19 مارس,2024

تفسير سورة الحجرات(2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

  • تفسير سورة الحجرات(2)
  • ومنها: ما رواه أبي بن كعب عن النبي(ص) قال: من قرأ سورة الحجرات، أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومن عصاه.

    ويأتي في دلالتها التساؤل الأول المتقدم ذكره في الرواية السابقة من أن قراءتها مأخوذة بنحو العلة التامة فلا يعتبر وراء ذلك شيء آخر، أم أن قراءتها مأخوذة بنحو الاقتضاء، فيعتبر فيها التدبر والتأمل واجتناب المعاصي والطاعة والاتباع للنبي(ص) مطلقاً ولآله الطاهرين(ع)، وهكذا.

    والإنصاف، إن الإطلاق يساعد على الاحتمال الأول، ورفع اليد عن عنه بحاجة إلى قرينة مساعدة، ومع فقدها يتعين ما ذكرناه، وليس في البين قرينة تساعد على التقيـيد بما ذكر.

    ومنها: ما جاء في البرهان مروياً عن النبي(ص) أنه قال في حديث: ومن كتبها وعلقها عليه في قتال أو خصومة أمن خوف ذلك، وفتح الله تعالى على يديه باب كل خير.

  •  

    وقريب منه ما جاء فيه أيضاً أن رسول الله(ص) قال: من كتبها وعلقها عليه في قتال أو خصومة نصره الله تعالى وفتح له باب كل خير.

    وكذا جاء فيه أيضاً عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: من كتبها وعلقها على المتبوع أمن من شيطانه، ولم يعدّ إليه وأمن من كل ما يحذر من الخوف. والمرأة إذا شربت مائها درت اللبن بعد إمساكه وحفظ جنينها وأمنت على نفسها من كل خوف ومحذور بإذن الله تعالى.

    ودلالة هذه الطائفة من النصوص على العلة التامة واضحة، لأنه لا يتصور في التعليق أو الغسل بمائها التدبر والعمل وما شابه ذلك. بل إن ما جاء في مروي الإمام الصادق(ع) واضح في ذلك، فلاحظ قوله(ع): إذا شربت مائها درت اللبن بعد إمساكه، وحفظ جنينها وأمنت على نفسها من كل خوف.

  •  

    اللهم إلا أن يدعى أن فاعلية السورة وتأثيرها فرع الاعتقاد بها، وهو ناشئ من الانقياد التام والمطلق لله سبحانه وتعالى ولنبيه(ص)، ولأوصيائه(ع)، وإلا فلن تكون ذات تأثير، وهذا يجعلها بنحو المقتضي، أو قل بنحو العلة الناقصة وليست التامة.

  •  

    مضامين السورة:

    مع قلة عدد آيات السورة المباركة، حيث يبلغ عدد آياتها ثمانية عشر آية، إلا أنها قد احتوت مضامين عديدة، ولنشر لمضامينها بصورة مجملة:

    الأول: لقد تضمنت الآيات التي افتتحت السورة بها عرضاً لطريقة التعامل مع النبي الأكرم محمد(ص)، والآداب التي يلزم مراعاتها من قبل المسلمين عندما يكونوا في حضرته(ص).

    الثاني: الآيات التي تضمنت عرضاً لجملة من أصول الأخلاق الاجتماعية المهمة، والتي إن عمل بها أدت إلى حفظ المحبة والصفاء والأمن والاتحاد في المجتمع الاسلامي. أما لو أهملت كان ذلك سبباً للشقاء والنفاق والفرقة وعدم الأمن.

    الثالث: الآيات التي اشتملت على الأوامر الإرشادية المتعلقة بكيفية مواجهة الاختلافات والتنازع أو القتال الذي يقع بين المسلمين أحياناً.

    الرابع: الآيات التي عرضت معيار قيمة الإنسان عند الله، وأهمية التقوى.

    الخامس: الآيات التي جاءت لبيان عدم كفاية القول في تحقق الإيمان، بل لابد من ظهور آثاره في أعمال الإنسان والجهاد بالمال والنفس بالإضافة إلى الاعتقاد في القلب.

    وبكلمة، إن مجرد الاعتقاد القلبي لا يعدّ كافياً في حصول الإيمان، بل لابد من إضافة العمل إليه، سواء في الأفعال أم في الأموال والنفس.

    السادس: الآيات التي عالجت فهماً خاطئاً عند بعض الناس من توهم أن اسلامهم وإيمانهم أمر يمنوا به على الله سبحانه وتعالى، مع أن الصحيح أن الإسلام هداية إلهية منه تعالى لكل مسلم ومؤمن، تستوجب شكراً منه لله تعالى، لا أن يمن بذلك على الله سبحانه.

    السابع: الآيات التي تضمنت التأكيد على الإحاطة المطلقة لله تعالى، وأنه مطلع على جميع أسرار الوجود الخفية وعالم بجميع أعمال الإنسان، فلن يضيع أجر أحد لعمل قد عمله.

  •  

    ثم إنه بعد الفراغ من التمهيد، نعمد لتفسير آيات السورة، والتدبر فيها وفق المنهج الذي أشرنا إليه.

    قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم).

    وقبل العمد إلى تفسير الآية الشريفة، وبيان ما تضمنته، نشير لما ذكر حول سبب نزولها، فإن ذلك قد يعين ولو في الجملة في بيان المراد منها.

  •  

    والمستفاد مما ورد في الكتب التفسيرية والحديثية والتاريخية تعدد الأقوال في سبب النزول، وقد عدّها بعضهم سبعة أسباب:

    الأول: أنها قد نزلت في الشيخين عندما تنازعا عند النبي(ص)، وهما يجادلان في تأمير الأقرع، أو القعقاع، ويشير لهذا السبب ما ورد في كتاب الاختصاص للمفيد(ره)، من أنه قد روي عن ابن كدينة الأودي، قال: قام رجل إلى أمير المؤمنين(ع) فسأله عن قول الله عز وجل:- (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)فيمن نزلت؟ قال(ع): في رجلين من قريش.

  •  

    وقد صرح جملة من مفسري الجمهور ومحدثيهم ومؤرخيهم كالطنطاوي في تفسيره، أن المقصود بالرجلين هما الأول والثاني، وذلك عندما اختلفا في أمر فارتفعت أصواتهما بحضرة النبي(ص) لما قدم وفد من بني تميم.

    ويتوقف القبول بالنص المذكور لتحديد أن المقصود بالآية هما، على توفر أمرين:

    الأول: ثبوت نسبة كتاب الاختصاص للشيخ المفيد(ره)، وهذا محل خلاف بين الأعلام.

    الثاني: اعتبار الرواية سنداً، لأن المفروض أنها رواية تفسيرية توضح المقصود من الآية وتفسرها، وهذا يستوجب توفر شروط الحجية فيها.

  •  

    والظاهر عدم توفر ذلك فيها، فإنها ضعيفة السند. بل حتى لو بني على كونها مجرد رواية تاريخية فإنه يعتبر فيها توفر موجبات الصدور، وهي غير ما يعتبر في الرواية التفسيرية، وتفصيل ذلك يطلب من محله.

    وأما من حيث الدلالة، فيوجد فيها احتمالان:

    أحدهما: أن تكون الرواية المذكورة بصدد التفسير وتحديد المقصود بالذين آمنوا، وحصر ذلك في خصوص من تضمنتهما الرواية، وعليه سوف تكون نظير العديد من الآيات الشريفة النازلة في أهل البيت(ع)، كآية التطهير، وآية الوفاء بالنذر، وآية الولاية، والمباهلة، وهكذا. وهذا يعني أنها مأخوذة وفق قاعدة الجري والتطبيق بمعناها الخاص.

    ثانيهما: أن تكون الرواية من صغريات الجري والتطبيق بمعناها العام، فهي مشيرة إلى بعض العناوين التي تعدّ مصداقاً لها كي ما تتضح الفكرة، وتقرب، وإلا فالآية تفيد عنواناً عاماً يشمل الجميع.

  •  

    ومع غض النظر عن الملاحظة السندية، فإن ترجيح أحد المحتملين يحتاج إلى ملاحظة المدلول التركيبي للآية، ومدى دلالته ليفيد معنى جزئياً فيترجح الاحتمال الأول، أو معنى كلياً ليترجح الاحتمال الثاني.

    وقد جاء في تفسير الجلالين، أنها قد نزلت في مجادلة الرجلين عند النبي(ص) في تأمير الأقرع بن حابس، أو القعقاع بن معبد.

    وهذا القول وإن اتفق مع الخبر المروي عن ابن كدينة عن أمير المؤمنين(ع)، إلا أنه يحكي واقعة أخرى مغايرة للواقعة السابقة، فهو يتفق مع الخبر في أصل التصرف الموجب لنـزول الآية، لكنهما يختلفان في السبب الذي دعى إلى حصول ذلك منهما.

    وقد خلا القول المذكور من الدليل عليه، إذ لم يذكر مستنده، وهذا يمنع من قبوله.

  •  

    وفي أسباب النزول للواحدي بإسناده عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله(ص) فقال أبو بكر: أمرّ القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما. فنـزل في ذلك قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله-إلى قوله-ولو أنهم صبرا حتى تخرج إليهم). وقد رواه البخاري عن الحسن بن محمد الصباح.

    وجاء في تنوير المقباس في تفسير ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية:- (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله….)في ثلاثة نفر من أصحاب النبي(ص) قتلوا رجلين من بني سليم في صلح رسول الله(ص) بغير أمر الله وأمر رسوله، فنهاهم الله عز وجل، وقال:- (لا تقدموا بين يدي الله)، دون أمر الله وأمر رسوله(ص)، إن الله سميع لمقالة الرجلين عليم بما اقترفاه، وكان قولهم: لو كان هكذا لكان كذا فنهاهم الله عن ذلك.

  •  

    ولا يخفى أن ابن عباس يحكي سبب النـزول لكونه شاهداً على الواقع الخارجي، فقد كان معاصراً لتلك الأحداث.

    ولم يتضمن ما ذكره تحديد من هم النفر الثلاثة الذين قد نزلت الآية المباركة فيهم، فمن المحتمل أن يكون نظره لما جاء في بعض ما تقدم من الإشارة إلى الرجلين مع ثالث، ولم يصرح بذلك لداعٍ من الدواعي، ومن المحتمل أن يكون المقصود منهم آخرين غير من تقدم ذكرهما.