكان لمن أدى إليه الميثاق والعهد الذي الله به على العباد.

وأما القبلة والالتماس فلعلة العهد تجديداً لذلك العهد والميثاق وتجديداً للبيعة وليؤدوا إليه في ذلك العهد الذي أخذ عليهم في الميثاق،فيأتونه في كل سنة وليؤدوا إليه ذلك العهد،ألا ترى أنك تقول:أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة.

-إلى أن يقول(ع)-وأما علة ما أخرجه الله من الجنة،فهل تدري ما كان الحجة؟قال:قلت:لا.

قال:كان ملكاً من عظماء الملائكة عند الله تعالى،فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق كان أول من آمن به وأقر ذلك الملك،فاتخذه الله أميناً على جميع خلقه فألقمه الميثاق وأودعه عنده،واستعبد الخلق أن يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله به عليهم،ثم جعله مع آدم في الجنة يذكره الميثاق ويجد عنده الإقرار في كل سنة.

فلما عصى آدم فأخرج من الجنة أنساه الله العهد والميثاق الذي أخذ الله عليه وعلى ولده لمحمد ووصيه علي،وجعله باهتاً حيراناً،فلما تاب على آدم حول ذلك الملك في صورة درة بيضاء فرماه من الجنة إلى آدم وهو بأرض الهند فلما رآه أنس به وهو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة،فأنطقه الله عز وجل فقال:يا آدم أتعرفني؟قال:لا،قال:أجل استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر بك،وتحول إلى الصورة التي كان بها في الجنة مع آدم،فقال آدم:أين العهد والميثاق؟فوثب إليه آدم وذكر الميثاق وبكى وخضع له،وقبله وجدد الإقرار بالعهد والميثاق.

ثم حوله الله تعالى إلى جوهر الحجر درة بيضاء صافية تضيء فحمله آدم على عاتقه إجلالاً له وتعظيماً،فكان إذا أعيى حمله عنه جبرئيل حتى وافى به مكة،فما زال يأنس به بمكة ويجدد الإقرار له كل يوم وليلة.

ثم إن الله تعالى لما أهبط جبرئيل إلى أرضه وبنى الكعبة هبط إلى ذلك المكان بين الركن والباب،وفي ذلك المكان تراءى لآدم حين أخذ الميثاق،وفي ذلك الموضع ألقم الملك الميثاق،فلتلك العلة وضع في ذلك الركن.

-إلى أن قال-:فلذلك اختاره الله تعالى من بينهم وألقمه الميثاق،فهو يجيء يوم القيامة وله لسان ناطق وعين ناظرة ليشهد لكل من وافاه إلى ذلك المكان وحفظ الميثاق.

من يضع الحجر الأسود:

هناك اتجاه تقليدي يقول:إن الحجر الأسود إذا انقلع من محله،فلا يعيده إلا الحجة في زمانه.

وهذا المعنى لم يرد في نص من النصوص،لكنه إذا استعرضنا التاريخ المعروف،لم نجد أحد وضع الحجر الأسود إلا نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء،فإبراهيم(ع)هو الذي وضع الحجر حين بنى الكعبة،ووضع أسس البيت العتيق،ورسول الله(ص)هو الذي وضع الحجر قبل نبوته حين بنيت الكعبة في الجاهلية،واختلفت القبائل فيمن يضع الحجر والحادثة معروفة مروية في التاريخ.

وقد وضع الحجر الإمام زين العابدين(ع)حينما أخرب الحجاج بن يوسف الكعبة المقدسة في صراعه مع عبد الله بن الزبير،وأعادوا بنائها من جديد.

وقد ورد نصوص في أن الإمام المنـتظر المهدي(عج)هو الذي وضع الحجر في مكانه وأقره على وضعه السابق بعدما قلعه القرامطة أثناء هجومهم على مكة المكرمة في سنة 317 هـ،ونقلوه إلى هجر،وكان قد بقي عندهم ثلاثين عاماً.

نعم يـبقى السؤال عمن وضع الحجر عندما بناه جرهم والعماليق وعندما بناه العثمانيون كالسلطان مراد وغيره.

والجواب أنه مع تمامية القاعدة التقليدية،فلابد من الإذعان بحصول بعض الأنبياء قبل الإسلام وبعض الأولياء بعد الإسلام،ليضع الحجر.

بناء الكعبة:

يمكن أن نعرض فكرة احتمالية نستفيدها من عدة أمور:

الأمر الأول:ما ورد من أن الله تعالى خلق ألف ألف آدم وألف ألف عالم،وليس آدمنا هو الأول،ولن يكون الأخير.

الأمر الثاني:ما ورد من دحو الأرض من تحت البيت،وأن البيت هو الأصل في خلقة الأرض.

الأمر الثالث:قوله تعالى:- (إن أول بيت وضع للناس)[1]،بحيث نفهم من(الأول)ما كان في أول الخلقة على وجه الأرض،وقد يشهد لهذا ما جاء على لسان خليل الرحمن حينما أسكن أهله بوادٍ غير ذي زرع،وكان إسماعيل طفلاً،قال تعالى:- (عند بيتك المحرم)ولم يرفعا القواعد إلا عندما صار إسماعيل شاباً،مع أننا نجد خليل الرحمن(ع)يأخذ وجود البيت مسلماً.

ومن هذا ينـتج أن الكعبة بنيت من أول ذرية عاقلة وجدت على وجه الأرض واستمرت تـتجدد مرة بعد أخرى،والناس أعني جميع هؤلاء الذراري والعوالم المتعاقبة،مأمورون بالخضوع لله عز وجل والتوجه إليه،بل وتجددي الميثاق من تلك المنطقة.

ومعه يكون بناء الكعبة قديماً يكاد أن يساوي عمر الأرض نفسها.

نعم بالنسبة إلى الميثاق،فإن الآية الكريمة إنما نصت على أخذه من بني آدم ولم تذكر غيرهم،فهم الذين يحتاجون إلى تجديد دون غيرهم.

إلا أن الاعتبار أولاً،وهذه الرواية السابقة التي نصت على أخذ الميثاق من الملائكة تدل ضمناً على أخذه من كل الخلقة العاقلة مهما وجدوا،فتجديد العهد يكون ضرورياً لكل نسل.

ودلالة هذه الرواية على نزول الحجر لآدم(ع)لا قبله،لا ينافي ما قلناه لعدة احتمالات:

أولاً:يمكن أن ينـزل الحجر على كل آدم يوجد على وجه الأرض وذريته.

ثانياً:يمكن أن يكون تعاهد الميثاق على طريقة أخرى في العود أو الأوادم السابقين.

وغير ذلك من الاحتمالات التي يمكن ذكرها في المقام.

وإذا غضضنا النظر عن ذلك،واقتصرنا على بشريـتنا هذه،بقي لدينا في أول من بنى الكعبة احتمالان:

الأول:ما نطقت به الروايات وأسنده ظاهر الآيات القرآنية،كما سنسمع من أن آدم(ع)هو الذي بنى الكعبة بمعونة الملائكة،ولم يكن يحتاج في ذلك الحين إلا تسطير الصخر على شكل مكعب،ولا ضرورة إلى أن يكون عالياً جداً،بل لعله لا يزيد على متر واحد،والمهم أن مثل هذا البناء لا يضره المطر والرياح،ويكون الحجر الأسود ضمن الصخور.

وظاهر قوله تعالى:- (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل)[2]،أن القواعد كانت موجودة وأنها أزيل البناء الذي فوقها،كنـتيجة الطوفان أو غيره،وكانت وظيفة إبراهيم خليل الرحمن(ع)أن يرفع هذه القواعد أي يـبني فوقها.

الاحتمال الثاني:إن أول من بنى البيت هو إبراهيم(ع)نفسه،إلا أن هذا الاحتمال يستلزم إلغاء تلك الروايات المشار إليها.

ويجب أن نفهم من الآية الكريمة أن القواعد أيضاً من صنع إبراهيم،وهو لا يخلو من مخالفة الظاهر،إلا أن اشتغاله ببناء الكعبة المشرفة من الضروريات،فإما أن يكون هو أول من أظهرها بعد الطوفان أو هو الأول على الإطلاق.

قال السيد العلامة في تفسيره الرائع الميزان:ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جددها العمالقة ثم بنو جرهم،أو بالعكس كما مر في الرواية عن أمير المؤمنين(ع).

ثم لما آل أمر الكعبة إلى قصي بن كلاب أحد أجداد النبي(ص)في القرن الثاني قبل الهجرة هدمها وبناها فأحكم بناءها،وسقفها بخشب الروم وجذوع النخل،وبنى إلى جانبها دار الندوة،وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه،ثم قسم جهات الكعبة،بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة،وفتحوا عليه أبوابهم.

وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة،فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها،وكان الذي يـبنيها يا قوم الرومي ويساعده نجار مصري،ولما انـتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أن أيها يخـتص بشرف وضعه،فرأوا أن يحكموا محمداً(ص)وسنه إذ ذاك خمس وثلاثون سنة،لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه،فطلب رداء ووضع عليه الحجر،وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.

وكانت النفقة قد بهضتهم فقصروا بناءها على ما هي عليها الآن،وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.

ثم قال(قده):وكان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبد الله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد بن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة،وأصاب الكعبة بالمنجنيق،فانهدمت وأحرقت كسوتها وبعض أخشابها،ثم انكشف عنها لموت يزيد.

فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بناءها فأتى لها بالجص النقي من اليمن وبناها به،وأدخل الحجر في البيت وألصق الباب بالأرض،وجعل قبالته باباً آخر ليدخل الناس من باب ويخرجوا من آخر،وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً،ولما فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعنبر داخلاً وخارجاً وكساها بالديـباج،وكان فراغه من بنائها 17 رجب سنة 64 هجرية.

ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتى غلبه فقتله ودخل البيت،فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة،فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة أذرع وشبراً،وبنى ذلك الجدار على أساس قريش،ورفع الباب الشرقي وسد الغربي،ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها.

ولما تولى السلطان سليمان العثماني الملك سنة ستين وتسعمائة غير سقفها،ولما تولى السلطان أحمد العثماني سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً،ولما حدث السيل العظيم سنة تسع وثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشمالية والشرقية والغربية،فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها،ولم يزل ذلك حتى اليوم[3].

سؤالان في المقام:

يـبقى عندنا سؤالان في المقام،أحدهما تاريخي،والآخر فقهي:

أما السؤال التاريخي فهو:إن إبراهيم(ع)أين وجد الحجر الأسود ووضعه في محله،مع العلم أن الكعبة كانت مندرسة تماماً،والحجر الأسود غير معلوم المحل؟…

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

الأول:إن انهدام الكعبة المشرفة لا يسبب أكثر من سقوط الحجر الأسود على الأرض،فكما كان أساسها مدفوناً تحت التراب كان الحجر الأسود مدفوناً إلى جنبه وفي المنطقة التي يجب أن يوضع فيها،فحين حفر الأسس وجد الحجر.

الثاني:إن إبراهيم(ع)تلقى علم ذلك وغيره بوحي من الله عز وجل،فإن قواعد البيت لم تكن ظاهرة للعيان،حتى حفر عنها وأخرجها،فالذي دله على القواعد دله على محل وجود الحجر،بصفته من أنبياء الله العظماء(ع).

وأما السؤال الفقهي:وهو أنه هل يعتبر الشاذروان من الكعبة على أساس أنه فوق القواعد التي رفعها إبراهيم(ع)أو لا؟…

ويترتب على هذا السؤال عدة أمور فقهية:

1-جواز تركه في الطواف،بمعنى إدخال اليد أو أي جزء من البدن داخل الشاذروان،إن لم يكن جزءاً من الكعبة.

أما لو كان جزءاً منها،فإنه يجب إدخاله جميعاً في الطواف.

2-جواز استقباله في الصلاة وغيرها مما يجب فيه الاستقبال إذا كان جزءاً من الكعبة،بخلاف ما لو لم يكن كذلك.

وخلاصة الجواب:أنه لا إشكال أن الشاذروان من الكعبة بحيث لو بني أو لم يبن عليه شيء،فيجوز التوجه إليه في الصلاة والطواف حوله.

وإنما الكلام فقهياً في إمكان الاكتفاء بهذا المقدار الموجود ككعبة متكاملة بحيث يمكن إهمال الشاذروان ولا يتـرتب على ذلك محذور شرعي أو فقهي.

ويمكن الاستدلال على ذلك بما ذكرناه قبل قليل من أن الكعبة صغروا بنائها منذ عهد النبي(ص)،فهذا المقدار من البناء كان موجوداً من ذلك الحين،وقد أقره النبي(ص)ومن المعلوم أن إقرار المعصوم(ع)حجة،ومعه يمكن الاكتفاء بهذه الكعبة،بغض النظر عن الشاذروان.

إلا أن هذا الاستدلال لا يتم من الناحية الفقهية،لكونه بحاجة إلى دليل معتبر يوضح أن النقص إنما حصل في زمن النبي(ص)،وما نقلناه عن تفسير السيد العلامة(ره)،وإن كان مضبوطاً بمقدار النقل التاريخي،إلا أنه لا يرقى إلى الاعتبار الفقهي،ومعه يـبقى احتمال أن تكون النقيصة قد حصلت بعد ذلك.

إلا أن الذي يهون الخطب ويـبقى في اليد هو أن عصور الأئمة المعصومين(ع)قد مرت والشاذروان كان موجوداً ولو في بعض تلك العصور،فلم يأمروا(ع)بتوسيع الكعبة إلى مقدار الشاذروان،مع أنه كان يمكنهم ذلك،الأمر الذي يدل على إقرارهم بما هو موجود من الكعبة،وغض النظر عن الشاذروان،وإقرار المعصوم حجة.

وتفصيل المسألة فقهياً بنحو أكثر يطلب من البحوث الفقهية المعدة لذلك.

سدانة الكعبة:

قال السيد الطباطبائي في تفسيره القيم:كانت الولاية على الكعبة لإسماعيل،ثم لولده من بعده حتى تغلبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها،ثم ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم،وقد كانوا ينـزلون أسفل مكة كما أن جرهم كانت تنـزل أعلى مكة وفيهم ملوكهم.

ثم كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولوها نحواً من ثلاثمائة سنة،وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.

ثم نشأ ولد إسماعيل وكثروا وصاروا ذوي قوة ومنعة وضاقت بهم الدار،حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكة،ومقدم الإسماعيليـين يومئذٍ عمرو بن لحي،وهو كبير خزاعة،فاستولى على مكة وتولى أمر البيت،وهو الذي وضع الأصنام على الكعبة ودعا الناس إلى عبادتها،وأول صنم وضعه عليها هو هبل حمله معه من الشام إلى مكة ووضعه عليها ثم أتبعه بغيره حتى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب وهجرت الحنفية.

-إلى أن قال-وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعي فجعلها حليل من بعده لأبنته،وكانت تحت قصي بن كلاب،وجعل مفتاح الباب وغلقه لرجل من خزاعة يسمى أبا غبشان فباعه من قصي بن كلاب ببعير وزق خمر،وفي ذلك يضرب المثل السائر:أخسر من صفقة أبي غبشان.

فانتقلت الولاية إلى قريش،وجدد قصي بناء البيت كما قدمناه وكان الأمر على ذلك حتى فتح النبي(ص)مكة،ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت وكان مقام إبراهيم،وهو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبرهيم موضوعاً بمعجن في جوار الكعبة،ثم دفن في محله الذي يعرف به الآن.

متعلقات الكعبة:

ونعني بها الأمور اللصيقة بالكعبة تقريـباً،أو جزء منها،وهي المطاف،والمعجن،والملتـزم أو المستجار،والحطيم،وحجر إسماعيل والميزاب.

أما مقام إبراهيم بوضعه الحالي فهو بعيد نسبياً،ونـتعرضه عندما نـتعرض لتفاصيل المسجد الحرام.

فالمطاف:هو المسطح المحيط بالكعبة المفروش بالمرمر الأبيض على شكل دائرة،ويسمى الصحن،وهو الذي كان حد المسجد تقريـباً في زمن رسول الله(ص)إلى أن تم توسيعه.

وبين الكعبة وبين مقام إبراهيم في محله الحالي حوالي ستة أمتار وهو نصف قطر المطاف باستثناء حجم الكعبة في الوسط،وهو بـيضوي الشكل تقريـباً لدخول حجر إسماعيل فيه.

وقد كان في السابق يحيط به ثمانية وثلاثون عموداً من النحاس طليت باللون الأخضر يتصل بعضها ببعض بعوارض حديدية علقت بها ثريات كهربائية تضاء ليلاً،لكنها أزيلت مع التوسعة التي حصلت للمسجد الحرام في الآونة الأخيرة.

والمعجن:وهو المربع الواقع بالصحن،لصيق البيت مما يلي باب الكعبة،على يمين الداخل،وهو منحط عن الصحن وسعته متران مربعان تقريـباً.

قيل هو مصلى جبريل بالنبي(ص)حينما فرضت الصلاة،وقيل إنه كان يعجن فيه إسماعيل المؤنة التي كان يستعملها إبراهيم في بناء البيت،وهو المفهوم من اسمه.

وقيل أنه كان محل الصخرة التي كان يقف عليها إبراهيم(ع)خلال بناء الكعبة.

لكن الظاهر أن الموضع الذي يقف عليه البنّاء،إنما يكون قريـباً من البناء،ليناله،لا بعيداً عنه.

والملتـزم:هو الجدار من الكعبة الواقع ما بين الركن السود أو الحجر الأسود وباب الكعبة،ويقع على يسار الداخل،وسمي بذلك لأن الناس يلتـزمونه ويدعون عنده،وهذا مشهور بين أهل المذاهب الإسلامية.

والحطيم:وهو قوس من البناء واقع في شمال الكعبة على شكل نصف دائرة،يـبدأ أحد طرفيه بالركن العراقي والآخر بالركن الشامي،ويـبعد طرفه عن الكعبة مترين وثلاث سنـتيمات،ويـبلغ ارتفاعه نحو متر وسمكه متر ونصف متر،وهو مغلف بالرخام المنقوش،وفي محيطه من أعلاه كتابة محفورة بالخط المعلق فيه آيات قرآنية وتاريخ من قام بعمارته.

وحجر إسماعيل:هو الفضاء أو الأرض الواقعة بين الكعبة والحطيم،أو قل هو المكان الموجود في داخل الحطيم الذي هو على شكل نصف دائرة منحنية على الكعبة.

وقد روي أن إسماعيل(ع)قد دفن أمه قرب الكعبة في هذا المكان،فكره أن يطوف الناس،فبنى الحائط المسمى بالحطيم ليمنع الناس من المرور هناك،ثم دفن هو مع أمه بعد ذلك.

والميـزاب:على الحائط الشمالي،من جهة حجر إسماعيل والشاذروان،ويسمى ميزاب الرحمة،وهو مما أحدثه الحجاج بن يوسف الثقفي،ثم غيره السلطان سليمان سنة 954 هـ،إلى ميزاب من الفضة،ثم أبدله السلطان أحمد سنة 1021 هـ،بآخر من فضة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخللها نقوش ذهبية،ثم أرسل السلطان عبد المجيد من آل عثمان سنة 1273 هـ،ميـزاباً من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن.

الشاذروان:

هذا ولم يـبقَ من متعلقات الكعبة إلا الشاذروان،وقد عرفنا عنه بعض الشيء فيما مضى،ونزيد هنا توضيحاً فنقول:هو كالدكة في جانب الكعبة الذي فيه حجر إسماعيل،بين الركنين العراقي والشامي،وهو بقية أساس النبي إبراهيم(ع)،وبحسب الظاهر هو الآن من الفضاء الذي يعتبر من حجر إسماعيل.

——————————————————————————–

[1] سورة آل عمران الآية رقم 96.

[2] سورة البقرة الآية رقم 127.

[3] الميـزان في تفسير القرآن ج 3 ص 358.