29 مارس,2024

فقه النـذر(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

من المسائل التي يكثر الابتلاء بها في الأوساط الدينية مسألة النذر، ذلك لأنه واحد من الوسائل التي يفزع من خلالها المؤمنون متقربين لله سبحانه وتعالى، وسائلين منه قضاء حوائجهم، وتلبية طلباتهم، مضافاً لشكرهم إياه على توفيقهم لما يحبه لهم ويرضاه، والحديث عنه في طي مطالب:

تعريف النـذر:

النـذر لغة: الوعد بخير أو شر، سواء كان مع الشرط، أم كان بدونه، والأصل فيه أنه يدل على التخويف، ومنه الإنذار، أي إخبارٌ فيه تخويف، والنـذير هو المخبر الذي يخبر بالخبر المخيف.

وأما في الاصطلاح، فيعرف بأنه: صيغة يلتـزم فيها الناذر بترك شيء، أو فعل شيء، لله سبحانه وتعالى.

ومقتضى تقيـيد التعريف المذكور للنذر بكلمة(صيغة) يعني أنه لا ينعقد بمجرد النية التي تكون مجردة عن اللفظ. ويستدل على ذلك بأمرين:

الأول: قاعدة أن الالتـزامات لا أثر لها إذا لم يكن لها مبرز خارجي.

الثاني: موثقة الكناني عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: ليس النذر بشيء حتى يسمي الله صياماً أو صدقة أو هدياً أو حجاً[1]. وكذلك قوله(ع): إذا لم يقل لله عليّ فليس بشيء[2].

صيغة النذر وما يعتبر فيها:

س: طبقاً لما تقدم من تعريف للنذر، وأنه يعتبر فيه أن يكون مشتملاً على الصيغة، فهل يلزم أن تكون الصيغة محددة وخاصة، بأن تكون مشتملة على لفظ خاص، فلو لم يأتِ بذلك اللفظ لم ينعقد النذر؟
ج: إننا لا نعتبر في صيغة النذر أن تكون مشتملة على لفظٍ خاص بحيث يدور وجود النذر مدار وجوده، فلو لم يكن موجوداً حكمنا بعدم تحقق النذر، وإنما نعتبر أن تكون الصيغة المستخدمة في النذر مشتملة على أمرين:

الأول: أن يجعل الناذر العمل على نفسه، فلا يجعله على غيره، فلو نذر الزوج نذراً على زوجته بأن جعل عليها صيام أسبوع مثلاً، أو نذر الولد نذراً على أبيه، فألزمه بالصدقة سنة كاملة، لم يقع، وكان لغوياً، فلا تلزم الزوجة بالوفاء بالنذر، كما أن الوالد لا يكون ملزماً بالوفاء به، كما أن الناذر وهو الزوج والولد في المثالين السابقين لا يكونا ملزمين أيضاً.

س: لو نذر الأب أو الأم تزويج ابنتهما من هاشمي، أو طالب علم مثلاً، فهل يكون نذرهما ملزماً، ويجب الوفاء به؟
ج: إذا نذر أحد الأبوين تزويج ابنتهما من شخص معين، كهاشمي، أو طالب علم، في أوان زواجها، فليس لذلك النذر أثر بالنسبة إليها، وعدّ كأنه لم يكن أصلاً.

س: إذا نذرت الزوجة أن تسمى ولدها اسماً محدداً، وبعدما رزقت ولداً أرادت تسميته بذلك، فهل يكون نذرها ملزماً لزوجها؟
ج: لما كان حق تسمية الولد للأب، وليس للأم في ذلك شيء، فلا يكون نذرها ملزماً لغيرها، وبالتالي لا يكون نذرها شيئاً، فلا يلزم الأب به.

الثاني: أن يكون الالتـزام الصادر من الناذر لله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أن الصيغة الموقع بها النذر لو كانت خالية من الالتـزام لله سبحانه كان النذر لغوياً، مثلاً لو قال هكذا: نذر علي أن أتصدق طيلة شهر رجب الأصب، كان النذر لغوياً، ولا يُلزمه بشيء، ولا يجب عليه الوفاء به.

س: لو صدر النذر من المكلف لواحدٍ من الأنبياء، أو لأحد الأوصياء(ع)، بأن قال: لك علي يا رسول الله أن أصلي ركعتين شكراً لله تعالى إذا واظبت على صلاة الصبح في وقتها. أو قالت المرأة: لكِ علي يا فاطمة الزهراء(ع) أن أصوم كل اثنين وخميس من كل شهر، إذا تركت الحضور في الأعراس المشتملة على الغناء والرقص، فهل يحكم بانعقاده؟
ج: لما كان هذا النذر الصادر من الناذر أو الناذرة غير مشتمل على التـزام لله سبحانه وتعالى، فإنه لا يكون منعقداً، بمعنى يكون لغوياً، فلا يلزمه الوفاء به.
والحاصل مما تقدم يتضح أنه يعتبر في الصيغة التي ينعقد النذر من خلالها أن تكون مشتملة على هذين الأمرين، ويكفي أن يقول الناذر عن نذره: لله علي  صلاة ركعتين إذا تركت الاستماع إلى الغناء والموسيقى، أو تقول الفتاة: لله علي التصدق بمائة ريال، إذا نجحت في الامتحان.

عدم اعتبار اللغة العربية في صيغة النذر:

س: هل يعتبر في الصيغة التي يؤدى بها النذر أن تكون باللغة العربية، أم يكفي الإتيان بها بأي لغة كانت، كالفارسية، والإنجليزية، والفرنسية؟
ج: لا يعتبر في صيغة النذر أن تكون باللغة العربية، بل يمكن للناذر أن يأتي بها بأي لغة كانت حتى وإن كان يحسن اللغة العربية، كما أنه لا يعتبر فيها أن تكون باللغة الفصحى، بل يجوز له الإتيان بها باللهجة العامية.

س: طبقاً لما تقدم في بيان ما يحقق صيغة النذر، فلو أن الناذر نذر بهذه الطريقة: لله علي نذر، بمعنى أنه جمع بين كلمة (لله)، وكلمة(نذر)، كما هو المعروف والمتداول عند عامة الناس، فهل يقع هذا النذر، ويلزم الوفاء به، أم لا؟
ج: إذا أوقع الناذر النذر بالصورة المذكورة، فقد أختلف أعلامنا في تحقق الانعقاد له من عدمه، فقال جماعة منهم بأنه ينعقد النذر ولو كان بهذه الصيغة، وبالتالي يلزم الوفاء به. بينما قال جماعة آخرون بأن البناء على تحقق انعقاد النذر بهذه الطريقة محل إشكال، فلا ينبغي ترك مراعاة الاحتياط.

ومعنى ما ذكر من لزوم مراعاة مقتضى الاحتياط، يقتضي أن يلحظ النذر، هل أنه في جانب الفعل، أم أنه في جانب الترك، فيراعى حينئذٍ، بيان ذلك:

إذا نذر بالصيغة المذكورة على أن يفعل أمراً، فمقتضى مراعاة الاحتياط تستلزم أن يأتي بالمنذور به، ولو كان المنذور تركاً، فمقتضى مراعاة الاحتياط تستلزم ترك المنذور، مثلاً: لو قال: لله علي نذر أن أتصدق بمائة ريال إذا داومت على صلاة الجماعة، وحصلت منه المداومة على صلاة الجماعة، ففي مثل هذه الحالة مقتضى مراعاة الاحتياط أن يلتـزم بدفع الصدقة، ولو قالت المرأة: لله علي نذر إذا تركت الحضور للأعراس المشتملة على الغناء والموسيقى والرقص، لأتصدقن بمائة ريال، ووفقها الله سبحانه لترك الحضور في تلك المجالس، فإنه يلزمه دفع الصدقة، فلاحظ.

نعم هل أن الإخلال بمثل هذا النذر يستوجب الكفارة، لصدق عنوان الحنث عليه، أم لا؟
الظاهر أنه لا يصدق عليه عنوان الحنث إذا قلنا بالاحتياط الوجوبي، لأن الاحتياط حكم عقلي، نعم بناءً على من قال بتحقق الانعقاد، فلا ريب أن المخالفة تستوجب استحقاق المخالف للكفارة، لتحقق الحنث منه، فتدبر.

وعلى أي حال، لو أردنا أن نتعرف سبب ومنشأ عدم انعقاد النذر عندهم فإنه يرجع إلى أن الناذر قد جعل النذر في ذمته، ولم يجعل الفعل. مضافاً إلى أن النصوص التي تضمنت بيان صيغة النذر لم تتضمن هكذا عبارة. إلا أنه يحتمل أيضاً أن مثل هكذا تعبير وإن لم يكن وارداً في النصوص إلا أنه يساوقه عرفاً ويؤدي نفس معناه، فلا معنى للقول بعدم الانعقاد به، وبسبب التردد بين الأمرين، أحتاط الفقهاء في عدم انعقاده، كما ذكرنا.
 
س: هل يعتبر في انعقاد النذر أن تكون الصيغة مشتملة على لفظ الجلالة، فيشترط فيه أن يكون بهذه الصيغة: لله علي، فلو لم يشتمل النذر عليها، يحكم بعدم انعقاده، وبالتالي لا يجب الوفاء به؟
ج: لا يشترط في انعقاد النذر أن يكون مشتملاً على لفظ الجلالة، بل يصح وينعقد بكل ما دل عليه من الأسماء والصفات الخاصة به، أو المشتركة ما دام قاصداً بها الباري سبحانه وتعالى. ويمكن أن يستدل لذلك بقوله تعالى:- (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم أنسياً)[3].

[1] وسائل الشيعة ب 1 من أبواب النذر ح 2.
[2] المصدر السابق ح 6.
[3] سورة مريم الآية رقم 26.