19 مارس,2024

اختلاف الفتاوى

اطبع المقالة اطبع المقالة

اختلاف الفتاوى

 

من النظريات التي بدأت تشيع في الأوساط الإسلامية وتأخذ حيزاً الفكر الإسلامي، وتلقى قبولاً أو لا أقل استفساراً وتساؤلاً في الوسط الشبابي، إمكانية القراءات المختلفة للدين، أو النص الديني.

 

تعريف النظرية:

ويـبدو أن مقصودهم من الدين في قولهم: القراءات المختلفة للدين، هو النص الديني، الأعم من القول والفعل والتقرير، وسيرة أئمة الدين، والمراد من تعدد القراءات، تعدد التفسيرات والتلقيات للنص الديني. وعليه يكون المقصود من النظرية المذكور أنه يمكن لكل أحد أن يقرأ الدين بالصورة التي يراها من منطلقاته الفكرية وخلفياته الثقافية، ويقدم تحليله للدين وفق ذلك، من دون أن يمانعه أحد في ذلك، أو يخطأه في ما صدر عنه من تفسير.

 

ولما كانت الثقافة الإسلامية خاصة، مقتبسة من النصوص الدينية، فهي تدور حول محورية النص، وللنص تأثيره الكبير فيها، فكل نظرية تطرح فهم النص، أو النص الديني، يكون لها أثرها الكبير والمباشر في الثقافة الإسلامية.

ومن الحقائق الواضحة التي لا يمكن إنكارها، وجود الاجتهادات والآراء والتفسيرات المختلفة للنصوص الدينية، كما يلاحظ في اختلاف آراء الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأمثالهم.

بل لا يبعد أن يكون الاختلاف الحاصل أحد الأسباب الموجبة لتطور العلوم، واللازمة لذلك.

وقد كان القبول بوجود الاجتهادات والتفسيرات المختلفة حتى في النصوص الدينية، وأنها حقيقة واضحة، وأصل موضوعي، سبباً لتعجب أصحاب النظرية من وجود التحسس من القبول بها، فضلاً عن أن تكون موضع رفض ونقد ومعارضة شديدة من قبل أنصار المنهج التقليدي، ومن قبل علماء الدين، والمفكرين المتدينين.

 

من أدلة النظرية:

وعلى أي حال، فقد استند القائلون بهذه النظرية لمجموعة من الأدلة لإثباتها، وقد جعلوا أحد الأدلة المستند إليها، مسألة اختلاف الفقهاء والعلماء في الأراء سواء في الفقه أم في التفسير، أم في علم الكلام وغيرها من العلوم الإسلامية.

شمولية الدين لكافة مجالات الحياة:

إن من الأمور التي يعتقدها الشيعة الإمامية أعلى الله كلمتهم وأنار برهانهم، شمولية التشريع الإلهي لكافة الجوانب الحياتية، فلا توجد قضية من القضايا أو حادثة من الحوادث إلا ولله سبحانه وتعالى فيها حكم شرعي. نعم قد يصل المكلف إلى ذلك الحكم ويوافقه في فعله، وقد لا يكون موافقاً له حال الامتثال فيخطأه، ومن هنا سموا بالمخطئة في مقابل المصوبة، إشارة إلى احتمال عدم إصابة الواقع وموافقته.

وقد كان الالتزام المذكور بشمولية الدين لكافة الجوانب الحياتية، وتغطيته لجميع نواحيها، سبباً لرفض علماء الطائفة مجموعة من النصوص التي ذكرت في بعض مصادر الجمهور الحديثية، وتكذيبها لتضمنها نسبة ما لا يقبل للرسول الأكرم محمد(ص)، وأنه لم يكن عارفاً ببعض الأمور اليومية ذات الارتبتط بالحياة، من قبيل تأبير النخل في القصة المشهورة[1]، وخلاصتها: أن أصحابه(ص) قد سألوه عن تأبير نخلهم، فقال لهم(ص): لا تأبروه، وامتثلوا قولوه، فلم يثمر النخل بسبب عدم تأبيره، وخسروا، فقال لهم(ص) بعد ذلك: أنتم أعلم بأمور دنياكم[2]. فإن مقتضى أن لكل واقعة حكماً شرعياً يلزم أن يكون تأبير النخل آخذاً لواحد من الأحكام الشرعية المعروفة، فهو إما أن يكون واجباً، أو مستحباً، أو محرماً أو مكروهاً. وقد أجابهم النبي الأكرم محمد(ص) بواحد من هذه الأحكام، وهذا لا ينسجم مع قوله(ص): أنتم أعلم بأمور دنياكم، فإنه لا يعقل أن يكون الصحابة أعلم من رسول الله(ص)، بواحد من الأحكام الشرعية.

 

وعلى أي حال، فقد استدل الأعلام على شمولية الدين لكافة الجوانب الحياتية، بدليلين:

الأول: الدليل العقلي، وقد ذكروا منه قاعدة اللطف، وقربت دلالتها على المطلوب، على أساس أنه لما كان سبحانه وتعالى عالماً بجميع المصالح والمفاسد وفي كافة المجالات، وهو الرحيم بعباده، كان من اللائق برحمته أن يشرّع للإنسان التشريع الأكمل والأفضل الشامل لكافة نواحي حياته، لعلمه سبحانه وتعالى بالأمور التي هي في صالح عبده، والمفاسد التي هي في ضرره.

 

الثاني: الدليل الشرعي، وذكروا منه أموراً نشير لإثنين منها:

أحدهما: ما دل على خاتمية الرسالة المحمدية، وأنه لا دين ولا رسالة بعد دينه(ص)، ورسالته، فإن هذا يقضي أن يكون دينه هو الدين الأكمل، وأن رسالته هي الرسالة الأشمل والأوسع، وإلا لزم أن يكون هناك دين أكمل من دينه، ورسالة أشمل من رسالته. ولا ريب في بطلان ذلك، فيثبت أن رسالته، ودينه(ص) شامل لكافة الجوانب الحياتية للإنسان.

ثانيهما: مجموعة من النصوص الخاصة، والتي تضمنت النص على الشمولية المطلقة للدين، فعن أبي بصير-في حديث- عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: وعندنا الجامعة. قلت: ما الجامعة؟ قال(ع): صحيفة فيها كل حلال حرام، وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش[3].

 

الحكم الشرعي:

وقد أوجب الالتزام بشمولية الأحكام الشرعية إلى كافة المجالات الحياتية، انقسام الحكم الشرعي إلى قسمين:

1-حكم شرعي واقعي.

2-حكم شرعي ظاهري.

وتوضيح ذلك أن يقال:

إن مقتضى وجود حكم لله سبحانه وتعالى في كل واقعة من وقائع الحياة يستلزم أن لا يخلو حال المكلف من أمرين، وهما: إما أن يكون عالماً بذلك الحكم الإلهي في الواقعة المطلوبة بنحو القطع واليقين من دون وجود شك عنده في ثبوته، كوجوب الصلاة ووجوب الصوم، ووجوب الخمس، والزكاة، والحج، وحرمة الزنا، واللواط، والغيبة، والاستماع إلى الغناء، فيلزمه الالتزام بذلك الحكم وتطبيقه والعمل على وفقه، ويسمى الحكم عندها بالحكم الواقعي.

وإما لا يمكنه الوصول إلى الحكم المجعول من قبل الله سبحانه وتعالى في تلك الواقعة، فيبقى شاكاً في الحكم المرتبط بهذه الواقعة، كما لو شك في حلية أكل السمك الذي مات في الشبكة في الماء، أو شك في جواز غيبة الصبي، أو شك في حرمة حلق اللحية، وهكذا.

ولما كان الله سبحانه وتعالى عالماً بأن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى جميع الأحكام الشرعية الواقعية، وليس من لطفه تعالى أن يترك عبده من دون أن يعلمه بالتكليف المطلوب منه في الحالات التي لا يتمكن من الوصول إلى الحكم الشرعي الواقعي، والذي يكون سبباً لبلوغه مدارج الكمال.

ولهذا فقد حدد سبحانه وتعالى للعبد وظيفة في هذه الحالة تسمى بالحكم الظاهري، يمكن للمكلف أن يمتثل الأوامر والتكاليف الإلهية، لينال مرضاة الله سبحانه وتعالى.

 

ووفقاً لما تقدم، فقد ذكروا في تعريف كلا الحكمين المذكورين:

الحكم الواقعي: بأنه كل حكم شرعي لم يفترض في موضوعه الشك في حكم شرعي مسبق.

الحكم الظاهري: وهو كل حكم افترض في موضوعه الشك في حكم شرعي مسبق.

ومن خلال ما تقدم يتضح أن هناك حكماً واقعياً واحداً قد يصل إليه المكلف ويوافقه في مقام الامتثال، وقد لا يصل إليه، ولا يوافقه، بينما تكون الأحكام الظاهرية متعددة، إذ أن كل فقيه يصل إلى حكم ظاهري يختلف عن الحكم الظاهري الذي يصل إليه الفقيه الآخر، ويبقى الحق والواقع واحداً.

وجراء هذا الاختلاف الحاصل بين الحكم الواقعي الظاهري، وجد عند الأعلام بحث في ما لو انكشف مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي من حيث الإجزاء وعدم الحاجة إلى الإعادة، أو لزومها. والتفصيل بين ما إذا كان مستنداً إلى أمارة، أو كان مستنده أصلاً، وهكذا.

 

دائرة الاجتهاد:

ثم إن مقتضى انقسام الأحكام الشرعية إلى واقعية وظاهرية، يستدعي أن لا يكون إعمال الفقيه لفقاهته واجتهاده شاملاً لكافة الأحكام والموارد، ذلك لأن بعض الأحكام من الضروريات، سواء في الواجبات الشرعية، مثل: الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس، أم الضروريات العقلية، مثل: وجوب العدل، وشكر المنعم.

أم المحرمات الضرورية الشرعية، مثل: شرب الخمر، والزنا، واللواط. أم المحرمات الضرورية العقلية، مثل: قبح الظلم، والقتل العدواني، وكفران النعمة العظيمة، والإيذاء للآخرين.

أم المستحبات الضرورية الشرعية، مثل: استحباب مطلق الصوم، إلا الأيام التي يحرم الصوم فيها، أو يجب، والاعتكاف.

أم المستحب الضروري العقلي، مثل: الاحسان، الصدق، الصبر، النظافة.

أم المكروه الضروري الشرعي، مثل: النوم بين الطلوعين، الأكل على الشبع.

 

أم المكروه الضروري العقلي، مثل: الوساخة، ترك الاعتناء بالناس، وهكذا.

والحاصل، إن الأحكام الضرورية ليس مسرحاً لإعمال الفقيه نظره ورأيه فيها، بل هي خارجة عن دائرة ذلك تماماً.

كما أن بعض الأحكام يقينية، وهي عبارة عن الأحكام التي حصل للمكلف اليقين بها بحيث انكشف له الواقع فيها.

ومقتضى ما تقدم، أن دائرة الاجتهاد سوف تكون في خصوص الأحكام الظنية، والتي تحتاج إعمال الفقيه لقدرته الاستنباطية من خلال ملاحظة المدارك الاستنباط المعروفة للوصول لمعرفة الحكم الظاهري من خلالها والذي يكون طريقاً للكشف عن الحكم الواقعي الموجود في لوح الواقع رغبة في الوصل إليه وإدراكه.

 

عوامل اختلاف الفقهاء والمسلمين:

ومع التسليم بوقوع الاختلاف بين الفقهاء في الفتاوى الشرعية، وأن ذلك حقيقة واضحة لا يمكن إنكارها، إلا أن هذا الاختلاف الحاصل لا يصلح دليلاً للقائلين بالنظرية المذكورة، لأنه يمكن الجواب عنه بالتالي[4]:

أولاً: إن هناك فرقاً بين الاختلاف الحاصل بين العلماء في بعض المسائل الإسلامية، إذ أن الاختلاف الحاصل بينهم ليس من صغريات النظرية المذكورة، فهو ليس بمعنى القراءات المختلفة للدين، كما هو دعوى أصحاب هذه النظرية الحديثة، أي تعدد الحق والواقع بعدد الآراء والفتاوى، أو بمعنى التصويب الشامل، وذلك لأن جميع علماء المسلمين يعترفون أن الحق والواقع الإلهي الواقعي واحد، يشترك فيه العالم والجاهل، قد يصيـبه المجتهد وقد لا يصيـبه، والحكم الذي يتوصل إليه الفقيه حسب الطرق الشرعية المعتبرة حجة له ولمقلديه، بحيث يكون معذوراً في حالة مخالفته للواقع، دون أن يكون حجة على الفقهاء الآخرين ومقلديهم، والمعذورية غير تعدد الحق والواقع حسب تعدد الآراء.

 

ثانياً: إن الاختلاف بين العلماء ينحصر في خصوص النصوص الظنية، والمجملة والمسائل الخلافية، فلا يشمل النصوص الصريحة والواضحة المعنى المعتبرة الأسناد. مضافاً إلى ما سمعت من أن جملة من الأحكام الشرعية ضرورية يقينية، ثابتة، لا مجال للاجتهادات المختلفة فيها، بل ليس لها إلا قراءة واحدة، بل ربما كان منكر البعض منها خارجاً عن الإسلام أو كان منكراً للضروري، فترتب عليه أحكام خاصة جراء ذلك.

وبالجملة، فالاختلاف على هذا في خصوص النصوص والأحكام الظنية والخلافية دون غيرها.

 

ثالثاً: إن للاختلاف الحاصل بين الفقهاء في الفتاوى والأحكام الشرعية حال النظر في الأدلة الشرعية مناشئ متعددة:

منها: أن يكون ناشئاً بسبب الاختلاف الحاصل في فهم الحكم أو الموضوع سعة وضيقاً، إذ قد يفهمه أحد الفقهاء بنحو ضيق، ويفهمه الآخر بنحو أوسع مما فهمه الأول، ما يجعله غير شامل لبعض المصاديق وفق الفهم الأول، وشامل لها على طبق الفهم الثاني. ومن أمثلة ذلك النصوص الدالة على حرمة الاحتكار، فإن الفقهاء مختلفون في موضوع الحرمة، وأنه خصوص الغلات الأربع، أو أنه أوسع من ذلك.

 

ومن ذلك أيضاً شمولية قوله تعالى:- (أوفوا بالعقود)[5] لكل عقد جديد لم يكن في عصر صدور النص، يستجمع الشروط المعتبرة في العقود، فيشمل مثل عقد التأمين والاستصناع مثلاً، أو البناء على حصر ذلك في خصوص العقود التي كانت موجودة في عصر التشريع الإسلامي.

ومنها: أن يكون ناشئاً من الخلاف في أن ما تضمنه النص يعدّ علة تامة للحكم فيدور مدارها وجوداً وعدماً، ومن ثمّ يمكن القياس على ذلك استناداً لحجية قياس منصوص العلة، أو البناء على عدم كون الموجود في الدليل علة للحكم، بل هي حكمة له، ومن نماذج ذلك ما جاء في حلية السمك لأن له فلساً، فيقرر أن المناط في الحلية هو وجود الفلس، فيحكم بحلية كل ما يكون له فلس كالربيان مثلاً، وحرمة مالا فلس له.

ومنها: أن يعود ذلك إلى اكتشاف بعض المفاهيم من الدليل، بما يشمل غيره، وأمثالها.

 

منها: أن يعود ذلك لطروء بعض العناوين على الموضوع توجب اختلاف الحكم، فالصدق مثلاً لا يختلف اثنان في حسنه عقلاً، وأنه واجب شرعاً، إلا أنه قد يطرأ عليه ما يجعله قبيحاً وحراماً، كما لو كان سبباً لهلاك مؤمن. وعلى عكسه الكذب، فإنه قد يتحول حكمه من الحرام الشرعي والقبح العقلي، لواجب، وحسن، لو كان فيه إنقاذ لنفس محترمة.

ومثل ذلك ما يقال في حرمة بعض آلات القمار، فإن حرمتها ما دام يصدق عليها أنها آلة قمارية كالشطرنج مثلاً، فإذا انتفى عنها ذلك، بحيث تحولت إلى آلة رياضية، وفكرية، فإنه يحكم بحلية اللعب بها.

ومنها: أن ينشأ ذلك من الإجمال الحاصل في النصوص المراد استفادة الحكم الشرعي منها بنظر الفقيه، فيكون ذلك موجباً لتوقفه عن الاستناد للنص، بينما لا يرى فقيه آخر ذلك، ومثاله: مفهوم الصعيد الذي ورد في قوله تعالى:- (فتيمموا صعيداً طيباً)، فهل المقصود منه مطلق وجه الأرض، أو أن المقصود منه خصوص التراب، فإن هذا الإجمال موجب لإعمال الفقيه فقاهته، وبالتالي يقع الاختلاف بين الفقهاء.

وكذا الكعب الوارد في قوله تعالى:- (وأرجلكم إلى الكعبين)، في لزوم المسح عليه، وهل أنه قبة القدم، أو أنه مجمع التقاء الساق بالقدم، وهو المفصل.

 

نعم الذي يهون الخطب أن مثل هذه الموارد أعني التي يكون الدليل فيها مجملاً بحسب المعنى اللغوي، أو العرفي من القلة بمكان. لكن ذلك لا يعني أنه لا يوجب حصول الاختلاف بين الأعلام.

رابعاً: إن مقتضى فتح باب الاجتهاد الذي تؤمن به مدرسة أهل البيت(ع)، يفسح المجال أم الفقهاء الآخرين ليقفوا على أمور وأشياء لم يقف عليها السابقون عليهم من العلماء، ولذلك أمثلة:

1-الالتفات لبعض القرائن الحافة بالآيات القرآنية أو النصوص، قد غفلوا عنها، ويكون لها أثر كبير جداً في الدلالة على المطلوب، مثل استفادة تخصيص قوله تعالى:- (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)[6]. في خصوص الجهاد الدفاعي، وعدم شمولها للجهاد الابتدائي، وذلك بملاحظة سبب نزول الآية الشريفة، وأنها إحدى آيات سورة التوبة، ومن المعلوم أن موضوعها قضية خاصة، وليست عنواناً عاماً.

2-التوجه إلى دلالة بعض النصوص بنحو لم يكن ملحوظاً سابقاً. فمن ذلك مخالفة العلامة الحلي(ره) للعلماء السابقين عليه في مسألة عدم نجاسة ماء البئر، اعتماداً على معتبرة البزنطي، بأن ماء البئر واسع لا يفسده شيء.

 

ومثل ذلك فتوى المرجع الديني الأعلى للطائفة الإمام السيستاني(دامت أيام بركاته)، بصحة الأفعال الصادرة من الجاهل القاصر إذا كانت في السنن وليست في الفرائض، اعتماداً على ذيل صحيحة زرارة عن الإمام الباقر(ع): لا تنقض السنة الفريضة، واستفادة قاعدة كلية منها، وأنها غير منحصرة في باب الصلاة، بل تجري في كافة الأبواب الفقهية.

 

3-الاستفادة مما يحمله التطور العلمي وتجارب الآخرين، من معلومات وآراء لها تأثيرها في عملية الفهم والاستنباط، كالاستفادة من نظرية حساب الاحتمالات في بعض مسائل الفقه والأصول، وأمثالها، فقد طبقها السيد الشهيد(ره) في علم الأصول في موارد منه. كما طبقها المرجع الديني الأعلى للطائفة الإمام السيستاني(دامت أيام بركاته) في موارد أكثر، فلم يقصرها في علم الأصول وفي موارد محددة منه،، بل طبقها في أكثر من مورد فيه، وفي علم الرجال، وهكذا.

بل قد أشار(دامت أيام وجوده)، إلى إمكانية الاستفادة من علم القانون، وغيره، في البحوث الأصولية، وطبق ذلك في بحوثه الشريفة[7].

 

خامساً: من المعلوم اختلاف العلماء في القواعد الأصولية والفقهية والرجالية، وكل ما له مدخلية في عملية الاستنباط، وأن هذا هو مقتضى الاجتهاد، ومن الطبيعي أن يترتب على ذلك حصول الاختلاف بينهم في الفتاوى، إذ يمكن أن يثبت نص عند فقيه يستند إليه في الإفتاء بحكم شرعي لا يثبت عند آخر، إما لأنه قد اشتمل على راوٍ لم تثبت وثاقته عند الثاني، كما لو كان مشتملاً على سهل بن زياد أبي سعيد الآدمي مثلاً، أو لمانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب من انعقاد الإطلاق عند أحدهما وعدم مانعيته عند الآخر، أو بناء أحدهما على ثبوت المفهوم للوصف، وعدم بناء الثاني عليه، أو القول بجابرية عمل المشهور للخبر الضعيف، وعدمها، أو جريان البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية، وعدم جريانها، وهكذا. ولنشر لمثال، فإن الإمامين الخوئي(ره)، والسيستاني(دامت أيام بركاته) مع اتفاقهما وكافة العلماء على وجود كتاب تفسير لعلي بن إبراهيم القمي، إلا أنهما يختلفان في النسخة الواصلة إلينا، فإن الإمام الخوئي(ره)، يبني على أنها كتاب التفسير للقمي، بينما يبني الإمام السيستاني(أطال الله في بقائه) على عدم صحة النسبة. ومن الواضح مقدار الثمرة المترتبة على ذلك، مضافاً إلى بناء الإمام الخوئي(ره) على دلالة ما جاء في مقدمة الكتاب على توثيق جميع من وقع في أسناده، ما يوجب توثيق ما ينيف على ثلاثمائة راوٍ من رواة الحديث، ومنع الإمام السيستاني(دام ظله العالي) عن ذلك.

ولا ريب أن مثل هذا الاختلاف الحاصل بين العلماء في الأدلة موجب لحصول الاختلاف بينهم في الفتاوى الآراء.

 

خاتمة:

ولا ينبغي أن يتوهم أحد أن الاختلاف الحاصل بين الفقهاء في الفتاوى والآراء مورد ذم، اعتماداً على ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) في النهج، في ذمه للاختلاف الحاصل في بيان الأحكام الشرعية، حيث قال(ع): ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد.

لأنه ليس ناظراً للحديث عن بيان الحكم الشرعي الظاهري الذي قد عرفت أنه طريق مجعول من قبل الله سبحانه وتعالى لفراغ ذمة المكلف مما اشتغلت به، وأنه السبيل للوصول لمعرفة الحكم الواقعي وإحرازه. بل إن هذه الكلمات المباركة ناظرة إلى شيء آخر، وهذا ما أشار إليه العلامة المجلسي غواص بحار الأنوار(قده) في موسوعته البحار، حيث ذكر(قده) أن منشأ رفضه(ع) لما يصدر من هؤلاء يعود لأن الحكم الصادر منهم على خلاف حكم الله تعالى لا يخلو عن أحد محتملات:

 

الأول: أن يكون هناك إله آخر غير الله سبحانه وتعالى، وقد جعلهم أنبياء، وبعثهم بأحكام غير أحكام الله سبحانه وما صدر عن نبيه الكريم(ص)، وجاء عن أئمة الهدى(ع)، وأمرهم بعدم الرجوع إلى المصطفى الحبيب(ص)،و أوصيائه الطاهرين(ع).

الثاني: أن يكون الإله واحداً وهو الله سبحانه وتعالى، إلا أنه قد جعلهم شركاء مع النبي(ص) في النبوة والرسالة.

الثالث: أن لا يكون الله سبحانه وتعالى قد بيّن لرسوله(ص) كل ما تحتاجه الأمة، وبالتالي احتاجت الأمة إلى إعمال نظرها واجتهادها حتى تستطيع أن تلبي حاجياتها.

الرابع: أن يكون التقصير من النبي(ص)، وحاشا ذلك أن يكون، لأن الله تعالى قد بيّن له كل ما تحتاجه الأمة، إلا أنه(ص) قصر-وحاشاه-في تبليغ ذلك وأداءه للأمة.

 

قال(قده): هذا تشنيع على من يحكم برأيه وعقله من غير رجوع إلى الكتاب والسُنّة وإلى أئمّة الهدى(ع) فإنّ هذا إنّما يكون إما بإله آخر بعثهم أنبياء، وأمرهم بعدم الرجوع إلى هذا النبيّ المبعوث وأوصيائه(ع)، أو بأن يكون الله شرك بينهم وبين النبيّ(ص) في النبوّة، أو بأن لا يكون الله عزّ وجلّ بيّن لرسوله(ص) جميع ما تحتاج إليه الأمّة، أو بأن بيّنه له لكن النبيّ قصّر في تبليغ ذلك ولم يترك بين الأمّة أحداً يعلم جميع ذلك.

مضافاً إلى أن مقتضى البناء على صحة ما صدر من الحكمين، وتصويب الناصب إليهما ذلك، يعني عدم ثبوت حكم واقعي لله سبحانه وتعالى، أو البناء على التصويب الباطل، كما ثبت في محله.

 

 

[1] الدروس في شرح الحلقة الثانية ج 1 ص 81.

[2] صحيح مسلم ج 7 ص 95.

[3] وسائل الشيعة ج 29 ب 48 من أبواب ديات الأعضاء ح 1 ص 356.

[4] قد وردت الإجابات المذكورة في كلمات غير واحد من الأعلام، بعضهم كان بصدد الإجابة عن هذه النظرية، وبعضهم كان بصدد الحديث عن الموضوع وهو الاختلاف الحاصل بصورة عامة، وقسم ثالث كان بصدد بيان مدارك الاستنباط ومناشئ الخلاف الحاصل بين الأعلام.

[5] سورة المائدة الآية رقم 1.

[6] سورة التوبة الآية رقم 5.

[7] أشار إلى ذلك في كتاب الرافد.