29 مارس,2024

المنبر بين المدة والمادة

اطبع المقالة اطبع المقالة

المنبر بين المدة والمادة

 

عاش المؤمنون قبل أيام ذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع) والثلة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه(ع) في نهضته المباركة. وقد وفق المؤمنون ولله الحمد من محبي أهل البيت(ع) إلى إحياء هذه الشعيرة الإلهية رغبة منهم في إحراز رضا الله سبحانه وتعالى من خلال تعظيم شعائره، ومواساة لرسول الإنسانية محمد(ص)، وأهل بيته الطاهرين(ع).

وغالباً ما يفرز إحياء هذه الشعيرة وجهات نظر متفاوتة بين أفراد الشريحة المؤمنة حول مما تضمنه الموسم العاشورائي لهذا العام، وعادة ما يتركز ذلك حول محورين أساسين:

الأول: المادة التي تم عرضها خلال هذه المناسبة، ونعني بذلك الموضوعات المنبرية التي تم تقديمها من الخطباء وفقهم الله تعالى.

الثاني: المدة الزمنية المستغرقة في عرض تلك المادة.

ولا يذهب عليك أن الحديث حول هذين الأمرين ناشيء من البناء على الرؤية القائلة بأن المنبر الحسيني يشكل الرافد الأساس في بناء الثقافة لأفراد المجتمع، ما يستوجب استغلال الموسم العاشورائي في تحصيل ذلك، مع المحافظة على البعد العاطفي الذي تقوم عليه القضية الحسينية المباركة، وعدم رفع اليد عنها لضروريتها.

وفي المقابل هناك الرؤية الأخرى القائلة بأنه ينبغي الاقتصار خلال موسم عاشوراء على خصوص العنصر العاطفي الذي يتمثل في البكاء، ولا ينبغي التعرض فيه لأي شيء آخر. ويكون الحديث عن الجوانب الأخرى في بقية أيام العام.

 

المنبر منبع ثقافي مهم:

لا ريب في تعدد المصادر الثقافية التي يمكن للإنسان من خلالها بناء نفسه من الناحية الثقافية بحيث يعدّ شخصاً مثقفاً، فهناك الكتاب، والأسرة، والمنابر المسجدية، وغير ذلك من القنوات المعرفية التي يمكن الاستفادة منها في هذا الجانب.

ومن ضمن تلك المصادر المنبر الحسيني، فإنه أحد أهم المصادر الثقافية في رفد الإنسان، بل ربما يمكن اعتباره أبرزها وأهمها. ذلك لأن الغالب من أبناء المجتمع لا يعمد إلى القراءة، كما أن القليل من الأسر التي تعمد إلى اعطاء جرعات ثقافية لأبنائها، وليس حضور الناس في المساجد بالمستوى المطلوب، فضلاً عن أن يستفاد من منابرها.

وهذا بخلاف المنبر الحسيني فإنه يشكل حديقة غناء يقصدها جميع أبناء المجتمع على اختلاف فئاتهم السنية، واختلاف مستوياتهم التعليمية، وتفاوت المستوى الفكري عندهم.

من هنا نجد أن هناك مسؤولية مضاعفة على المنبر الحسيني، خصوصاً وقد عرفنا أنه الرافد الرئيسي، أو الأبرز في الوسط الشيعي.

وقد ساعد على ذلك كون المنبر مدرسة سيارة تحوي جميع المجالات التي يحتاج إليها الفرد العادي، بل المثقف لما عرفت من أنه بمثابة الحديقة الغناء التي تحوي بين جنباتها أشجاراً ثمارها دروس عقدية وفقهية وفكرية وأخلاقية وتربوية واجتماعية وغير ذلك.

ثم إن هذا كله صار داعياً إلى ترقب المجتمع إياه في مثل هذا الموسم كي ما يجني من تلك الحديقة الغناء ثمارها، لأن المجتمع يعتبر هذا الوقت وهو موسم عاشوراء الحسين(ع) وقت الحصاد، فكما أن الفلاح يترقب ذلك الوقت بشوق ولهفة، لأنه ثمرة جهده ونتيجة تعبه، فإن أبناء المجتمع أيضاً يترقبون موسم عاشوراٍء، لأنه غذائهم الفكري والروحي ونميرهم الثقافي.

ومن الطبيعي أن يكون هذا الترقب والانتظار من أبناء المجتمع سبباً لإلقاء مسؤولية كبرى على خطباء المنبر من حيث العناية بالمادة المنبرية المقدمة والمطروحة من قبلهم، بحيث يلزم أن تكون منسجمة مع ما يطلبه المستمع وفي مستوى طموحه ورغبته، فلا تكون مادة ضعيفة غير منقحة ومحققة، فضلاً عن أن تكون مادة ركيكة متهالكة.

 

ومن الواضح أن هذا يستدعي أن يكون للمستمع دور في ما يلقى، وتقيـيم لما يطرح على المنبر، وهذا يعود لكونه أعرف بما يحتاج، فلا تكون المادة المنبرية جنبة استقلالية يقوم بانتخابها خصوص خطيب المنبر. نعم لا مانع أن يختار الخطيب ذلك من باب رؤيته الفوقية لما يحتاجه المجتمع ووقوفه على ما يلزم طرحه من أمور لتميـيزه الأهم من المهم، وهكذا.

وعلى أي حال، فإنه وفقاً لملاحظة المادة المطروحة على المنبر، يأتي دور التقيـيم والتميـيز للعطاء المنبري، ومدى فعليته وفاعليته في المجتمع في ممارسة الدور المنشود منه.

ولهذا نجد غالباً في نهاية الموسم العاشورائي من كل عام حالة من الإحباط لدى شريحة كبيرة جداً من أبناء المجتمع وذلك لعدم كون المنبر في هذا الموسم في مستوى الطموح والآمال.

وهذا يجرنا إلى سؤال، وهو: ما هي الأسباب التي أدت إلى أن يكون الوضع بهذه الكيفية، وما هو العلاج؟

 

وتحتاج الإجابة عن السؤال المذكور إلى فرز الشريحة الاجتماعية، فإن الناس على ثلاثة أصناف:

الأول: من يعمد إلى تقيـيم المادة المنبرية المطروحة من قبل الخطباء، ويعنيه هذا الأمر ويهمه، لذا نراه يولي ذلك أهمية، ويعتبر هذا الأمر من أولوياته.

الثاني: من لا يعنيه هذا الأمر من قريب أو بعيد، بل إن أقصى همه هو الحضور في المآتم والاستماع لما يلقيه الخطباء بأي نحو كان.

ولهذا لا يفرق الأمر لديه سواء حضر في بداية المجلس ليستمع للموضوع كاملاً أم كان حضوره في آخر الدقائق، فإن ذلك عنده سواء.

الثالث: من يعيش حالة من حسن الظن في كل شيء حتى في بنائه الفكري والمعرفي، لذا يرى أن كل ما يطرح على المنبر فهو حسن ونافع لو لم يكن له، فللأجيال الأخرى، وهكذا.

ولا يخفى أن هذا عائد إلى أمرين أساسين:

 

أحدهما: المستوى الثقافي للمستمع.

ثانيهما: الطموح في الرقي والتطور.

نعم قد تشكل نظرة القدسية للمنبر عائقاً من الإقدام على التقيـيم عند كثيرين فضلاً عن النقد، ذلك أنهم يخشون الإساءة للخطيب، أو التعدي على قدسية المنبر، وأصحابه، فيكونوا في مواجهة مع الإمام الحسين(ع)، وأهل البيت(ع).

ولا يبعد أن يكون لرؤية الإنسان للحياة اليومية مدخلية في الموقف المتخذ من المنبر وعطائه، فإن الإنسان الذي يعيش على أن غايته أن يؤدي ما هو المطلوب منه شرعاً، بإضافة بعض المستحبات، يكفيه مجرد التوفيق لإحياء الشعيرة المباركة بالحضور تحت المنبر، من دون ملاحظة منه لما يطرح من خلاله، لأن ذلك لا يعنيه في شيء.

 

دور المستمع في عملية التقيـيم:

هناك مسؤولية ملقاة على عاتق المستمع فلابد أن يوصل صوته للخطيب، ويعلمه بوجهة نظره في ما تم إلقاءه، لأنه ما لم تصل وجهات نظر المستمعين للخطيب لن يتغير الحال، وسوف يبقى الخطيب سائراً على نهج يعتقد أنه صائب ويؤدي الغرض المطلوب منه.

ولا تنحصر طرق الإيصال لوجهات النظر في كيفية محددة، ولا أسلوب واحد، بل الطرق مختلفة متعددة. فيمكنه أن يتواصل معه من خلال إحدى وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً، كما يمكنه أن يوصل ذلك له عبر المسؤولين القائمين على المأتم، وغير ذلك.

 

المنبر المتصل:

وقد تكون إحدى أبرز وسائل التواصل مع الخطباء أطروحة المنبر المتصل، ذلك أن أغلب المنابر الموجودة عندنا يمكن تسميتها بالمنابر المنفصلة، لأنها تقوم على رؤية واحدة أحادية تتمثل في الخطيب، فإنه المسؤول عن إعداد الموضوعات وهو المعني بتقيـيمها بعد الانتهاء من إلقائها. فإذا لم يجد الخطيب بعد الإلقاء أدنى مناقشة واستفسار، فإن ذلك يجعله يعتقد حسن ما ألقاه وجودته، وقيامه بالغرض المطلوب.

 

بينما اللازم أن يكون الموجود هو المنبر المتصل، وهو الذي يقوم على أركان ثلاثة:

1-الخطيب.

2-المستمع.

3-القائمين على المأتم.

وعلى هؤلاء تلقى مسؤولية ما يطرح على المنبر، وتقيـيمه، بحيث يكون للأركان الثلاثة دور إيجابي في عطاء المنبر ورفده للمجتمع، فالمستمع يعرض ما يحتاج إليه، وما يرغب في طرحه خلال هذا الموسم، وهذا العمل قد يصعب أو يتعذر أن يقوم به جميع شرائح المجتمع، فليقتصر على قسم منهم وشريحة ما من أفراده، تتولى القيام بذلك.

وكذا القائم على المجلس لابد من أن يكون له دور فعال في ما ينبغي عرضه خلال الموسم، وتقديم ذلك للخطيب باطلاعه عليه.

وثالث الأركان هو الخطيب، فإن دوره حينئذٍ إضفاء الصبغة العلمية والفكرية والشرعية وما شابه ذلك على الموضوعات المقترحة والمقدمة إليه، وعرضها بما يتناسب وجعلها في قالبها الخاص بها، شرعية كانت أو فكرية، أو تربوية، وهكذا.

وليس لازماً أن يكون للركنين الثاني والثالث مدخلية منذ البداية، سيما بملاحظة ما سبق وذكرناه من أن الخطيب قد يكون المعني الأول باختيار الموضوعات المناسبة للواقع الحياتي، لإحاطته بالحاجة المطلوبة. لكن لا يمنع ذلك من لزوم تدخلهما في التقيـيم بعد الانتهاء من الأداء، وتميـيز أن ما ألقي يؤدي الحاجة، وهو مورد طلب أم لا.

وحتى يؤتي هذا العمل ثمرته ويحقق غرضه، لابد من وجود جلسة مكاشفة بين الأركان الثلاثة في نهاية الموسم، وعرض ملاحظات كل واحد على الآخر، ومحاولة دراسة أسبابها، وكيفية الوصول إلى علاجها.

ومن الواضح أن مثل هكذا أمر يلقي بالمسؤولية في النهوض بالمنبر والارتقاء به على كواهل الجميع، ولا تكون المسؤولية ملقاة على عاتق فرد واحد ينوء بهذا الحمل، فقد ينجح في ذلك، وقد لا يوفق.

 

لجنة استشارية:

كما أنه من اللازم أن يكون لدى كل مأتم لجنة استشارية وظيفتها تقيـيم ما يتم طرحه على المنبر من حيث جودة المادة ودقة المعلومة، ومدى منفعته للمجتمع من عدمه، وتعطي ملاحظاتها وتوصياتها التي بدوره يقوم القائمون على المأتم بإيصالها إلى الخطيب بعد انتهاء موسم عاشوراء. وحبذا لو كان بين أعضاء اللجنة رجل دين، حتى يكون أدق وأكثر إحاطة بالمعلومات المطروحة. كما أن من مهامها أن تقترح بعض الموضوعات التي يحتاجها المجتمع كي ما يتم طرحها من خلال المنبر في الموسم.

ولا ينحصر دور هذه اللجنة فقط في ملاحظة المادة سواء المطلوب عرضها أم المعروضة، بل يدخل في صميم عملها تقيـيم الطريقة المستخدمة والأسلوب المتبع في عرض المعلومة، وتقيـيم هذا الأسلوب من حيث جودته وحسنه من عدمه.

 

استقراء رأي الجمهور:

وربما عرض البعض استخدام عنصر استقراء الرأي العام للناس من خلال عمل استبانة في نهاية الموسم تبرز رأي الجمهور وتكشف عن مدى قبوله ورضاه بما تم ألقاءه من قبل الخطيب في المنبر، ومدى ما حققه المجلس خلال هذا الموسم من عطاء، وأنه هل استفاد منه أم لا.

ولا ريب أن هذا العمل حسن في نفسه، وربما يكشف عن رأي شريحة عامة من الناس، لكنه يتوقف على أن يكون الأفراد المنتخبة أراءهم من الصنف الأول من أصناف الناس الثلاثة التي ذكرناها سابقاً، كما يلزم أن يملكوا الوعي والقدرة التي تخولهم للتقيـيم والنقد، مضافاً إلى أخذ الاستبانة بصورة جدية لا أن تكون مجرد روتين يعمد إلى تعبئته بأي نحو كان.

 

المدة الزمنية:

كما تشكل المدة الزمنية عنصر إعاقة عند كثير من المستمعين، بل ربما كانت سبباً في امتناعهم من الحضور في بعض المجالس، رغبة منهم في عدم إطالة وقت إلقاء المحاضرة والاقتصار على وقت محدد، حتى أن بعضهم يحدد المدة الزمنية بوقت لا ينبغي أن يزيد الخطيب عليه.

وعند  تحليل هذا الجانب، يمكن أن نقف على أسباب متعددة هي التي دعت إلى وجوده، أحد أبرزها العمد إلى كثرة الحضور في مجالس متعددة وهذا الأمر وإن كان شيئاً حسناً، خصوصاً عند الالتفات إلى أن هذا موسم تجارة مع الله سبحانه وتعالى ومع محمد وآله(ع)، فيحسن أن يسعى الإنسان لتحصيل أكبر قدر من الربح فيه، لكن يفوت هؤلاء أنهم يفقدون الكثير من عطاء هذا الموسم، وجني ثماره، خصوصاً مع ملاحظة ما تقدمت الإشارة إليه من كون المنبر عادة هو المصدر الأساس والرافد الأصل لكثير من أبناء المجتمع في بنيتهم الثقافية والمعرفية، وهذا يعني أن العمد إلى الإكثار من حضور المجالس يوجب خسارتهم لهذا العطاء، إما لأن الكثرة موجبة لفقدان التركيز عادة، أو لأن الكثرة تستدعي عدم قدرتهم على حضور المحاضرة المعرفية كاملة، أو لأن ذلك يوجب إرهاقاً وتعباً بالنسبة للمتلقي.

ومن هنا نجد التذمر من طول المحاضرة، وما شابه ذلك.

 

ونحن هنا لا نؤيد الامتناع عن الحضور للمجالس، وإنما ندعو لعملية التقنين، والعمد إلى التركيز في المادة المعروضة، فيمكن للمتلقي أن يجعل له مجلساً أساسياً يعتبر الرافد الأصل له في المعرفة والبناء الفكري، ويقوم بعد ذلك بتعداد الحضور والتجوال بين المجالس الحسينية المباركة، حتى لو كان حضوره فيها بنحو التبرك.

 

وما دمنا قد أشرنا لمسألة الوقت الزمني المستغرق للمحاضرة المقدمة من الخطيب على المنبر الحسيني، فإنه من اللازم أن يشار إلى أنه لا يوجد وقت محدد ومدة زمنية لها، بل إن المتحكم في ذلك بصورة أساسية هي نفس المادة التي يقوم الموضوع عليها، فلو كان موضوع المحاضرة يستدعي طولاً واستمراراً، فإنه لا يحسن بتر الموضوع وقطعه، بحجة أن هناك وقتاً زمنياً مضروباً، خصوصاً وأن ذلك قد يوجب فقدان الموضوع قيمته، بل ربما لا يتسنى لبعض الحاضرين التواجد في المحاضرة التالية ما يجعلهم لا يخرجون بفائدة مرجوة. نعم هناك بعض الموضوعات ذات قابلية للتقسيم، فيمكن إلقاءها في أكثر من محاضرة، فيحسن عندها بالخطيب العمد إلى ذلك، بل إن هناك بعض الموضوعات لا تستحق أن تعطى وقتاً زمنياً طويلاً، إذ يمكن اختزالها واختصارها في وقت زمني محدد، فلا يحسن التمديد فيها حتى تستوعب مدة زمنية أكثر من المقدر والمقرر إليها.

 

والحاصل، ينبغي أن يكون المعيار هو مادة الموضوع، وأنها التي تتحكم في المدة الزمنية المقررة لعمر المحاضرة، ولا يكون المفروض منذ البداية استغراق مدة زمنية مضروبة.