29 مارس,2024

التفسير والتأويل (1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

لا ريب في أن القرآن الكريم كتاب هداية وصلاح لجميع البشر، جاء به النبي الأكرم محمد(ص) لكي يكون دستوراً يقنن الحياة البشرية، ويمثل المنهج الذي تسير عليه الأمة في مقام أداء ما عليها من تكاليف وإلزامات، وأداء ما يطلب منها من حقوق.

وهذا يستدعي أن يكون هذا الكتاب كتاباً واضحاً يمكن لكل أحد أن يتناوله بالفهم والمعرفة، لا أن يكون منطوياً على شيء من الغموض أو الإبهام.

ومقتضى هذا حصول تساؤل، وهو: هل أن القرآن الكريم بحاجة إلى بيان وتفسير، لكونه مشتملاً على شيء من الغموض الذي يحتاج إيضاحاً؟…

ولكي نستطيع الإجابة على هذا التساؤل، لابد أن نعرف المراد من كلمة التفسير، ومن ثمّ ننظر هل أنه ينطبق عليها ما قرر من التساؤل أو لا.

معنى التفسير لغة:

كلمة التفسير مأخوذة من كلمة فَسَرَ، المشتقة من كلمة السفر، وهي تعني الكشف والظهور. وهذا المعنى مستفاد من كلام صاحب مجمع البحرين أيضاً، لكنه جعل الكلمة مأخوذة من الفسر، وليس من السفر.

وعلى أي حال، فمقتضى هذا المعنى للتفسير من كونه الكشف والظهور، أنهما أمران متغايران، فتفسير الكلام يعني القيام بأمرين:

1-كشفه.

2-ظهوره.

نعم ورد في كلام القاموس المحيط تفسير كلمة التفسير، بأنها كشف الظاهر. لكن هذا البيان منه يمكن رفضه، ضرورة أن الظاهر لا يحتاج إلى تفسير، وإلا لم ينطبق عليه هذا العنوان، وإن شئت فقل: إن البيان والإيضاح إنما يكون عادة لما ينطوي على شيء من الغموض وعدم الوضوح، ولا يخفى أن الظاهر ليس كذلك، لعدم كونه غامضاً، أو خفياً وإلا لما انطبق عليه هذا العنوان، مما يعني أنه لا يحتاج إلى بيان، فيكون في غنى عنه.

التفسير في الاصطلاح:

وأما في اصطلاح أهل التفسير فقد ذكرت للتفسير عدة معاني، نشير إلى جملة منها:

منها: ما جاء في كلام العلامة السيد الطباطبائي(ره) في تفسيره القيم الميزان، قال: التفسير هو بيان معاني الآيات القرآنية، والكشف عن مقاصدها ومداليلها[1].

ومن الواضح أن هذا البيان الصادر منه(قده) لحقيقة التفسير بحسب الظاهر لا يخـتلف عن المعنى اللغوي، حيث أخذ في بيان حقيقته، كونه كشفاً لما يكون غامضاً، وبياناً للمقصود والمدلول.

ومنها: ما جاء في كلام المرجع السيد أبو القاسم الخوئي(قده) في كتابه القيم البيان، إذ قال في تعريفه للتفسير: التفسير هو إيضاح مراد الله من كتابه العزيز[2].

وهذا التعريف كالتعريف السابق الصادر من السيد العلامة، في عدم كونه تعريفاً مغايراً لما هو المستفاد من كلمات اللغويـين بحسب الظاهر.

ومنها: ما ورد في تعريف الشيخ محمد جواد مغنية(ره) من أن التفسير: علم يـبحث فيه عن معاني ألفاظ القرآن وخصائصه[3].

والظاهر من كلامه(ره) أن هذا التعريف منه للتفسير يغاير المعنى المقرر في كلمات اللغويـين، لكونه يحتاج الإقدام على هذا الأمر إلى مقدمات، وذلك بمقتضى تعريفه إياه بأنه علم…الخ…

لكن الإنصاف أن هذا المعنى أيضاً لا يعدو كونه رجوعاً للمعنى اللغوي، بحيث أن الاعتماد على ظهور اللفظ والكشف عن معناه المراد يحتاج قواعد وأسس يتم السير على وفقها لكي يمكن للمبين بيان الشيء وإيضاحه، وعليه سوف يؤول هذا التعريف للتفسير إلى ما تقدم عن أهل اللغة في معناه.

فتحصل مما ذكرنا أنه ليس للتفسير بحسب الظاهر حقيقة خاصة عند أهل الاصطلاح تغاير المعنى الموجود عند أهل اللغة، بل ما ورد في كلماتهم يرجع في ظاهره إلى ما ورد في كلمات اللغويـين.

فإذاً ليس تفسير القرآن الكريم، إلا عبارة عن شرح وبيان وإيضاح المضامين والمعاني التي تضمنـتها الآيات الشريفة.

جواب السؤال:

بعدما اتضحت عندنا حقيقة التفسير من خلال البيان السابق، نعود لنجيب على ما تقدم منا عرضه في مطلع الحديث من التساؤل، بأنه هل يوجد في القرآن الكريم غموض بحيث يستدعي ذلك تفسيره وبيانه، أو لا يوجد فيه شيء من ذلك أصلاً؟…

الموجود في كلمات المفسرين هو الاعتراف بوجود غموض في القرآن الكريم، مما يجعل من مسألة التفسير مسألة مهمة، لغاية إزالة ذلك الغموض والكشف عنه.

إنما الكلام في مجالات هذا الغموض، حيث ذكروا له عدة مجالات:

منها: الغموض في المفردة اللغوية:

حيث وردت في القرآن بعض الاستعمالات لألفاظ تحتاج بياناً وإيضاحاً، حتى لمن كان معاصراً لوقت نزول القرآن الكريم، بسبب ندرة الاستعمال، أو بسبب تعدد الاستعمال واختلافه، أو بسبب سعة الآفاق العربية، كما يمكن أن يكون منشأ الغموض يرجع للعصر المتأخر عد نزول القرآن الكريم، بسبب تداخل اللغة العربية مع غيرها، مما سبب ذهاب كثير من الاستعمالات الأصلية، وفواتها.

وعلى أي حال، فمن النماذج التي تضمنت فيها المفردة القرآنية غموضاً، قوله تعالى:- (وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً)[4]. فإنه لا يمكننا أن نعرف المعنى المراد من كلمة حصير بحسب الظهور الأولي، بل لابد من مراجعة كلمات اللغويـين طلباً للبيان والإيضاح وسعياً لإزالة الغموض عنها، ولذا لابد من مراجعة كلمات أهل اللغة لبيان معنى كلمة(حصير) ومن ثمّ يحكم بالمراد منها.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً، قوله تعالى:- ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)[5]، فإن لفظة العرجون من الألفاظ الغامضة التي لا يتسنى لكل أحد معرفتها بمجرد النظر فيها، بل إن بيان معناها يحتاج إلى مراجعة كلمات اللغويـين حتى يتضح معناها، وهكذا.

وكذا يجري الكلام السابق أيضاً بالنسبة لقوله تعالى:- (فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عِزين)[6].

ومنها: تعدد المعاني اللغوية:

بحيث تكون الكلمة بحسب المعنى واضحة لا غموض فيها، لكنها تستعمل في أكثر من معنى مما يؤدي إلى صعوبة إحراز المعنى المراد منها، وبالتالي تكون بحاجة إلى بيان وتفسير، ومن ذلك قوله تعالى:- ( وإنّا منا المسلمون ومنا القاسطون)[7]، فإن كلمة القسط استعملت في القرآن الكريم في معاني متعددة، كالعدل والانحراف عن العدل، وهذا يستوجب غموضاً في المعنى المراد منها فيحتاج حينئذٍ للبيان والتفسير.

ومثل ذلك قوله تعالى:- ( إن قرآن الفجر كان مشهوداً)[8]، فإن كلمة قرآن قد استعملت في معاني متعددة، تستوجب الحاجة لبيان المعنى المراد منها.

وكذا قوله تعالى:- (حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط)[9]، ففي كلمة الجمل الواردة في الآية معنيان محتملان أشير لهما في كلمات أهل التفسير، أحدهما الجمل الذي يكون مفرد الإبل، وثانيهما الحبل الذي تشدّ به السفينة.

ومنها: الغموض ف التركيب:

فقد يسبب تركيب الجملة واحتماله لأكثر من صورة يمكن قراءة الآية من خلالها غموض في المعنى، فلاحظ قوله تعالى:- (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به)[10]. حيث ذكرت للآية صورتان يمكن تركب الجملة فيها على أساسها:

الأولى: الوصل، فيكون معنى الآية وفقاً له هو: إن الله والراسخين في العلم يعلمون التأويل، ومنشأ ذلك يرجع لأن كلمة الراسخين سوف تكون معطوفة على لفظ الجلالة.

الثانية: الفصل، وعلى هذا سوف يكون معنى الآية أن الذي يعلم التأويل هو الله سبحانه وتعالى وحده، وأما الراسخون في العلم فمع كونهم مطلعين على التأويل ويملكون معرفة تفصيلية به، لكنهم يؤمنون إيماناً إجمالياً بالمعنى الذي يريده الله سبحانه وتعالى.

وغير ذلك من الأسباب والدواعي التي ذكرت في الكتب المتعرضة للحديث عن الحاجة للتفسير، والإجابة عن هذا التساؤل الذي تقدم عرضه.

——————————————————————————–

[1] الميزان في تفسير القرآن ج 1 ص 4.

[2] البيان ص 397.

[3] الكاشف في تفسير القرآن ج 1 ص 9.

[4] سورة الإسراء الآية رقم 8.

[5] سورة يس الآية رقم 39.

[6] سورة المعارج الآية رقم 36.

[7] سورة الجن الآية رقم 4.

[8] سورة الإسراء الآية رقم 78.

[9] سورة الأعراف الآية رقم 39.

[10] سورة آل عمران الآية رقم 7.