25 أبريل,2024

الجفاف الروحي (9)

اطبع المقالة اطبع المقالة

لا زال كلامنا في استعراض بعض النماذج من ذكر الله سبحانه وتعالى، التي يمكن من خلالها أن يكون للذكر أثراً عملياً وفاعلاً في حياتنا.

النموذج الثالث: الاستغفار:

ورد في الحديث عن النبي(ص) أنه قال: لكل داء دواء، ودواء الذنوب الاستغفار.

ويستفاد من هذا الحديث النبوي الشريف أمران:

الأول: أن الذنوب تشكل مرضاً من الأمراض، وهذا المعنى قد أشار له بعض علماء النفس، في نظرياتهم العلاجية، إذ يقررون أن المذنبين ليسوا إلا مرضى بحاجة إلى علاج، وهذا المعنى أشار له القرآن الكريم في العديد من آياته الشريفة.

الثاني: أن علاج هذا المرض هو الاستغفار.

الذنب مرض روحي:

عندما نسمع مقالة أطباء النفس يقررون أن الذنوب أمراض روحية، نتسائل، ما هو الفارق بين المرض الجسدي، والمرض الروحي؟…

المرض الجسدي في الغالب، تحس به بمجرد حدوثه، أما المرض الروحي فقد يتأخر الإحساس به زمناً طويلاً، بل ربما توغل هذا المرض في الإنسان وفتك به دون أن يحس بكونه مريضاً.

فالغيـبة مثلاً مرض كبير، فما أكثر من يمارسها دون أن يشعر بأنه مريض روحياً.

والكذب من الأمراض الروحية أيضاً، وما أكثر الممارسين له دونما إحساس منهم بأنهم مصابين بمرض روحي خطير.

والحاصل: إن هذا الإنسان الذي يمارس الغيـبة مثلاً، أو الكذب أو غير ذلك من الذنوب والمعاصي، قد يلتفت إلى أنه يمارس عملاً محرماً أو عملاً خاطئاً، لكنه لا يشعر بأنه يعيش أزمة مرضية خطيرة، كما يحس بأنه يعيش صداعاً أو مرضاً في المعدة، أو أزمة قلبية.

كيفية الخلاص من المرض:

عندما نبحث عن الأمور والحوافز التي يتبعها الإنسان للخلاص من المرض الجسدي، نرى أنها الخوف من الألم، التعب، المعاناة، الهلاك، الموت.

لكن ما هي حوافز الخلاص من المرض الروحي؟…

إن حوافز الخلاص من المرض الروحي، فأهمها الخوف من عقاب الله سبحانه وتعالى، والطمع في ثوابه، وحب الله تعالى.

هذا والفارق بين النوعين من الحوافز، هو أن الحوافز الأولى عند أغلب الناس أقوى من الحوافز الثانية، فالهروب من الأمراض الجسدية حالة فطرية لا تحتاج إلى إرادة وترويض، بينما الهروب من الأمراض الروحية يحتاج إلى إرادة وترويض وتدريب.

اللامبالاة بالأمراض الروحية:

هذا ومما يلاحظ بشكل واضح، أن الإنسان يحمل هماً كبيراً بالنسبة للأمراض الجسدية، ولذا يندفع إلى التفكير والعمل الجادين للتخلص من هذه الأمراض، بينما نجده يعيش اللامبالاة بالنسبة للأمراض الروحية.

هذا ولعل السبب الداعي إلى مثل هذا الاختلاف بين هذين النوعين، هو كون الأمراض الجسدية لها آثار ونتائج سريعة وواضحة، في حين لا تبرز نتائج وآثار الأمراض الروحية بشكل عاجل وواضح.

ثم إنه كما يعمد إلى علاج الأمراض الجسدية، ومن خلال عدة سبل ووسائل، يعمد كذلك إلى علاج الأمراض الروحية، نعم يخـتلف الموردان في أن الوسائل المعتمدة في علاج الأمراض الجسدية أسهل بكثير من الوسائل المعتمدة والمتبعة في علاج الأمراض الروحية.

العلاج الروحي للذنوب:

لكي يتم علاج أي مرض من الأمراض، لابد من توفر مراحل ثلاثة:

الأولى: تشخيص الحالة المرضية، بمعنى تحديد المرض، وتحديد أسبابه.

الثانية: وضع العلاج المناسب للمرض، من خلال تحديد الدواء، وكيفية استخدامه.

الثالثة: التطبيق والالتـزام بالوصفة العلاجية.

وعندما نرجع إلى الحديث الذي جعلناه مستهل حديثنا، وهو قوله(ص): لكل داء دواء، ودواء الذنوب، الاستغفار.

نجد توفر المرحلتين الأوليـين من المراحل الثلاث التي يحتاجها كل مرض في مقام العلاج، وهما:

1-مرحلة التشخيص، والتحديد لهوية المرض، ولذا قال(ص): دواء الذنوب، فإن هذا يشعر بكون الذنوب مرضاً، ولذا احتاج إلى دواء، فتم على هذا تحديد المرض وتشخيصه.

2-مرحلة بيان العلاج، وقد أشار لذلك(ص) بقوله: ودواء الذنوب الاستغفار، فإذن الطريق لعلاجها يتم من خلال تناول الدواء التالي، وهو الاستغفار.

لكن بقيت المرحلة الثالثة من مراحل العلاج، وهي مرحلة التطبيق والالتـزام بالوصفة العلاجية، لم يتعرض لها(ص) لكونها مسؤولية الإنسان نفسه، ومرتبطة به.

كيف نطبق العلاج:

والآن بعدما عرفنا المرض، كيف نقوم بتطبيق العلاج، وما هي طرق الاستعمال والتناول لهذا الدواء، مثلاً في الأمراض الجسدية، يحتاج تطبيق العلاج إلى إرشادات من قبل الطبيب المعالج، الذي لا يعطي المريض الدواء بدون توصيات وإرشادات، ويتوقف نجاح العلاج وأدائه لمفعوليته على مدى التـزام المريض بتلك الإرشادات والتوصيات.

ومن الواضح أنه لو قام الإنسان بمخالفته لهذه الإرشادات كان ذلك داعياً إلى فشل العلاج، لكن هل هذا المقدار جارٍ أيضاً بالنسبة إلى الأمراض الروحية؟…

لا ريب في أن المرض الروحي، كالمرض الجسدي، كما عرفت من جهة حاجته إلى العلاج، وهذا يعني أنه مثله أيضاً في كونه يتوقف تحصيل الدواء فيه لمفعوله على الالتـزام بالإرشادات المذكورة فيه، لكن هل أن النبي(ص) أعطانا إرشادات وتوجيهات لاستعمال العلاج وهو الاستغفار المقرر للمرض؟…

لقد حدد لنا النبي(ص) والأئمة الأطهار(ع) من بعده الإرشادات التي ينبغي إتباعها في مقام استعمال العلاج، فإذا أراد الإنسان لهذا العلاج أن يكون ناجحاً، وأن يحقق أهدافه في الخلاص من الداء، فيجب أن يلتـزم بتلك الإرشادات، وإلا كان العلاج فاشلاً، وعاجزاً عن تحقيق الأهداف.

فما هي تلك الإرشادات الروحية لمعالجة هذا المرض الروحي، التي أشار لها أطباء النفوس، وهم المعصومون(ع)، وكيف يمكن للإنسان تطبيق هذه الوصفة العلاجية، لكي يتمكن من التخلص من هذا المرض؟…

الإرشادات الصادرة عن المعصومين:

لقد صدرت عنه(ع) مجموعة من الإرشادات ينبغي لمن أراد أن يقوم بعلاج نفسه أن يلاحظها، لتحقيق العلاج التام من المرض الذي أصابه، وتلك الإرشادات هي:

الإرشاد الأول: الاستغفار الخالص لله سبحانه:

وهذا يعني أنه لا ينبغي أن يكون استغفار الإنسان رياء، أو سمعة، أو من أجل غرض من أغراض الدنيا، أو لمصلحة من المصالح الذاتية، لأن هذا الاستغفار لن يكون مجدياً، ولا نافعاً، حتى لو كرره فاعله آلاف المرات، لكونه مجرد لقلقات لسانية كاذبة باهتة، لا أثر لها في حياة الإنسان.

ولذا ينبغي أن يكون الاستغفار منطلقاً من حب الله سبحانه وتعالى، ومن الخوف منه، ومن الرجاء في ثوابه، فما لم يكن الاستغفار مشتملاً على هذه الأمور ومتوفراً عليها، فسوف يفقد مضمونه الحقيقي، ولن ينـتج أي أثر في حياة الإنسان.

لماذا نستغفر الله:

لكل شخص حين إقدامه على عمل من الأعمال دواعٍ دعته إلى الإتيان بذلك العمل، فالبعض قد يدعوه للإقدام على عمل ما ملاحظة الفائدة التي سوف يجنيها من وراء ذلك العمل، أو القائمين عليه، أو ما شابه، كما أن البعض ربما ينظر حين إتيانه بعمل ما، الحذر من مترتبات سلبية قد تحيط به، ويصاب بها نتيجة عدم عمله هذا العمل، وهكذا.

فما هي الدواعي التي يقدم المستغفر من أجلها على الاستغفار، هل هي الدواعي المادية، والمنافع ولو كانت أخروية، وهو ما يعبر عنه عبادة التجار، أو أنها الحذر من السلبيات والآثار الوخيمة المترتبة على تركه، فتكون عبادة العبيد؟…

لا ريب في أن هناك من يستغفر الله سبحانه طمعاً في عطائه عز وجل، كما أن بعضهم يستغفره خوفاً وخشية من عقابه وسخطه.

لكن هناك الكثيرين الذين يستغفرون الله سبحانه وتعالى، حباً لله تعالى، وحياء منه، فلا غرض لهم من ذلك، إلا ما ذكرناه.

الاستغفار الصادق:

هناك بعض الناس يكثرون من الاستغفار، ولا همّ لهم إلا إيهام الآخرين بأنهم تائبون، وأتقياء، صالحون، لكنهم في الحقيقة غير ذلك، إذ هم غير صادقين في هذا الاستغفار، بل هو استغفار كاذب ومنافق.

وهذا يعني أن هناك استغفاراً يمكننا أن نطلق عليه الاستغفار الصادق، فما هو الاستغفار الصادق؟…

الاستغفار الصادق، هو الاستغفار الذي ينطلق من قلب ولسان صادقين، ولذلك نراه يترك آثاره الصادقة في حياة المستغفر، وما لم يكن استغفاراً صادقاً خالصاً لله سبحانه، كان صاحبه من المرائيـين، ومن الذين يعبدون الله تعالى على حرف. قال تعالى:- ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)[aa1] . ويقول عز من قائل:- ( يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً)[aa2] .

وورد عن الرسول الأكرم محمد(ص) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

وعنه(ص) قال: ما أخلص عبد لله عز وجل أربعين صباحاً إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

وقال(ص) أيضاً: يا بن مسعود إياك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميـين وأنت فيما بينك وبين ربك مصرّ على المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى:- ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).

وعن أمير المؤمنين(ع) قال: طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطى غيره.

الإرشاد الثاني: استشعار الندم الحقيقي:

فلابد لكي يؤثر الدواء، ويعطي مفعوله الحقيقي من أن ينطلق الاستغفار من قلب متوجع، قد اكتوى بنار الندم، وانصهر بتأنيبات الجناية، وعاش الشعور بالإثم والحسرة، لما فرط في جنب خالقه سبحانه وتعالى، وذرف الدموع والعبرات لما صدر منه من معاصي ومخالفات، كادت تودي به في الهلكات، وتجره إلى النقمات والويلات.

إن الاستغفار البارد لا يحمل حرارة التوجع والندم، فلن يكون مثل هكذا استغفار ناجعاً في علاج مرض الذنوب والمعاصي، إذ أن التوجع والندم تعبير عن صدق التوبة والإنابة إلى الله تعالى، فحينما يضع المذنب ذنوبه بين يدي ربه الرحيم، غافر الذنوب جميعاً، في لقاء حار معه، يبكي خوفاً وطمعاً، رغبة ورهبة، حباً وشوقاً، حياءاً وخجلاً، فسوف تظلله حينئذٍ فيوضات الله سبحانه، ورحماته بعباده العاصين، المذنبين، المسرفين على أنفسهم، قال تعالى:- ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم)[aa3] .

إن رحمة الله سبحانه وتعالى واسعة، وكرمه كبير، مهما كان الذنب من العبد كبيراً، وقد أشير لهذا المعنى في بعض الأدعية المأثورة: اللهم إن مغفرتك أرجى من عملي، وإن رحمتك أوسع من ذنبي، اللهم إن كان ذنبي عندك عظيماً فعفوك أعظم من ذنبي، اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كل شيء.

إن الإنسان بحاجة إلى وقفة تذلل واستكانة وتضرع بين يدي الله سبحانه، يغسل من خلالها قلبه بالآهات والحسرات، ويرسل من عيونه القطرات والعبرات، فإنها تطفئ غضب الباري سبحانه وتعالى، وتجعله من المقربين المحبوبيـين إليه، قال سبحانه وتعالى:- ( إن الله يحب التوابين والمتطهرين)[aa4] .

كما أن كل من أراد التوبة التصوح الصادقة، عليه أن يندم، ورد في مناجاة التائبين: إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإني وعزتك من النادمين، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حطة فإني لك من المستغفرين.

ليعترف التائب بين يدي ربه بذنوبه، وهو العالم بها، فإن الله سبحانه يحب أن يعترف العبد بذلك، ويتضرع إليه تعالى طلباً للمغفرة والرحمة والرضوان، فقد ورد في بعض أدعية شهر رمضان المبارك: إلهي إن كنت لا ترحم في هذا الشهر الشريف إلا لمن أخلص لك في صيامه وقيامه، فمن للمذنب المقصر إذا غرق في بحر ذنوبه وآثامه، إلهي إن كنت لا ترحم إلى المطيعين فمن للعاصين، وإن كنت لا تقبل إلا ن العاملين، فمن للمقصرين، إلهي ربح الصائمون، وفاز القائمون، ونجا المخلصون، ونحن عبيدك المذنبون، فارحمنا برحمتك وأعتقنا من النار بعفوك، واغفر لنا ذنوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

هذا مضافاً إلى أن بكاء الإنسان من ذنوبه في الحقيقة، إنما هوبكاء على ما أفناه من عمره في المعصية، فقد ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي: وأعني بالبكاء على نفسي، فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري، وقد نزلت منـزلة الآيسين من خيري، فمن يكون أسوأ حالاً مني إن أنا نقلت على مثل حالي إلى قبر لم أمهده لرقدتي، ولم ألإرشه بالعمل الصالح لضجعتي، ومالي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني، وقد خفقت عند رأس أجنحة الموت، فمالي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أ[كي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه، وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة.

——————————————————-

[1]سورة البينة الآية رقم 5.

[2]سورة النساء الاية رقم 142.

[3]سورة الزمر الآية رقم 53.

[4]سورة البقرة الآية رقم 222.