19 مارس,2024

الطاووس حليته و حرمته

اطبع المقالة اطبع المقالة

الطاووس

حليته و حرمته

 

 

من الطيور التي نص الفقهاء على حرمة أكل لحمها الطاووس، ولم يعرف القول بحلية أكله إلا من اثنين من أكابر المحققين من أعيان الطائفة، فقد جاء في تعليقة أحدهما على منهاج الصالحين، عند قول الماتن(قده) بحرمة أكل لحم الطاووس، بقوله: لم تثبت حرمته[1]. وقد نص الثاني منهما(دامت بركاته) صراحة على حلية أكل لحمه، قال(دامت أيام بركاته): وتحل النعامة والطاووس على الأقوى[2].

وعلى أي حال، فقد ذكر المجلسي(ره)، أن الحكم بحرمته مقطوع به[3]. ونفي في الجواهر وجود الخلاف في حرمته نصاً وفتوى[4].

ولا يخفى أن مقتضى الأصل حال الشك في حلية تناوله وحرمته، البناء على حلية تناوله استناداً لأصالة الحل الشرعية.

 

ولا مجال للبناء على وجود سيرة متشرعة منعقدة على حلية أكله، اعتماداً على خلو النصوص الصادرة عن الإمامين الصادقين(ع) عن بيان حكم أكله، سؤالاً وجواباً، لأنه لو كان محرماً أو مورد شك، لكثرت الأسئلة عنه، شأنه شأن بقية الطيور التي وردت الأسئلة حولها، ولما لم يرد حوله سؤال وجواب، كان ذلك كاشفاً عن حلية أكله. لأن من المحتمل جداً أن يكون ذلك ناجماً من عدم كونه مورد ابتلاء للمسلمين خلال تلك المدة، فقد ذكر أنه يعيش في الغابات الاستوائية، والهند، وما شابه ذلك.

وقد يكون ذلك نفسه مبرراً لخلو كلمات القدماء من التعرض إليه، إلا أن ذكر الكليني(ره) رواية في الكافي تشير لكونه من المسوخ[5]، وكذا نص الصدوق(ره) على ذلك في الفقيه[6]، مانع مما ذكر بناء على أن جميع ما تضمنه الكافي، يفتي الكليني(ره) به، ولتصريح الصدوق(ره) في الفقيه أنه لم يذكر فيه إلا ما هو حجة بينه وبين ربه.

 

مع أنه قد نص الشيخ(ره) على حرمة أكله في النهاية[7]، وهو كما قيل عبارة عن متون الأخبار، أو الفتاوى المصاغة وفق مفاد النصوص. وكذا ابن البراج في المهذب[8].

بل ربما أدعي أن السيرة منعقدة على حرمة أكله، وأن مجرد تواجده في الغابات الاستوائية والهند، لا يعني عدم توفره في البلاد الإسلامية، فضلاً عن عدم معرفتهم به، ولذا كان يقتصر اقتناؤهم إياه لكونه وسيلة من وسائل الزينة، أو الأشياء التي تقتنى في قصور الأغنياء وأهل البلاط والسلاطين.

 

وما ذكر وإن كان محتملاً إلا أن الجزم به صعب، خصوصاً وأنه لا يبعد أن تكون السيرة المدعاة من السير الحادثة، التي لا يحرز معاصرتها للمعصوم(ع)، فتأمل.

وبالجملة، إن البناء على وجود سيرة متشرعية سواء في جانب الحلية، أم في جانب الحرمة من الصعوبة بمكان.

وكيف ما كان، فإن ما يتصور دليلاً للقائلين بالحرمة أمران:

الأول: الإجماع الذي يظهر دعواه من العلمين صاحبي البحار والجواهر(ره)، كما سمعت كلامهما.

ويمنع من الاستناد إليه، أنه إجماع محتمل المدركية لو بني على أنه قدمائي.

 

الثاني: النصوص، وقد استند القائلون بذلك لطائفتين منها:

الأولى: ما تضمن عده من المسوخ، كخبر الجعفري عن أبي الحسن الرضا(ع)، قال: الطاووس مسخ، كان رجلاً جميلاً فكابر امرأة رجل مؤمن تحبه، فوقع بها، ثم راسلته بعد فمسخهما الله طاووسين أنثى وذكراً، فلا تأكل لحمه ولا بيضه[9]. ودلالته على كونه مسخاً وأنه لا يحل أكل لحمه واضحة. إلا أن المشكلة في سنده، فقد اشتمل على بكر بن صالح، وقد نص على تضعيفه ابن الغضائري، والنجاشي. نعم في رجال ابن داوود وثقه مرة وضعفه أخرى، وهذا يشعر بتعدد الرجل، وقد يساعد على ذلك أن المذكور في كلمات الرجاليـين موصوف بالرازي. إلا أن مجرد هذا لا يوجب التعدد، بل القرائن على الاتحاد غير قليلة. ومن الغريب أن من وثقه ابن داوود(ره)، هو نفس من ضعفه في القسم الثاني من رجاله.

 

الثانية: ما دلت على حرمة أكله من دون إشارة لمنشأ التحريم، كخبر الجعفري الآخر، عن أبي الحسن الرضا(ع)، قال: الطاووس لا يحل أكل لحمه، ولا بيضه[10]. ودلالته على حرمة الأكل واضحة، نعم هو يعاني نفس المشكلة السندية السابقة لوقوع بكر بن صالح فيه.

وليس بين الطائفتين معارضة، لأن كلتيهما مثبت، نعم من المحتمل جداً، أنهما خبر واحد، وليسا خبرين، بملاحظة الراوي، ومن وقع في السند، والإمام المسؤول منه، وموضوع السؤال. عمدة ما كان أن القسم الأول تعرض لكونه مسخاً، وتضمن القسم الثاني بيان حكم تناول لحمه وبيضه.

ومع ضعف سند ما يدل على حرمة تناول لحمه، وأنه مسخ، فيكون مقتضى أصالة الحل محكماً، ليكون مفادها البناء على حلية تناول لحمه.

 

إن قلت: إن الخبر وإن كان ضعيفاً، إلا أنه مجبور بعمل المشهور، فيصح مستنداً لمختار المشهور.

قلت: بعد التسليم بتمامية الكبرى كما هو غير بعيد، إلا أنه لم يحرز أن الموجب للبناء على حرمة تناوله هو خبر الجعفري، إذ يحتمل أن يكون مستندهم الإجماع، كما يحتمل أن يكون مستندهم دعوى سيرة المتشرعة، وهذا يمنع من إحراز الاستناد الموجب لحصول الجبر.

نعم ربما استند في ذلك أيضاً إلى ما رواه محمد بن مسلم، أنه سأل أبا جعفر(ع) عن لحوم الخيل والدواب والبغال والحمير، فقال: حلال لكن الناس يعافونها. وإنما نهى رسول الله(ص) عن أكل لحوم الحمر الأنسية بخيبر لئلا يفنى ظهورها، وكان ذلك نهي كراهة لا نهي تحريم، ولا بأس بأكل لحوم الحمر الوحشية، ولا بأس بأكل الأمص وهو اليحامير، ولا بأس بألبان الأتن، والشيراز المتخذ منها. ولا يجوز أكل شيء من المسوخ، وهي القردة والخنزير والكلب والفيل والذئب والفأرة، والأرنب والضب والطاووس والنعامة والدعموص والجري والسرطان والسلحفاة والوطواط والبقعاء والثعلب والدب واليربوع والقنفذ مسوخ، لا يجوز أكلها[11]. وهو من حيث الدلالة تام، للنص على أن الطاووس من المسوخ، وقد ثبت في محله حرمة تناول المسوخ بأنواعها سواء كانت من حيوان البر، أم كانت من حيوان البحر، أم كانت من الطير.

 

ويمنع من الاستناد للخبر المذكور أمران:

الأول: ما يحتمل متنه، من أنه قد تعرض للإدراج، وأن عدّ هذه المذكورات، ولا أقل بعضها من المسوخ، ليس صادراً من الإمام(ع)، وإنما هو من الصدوق(ره)، وقد أدرجه النساخ، حتى عدّ كأنه نص واحد، وهذا كثير في الفقيه، يقف عليه المتابع لنصوصه. ويكفي مجرد الاحتمال في كونه منه(ره)، ليكون ذلك مانعاً من الاستناد إليه.

 

الثاني: ضعفه السندي، فإن طريق الصدوق(ره) إلى محمد بن مسلم، على ما في المشيخة كالتالي:

علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن جده أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه محمد بن خالد، عن العلاء بن رزين، عنه[12]. لأنه قد اشتمل على علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله وعلى أبيه، وهما مجهولان، ولو عولج الأول بكونه من مشائخ الصدوق(ره) ليبنى على كفاية شيخوخة الإجازة مثلاً على التوثيق، بقي الإشكال من جهة الأب.

 

والحاصل، لا مجال لرفع اليد عن المشكلة السندية، إما لوجودهما معاً كما هو الصحيح أو لوجود الأب. إلا أن يدعى أن وجودهما لا يشكل مانعاً من اعتبار السند، لأنهما مجرد واسطة في النقل وليس لهما دور في الرواية، فليسا من مشائخ الإجازة الذين يعول عليهما في نقل الرواية وما يرتبط بهما، بل وظيفتهما تنحصر فقط في إعطاء كتب ذويهما، من الكتب المعروفة والمشهورة، وأن الغاية من ذلك الحذر من انقطاع سلسلة السند، وهذا نظير ما يقال في أحمد بن محمد بن يحيى العطار، وأحمد بن محمد بن الوليد. فتأمل.

نعم قد يدعى أنه مع القبول بالمانع الأول من المانعين، إلا أن هذا يثبت بناء الصدوق(ره) على كون الطاووس من المسوخ، وهذا شهادة منه(قده) بذلك، ومن الطبيعي أنه لن يشهد بكونه كذلك إلا استناداً لنص صادر عن المعصوم(ع)، ولما كانت الشهادة المذكورة واردة في كتاب الفقيه الذي قد شهد في مقدمته أنه لا يذكر فيه إلا ما هو حجة بينه وبين ربه، فإن ذلك يوجب البناء على تمامية الشهادة المذكورة لثبوت المطلوب.

 

وما ذكر وإن كان حسناً، لأن التعبير بكونه من المسوخ وإن كان كلاماً للصدوق(ره)، وليس من قول الإمام(ع)، فيكون شهادة منه وهي كما ذكر، إلا أن ذلك لا يكفي للبناء على اعتبارها، لأن من المحتمل جداً أن يكون مستندا هو خبر الجعفري، وقد عرفت حاله من حيث السند.

ولا مجال لتوهم تعبدية الإجماع المدعى في كلام من سمعت، بعد ضعف ما يحتمل مدركيته، لما سمعت من عدم الجزم بكونه قدمائياً.

 

وربما تمسك القائلون بالحرمة والحلية بكيفية الطيران، فيدعي القائلون بالحرمة أن صفيفه أكثر من دفيفه، وقد دلت النصوص على حرمة ما كان صفيفه أكثر من دفيفه.

ويتمسك القائلون بالحلية بأن دفيفه أكثر من صفيفه، وقد دلت النصوص على أن ما كان يدف أكثر مما يصف، فلا إشكال في حلية أكله.

والجزم بأحد القولين يعتمد على إحراز حاله عند الطيران وهذا يستدعي متابعة دقيقة كي ما يجزم بوصفه بأحد الحالين من الصفيف أو الدفيف.

 

نعم مع عدم القدرة على معرفة حاله حال الطيران فإنه يمكن لمعرفة حكمه من حيث الحلية والحرمة ملاحظة توفر واحدة من العلامات الثلاث فيه، وهي الصيصة، والقانصة، والحوصلة.

ومن الواضح أنه ليس له صيصة بمقتضى المشاهدة الخارجية، وإن كان من فصيلة الدجاجيات، نعم وفق ما تضمنته كتب التشريح، فقد نصت أنه يحوي قانصة وحوصلة، وقد قرر في محله كفاية وجود واحدة من العلامات الثلاث فيه.

وعليه، بعد عدم تمامية ما دل على الحرمة، ومع عدم معرفة حاله حال الطيران والاشتباه فيه أنه يصف أكثر مما يدف، أو يدف أكثر مما يصف، وبعد توفر بعض العلامات الثلاث فيه، يحكم بحلية تناول لحمه.

 

 

 

[1] منهاج الصالحين للسيد الحكيم المحشى ج 2 ص 372.

[2] منهاج الصالحين ج 3 ص

[3] ملاذ الأخيار ج 14 ص 149.

[4] جواهر الكلام ج 36 ص 309.

[5] الكافي ج 6 ص 245.

[6] من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 213.

[7] النهاية ص 578.

[8] المهذب ج 2 ص 429.

[9] وسائل الشيعة ج 24 ب 2 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6 ص 106.

[10] المصدر السابق ح 5 ص 106.

[11] من لا يحضره الفقيه ج 3 ص ح 4197.

[12] مشيخة الفقيه ج 4