16 أبريل,2024

الشهادة الثالثة (3)

اطبع المقالة اطبع المقالة

حجة المانعين عن شرعيتها:

هذا ولم يبق بعد كل ما تقدم، إلا الإشارة لما يتصور دليلاً على المنع من شرعيتها، فضلاً عن جزئيتها في الأذان، وعمدة ما يمكن تصوره من حجة للقائلين بالمنع من جزئيتها في الأذان، هو الاستناد لتوقيفية الأذان، إذ أن غيره من لزوم الفصل بين فصوله، قد عرفت جوابه، كما أن إيقاع كلام آدمي في الأذان من غير فصوله، لا يصلح أن يمنع من ذلك، فالعمدة هو توقيفية الأذان.

وعلى أي حال، إن الاستدلال بهذا التوجه يتركب من قياس منطقي من الشكل الأول، كبراه: إن العبادات أمور توقيفية، بمعنى لابد أن يقتصر فيها على وفق ما صدر من الشارع المقدس، فلا يتجاوز فيه أمره. وصغراه: إن الأذان أمر عبادي، فتكون النتيجة، أنه لابد من الاقتصار في الأذان على خصوص ما جاء من الشارع في تعداد فصوله، ولما لم تتضمن النصوص الصادرة من الشارع ذكر الشهادة الثالثة لا في الأذان، ولا في الإقامة، فلا يجوز ذكرها فيهما.

وحتى يصح الدليل المذكور، لابد من إضافة قيد له، ذلك أن ذكرها من دون الإشارة لذلك القيد لا يفيد المنع، والقيد هو: إن ذكرها في ضمن الأذان، وعدّها فصلاً من فصوله، وكذا الإقامة يستوجب البدعية، لأنه إدخال ما ليس من الدين في الدين، فيكون حراماً.

وبالجملة، إن الموجب لحرمة ذكر الشهادة الثالثة في الأذان، هو الإتيان بها بعنوان الجزئية، فإن ذلك بدعة، لكونه إدخالاً لما لم يكن من الدين في الدين، إذ أن الأذان أمر توقيفي تعبدي يقتصر فيه على ما جاء عن الشارع المقدس.

ووفقاً لما ذكر، لا ضير في الإتيان بالشهادة الثالثة ما لم تكن بعنوان الجزئية والشطرية، فإنه لا ينطبق عليها عنوان البدعة من جهة، لأنه لا يصدق عليها أنه إدخال ما ليس من الدين في الدين، وبالتالي لا تنافي توقيفية الأذان من حيث الفصول، كما لا يخفى.
وهذا يعني أن ما عليه جمهور الشيعة، من الإتيان بها لا من باب الجزئية، بل من باب الشعارية والمحبوبية والمرجوحية لا ضير فيه، ولا إشكال.
وكيف كان، فلنعد لدليل المانعين، ولنرى هل يصلح دليلاً للمانيعة أم لا.

وقد عرفنا أن الدليل المذكور يقوم على نقطتين أساسيتين:

الأولى: توقيفية الأذان، كعبادة.
الثانية: إن عدّ الشهادة الثالثة من فصول الأذان والإقامة، يعدّ بدعة.

ولا يخفى أن ما تضمنته النقطة الثانية من صدق عنوان البدعة، يتوقف على صدق الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان أنه إدخال ما ليس من الدين في الدين، كما هو مفهوم البدعة، وهذا يعني أن لا يكون العمل الصادر مستنداً لدليل صريح أو كنائي في المدعى، أما لو كان العامل قد استند في عمله لدليل من الأدلة، وإن كان كنائياً مثلاً، لن ينطبق على عمله حينئذٍ عنوان البدعة كما لا يخفى.

ومقامنا من هذا القبيل، ضرورة أن الآتي بالشهادة الثالثة، قد يستند في إتيانه بها إلى الدليل الكنائي مثلاً، أو يكون مستنداً إلى العمومات الواردة في الولاية، واقتران الشهادة الثالثة بالشهادة بالتوحيد والرسالة. أو لوحدة الملاك بين النداء باسم أمير المؤمنين(ع) في السماء، والنداء باسمه في الأرض، أو نصوص أن ذكره(بأبي وأمي)عبادة، أو لخبر الاحتجاج وفقاً لقاعدة التسامح، أو لخبري السلافة لنفس النكتة، أو للوثوق بالصدور فيهما، فكيف بعد كل ما ذكر، يتصور أن ذكر الشهادة الثالثة يكون من صغريات البدعة؟ أليس ما ذكر مانع من انطباق تعريفها في المقام؟!

وبالجملة، إن من يدعى أن ذكر الشهادة الثالثة في الأذان بدعة يحتاج أن يقيم دليلاً على بدعيتها، لا أن الآتي بها يحتاج أن ينفي ذلك، ضرورة أن الآتي بها قد استند لشيء مما ذكرنا مما يمنع صدق عنوانها على فعله، فلاحظ.

هذا ولو قيل، إن خير شاهد على كونها بدعة، عدم ذكرها في شيء من أخبار المعصومين(ع)؟
كان ضعفه واضحاً جداً، فإن كثيراً من الأمور المباحة لم تذكر في كلماتهم(ع)، أو يلتـزم أحد بأن ذلك يستوجب الحكم بالبدعية.

وبعبارة أخرى، إن عدم الذكر أعم من صدق عنوان البدعة، كما لا يخفى. على أنه قد تقرر مما تقدم ذكرها، فلا نعيد. على أن لشيخنا غواص بحار الأنوار وهو الورع التقي كلاماً يفيد وجود الشهادة الثالثة في الأخبار، قال(قده): لا يـــبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبة في الأذان، لشهادة الشيخ والعلامة والشهيد وغيرهم، بورود الأخبار بها[1].

ووفقاً لما تقدم، ينهدم الاستدلال المذكور، لأنه بهدم إحدى مقدمتيه التي يقوم عليهما يكون ساقطاً عن الاعتبار، كما لا يخفى.
وأما النقطة الأولى، وهو توقيفية الأذان، فقد أثار بعض المحققين(حفظه الله) تساؤلين في المقام:
الأول: هل أن توقيفية الأذان تختلف عن توقيفية غيره من الأحكام، بحيث أنه يجوز فيه ما لا يجوز في غيره؟
الثاني: هل يختلف التوقيفي الواجب عن التوقيفي المستحب، بحيث يجوز في الثاني ما لا يجوز في الأول؟

ولا يخفى أنه يكفي في مقامنا البحث عن التساؤل الأول، ونكون في غنى عن الحديث عن التساؤل الثاني، ضرورة أنه لو ثبت عدم كون الأحكام التوقيفية كلها على نسق واحد، فإنه يعالج الاستدلال المذكور من جهة أخرى.
هذا وقد ألتـزم في الأمر الأول، بوجود فرق بين الأحكام التوقيفية بعضها عن بعض، فليست جميعها على نسق واحد، بل تختلف فيما بينها، فتوقيفية الأذان تختلف عن توقيفية الزواج والطلاق، ذلك أن توقيفية الزواج والطلاق تتعلقان بأمر كلي، وليس بجزئيته، لأن المطلوب من العاقد والمطلق هو إنشاء عقدة الزواج، أو فك ذلك الارتباط، ولا يتعبد بنص خاص في تحقيق ذلك كما لا يخفى.

وهذا بخلاف توقيفية القرآن الكريم مثلاً، فإنه يجب التعبد فيه بنص خاص، فلا يجوز تغيـير كلمة محل كلمة، أو تقديم كلمة على أخرى.
ووفقاً لما تقدم، يمكن القول بأن الأمور التوقيفية تختلف باختلاف الأمور حسب تعلق الأحكام، فلو تعلقت بالحقيقة، وذات الأمر فإنه يسوغ التغيـير والتبديل فيها، أما لو كانت متعلقة بنص معهود، دون زيادة ونقيصة، فإنه لا يجوز ذلك.

وعندما نود أن نطبق ما تقدم على الأذان، لنرى أنه من القسم الأول، وهو ما يتعلق الحكم فيه بحسب الحقيقة، ليكون كالطلاق والنكاح، أم أنه يتعلق الحكم بالتعبد بنص معهود، ليكون كالقرآن الكريم.

نلاحظ أن الرجوع لنصوص الأذان، يفيد أنه من القسم الأول، فيكون كالطلاق والنكاح، وليس من القسم الثاني، فقد وردت أخبار عديدة تضمنت الاجتـزاء في الأذان بفصل واحد في بعض الحالات، كحالات السفر، والاستعجال، وكذا المرأة، بل قد ورد في شأنها أيضاً أنه تكتفي بالتكبير والشهادتين، دون الحيعلات، بل جاء في بعضها كفاية الشهادتين فقط.

كما جاء في بعض النصوص أنه يجوز للمؤذن أن يقول(حي على الصلاة) أكثر من مرتين، أو(حي على الفلاح)أكثر من مرتين، لو كان يود جمع المصلين للصلاة، وبهذا أفتى صاحب العروة(ره)، وغيره من أعلامنا. ويتأكد ما ذكرنا من كون توقيفية الأذان بما ذكر، ما تقدم نقله عن السيد الحكيم(أطال الله في بقائه) يوم تغلب المسلمون على عيهلة، وأذن مؤذنهم بما ذكره، من دون أن ينكر عليه أحد، فراجع.
فكيف بعد هذا يستند للتوقيفية في الأذان، لتكون مانعاً من ذكر الشهادة الثالثة؟!

خاتمة:

هذا ولنختم الحديث بتساؤل ربما طرح في المقام، مفاده: إذا كان ما تقدم ذكره تاماً، فلماذا لم تتضمن النصوص الصادرة عن أهل البيت(ع) ذكراً للشهادة الثالثة، ولم يتم عرضها كبقية فصول الأذن والإقامة؟

ونجيب عن ذلك بجوابين:

الأول: يتوقف على ذكر مقدمة، مفادها: لا يخفى أن هناك مؤلفات كانت لأصحاب الأئمة(ع) تضمنت نقل النصوص الصادرة عنهم(ع)، وقد ذكرها مؤلف الفهارس كالشيخ النجاشي، والشيخ الطوسي(ره)، وغيرهما، وقد عرف من بين تلك المؤلفات الأصول الأربعمائة، وغيرها، إلا أنه لم يصلنا شيء من تلك المصادر الأصلية في العصور المتأخرة، لكننا نعتمد في معرفة النصوص الصادرة عن الأئمة(ع) على مصادر حديثية ألفها جملة من أعلامنا تضمنت كثيراً من تلك الروايات الصادرة عنهم، وقد اعتمدوا في نقل تلك الروايات على تلك المصادر الأصلية، إذ أن أغلب تلك الكتب، لو لم يكن جلها كان موجوداً بأيديهم.

وقد عرف من المصادر الحديثية التي نقلت لنا تلك الروايات، أربعة كتب متقدمة، وأربعة كتب متأخرة.
أما الأربعة الكتب المتقدمة، فيقصد بها الكافي لشيخا الكليني، ومن لا يحضره الفقيه لشيخنا الصدوق، والتهذيب، والاستبصار لشيخنا الطوسي(ره)، والأربعة المتأخرة، وهي: بحار الأنوار، لغواص بحار الأنوار العلامة المجلسي، والوسائل، لشيخنا الحر العاملي، والوافي لشيخنا الفيض الكاشاني، ومستدرك الوسائل لشيخنا المحدث النوري(ره).

هذا وقد كان لكل واحد من هؤلاء المؤلفين(ره) منهجية تختلف عن منهجية الآخر، كما أن معيار القبول للخبر عند كل واحد منهم يختلف تماماً عنه عند الآخر، إذ ربما كان الخبر معتبراً عند أحدهم، ولا يكون معتبراً عند الآخر، وهكذا، وما ذلك إلا لاختلافهم في موجب الحجية والاعتبار، وفي المباني الرجالية. وعليه، فقد اختلفت المصادر المذكورة في ما بينها، كما يلحظ ذلك كل من يرجع إليها، ويشهد لما ذكرناه أنه لولا تأليف شيخ الطائفة(ره) لكتابيه التهذيب والاستبصار لم تنقل لنا كثير من الروايات، لأنه قد أعرض عن نقلها العلمان الكليني والصدوق(ره) لمعارضتها لنصوص أخرى، بل إن شيخ الطائفة(ره) نقلها لأجل علاج المعارضة، كما ذكر ذلك في سبب تأليفه كتابيه.

وبالجملة، ما يهمنا في المقام، أنه قد اختلفت منهجية التأليف عند أصحابنا، في نقلهم للنصوص والأخبار.
وبعد الإحاطة بما ذكرنا، يتضح أن مؤلفي الكتب الأربعة، سواء المتقدمة منها، أم المتأخرة،لم ينقلوا لنا كل النصوص الصادرة عن الأئمة(ع)، وإنما نقلوا خصوص ما كان يرون حجيته بنظرهم، وبالتالي لا يمكن الجزم بعدم وجود نصوص أخرى صادرة عن المعصومين(ع) لم تنقل، لأنهم لا يرون حجيتها، ولا يبنون على اعتبارها، ومن أمثلة ذلك نصوص الشهادة الثالثة، إذ قد عرفت في ما حكيناه من عبارات الصدوق والشيخ(ره) أنها كانت موجودة، لكنهما لم ينقلاها لأن الأول اعتبرها من موضوعات المفوضة، والثاني اعتبرها أخباراً شاذة.

ويشهد لما ذكرناه ما ذكره العلامة التقي المجلسي(ره) تعقيباً على كلام الصدوق(ره)، قال: الجزم بأن هذه الأخبار من موضوعاتهم(المفوضة)مشكل-إلى أن قال-والظاهر أن الأخبار بزيادة هذه الكلمات(محمد وآل محمد خير البرية، أشهد أن علياً ولي الله)أيضاً كانت في الأصول وكانت صحيحة أيضاً… ومجرد عمل المفوضة أو العامة على شيء لا يمكن الجزم بعدم ذلك، أو الوضع، إلا أن يرد عنهم صلوات عليهم ما يدل عليه، ولم يرد. مع أن عمل الشيعة كان عليه في قديم الزمان وحديثه. على أنه غير معلوم أن الصدوق أي جماعة يريد من المفوضة، والذي يظهر منه أنه يقول كل من لم يقل بسهو النبي، فإنه المفوضة، وكل من يقول بزيادة العبادات من النبي فإنه من المفوضة، فإن كان هؤلاء فهم كل الشيعة غير الصدوق وشيخه، وإن كانوا غير هؤلاء فلا نعلم مذهبهم حتى ننسب إليهم الوضع واللعن[2].

الثاني: ما جاء في كلام العلامة التقي المجلسي(ره) أيضاً من أن الموجب لعدم الإشارة إليها في كلمات المعصومين(ع) هو مبدأ التقية، إذ قد عرفت أن الحكام والسلاطين كانوا يصرون على حذف ما يشير إليها، وما يفيد معناه، أعني الحيعلة الثالثة، مع أنها كانت تدل عليها بالكناية، وليس بالصراحة، فكيف لو كانت مذكورة صريحة في النصوص، لكان ذلك موجباً لحصول ما لا يحمد عقباه على الشيعة، فكان الموجب لعدم ذكرها هو الخوف على الشيعة، والعمل بالتقية، قال(قده) [3]: ويمكن أن يكون واقعاً ويكون سبب تركه التقية، كما وقع في كثير من الأخبار ترك(حي على خير العمل)تقية[4].

[1] بحار الأنوار ج 81 ص 111.
[2] روضة المتقين ج 2 ص 245-246.
[3] المصدر السابق ص 246.
[4] من مصادر البحث: موسوعة الأذان الحلقة الأولى، والحلقة الثانية، للمحقق السيد علي الشهرستاني، ست رسالات فقهية استدلالية، الشهادة الثالثة للعلامة الشيخ محمد سند، مسائل شرعية بين السنة والبدعية للسيد محمد مهدي الخرسان.