26 أبريل,2024

حجية الشياع

اطبع المقالة اطبع المقالة

[size=6][/size]
[font=arial]الشياع والإستفاضة لفظان مترادفان كما نص على ذلك صاحب الجواهر (Q). وقد عرفه في المسالك بأنه: إخبار جماعة لا يجمعهم داعية التواطئ، عادة يحصل بقولهم العلم بمضمون خبره.

وعرفه الشيخ الأعظم (ره) بأنه: شياع الإخبار عن طائفة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب.[/font]

والمقصود منه شيوع الحكم والتصديق بالنسبة الحكمية من قبل المخبرين كتصديقهم بأن فلاناً هاشمي وأن المكان الفلاني وقف للمسجد وهكذا…

هذا وقد أورد بعض الأساطين(قده) على المصنف(ره) بأنه كان الأولى الاقتصار على ذكر الشياع بلا قيد، ليكون معطوفاً على الاختبار[1].

ولا يخفى أن حاصل كلامه(قده) جعل الشياع قسيماً للعلم في إثبات المسافة، بمعنى أن هناك طريقين لإثبات المسافة، أحدهما الطريق القطعي، والآخر الطريق الظني، ومن الطريق الظني الشياع مطلقاً، سواء كان مفيداً للعلم، أم كان مفيداً للظن.

ولا يخفى عدم تمامية ما أفاده(ره)، توضيح ذلك:

إن الشياع على قسمين:

الأول: الشياع المفيد للعلم والإطمينان.

الثاني: الشياع المفيد للظن.

أما القسم الأول:

فلا خلاف في اعتباره وكونه حجة لإفادته العلم والإطمينان اللذان هما حجة عقلائية. وقد يستدل له أيضاً: بموثقة سماعة عن أبي عبدالله B سأله عن اليوم في شهر رمضان يخـتلف فيه قال: إذا أجتمع أهل مصر على صيامه للرؤية فاقضه إذا كان المصر خمسمائة انسان[2].

على أن يكون ذكر الخمسمائة في المقام من باب المثال، إذ لا خصوصية لهذا العدد، بل الميزان هو الشياع، فعندها يكون المناط هو تحصيل الإطمينان ولعل ذكر العدد لذلك فتأمل.

والإنصاف: أن الاستدلال بها في بابها غير بعيد. بل يمكن التعدي منها للدلالة على حجية مطلق الشياع بإلغاء خصوصية المورد إلا أنه لا قرينة واضحة على ذلك، بل لا يـبعد أن القرينة على خلافه، لما ذكرناه غير مرة من أن تصنيف الرواية في باب معين تحت عنوان كذلك قرينة عقلائية على اختصاصها بذلك الباب فلا يمانع العقلاء في حذف القرينة الدالة على الاختصاص اعتماداً على التصنيف وقد أشرنا لذلك في القواعد الفقهية في مشروعية عبادة الصبي فراجع.

وأما القسم الثاني: فقد يستدل لحجيته بوجوه:

1-ما عن المسالك من ادعاء الانسداد الصغير. بتقريب:

إن إهمال التكليف غير ممكن، بل هنا علم إجمالي به. ولا يمكن إحراز الموضوع بالعلم أو البينة، كما أن الاحتياط متعسر أو أنه يستوجب اختلال النظام فدعت الحاجة إلى إحرازه بالاستفاضة.

وبعبارة أعمق: لا ريب في أن لنا علماً إجمالياً بتوجه جملة من التكاليف لنا، نحن مطالبون بإيجادها لكي تحرز فراغة الذمة، وطق الإحراز منحصرة في أمور بعضها متعذر في المقام، أو لعدم تحققه في البين، كالعلم والبينة الشرعية، ولو قيل باللجوء للاحتياط، قلنا بأن العمد إليه يوقع المكلفين في عسر وحرج شديدين، بل ربما أوجب اللجوء له اختلال النظام، كما في صورة تكرار العمل، وعندها تصل النوبة إلى العمل بما يقتضيه الظن المطلق بعد تمامية مقدمات الانسداد، فيثبت المطلوب.

وفيه: إنما يتم هذا الاستدلال بعد تمامية مقدمات الانسداد حكومة أو كشفاً. إلا أن الكلام في تحققها بأجمعها إذ على فرض تعذر العلم الجزمي فالوثوق مما يمكن تحققه غالباً وهو علم عادي يعتمد عليه العقلاء في أمورهم.

وبعبارة أخرى، إن الاستدلال المذكور مبني على مقدمتين، إحداهما تمامية مقدمات الانسداد، وهذا يعني أنه متى هدم هذه المقدمة كفى ذلك لهدم الدليل، ومن الواضح أن هذه المقدمة تحققها يتوقف على عدم وجود موجب آخر لتحصيل الموضوع، ومتى كان ذلك متحققاً أوجب عدم تماميتها(مقدمات الانسداد) وعدم تحققها، فينـتفي الدليل حينئذٍ.

2-ما جاء فيه أيضاً ومحصله: إن الظن الحاصل من الشياع أقوى من الظن الحاصل من البينة العادلة.

وبعبارة أخرى: لقد تعبدنا الشارع بحجة البينة، مع أنها ظن، وكأن منشأ القول بحجيتها مقدار ما يفيده الظن، ومن الواضح أن الشياع وإن كان ظناً إلا أن الناجم عنه أقوى من الظن الناجم عن البينة، وهذا يثبت حجيته بطريق أولى، لأنه لما كان الظن الأضعف حجة، فلابد أن يكون الظن الأقوى حجة أيضاً.

وفيه: أولاً:لم يثبت أن الملاك في حجية البينة هو إفادتها للظن بل لعل الثابت خلافه. ولا أقل من أن ملاك الحجية غير معلوم.

وبعبارة أخرى، إنما يتم الاستدلال المذكور لو أحرزنا أن منشأ حجية البينة هو خصوص الظن الحاصل منها، لا أنها حجة تعبدية، أو حجة عقلائية. ومن الواضح، أن منشأ حجيتها ليس هو الظن، بل لا يبعد القول بأن حجيتها حجية شرعية تعبدية، ولا أقل من أننا لا نحرز ملاك الحجية فيها، وبالتالي لا يمكننا القول بحجية الشياع من هذا الطريق.

ثانياً: بعد التسليم بمدخلية الظن في حجية البينة، إلا أننا نقول، بأن الظن فيها مأخوذ على نحو الحكمة الموضحة لمنشأ الجعل، وليس بنحو العلة، لكي يدور الأمر مدارها وجوداً وعدماً، فلاحظ.

وبالجملة، ما أفاده(قده) أشبه ما يكون بالقياس المحرم.

3-السيرة المستمرة في جميع الأزمنة على إثبات الأنساب ونحوها بالشياع والاستفاضة.

وفيه: إن عمل العقلاء منشأه حصول الوثوق والإطمينان، لا الشياع نفسه.

وبعبارة أخرى إن الحجية في عملهم للوثوق والإطمينان لا للشياع.

4-مرسلة يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أيحل للقاضي أن يقضي بقول البينة إذا لم يعرفهم من غير مسألة؟…قال: فقال: خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا بها ظاهر الحكم: الولايات والتناكح والمواريث والذبائح والشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه[3]. وتقريب الاستدلال بها أن يقال: إن المراد من قوله: ظاهر الحكم، يعني الحالة الشائعة والمحكوم بها عند الناس، أي ما يكون مورداً لترتيب الأثر عندهم، بحيث يقررون ثبوت نسب شخص أو ثبوت ملكية شخص وما شابه.

هذا وقد يتمسك لدلالتها على المدعى من خلال نسخة الاستبصار والتهذيب، إذ جاء فيهما: أن يأخذوا بظاهر الحال، على أن يكون المراد من ظاهر الحال ما يكون معروفاً وشائعاً بين أفراد المجتمع.

هذا وقد يناقش في الدليل المذكور بكونه خبراً مرسلاً، وهذا يمنع من صلاحيته للدليلة.

وقد يعالج الإشكال من خلال التالي:

أولاً: إن يونس من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، وبناءاً على مقالة المشهور، يحكم بصحة السند.

ولا يخفى أن الوجه المذكور قياس منطقي من الشكل الألو، وهو يعتمد على تمامية كبراه، إذ مع رفضها، والبناء على عدم مقبولتها، لا ريب في انهدامه، وقد ذكرنا في محله أن الكبرى المذكور غير تامة، إذ لم ينهض مدعى المشهور، وعليه لا مجال لقبول هذا العلاج، فلاحظ.

ثانياً: التمسك بحساب الاحتمالات، بحيث يقرر أن المذكور في المقام هو بعض رجاله، وهذا يعني أنه واحد من مشائخ يونس، وعندما نلحظ مشائخ يونس نجد أنهم على قسمين، منهم الثقات، ومنهم الضعفاء، وعند المقارنة نجد أن النسبة الاحتمالية لروايته عن الثقات، أعلى من النسبة الاحتمالية لروايته عن الضعفاء، وبالتالي لا يعتني العقلاء بالنسبة الاحتمالية في جانب روايته عن الضعفاء، مما يوجب حصول نحو اطمئنان بكون الرواية مروية عن أحد المشائخ الثقات، وبالتالي يطمئن بصدورها، فلاحظ.

والإنصاف، قوة هذا الوجه، وقد ذكرناه غير مرة في بحوث سابقة، وبنينا عليه، وبه يعالج الإشكال من هذه الناحية.

وقد أجيب عن الاستدلال بها بأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، ضرورة أنها واردة في السؤال عن ما يعتمد عليه القاضي في مقام الشهادة، ومن الواضح أن مقتضى المطابقة بين السؤال والجواب، يستدعي كونها جواباً عن القضاء، فيؤيد أن النسخة الصحيحة من النسخ هو ظاهر الحال، فيكون مراده(ع): بيان أن ظاهر حال المسلم بما أنه مسلم، هو العدالة، وعدم الفسق، وهو المعبر عنه في كلمات الأصحاب بحسن الظاهر، فلا تكون مربوطة بالشياع[4].

ولا يخفى ما فيه، ضرورة أنه(ع) بصدد بيان قاعدة كلية عامة، مفاده أن هناك موارد لا يحتاج فيها إلى التحري وملاحظة البينة، بل يكتفى فيها بملاحظة ظاهر الحال، فإن قلنا أن ظاهر الحال ظاهرة في الشياع، فلا ريب في تمامية دلالة النص المذكور على المدعى، ولا وجه للقول بكونه ليس في مقام البيان.

نعم لو قيل: أن ظاهر الحال، ليست ظاهرة في الشياع، بل كما فسره المستشكل المذكور من أنها ناظرة إلى حال الشخص، وأنه على العدالة والاستقامة، فلا ريب في كونها أجنبية عن المدعى، لا أنها ليست في مقام البيان.

والإنصاف، أن القول بكونها ناظرة لبيان ظاهر الحال، لا الإشارة إلى الشياع غير بعيد، والقول بظهورها في الشياع بحاجة إلى مؤونة زائدة، فلاحظ.

وأورد عليها أيضاً، أنها مختلفة المتن[5]. وتعميق الإشكال المذكور، لا ريب في أن اختلاف المتن للخبر المراد الاستدلال به سبب مانع من حصول الوثوق بصدوره، لأنه وإن كان منقولاً بالمعنى وقد أجيز النقل به، إلا أن عدم إحراز كلام المعصوم(ع) جزماً يمنع من تولد الوثوق والاطمئنان بالخبر، مما يسلب منه الحجية، ولا أقل من كونه شاهداً سلبياً على عدم الوثوق، لأن من المحتمل جداً أن يكون الخبر قد حصل له شيء من التصحيح، وبالتالي لا يطمئن بكونه ما حكى عن المعصوم(ع).

5-قصة إسماعيل بن الإمام الصادق(ع)، عن حريز قال: كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله(ع) دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبه إن فلاناً يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينار، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن، فقال أبو عبد الله(ع): يا بني أما بلغك أنه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس، فقال: يا بني لا تفعل.

فعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره فاستهلكها ولم يأته بشيء منها، فخرج إسماعيل وقضي أن أبا عبد الله(ع) حج وحج إسماعيل تلك السنة فجعل يطوف بالبيت ويقول: اللهم آجرني واخلف عليّ، فلحقه أبو عبد الله(ع) فهمزه بيده من خلفه وقال له: يا بني فلا والله ما لك على الله هذا، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنـته، فقال إسماعيل: يا أبه، إني لم أره يشرب الخمر، إنما سمعت الناس يقولون، فقال: يا بني إن الله عز وجل يقول في كتابه:- (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) يقول: يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم ولا تأتمن شارب الخمر، إن الله عز وجل يقول في كتابه:- ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) فأي سفيه أسفه من شارب الخمر لا يزوج إذا خطب، ولا يشفع إذا شفع، ولا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره ولا يخلف عليه[6].

ودلالتها على المدعى واضحة، ضرورة أن مفادها أن شياع أمر بين الناس، وشهادة المؤمنين به، مدعاة إلى ترتيب الأثر عليه، ولذا لما شهدوا المؤمنون بكون الشخص المعطى ليس أهلاً للإئتمنان، لم يكن لإسماعيل الحق في الدعوى، وذلك لكون الشياع مدعاة لترتيب الأثر، وإلا لم يكن وجه لاعتراض أبي عبد الله(ع) عليه.

وبالجملة، يستفاد من الصحيحة أن الشياع أمارة على الأمر الذي قد شاع عليه، وبالتالي يترتب الأثر عندها.

اللهم إلا أن يدعى أن ترتيب الآثار الخارجية مرده إلى شهادة المؤمنين، وهي أمر آخر غير الشياع، مما يعني كون الرواية محل البحث أجنبية عن المدعى، فلاحظ.

على أننا في الرواية تأمل سندي، إذ أن راويها هو حريز، وقد عرفت منا في بحوث سابقة أنه لا يروي عن أبي عبد الله(ع) من دون واسطة، مما يعني وجود إرسال فيها، فتسقط عن الاعتبار.

هذا وقد حمل المحقق النراقي(قده) الرواية محل البحث على البـينة، لا على الشياع، حيث ذكر أن المراد من الخبر: أن كل مؤمن شهد عندك فصدقه، خرج المؤمن الواحد بالدليل، كما يأتي فيـبقى الباقي.

مع أن إرادة العموم الجمعي هنا منتفية قطعاً، لعدم إمكان شهادة جميع المؤمنين عنده من بدو الإيمان إلى يوم القيامة، بل ولا جميع مؤمني عصر، بل ولا نصفهم ولا ثلثهم، بل ولا عشرهم ولا واحد من ألف منهم.

فالمراد: إما الاستغراق الأفرادي بالمعنى الذي ذكرناه، أو مطلق الجمع الشامل للثلاثة فما فوقها، أو جميع أفراد الجموع الشاملة للثلاثة، المتعدي حكمه إلى الاثنين أيضاً بالإجماع المركب القطعي[7].

ومن خلال ما ذكرناه يتضح منشأ ما جاء في عبارة الماتن(قده)، وأنه لا يرد عليه ما جاء في كلام بعض الأساطين(رض)، والله العالم.

اللهم إلا أن يكون نظر بعض الأساطين(قده) البناء على أن المستفاد من أكثر اللكمات كون الشياع حجة بنفسه، كما هو الظاهر من صاحب الجواهر(قده)، فلاحظ كلامه في باب القضاء، وكذا في باب الشهادات.

إلا أنك قد عرفت فيما تقدم أن البناء على القبول بحجته دونما مدخلية لإفادته العلم، أو الوثوق، مما لا دليل عليه، ضرورة أن ما ذكر للبناء على حجيته بقول مطلق، قد عرفت حاله، فلاحظ.

——————————————————————————–

[1] مستمسك العروة ج 8 ص 18.

[2] الوسائل ب12 من أحكام شهر رمضان ح7.

[3] الوسائل ب 22 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

[4] كتاب الزكاة ج 3 ص 403.

[5] المصدر السابق.

[6] الوسائل ب 6 من أبواب الوديعة ح 1.

[7] عوائد الأيام ص 813 في أصالة حجية شهادة العدلين.