إن من الأمور الواجبة عندنا بنص الكتاب العزيز والسنة المباركة وإجماع الطائفة التقية، فقد نص القرآن على ذلك في غير آية من آياته كما أن لنا أكثر من نص وارد عن أئمة الهدى “ع” يشير إلى وجوبها.
مضافاً إلى وضوح الإجماع الحاصل لكل من استعرض فتاوى علمائنا بل لا يبعد عدّ هذا الحكم من ضروريات المذهب.
ولقائل أن يقول بعد ما ثبت وجوب التقية هكذا بالنحو المزبور فلماذا لم يعمل أبو عبد الله “ع” بها حيث لا نجد أحداً ممن سبقه ولا ممن جاء بعده من المعصومين “ع” قام بحركة كحركته والظاهر أن ذلك كان منهم عملاً بالتقية الواجبة التي يحسون بضرورتها التشريعية والواقعية عليهم. فإذن لماذا أستثني الحسين “ع” من ذلك؟…
في مقام الجواب نشير لعدة أجوبة يمكن تصورها في المقام وإن لم يكن بعضها صحيحاً فنقول:
الأول: إن النصوص الدالة على وجوب التقية إنما صدرت عن الإمامين الصادقين “ع” وهما قد عاشا بعد واقعة كربلاء بفترة غير قليلة من الزمن مما يعني أنها لم تكن موجودة في زمان الإمام الحسين “ع” وعليه لا يكون هناك دليل على وجوب التقية عليه يوم حركته فلا يجب عليه العمل بها.
ويلاحظ عليه أولاً: إن مفاد أخبار التقية حكم واقعي ثابت في الشريعة المقدسة وعقيدتنا أن جميع المعصومين “ع” يعلمون بذلك بما فيهم الإمام الحسين “ع” لأنهم عالمون بجميع أحكام الشريعة المقدسة.
ثانياً: لو رفعنا اليد عما تقدم لكان في آيات الكتاب دلالة على ذلك وقد كانت موجودة ومقروءة في زمانه “ع” حيث أوضح معناها رسول الله “ص” في قضية عمار “رض”.
الثاني: إن الحسين “ع” لم يترك العمل بالتقية وإنما عمل بها كسائر الأئمة فترة من الزمن غير قصيرة في حياته وقد ترك العمل بها في ناحية أدت إلى مقتله واستشهاده، وذلك لما طلب منه البيعة ليزيد، فرفض واستوجب ذلك تهديده بكل بلاء فصدم حتّى استشهد “ع”.
ولا يخفى أن هذا ليس جواباً عن التساؤل المطروح لأن للسائل القول أنه لماذا ترك العمل بالتقية في هذا المورد؟…
الثالث: إن أدلة التقية الواردة في الكتاب والسنة لا يستفاد منها حكماً إلزامياً يفيد الوجوب بل هي دالة على الجواز.
وبتعبير فني صناعي: إن المستفاد من أدلة التقية كونها رخصة لا عزيمة، وعليه يمكننا القول:
أن الحسين “ع” كان يومها مخيراً بين العمل بها وبين تركها لعدم وجوب العمل بها في حقه، وقد اختار “ع” الجانب الأفضل في نظره وهو الأفضل حقاً في الدنيا والآخرة أعني نيله الشهادة بعد صمود منه ضد الانحراف والظلم والضلال.
لا يقال: إن قوله “ع”: التقية دين ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له. دالة على الإلزام والوجوب فلا يصلح هذا الجواب.
فإنه يقال: إن هذا النص يكون معارضاً للنص الآخر الدال على عدم الإلزام، ولما فقد المرجح فالقاعدة تقتضي التساقط.
وتكون النتيجة هي التخيير في حكم التقية بمقتضى الآيات لأن الاستثناء في مورد الحصر لا يدل على أكثر من الجواز
نعم يستثنى من جوازها فتكون واجبة إلزاماً لو توقف عليها هدف اجتماعي عام مهم كالمحافظة على بيضة الإسلام.
إلا أنه لم يكن الأمر يومئذ كذلك بل كان على العكس حيث كان حفظ الإسلام يومها متوقفاً على الجهاد والتضحية لا على الاتقاء.
ولا يخفى أن تمامية هذا الوجه تعتمد على صحة الاستظهار المذكور،أعني أن المستفاد من أدلة التقية أنها رخصة لا عزيمة،وإلا لو قيل بأن مفاد الأدلة كونها عزيمة لا رخصة لم يبق لهذا الوجه مقبولية حينئذٍ.
الرابع: لو سلمنا أن التقية حكم إلزامي فتكون واجبة، إلا أنها ساقطة في حقه “ع” لأنها مزاحمة لأمر أهم فيقدم عليها، توضيح ذلك:
إن الملاحظ في آيات التقية أنها واردة في موارد فردية متفرقة فقدم اختيار التقية على غيرها .
لكن قضية الإمام الحسين “ع” قضية عامة فاقتضى ذلك اختيار التضحية وترك التقية وذلك لأن القبول ببيعة يزيد تترتب عليه عواقب وآثار وخيمة بالغة في الأهمية ربما أدت إلى اندراس الإسلام الحقيقي ومعالمه منذ عصره إلى يوم القيامة. مضافاً إلى طلب الكوفة منه البيعة واعطائهم إياه الولاية الفعلية عليهم وهذا حكم عام مهم شرعاً ومقدم على حكم التقية.
ومن المعلوم أن هذين الأمرين لم يواجههما أحد من الأئمة المتقدمين أو المتأخرين عنه “ع”.
الخامس: إن مما نعتقده نحن الشيعة إطلاع الإمام المعصوم “ع” على الأمور الغيبية والعلم بها.
ومن هنا قد يقال: أن الحسين “ع” كان مطلعاً بأنه سوف يقتل حتّى لو بقي في مكة فضلاً عن غيرها من البلدان فعندها يرتفع عنه حكم التقية عمن سيقتله وله أن يفعل ما يشاء ولعل هذا هو ما دعى الحسين “ع” إلى أنه يموت صامداً ويسطر في التاريخ أعظم ملحمة خالدة.
ويلاحظ عليه: أن علمه بموته مبني على أساس رفضه للبيعة فلو أتقى وبايع لم يكن على يقين بموته.
السادس: أن يقال بتخصيص حكم التقية في حقه “ع” بحيث يخرج من تحت حكمها الإلزامي تخصيصاً واستثناءاً.
وقد ثبت عنده المخصص إما بالإلهام الغيبي وإما بنص عن جده رسول الله “ص” أو أبيه “ع” فلا تكون التقية حينئذٍ واجبة في حقه ولا يكون تركها حراماً عليه.
وقد يجعل المخصص النصوص الواردة في بكاء النبي “ص” عليه منذ يوم ولادته لعلمه المسبق بما يجري عليه.
ومن هنا يرتفع حكم وجوب التقية عن أهل بيته وأصحابه “ع” المشاركين له في نهضته المباركة لأن التقية وإن كانت واجبة عليهم إلا أنه لما أمرهم الحسين “ع” بالمسير معه والقتال بين يديه تكون مستثناة أيضاً في حقهم.
بل الظاهر أن مقتضى قوله “ع”: من سمع واعيتنا ولم ينصرنا أكبه الله في النار. عدم وجوبها على أحد من البشر على الإطلاق حينئذٍ لدلالته على لزوم نصره فيجب ترك التقية من هذه الجهة.