19 مارس,2024

الإمامة, أصل وضرورة(2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

الإمامة

أصل وضرورة(2)

 

السنة الشريفة:

وهناك نصوص عديدة يمكن الاستناد إليها في إثبات أن الإمامة أصل من أصول الدين، وهي على طوائف نشير لشيء منها:

 

الأولى: ما تضمنت أن من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية:

وقد وردت هذه النصوص في مصادر المسلمين، وهي موضع اتفاق عندهم، وهي مستفيضة جداً، وقد وردت بألسنة مختلفة، فمن ذلك ما روي عن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية[1].

وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية[2].

وجاء في صحيح مسلم، عن النبي(ص) قال: من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية[3].

ودلالة هذه النصوص على المطلوب واضحة، فإن جعلها كل من يموت دون معرفة منه للإمام الحق على حد من مات أيام الجاهلية، يؤكد على كون الإمامة أصلاً، وإلا لا معنى لأن يكون الإنسان قد مات كافراً كما هو مقتضى هذه النصوص.

ويدل على هذا المعنى معتبر الحارث بن المغيرة، قال: قلت لأبي عبد الله(ع) قال رسول الله(ص): من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، قال: نعم، قلت: جاهلية جهلاء، أو جاهلية لا يعرف إمامه؟ قال: جاهلية كفر ونفاق وضلال[4].

 

الثانية: روايات الذود عن الحوض:

وهي التي تضمنت حصول الارتداد من الصحابة بعد وفاة النبي الأكرم(ص)، ففي صحيح البخاري، عن النبي(ص) قال: بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلّم. فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى. ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلّم. فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: ما شأنهم. قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم[5].

ودلالتها على المدعى جلية كدلالة آية الانقلاب التي تقدمت الإشارة إليها، فإن الفعل الصادر من الصحابة منحصر في خصوص إنكار ولاية أمير المؤمنين(ع)، وإمامته وخلافته لرسول الله(ص).

 

الثالثة: النصوص التي جعلت مدار الإيمان على حب آل محمد، والكفر على بغضهم(ع):

فمن ذلك ما جاء في تفسير الكشاف للزمخشري، عند تفسير قوله تعالى:- (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)[6]، عن النبي(ص)-في حديث-: ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً-إلى أن قال-ألا ومن مات على غض آل محمد مات كافراً[7].

وجاء عن النبي(ص) أنه قال: أساس الإسلام حبي وحب أهل بيتي[8].

وقال(ص) لعلي(ع) يوماً: ألا من أحبك حق(حف)بالأمن والإيمان، ومن أبغضك أماته الله ميتة جاهلية[9].

وليست المحبة والمبغوضية المذكورة في هذه النصوص مطلوبة في نفسها، لأنهما لا مدخلية لهما في حقيقة الإيمان والكفر، وإنما هما تعبيران كنائيان مشيران إلى الإيمان بالإمامة والولاية، وإنكارها، فحبهم يشير إلى الاعتراف بإمامتهم(ع)، كما أن بغضهم يعني انكار ذلك.

 

الرابعة: النصوص التي ربطت عبادة الله بمعرفة الإمام:

وأنه من دون ذلك تكون العبادة عبادة ضلالاً، فعن أبي حمزة، قال: قال لي أبو جعفر(ع): إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالاً. قلت: جعلت فداك، فما معرفة الله، قال: تصديق الله تعالى، وتصديق رسول الله(ص)، وموالاة علي(ع) والائتمام به، وبأئمة الهدى، والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم، هكذا يعرف الله عز وجل[10].

 

دليل العقل:

ويمكن عرضه من خلال تقريبات عدة:

منها: إن الحاجة إلى الإمام لا تقل عن الحاجة إلى النبي(ص)، لأنهما نهج واحد، فإذا كانت النبوة أصلاً، كانت الإمامة كذلك أيضاً.

ومنها: إن منـزلة الإمام كالنبي(ص) في حفظ الشرع ووجوب اتباعه والحاجة إليه، ورئاسته العامة، فإذا كانت النبوة أصلاً كانت الإمامة كذلك أيضاً.

ومنها: نحن نعلم أن النبوة هي علة لوجود الأحكام والتشريعات، فلابد لها من علة مبقية تحافظ على تلك الأحكام والقوانين، وهذا ما تقوم به الإمامة، فهي بالنسبة للنبوة علة مبقية، والنبوة علة موجدة، فإذا كانت الموجدة أصلاً، كانت العلة المبقية كذلك أيضاً بطريق أولى.

 

الإمامة ضرورة:

ولو لم يبن على أن الإمامة أصل من أصول الدين، فلا أقل في كونها ضرورة من ضرورياته، كما قرر ذلك عدة من أعلام الطائفة(رض)، دون خلاف بينهم، فإن كل من قال أنها أصل يحكم بكونها ضرورة دينية، بطريق أولى، بل على ذلك بعض الفرق الإسلامية، ما عدا الخوارج.

ولم يفرق علماؤنا في ضروريتها بين مورد الأمن ومورد الفتن، فهي واجبة في كليهما على حد سواء، خلافاً لما عليه بعض فرق المسلمين، من البناء على كونها ضرورة في حال الفتن دون حال الأمن، أو العكس.

 

ضروري الدين والمذهب:

وحتى يتضح كيف أن الإمامة ضرورة من ضروريات الدين، يلزم الوقوف على حقيقة الضروري[11]، خصوصاً وأنه قد خلت كتب اللغة من الحديث حول هذه المفردة، ومثل ذلك المصادر الفقهية والكلامية، ولعل أول من أشار إليه هو المقدس الأردبيلي(ره)، وجرى الأعلام(رض) من بعده على ذلك.

ومن أفضل التعريفات التي ذكرت بياناً لحقيقته، ما جاء في كلام فقيه عصره المرجع الديني السيد الكلبيكاني(ره)، فقد ذكر أن مفهوم الضروري عند الفقهاء، لا يختلف عما جاء في كلام المناطقة، ذلك أن المناطقة قد قسموا القضايا إلى نظرية وضرورية، وقد عرفوا القضية الضرورية بأنها التي لا تحتاج في إثباتها إلى ترتيب قياس، وإقامة دليل وبرهان، مثل قولهم: النار حارة، فإن حرارة النار لا تحتاج دليلاً ولا برهاناً على ثبوتها. وهذا بنفسه هو المقصود من الضروري في البعد الديني أيضاً، وعليه، فكل حكم اعتقادي، أو عملي فرعي في الإسلام، لم يحتج في إثبات أنه من الإسلام ومن تشريعاته، وقوانينه إلى دليل، فهو ضروري، كوجوب الصلاة، ووجوب الحج، ووجوب الصوم، وما شابه، وكثبوت الجنة والنار، وهكذا.

 

تقسيم الضروري:

وينقسم الضروري إلى قسمين، لأنه قد يكون ضروري الدين، وقد يكون ضروري المذهب:

فضروري الدين عبارة عن: ما يكون التدين به وعدم إنكاره شرطاً في تحقق الإسلام.

وأما ضروري المذهب، فهو الذي يكون الاعتقاد به وعدم إنكاره شرطاً في الانتماء للمذهب، كالرجعة على سبيل المثال، والنكاح المنقطع، والبداء كما لا يبعد ذلك.

ولا ريب في انطباق حقيقة ضروري الدين على الإمامة، سيما وأن العقل يحكم بذلك.

وقد أشار لكونها من ضروريات الدين، بعض الأعيان(قده)، قال: يمكن أن يقال: إن أصل الإمامة كان في الصدر الأول من ضروريات الإسلام، والطبقة الأولى المنكرين لإمامة المولى أمير المؤمنين(ع) ولنص رسول الله(ص) على خلافته ووزارته، كانوا منكرين للضروري من غير شبهة مقبولة من نوعهم، سيما أهل الحل والعقد.

 

ثم وقعت الشبهة للطبقات المتأخرة، لشدة وثوقهم بالطبقة الأولى، وعدم احتمال تخلفهم عمداً عن قول رسول الله(ص)، ونصه على المولى(ع)، وعدم انقداح احتمال السهو والنسيان من هذا الجم الغفير[12]. ومنه يتضح عدم تمامية ما ذكره بعض الأكابر(قده)، من أن إمامة أهل البيت لم تبلغ في وضوحها إلى درجة الضرورة.

ولو سلم بلوغها حدوثاً تلك الدرجة فلا شك في عدم استمرار وضوحها بتلك المثابة لما اكتنفها من عوامل الغموض[13]. لمنع أن لا تكون ضرورية الإمامة في عصر الصدر الأول من الإسلام من الوضوح بمكان، كيف، وقد بايع المسلمون في يوم غدير خم، ومن المعلوم أن البيعة التي قد عقدت في ذلك اليوم، ما هي إلا كاشفة عما كان يكرره رسول اللهً(ص)، وكانوا يسمعونه منه دائماً وفي مواضع مختلفة، وبألسنة متعددة.

 

نعم يمكن القبول بما ذكره ما بعد الصدر الأول، كما أشير لذلك في كلام بعض الأعيان(قده). ومنه يتضح أن حالة الضبابية والخفاء التي اكتنفت موضوع الإمامة بعد الصدر الأول، والذي أشير إليه في كلامه(ره)، إنما كان بسبب حالة التعمية التي اتخذت ضدها من قبل السلطات الحاكمة، لكن هذا لا ينفي كونها من الضروريات.

وعلى أي حال، إن حقيقة الإمامة، ووضوح الغاية منها، تساعد على كونها من الأمور الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها.

 

أدلة ضرورية الإمامة:

ويمكن الاستدلال لكون الإمامة ضرورة من ضروريات الدين، بدليلين، عقلي ونقلي.

أما الدليل العقلي، فيمكن تقريبه، بأن من المسلم بالوجدان عدم استقامة الأمة من دون وجود إمام وراعٍ يقوم بشؤونها وإدارة أمورها، ويساعد على ذلك ما نشهده على مرّ تاريخ البشرية من أنه لم توجد قبيلة من القبائل، أو جماعة من الجماعات، أو دولة من الدول لم يكن لها مسؤول وقائد يقوم بإدارة شؤونها. ومن هنا يحكم العقل بضرورة وجود إمام للأمة حتى لا يعم فيها الخراب، وينتشر بينها الدمار.

وأما الدليل النقلي، فإن جميع ما قدم ذكره في الاستدلال على كونها أصلاً يصلح لإثبات كونها ضرورة من ضروريات الدين، إلا أنه يمكن ذكر نصوص أخرى، وهي النصوص التي تضمنت أنه ارتد[14] الناس بعد رسول الله(ص) إلا نفر ثلاثة، وهي عدة نصوص بينها ما هو معتبر سنداً:

فمنها: فعن حنان بن سدير عن أبي جعفر(ع)، قال: كان الناس أهل ردة بعد النبي(ص) إلا ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، ثم عرف الناس بعد يسير، وقال: هؤلاء الذين دارت عليهم الرحمن وأبو أن يبايعوا حتى جاؤوا بأمير المؤمنين(ع) مكرهاً فبايع وذلك قول الله عز وجل:- (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)[15].

ومنها: وعن أبي بكر الحضرمي، قال: قال أبو جعفر(ع): ارتد الناس إلا ثلاثة نفر: سلمان وأبو ذر، والمقداد. قال: قلت: فعمار؟ قال: قد كان جاص جيصة، ثم رجع، ثم قال: إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد، فأما سلمان فإنه عرض في قلبه عارض أن عند أمير المؤمنين(ع) اسم الله الأعظم لو تكلم به لأخذتهم الأرض[16].

ومنها: ما رواه أبو بصير، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): ارتد الناس إلا ثلاثة أبو ذكر وسلمان والمقداد؟ قال: فقال أبو عبد الله(ع): فأين أبو ساسان وأبو عمرة الأنصاري[17]؟

قال العلامة المجلسي(ره): بيان: أي هذان لم يستمرا على الردة، أو لم يصدر منهما غير الشك[18].

وقد عرفت عند الحديث عن آية الانقلاب أن الحدث الذي حصل من الصحابة بعد وفاة رسول الله(ص) يتمثل في الإنكار للبيعة المباركة لأمير المؤمنين(ع) بالولاية والإمامة والخلافة، والمقصود من الارتداد الوارد في هذه النصوص، هو الارتداد الجزئي، الذي يكون بالارتداد عن بعض عقائد الدين، وأحكامه. في مقابل الارتداد الكلي الذي يكون بالارتداد عن الدين كاملاً.

 

—————————

 

[1] مسند أحمد ج 4 ص 96.

[2] صحيح مسلم ج 6 ص 22.

[3] المصدر السابق ص 21.

[4] الكافي ج 1 ح 3 ص 377.

[5] صحيح البخاري ج 8 باب في الحوض ح 166 ص 217.

[6] سورة الشورى الآية رقم 23.

[7] تفسير الكشاف ج 3 ص 467.

[8] كنـز العمال ج 7 ص 103.

[9] المصدر السابق ج 6 ص 154.

[10] الكافي ج 1 ح 1 ص 180.

[11] قد تمت الإشارة إلى ذلك في مقال سابق بعنوان ولادة المنقذ، وما سوف يذكر هنا عبارة عن مخلص لما جاء هناك.

[12] كتاب الطهارة ج 3 ص 446.

[13] بحوث في شرح العروة ج 3 ص 315.

[14] لا يتوهم أحد أن الغرض من النصوص المذكورة الإساءة لبعض أصحاب رسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع)، وإنما بيان الحالة التي حصلت بعد رسول الله(ص)، مضافاً إلى أن هناك تفاوتاً بين الناس في مستوى التصديق والمعرفة، وليس الجميع في مستوى واحد. والذي يهون الخطب، أن أكثر المسلمين، رجعوا بعد ذلك، وجاءوا يطلبون من أمير المؤمنين(ع)، فعن أبي بصير عن أبي جعفر(ع)، قال/ جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك إلى علي(ع) فقالوا له: أنت والله أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس وأوليهم بالنبي(ص)، هلمّ يدك نبايعك، فوالله لنموتن قدامك، فقال علي(ع): إن كنتم صادقين فاغدوا علي غداً محلقين فحلّق أمير المؤمنين(ع)، وحلّق سلكان، ومحلّق مقداد، وحلّق أبو ذر، ولم يحلّق غيرهم، ثم انصرفوا فجاؤا مرة أخرى بعد ذلك، فقالوا له أنت والله أمير المؤمنين وأنت أحق الناس وأوليهم بالنبي(ص) هلّم يدك نبايعك، وحلفوا فقال: إن كنتم صادقين فاغدوا عليّ محلّقين، فما حلّق إلا هؤلاء الثلاثة، قلت: فما كان فيهم عمار؟ فقال: لا، قلت: فعمار من أهل الردة؟ فقال: إن عماراً قد قاتل مع علي(ع) بعد. بحار الأنوار ج 28 كتاب الفتن ح 21 ص 237. وعلى أي حال، الحديث عن هذا الجانب طويل الذيل، لا يسعه هذا المختصر، لذا يطلب من محل آخر.

[15] بحار الأنوار ج 28 كتاب الفتن والمحن ح 22 ص 236.

[16] المصدر السابق ح 26 ص 239.

[17] المصدر السابق ح 25 ص 238.

[18] المصدر السابق ص 238.