29 مارس,2024

قاطعية الإقامة للسفر

اطبع المقالة اطبع المقالة

[size=6][/size]
[font=arial]لا خلاف بين أصحابنا الإمامية في أن العزم على إقامة عشرة أيام من المسافر في مكان رافعة لحكم السفر عنه فيجب عليه الإتمام.

وهذه المسألة من المسائل الأصلية المتلقاة من الأئمة (ص3) كما أشار لذلك الفقيه السيد البروجردي(قده)، وقد وردت فيها عدة أخبار مستفيضة.[/font]

منها: صحيحة أبي بصير قال: قال أبو عبدالله B: إذا عزم الرجل أن يقيم عشراً فعليه إتمام الصلاة[1].

ومنها: صحيحة أبي ولاد قال: قلت لأبي عبدالله B: إني كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم بها عشرة أيام وأتم الصلاة ثم بدا لي بعد أن أقيم بها فما ترى لي أتم أم أقصر؟… الخ[2].

وهي منقولة من كتاب الرحمة لسعد وقد سبق أن ذكرنا أنه موضع تأمل.

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر B قال: إذا دخلت أرضاً فأيقنت أن لك بها مقام عشرة أيام فأتم الصلاة[3].

وهي صحيحة على رواية الكليني. وأما على رواية الشيخ S فلا يـبعد السقط في سندها لعدم رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن حماد بن عثمان بلا واسطة.

ومنها: صحيح محمد بن مسلم قال: سألت عن المسافر يقدم الأرض؟ فقال: ـ إن حدثته نفسه أن يقيم عشراً فليتم[4].

ومنها: صحيحة أبي أيوب قال سأل محمد بن مسلم أبا عبدالله B وأنا أسمع عن المسافر إن حدث نفسه بإقامة عشرة أيام قال: فليتم صلاته[5].

أقول: من المحتمل جداً البناء على اتحاد هذه الرواية والرواية التي تقدمتها، فلاحظ.

هذا وقد تضمنت صحيحة أبي أيوب ذكر الخمسة مكتفياً بها. وهو موافق لقول ابن الجنيد منا، وقريب من مذهب مالك وأحمد والشافعي فحملها بعضهم على التقية.

إلا أن صاحب الحدائق Q وجهها بحملها على أحد البلدين مكة والمدينة تأيـيداً لحمل الشيخ لها على ذلك. وذكر له في الحدائق شاهداً وهو صحيحة معاوية بن وهب ونحن في غنى عنه، لأن صحيح محمد بن مسلم السابق مصرحة بذلك.

هذا وقد وقع الخلاف بين أصحابنا في أن الإقامة قاطعة للسفر حكماً أو موضوعاً. وجهان أقواهما الثاني وهو الموافق لقدماء الأصحاب بعض الأساطين(قده). وقال بالأول في العروة وتابعه في مستندها Q.

لنا على ذلك الأصل العملي والدليل الاجتهادي. أما الأصل العملي فتقريـبه:

إن المورد صغرى لمسألة استصحاب حكم المخصص أو الرجوع لحكم العام. وتطبيقه هو:

هل أن الثابت للمسافر إما وجوب قصر كل صلاة ما دام مسافراً بحيث ينحل وجوب القصر إلى وجوبات متعددة بعدة ما يقع منه الصلاة الرباعية في السفر حتى يكون المرجع عند الشك في بقاء حكم الإقامة هو عموم العام لا أستصحاب حكم الإقامة، أو يكون الثابت له وجوب القصر مستمراً إلى آخر السفر ما دام مسافراً بحيث لو قطع بالإقامة كان المرجع عند الشك في بقاء حكم الإقامة هو استصحاب حكمها لا الرجوع إلى العموم؟…

إن مقتضى الأصل كونه ظرفاً للحكم، فعليه يكون الحكم بعد إبطال الإقامة بمبطل هو الرجوع إلى استصحاب حكم المقيم لا إلى حكم المسافر.

هذا ولا يخفى أنه لو بني على أن الاستصحاب أصل، وليس أمارة، أمكن القول بعدم صلوح الاستناد إليه، ضرورة أنه محكوم بالدليل الاجتهادي، أعني ما دل على عموم التقصير، وبالتالي لن تصل النوبة حينئذٍ للتمسك بالأصل، سواء كان الدليل الاجتهادي حاكماً أم كان وارداً كما هو مفصل في محله.

وبيان المطلب بصورة أوسع يستفاد مما ذكره المحقق النائيني(ره)، قال:

ذكر المحقق النائيني(قده)[6] أن تحقيق الكلام يقتضي تنقيح البحث عن أصل مورد الرجوع إلى حكم العام أو إلى استصحاب حكم المخصص. ثم النظر إلى أن المقام من أي واحد منهما فنقول:

قد يكون الزمان في صلاة المسافر ظرفاً لمتعلق الحكم ومأخوذاً تحت الحكم بحيث يكون الحكم وارداً على الزمان.

وبعبارة أخرى: يكون قيداً لمتعلق الحكم مثل أكرم العلماء في كل يوم حيث أن كل يوم قيد للإكرام وهو متعلق الحكم وقد يكون ظرفاً للحكم نفسه ويكون الحكم تحت الزمان وذلك كما في: الماء طاهر والخمر حرام حيث أن طهارة الماء مثلاً مستمرة بدون جعله إلى أن ينسخ بناسخ ويكون الزمان ظرفاً لاستمراره. ففي القسم الأول: يتكفل العموم إثبات استمرار هذا الحكم بل المثبت له لا بد من أن يكون دليل خارجي من مقدمات الحكمة لو تمت أو قضية أخرى مثل حلال محمد 9 حلال إلى يوم القيامة .. الخ. فإذا ورد مخصص وشك في بقاء حكم المخصص لدورانه بين الأقل والأكثر كان المرجع هو العموم ولا سبيل للرجوع إلى حكم المخصص بل لو لم يكن عموم لما كان وجه للرجوع إلى حكم الخاص لأن الزمان لما كان ظرفاً للمتعلق وتحت الحكم كان موجباً لانحلال الحكم إلى أحكام متعددة بعدة أفراد متعلقة بحسب أفراد الزمان فيكون لكل فرد حكماً مستقلاً يختص به غير ما أختص بفرد آخر. ومع خروج بعض الأفراد من تحت العموم يكون المرجع عند الشك في خروج بقية الأفراد هو العموم. وإن منع من الرجوع للعموم فلا وجه للرجوع لاستصحاب حكم المخصص لأن إجراء حكم الفرد المخرج يقيناً إلى الفرد المشكوك ببركة الاستصحاب انسحاب لحكم المستصحب إلى فرد مغاير معه وهو فاسد.

وفي القسم الثاني: إذا ورد مخصص بالنسبة إلى فترة من الزمان ثم شك في بقائه كان المرجع استصحاب حكم المخصص ولا سبيل للرجوع لحكم العام. ومع المنع من الرجوع للاستصحاب بعلة انقطاع الحكم المستمر الثابت أولاً بدليل المخصص. ومعه فلا عموم حتى يرجع إليه عند الشك في بقاء المخصص، وبهذا البيان تندفع الإيرادات على ما أفاده الشيخ الأعظم S في رسائله ومكاسبه. وأما تعيـين الصغرى وتشخيص ما كان من قبيل القسم الأول وتميـيزه عن القسم الثاني فضابطه: إن ما كان من الأحكام الوضعية مثل الطهارة والنجاسة واللزوم ونحوها فهو من القسم الثاني فلأنه لا معنى لانحلال نجاسة الدم بحسب الأجزاء الزمانية إلى نجاسات متعددة بل هي نجاسة مستمرة إلى آخر الدهر فيكون الزمان ظرفاً مستمراً لها.

وبعبارة أخرى: عدم ظرفية الزمان فيها من جهة السالبة بانتفاء الموضوع إذ لا متعلق لها حتى يكون الزمان ظرفاً له ومرادنا من المتعلق هو فعل المكلف وانتفائه ظاهر في الوضعيات لعدم المعنى لوجود المتعلق في طهارة الماء مثلاً. لأن متعلقه نفس العين الخارجي لا فعل المكلف هذا بناءاً على أن الأحكام الوضعية سوى الأربعة المشهورة والسببية وأخواتها مجعولات وإن كان لنا كلام في ذلك فصلناه في كتاب الطهارة وخلاصته هو الالتزام بالتفصيل فيها وليس البناء على كونها كلها من المجعولات كما عليه شيخنا الأستاذ(دامت بركاته)وكذا شيخنا التـبريزي(حفظه الله)والتفصيل موكول إلى محله.

وأما الصغرى: إن حكم وجوب القصر من قبيل الحكم التكليفي الإيجابي الجارحي. فهل الثابت للمسافر هو وجوب القصر في كل صلاة ما دام مسافراً فينحل وجوب القصر إلى وجوبات متعددة بعدة ما يقع منه من الصلاة الرباعية في السفر فيكون المرجع عند الشك في بقاء حكم الإقامة هو عموم العام لا استصحاب حكم الإقامة. أو يكون الثابت له هو وجوب القصر مستمراً إلى آخر السفر ما دام مسافراً فلو قطع بالإقامة كان المرجع عند الشك بقاء حكمها هو استصحاب حكمها لا الرجوع إلى العموم.

مقتضى الأصل المؤسس هو كونه ظرفاً للحكم وعليه فيكون الحكم بعد إبطال الإقامة بمبطل هو الرجوع إلى استصحاب حكم المقيم لا إلى حكم المسافر والله العالم[7].

وأما الدليل الاجتهادي فتصويره بوجوه:

الأول: الإجماع، فقد ذكر المحقق السبزواري(ره) في كتابه الذخيرة أنه لم يعرف فيه خلافاً، كما أن السيد صاحب المدارك(ره) ذكر أنه لا خلاف في كونها قاطعة للسفر.

هذا وتـتوقف دليلية الإجماع في كل مورد استدل به على توفر أمرين:

أولهما: أن يكون إجماعاً قدمائياً حاصلاً بين قدماء الأصحاب المعاصرين للأئمة الأطهار(ع)، ولا أقل ممن كان قريباً من عصرهم(ع)، وهذا يعني أنه لو كان إجماعاً مستفاداً من كلمات المتأخرين، فلا ريب في أنه لن يصلح للدليلية.

ثانيهما: أن لا يكون في البين ما يصلح للدليلية، وإلا فمع وجوده سوف يكون الإجماع المذكور محتمل المدركية، إن لم يقل بكونه مقطوعها.

ومن الواضح أن هذين الأمرين غير متوفرين في المقام، ضرورة أن التعبير بنفي الخلاف أعم من كون المسألة معنونة في كلمات الأصحاب وعدمه، فربما لا يوجد خلاف عند من عنون المسألة، لا أن هناك إجماعاً، ومنه يتضح أن تعبير بعض الأساطين(ره) بالإجماع في المسألة[8]، على غير الصناعة.

الثاني: ما جاء في كلمات المحقق النائيني(قده)، قال: لا شبهة في أن جملة من الأحكام الشرعية ثابتة لموضوعات عرفية لم يتصرف فيها الشارع المقدس بجعل تشريعي حتى يكون موضوعاً مخترعاً. بل كان نفس الموضوع هو الأمر العرفي. ولما كانت المفاهيم العرفية غير منضبطة. بل تنـتهي إلى ما يحصل الشك فيها فلا جرم يحدد الشارع تلك الأمور العرفية بمرتبة ما، وليس ذلك إعمال تعبد من الشارع بل هو تعيـين الأمر العرفي الإرتكازي بمرتبة موجبة لإزالة الشك وسد باب وقوع الشك في الموضوع، وذلك كالكثرة والسفر ونحوهما، فإن الماء القليل عند العرف لا يأبى عن قبول النجاسة عند ملاقاته معها. والكثير يفني النجاسة ويجعلها معدومة. وهذا أمر ارتكازي عرفي، ولكن كون الكثرة بأية مرتبة معدمة للنجاسات مشكوك، والقدر المتيقن منها هو مثل الحياض الكبيرة والشط ونحوهما وقد حددها الشارع بالكر فهذا التحديد منه لما هو موضوع هذا الأمر الإرتكازي العرفي. وكذا السفر فإنه أمر عرفي لكنه مشكك ذو مراتب بين السير بفرسخ أو فرسخين أو أزيد، وقد حدده الشارع بالثمانية الامتدادية أو الملفقة. وكذا الإقامة فإن المسافر يخرج عن عنوان المسافر عرفاً بها. والقدر المتيقن من الإقامة المخرجة له عن عنوانه هو إقامة سنة أو ستة أشهر مثلاً كما أن القدر المتيقن من الإقامة غير المخرجة له عن العنوان إقامة يوم أو يومين. وعند الشك في الصدق نرى أن الشارع قد حددها بعشرة أيام وكذا إقامة ثلاثين يوماً مردداً حيث أن كليهما تحديد للموضوع العرفي. وعلى هذا تُخرج الإقامة عشرة أيام المسافر عن عنوان كونه مسافراً وتدخله في عنوان الحاضر. وبهذا تكون قاطعة لموضوع السفر، وهو المطلوب[9].

وحاصل ما أفاده(ره) يـبتني على أن في المقام مقدمتين:

الأولى: إن موضوعات الأحكام الشرعية، أمور عرفية لم يتدخل الشارع المقدس فيها بجعل واختراع.

الثانية: لما كانت الموضوعات العرفية من الأمور غير المنضبطة، عمد الشارع إلى التدخل تحديداً لجملة من الضوابط المعتبرة فيها.

ومن تلك الموارد الإقامة القاطعة للسفر، فإن العرف يرى قاطعيتها له، لكنه لا يحددها بمقدار، فعندهم قدر متيقن، وهو الأعلى، فجعل الشارع مقداراً محدداً بالعشرة.

الثالث: لو رفعنا اليد عن الوجه الأول نقول: إن قاطعية الإقامة توجب تقيـيد الثمانية فراسخ بعدم وقوع الإقامة في أثنائها. وهذا دليل على أن القاطع قاطع للموضوع لا الحكم. وهذا بخـلاف استمرار القصد حيث قد تقدم أنه لا دليل على قاطعية الترديد أو الرجوع عن القصد. بل المعتبر كون الطي عن قصد. ولذا لو عاد إلى قصده يتصل ما بعد العود بما قبله[10].

الرابع: النصوص:

منها: صحيحة زرارة -وهو عمدتها- عن أبي جعفر B قال: من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنـزلة أهل مكة فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر[11].

وتقريب الاستدلال بها: إن تنـزيل المقيم منـزلة الأهل شاهد على إن الإقامة قاطعة للموضوع لا مخصصة للحكم. وبتقريب آخر:

إن مقتضى تفريع التقصير على الخروج من مكة كونه سفراً جديداً لا أنه متمم للسفر الأول الممتد من منـزله إلى مكة ومن مكة إلى عرفات وإلا لم يكن تعريضاً بمن لا يرى الخروج من مكة بنفسه سفراً موجباً للقصر مع كونه بريدين ذهاباً وإياباً.

وبتقريب ثالث: إن السفر ضد الحضر لغة وعرفاً فيؤخذ في مفهومه الغياب والابتعاد عن الوطن. فلا يصدق السفر على من كان في بلده ولو بقصد المرور إلى محل آخر. ومقتضى الصحيح هو أن المقيم في محل بمنـزلة أهل ذلك المحل.

وقد أورد عليه بأمور:

أولها: ما ذكره بعض الأساطين(قده) بأن الصحيح المذكور ليس في مقام البيان من هذه الجهة، ضرورة أنه ناظر إلى أن من بقي في مكة فوظيفته التمام كما هي وظيفة أهل مكة، وبالتالي لا نظر فيه إلى كون الإقامة قاطعة موضوعاً نتيجة تنـزيل المقيم منـزلة المتوطن، ولا إلى كونها قاطعة حكماً للسفر، وعلى هذا لا يصح التمسك به لإثبات المدعى حينئذٍ[12]. وقد أشكل بهذا الإشكال الفقيه الماهر صاحب الجواهر(ره)، فلاحظ.

ويلاحظ عليه: بأن الصحيح في مقام بيان أمرين:

الأول: بيان أن من أقام مدة عشرة أيام، كانت وظيفته التمام.

الثاني: أن أقام في محل عشرة أيام، فهو بمنـزلة المتوطن، فكما أن المتوطن إذا وصل إلى بلده انتفى عنه عنوان السفر موضوعاً، وانقطع، فكذلك المقيم، ويشهد لكون الصحيح في مقام بيان حكمين لا حكماً واحداً، قوله(ع): وهو بمنـزلة أهل مكة. لأنه لو لم يكن بمثابة البيان لحكم آخر، لكان لمجرد التأكيد وهو خلاف الأصل.

بل إن قوله(ع): فإذا خرج إلى منى، أوضح دلالة في إثبات المدعى، لأن المسافة من مكة إلى منى ليست موجبة للتقصير، فلو لم ينقطع سفره، لعاملناها معاملة المسافر، لكن ترتيب عدم ثبوت التقصير عليه، شاهد على أنه بمنـزلة أهل مكة، فيثبت المطلوب.

ثانيها: ما أفاده(ره) أيضاً، وحاصله: بعد التسليم بتمامية دلالة الصحيح على التـنزيل المذكور، وبالتالي يكون المقتضي للبناء على قاطعية الإقامة موضوعاً للسفر تام، إلا أن المشكلة في وجود المانع، وهو عدم التـزام الأصحاب بذلك فيه، وهذا يوجب الوهن في دلالته، لأن من الواضح أن الظهورات من الأمور العقلائية، التي يتبانى عليها العقلاء، وإعراضهم عن استفادة هذا المعنى منه، يكشف عن عدم وضوحه في المدعى، وعليه لابد من رد علمه إلى أهله.

إن قلت: يمكن الاعتماد على الصحيح، والالتـزام بالتفكيك في الحجية، فيـبنى على بعض الصحيح دون البعض، وما ذكر ليس بالعزيز في الفقه، بل موارده كثيرة، كما لا يخفى.

قلت: إن التفكيك وإن كان حسناً، لكنه يعتمد على موافقته للمذاق العرفي، ضرورة أنه متى لم ينسجم مع لك، كان ذلك مانعاً من البناء عليه، وهذا هو الموافق لمقامنا، فلاحظ

وبعبارة أخرى، إن الوجه في حجية الخبر هو السيرة العقلائية، والظاهر أن العقلاء لا يعمدون إلى التفكيك بين أجزاء الخبر الواحد فيعملون ببعض دون بعض.[13].

وقد أجاب عنه بعض الأعلام(دام ظله)، فذكر أن المراد من الصحيح كما ذكره الفيض(ره) في الوافي، أنه إنما وجب التمام إن قدم بمكة، لقصده إقامة عشرة أيام، وإنما وجب عليه التقصير إذا خرج إلى منى، لأنه يذهب إلى عرفات، وإنما أتم الصلاة إذا زار البيت، لأن الإتمام بمكة أحب من التقصير، وإنما عليه الإتمام إذا رجع إلى منى، لأنه قدم مكة لطواف الزيارة، وكان عزمه الإقامة فيها بعد الفراغ من الحج، كما يكون في الأكثر، ومنى من مكة أقل من بريد، فيدل الصحيح على أن إرادة ما دون المسافة لا تنافي عزم الإقامة، فيكون الصحيح دالاً على المدعى[14].

وهو غريب، ضرورة أن بعض الأساطين(ره) لا ينكر تمامية دلالة الصحيح على قاطعية الإقامة موضوعاً للسفر، لكنه يشير إلى وجود مانع في البين يمنع من التمسك بها، فلا معنى لأن يشار إلى أن المراد من الصحيح ما ذكر.

لا يقال: إن بيان ما ذكره الوافي في الصحيح يشير إلى كونه مفهوماً للأصحاب، وبالتالي يكون دعوى وجود المانع منفية في المقام، فيصح الاستدلال بها على المدعى.

قلت: لا يعدو ما ذكر كونه دعوى عهدتها على مدعيها، وبالتالي لا يمكن الركون إليها في مقام الاستدلال، ضرورة أن بيان الوافي لعله ظاهر في الإشارة إلى أنه ربما لم يفهم الأصحاب من الحديث ما فهمناه، فلاحظ.والحق في الجواب، أن القول بكون الصحيح مما لم يعمل به الأصحاب في غير محله، إذ الظاهر أن المراد من الإقامة ما إذا كانت بعد الحج، وإتمام ناسكه، فعندها تكون مما قد عمل به الأصحاب لا مما أعرض عنه، فتأمل.

ثالثها: ما أفاده بعض الأعاظم(قده) من أن الصحيحة مختصة بموردها، وهي مكة، ولا مجال للتعدي عنها في ما أفادته بحيث يثبت ذلك لغير مكة، ضرورة أن هناك خصوصية لمكة، ولعل هذه من الخصوصيات الثابتة لها، وعليه إن كان في البين إجماع يدل على أن الإقامة قاطعة موضوعاً بنينا عليه، وإلا فمقتضى القاعدة البناء على كونه قاطعاً حكماً، والصحيحة تختص بموردها فقط[15].

ولا يخفى أن إشكاله مبني على التسليم بتمامية الدلالة بحيث أن الإقامة عشرة أيام بمنـزلة الوطن، إلا أن الدليل مختص بمكة دون غيرها.

والإنصاف عدم وضوح خصوصية للبقعة المقدسة، لأن تنـزيله(ع) المقيم بمنـزلة أهل مكة، يشير إلى أن هناك موجباً للتنـزيل ينفي الخصوصية عن المحل، وإنما لوجود وحدة اشتراك بين المنـزل والمنـزل عليه، فالتـنـزيل على الأهل بعنوان الأهل، لا بعنوان أهل مكة، والعرف على هذا لا يرى خصوصية لمكة، ليقال بأن الحكم من مختصاتها، بل يرى أن المدار على الأهل على البقعة، فلاحظ.

رابعها: ما أفاده(ره) أيضاً، وهو يعود إلى سلب الحجية عن الصحيح، ببيان أن مسألة الخروج من مكة إلى عرفات والعود إلى منى بعد طواف الحج، من المسائل الابتلائية الكثيرة الدوران، وهذا يستوجب كثرة السؤال عنها من قبل الأصحاب، لكننا لا نجد في النصوص إلا خصوص هذا الصحيح، وهذا يشير إلى أن هناك تسالماً يمنع من التسليم بحجية هذه الرواية والقبول بدخولها دائرة الحجية، فلاحظ[16].

ولا يخفى أن ما أفاده(قده) مبني على أن المتسالم عرفاً كون الإقامة لا تعد قاطعاً موضوعاً، ولا أقل من التشكيك في ذلك حتى يكون هناك داعٍ للسؤال، فلما لم يوجد ما يشير إلى السؤال، فهو يوحي بتسالم وتباني على عدم قاطعيتها للسفر أصلاً، فجاء الشارع وبنى على القاطعية تخصصاً.

ومن الواضح فساده جداً، إذ لا إشكال ولا ريب في أن التباني العرفي على قاطعية الإقامة للسفر، عمدة ما كان أن الاختلاف في تحديد المقدار القاطع له بسبب الإقامة، فالترديد الخارجي إنما هو في مقدار المدة الزمنية الموجبة للقاطعية، لا في أصل القاطعية، كما لا يخفى.

ومنه يتضح أن منشأ عدم كثرة الأسئلة يعود لكون الأمر من الوضوح بمكان، ولذا كثرت الأسئلة عن المقدار والمدة التي يتحقق بها القاطعية، فتدبر.

ومنها: صحيح أبي ولاد قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إني كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم بها عشرة أيام وأتم الصلاة ثم بدا لي بعد أن أقيم بها، فما ترى لي أتم أم أقصر؟…

فقال: إن كنت دخلت المدينة وصليت بها فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتى تخرج منها، وإن كنت حين دخلتها على نيتك التمام فلم تصل فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار، إن شئت فإنوا المقام عشراً وأتم، وإن لم تنو المقام فقصر ما بينك وبين شهر، فإذا مضى لك شهر فأتم الصلاة[17]. وتقر بدلالتها: بأن الظاهر من الصحيح حصول الارتحال والمسافر في مقابل الإقامة، ومن الواضح أن هذا لا يقال لمن لم يكن قد انقطع سفره، بل يقال لخصوصه، ولذا لو لم تكن الإقامة قاطعة لما قيل أنه سافر[18].

والإنصاف عدم وضوح ذلك من الصحيح، ضرورة أن الصحيح في مقام بيان أمرين:

أولهما: أن من صلى فريضة تامة بعدما نوى الإقامة، ثم عدل عنها لم يسغ له العود للتقصير حتى ينشأ سفراً جديداً.

ثانيهما: أن من أقام عشرة أيام، كانت وظيفته التمام.

وهذا يعني أنه لا ظهور في النص على أن الإقامة قاطعة موضوعاً للسفر.

اللهم إلا أن يدعى الاستفادة من البيان العرفي في تحديد الموضوع والذي تقدم بيانه من قبل المحقق النائيني(قده)، فيثبت المطلوب، فتأمل.

ومنها: ما تمسك به بعض الأساطين(قده) وهو صحيح علي بن جعفر عن أبي الحسن(ع) قال: سألته عن الرجل يدركه شهر رمضان في السفر فيقيم الأيام في المكان، عليه صوم؟ قال: لا، حتى يجمع على مقام عشرة أيام، وإذا أجمع على مقام عشرة أيام صام وأتم الصلاة.

قال: وسألته عن الرجل يكون عليه أيام من شهر رمضان وهو مسافر، يقضي إذا أقام في المكان؟ قال: لا، حتى يجمع على مقام عشرة أيام[19]. وتقريب الاستدلال بها:

إن الظاهر من سؤال الراوي صدراً وذيلاً اعتقاد أن المراد بالمسافر ما يقابل المقيم والحاضر معاً، لا ما يقابل الحاضر فقط، ولأجل هذا سأل عن جواز الصوم في حال الإقامة أداء وقضاء.

ومقتضى مطابقة الجواب مع السؤال تستلزم أن يكون جواب الإمام(ع) الموافقة على ما ارتكز في ذهنه، وإقراره عليه إذا كانت مدة الإقامة عشرة أيام، فيثبت المطلوب، وهو كون الإقامة قاطعة موضوعاً للسفر[20].

وأورد عليه بعض الأعلام(دام ظله) بأنه لا يصلح للدليلية، وإنما يصلح للتأيـيد[21]. ولعل الوجه في ذلك، لكون الاستدلال المذكور يعتمد على المقدمة الأولى في لام بعض الأساطين(قده)، وهي كون السائل يملك ارتكازاً ذهنياً مؤداه وجود عنوانين، لا عنوانين ثلاثة، والعنوان هما: المسافر، والمقيم والحاضر، بحيث يتساوى المقيم والحاضر، فلا يعدان اثنان، فلاحظ.

ثم إن بعض الأساطين(ره) أيد كون الإقامة قاطعة موضوعاً للسفر بما دل على أن المقيم يجب عليه التمام، بقرينة مناسبة الحكم للموضوع، بحيث أن الحكم دائماً وأبداً يدور مدار وجود موضوعه، وجوداً وعدماً، ولذا إذا كان الحكم هو التمام، فذلك يعني أن الواجب عليه ذلك لا ينطبق عليه عنوان المسافر، وإلا لم يسغ له التمام، لأن المتم هو من كان حاضراً، فيثبت المطلوب[22].

وقد تبعه على ذلك بعض الأعلام(أطال الله في بقائه)[23].

هذا والحق في الجواب وبيان أن الإقامة قاطعة موضوعاً للسفر، بل لا نكون بحاجة لا إلى التمسك بعموم المنـزلة، ولا بصحيح أبي ولاد، ولا صحيح علي بن جعفر، بل لا نحتاج حتى البيان الذي ذكرناه عن المحقق النائيني(قده) واختزله بعض المعاصرين(حفظه الله)[24]، ويتم ذلك من خلال ملاحظة ما أشار له السيد البروجردي(قده) في تقرير بحثه الشريف، وحاصل ما أفاده(ره) أنه لابد من دراسة الظروف الموضوعية التي صدرت فيها نصوص قاطعية الإقامة، حتى نتمكن من معرفة مدى البيان الذي تنطوي عليه، فربما كانت بصدد بيان أصل قاطعية الإقامة، فيكون الأمر بمثابة تحديد حكم، فيكون المورد من صغريات التخصيص، أما لو كانت قاطعية الإقامة من الأمور الارتكازية المفروغ عنها عند العرف خارجاً، فلابد من تحديد المقدار الموجب للقاطعية، لأنه كانت المسألة في الخارج بين العامة مورد خلاف كبير، فلذا رجع الأصحاب للأئمة(ع) ليسألوا منهم المقدار الذي يوجب انتفاء موضوع السفر نتيجة الإقامة.

وبالجملة، فلا ريب إذن في قاطعية الإقامة، والأسئلة الواردة في نصوص قاطعيتها ليست ناظرة إلى بيان ذلك حتى يقال بكون المورد من صغريات التخصيص، بل هي ناظرة إلى أمر آخر، وهو تحديد المقدار الموجب لتحقق القاطعية.

ومن الواضح أنه وفقاً لهذا البيان لن تكون تلك النصوص في مقام البيان من هذه الجهة، لأنها في مقام بيان أمر آخر، وسنعود من جديد للمتفاهم العرفي، فلاحظ.

قال(قده): إن محط النظر في أخبار الإقامة ونحوها هو بيان انقطاع السفر موضوعاً، بحيث يصير الطرفان سفرين ولو تعبداً، فلا يشمل الأخبار الواردة في تحديد المسافة لهذه المسافة التي تخلل في أثنائها أحد القواطع. والإطلاع على ذلك يتوقف على التتبع العميق والاحاطة بالظروف التي صدر فيها أخبار المسافة وروايات باب الإقامة ونحوها، والإطلاع على الأمور المركوزة في أذهان أصحاب الأئمة(ع) من جهة أنسهم بفتاوى العامة وما كان مبحوثاً عنه بينهم.

وقد عرفت منا مراراً أن الإطلاع على مثل هذه الأمور له دخل تام في استنباط الأحكام الشرعية من الروايات الصادرة عنهم(ع) الملقاة إلى أصحابهم.

وتفصيل المقام: هو أن حكم القصر في الآية الشريفة والروايات قد علق على السفر والضرب في الأرض، فمحط النظر فيها بيان حكم من يسير فيها، ولكن لما كان المتعارف في الأسفار تخلل وقوفات يسيرة في أثنائها لتجديد القوى والاستراحة صارت هذه الوقوفات المتخللة بين كل سفر بمنـزلة الجزء له عرفاً، وكان الحكم الثابت للسفر ثابتاً لها أيضاً بنظر العرف.

هذا إذا كانت مدة تلك الوقوفات قصيرة، وكان المقصود بها تجديد القوى لإدامة السير فقط، وأما إذا طالت مدة الوقوف، فلا يتبادر إلى أذهان العرف كونه جزءاً من السفر، وكون حكم السفر مترتباً عليه، بحيث لو لم يكن أخبارا لإقامة أيضاً لم يفهم المخاطبون بآية القصر ثبوت حكم القصر بالنسبة إلى هذا القسم من الوقوفات الطويلة، وكان ثبوته بالنسبة إليها مستبعداً عندهم، لعدم عدّهم إياها من أجزاء السفر.

ولأجل هذا المعنى تشتت آراء أهل الرأي في تلك الأعصار في بيان حدّ الوقوف الذي ينصرف عنه إطلاق آية القصر ورواياته، وحدّه كل منهم بحد مخصوص بحسب مناسبة خاصة، فعن عائشة أنها قالت بثبوت القصر للمسافر ما لم يحطّ رحله عن مركبه، وحدّه الشافعي بأربعة أيام سوى يومي الورود والخروج، وأبو حنيفة بخمسة عشر يوماً.

وبالجملة كل منهم بعد استبعاد بقاء حكم السفر عند طول مدة الوقوف اتخذ في بيان حدّه مشرباً خاصاً، وكان هذا المقدار من الوقوف بنظرهم قاطعاً لسفر وموجباً لزوال اسمه، بحيث يتوقف ثبوت القصر على إنشاء سفر جديد حتى يصير به ثانياً مصداقاً للآية الشريفة.

فهذا المعنى كان مركوزاً في أذهان الفقهاء المعاصرين لأئمتنا(ع)، وكان أصحابنا الإمامية أيضاً ينسبق إلى أذهانهم هذا المعنى ولا سيما بعد اختلاطهم بهؤلاء الفقهاء، ولكنهم لما كانوا متعبدين بفتاوى الأئمة(ع) راجعوهم وسألوهم عن حدّ الإقامة التي شأنها قطع موضوع السفر بعد كون أصل هذا المعنى مركوزاً في أذهانهم، ففصل الأئمة(ع) بين صورة العزم وعدمه، من جهة أن العزم يوجب فراغ خاطر المسافر وانصرافه عن الضرب في الأرض بالكلية، بحيث ينشأ بعد مضي مدة إقامته سفراً جديداً.

وبهذا البيان ربما يقطع الفقيه المطلع على ارتكازات المخاطبين، وعلى الظروف التي صدرت فيها الأخبار أن مقصود الأئمة(ع) كان بيان حدّ الإقامة التي توجب قطع السفر السابق وزوال حكمه بالكلية.

وعلى هذا يصير كل من طرفي الإقامة موضوعاً مستقلاً لأخبار المسافة، ولا ينضم اللاحق إلى السابق[25].

هذا وفي بيانه(ره) شيء مما جاء في كلمات المحقق النائيني(قده) الذي سبق وذكرناه، وهو التمسك بأن هناك تباني عرفي خارجي على قاطعية الاقامة، وإنما الاختلاف كان منصباً على المقدار الموجب لتحقق الإقامة القاطعة، وأنه ليس مطلق الإقامة.

نعم جعل المحقق النائيني(ره) أن تمام الموضوع في التحديد هو النظر العرفي الذي شخصه الشارع المقدس، بينما جعله الفقيه البروجردي(ره) أنه تعريض بما جاء في كلمات العامة.

وعلى أي حال، لعل الشاهد لما أفاده العلمان، وهو لما أفاده الفقيه البروجردي(قده) أكثر وضوح، ما جاء في صحيح محمد بن مسلم قال: سألت عن المسافر يقدم الأرض؟ فقال: إن حدثته نفسه أن يقيم عشراً فليتم[26].

وقد اختزل هذا البيان أيضاً بعض المعاصرين(دام مجده)، فلاحظ[27].

والإنصاف، تمامية هذا البيان، وخلوه عن الإشكال والخدشة، وبه يتم المدعى، والله العالم.

ثم لا يخفى أن انقطاع السفر بالإقامة يكون على وجهين كما ذكر ذلك السيد اليزدي(ره) في العروة:

الأول: أن يقصد الإقامة في ابتداء نية السفر. فيكون هذا الشرط شرطاً لأصل شرعية السفر.

الثاني: أن يعرض له قصد الإقامة في الأثناء بعد ما كان قاصداً للمسافة ابتداءاً، فيكون الشرط شرطاً لاستمراره.

——————————————————————————–

[1] الوسائل ب15 من صلاة المسافر ح13.

[2] الوسائل ب18 من صلاة المسافر ح1.

[3] الوسائل ب15 من صلاة المسافر ح9.

[4] الوسائل ب15 من صلاة المسافر ح16.

[5] الوسائل ب15 من صلاة المسافر ح12.

[6] كتاب الصلاة ج 3 ص 276.

[7] كتاب الصلاة ج 3 ص 276.

[8] مستمسك العروة ج 8 ص 42.

[9] كتاب الصلاة ج 3 ص 275.

[10] المصدر السابق.

[11] الوسائل ب3 من صلاة المسافر ح3.

[12] مستمسك العروة ج 8 ص 42.

[13] المصدر السابق.

[14] فقه الصادق ج 6 ص 380.

[15] مستند العروة ج 8 ص 96.

[16] مستند العروة ج 8 ص 97.

[17] وسائل الشيعة ب 18 من أبواب صلاة المسافر ح 1.

[18] فقه الصادق ج 6 ص 380.

[19] وسائل الشيعة ب 15 من أبواب صلاة المسافر ح 1.

[20] مستمسك العروة ج 8 ص 42.

[21] فقه الصادق ج 6 ص 381.

[22] مستمسك العروة ج 8 ص 43.

[23] فقه الصادق ج 6 ص 381.

[24] سند العروة – صلاة المسافر- ص 102.

[25] البدر الزاهر ص 245-247.

[26] الوسائل ب15 من صلاة المسافر ح16.

[27] سند العروة-صلاة المسافر- ص 102.