28 مارس,2024

سن البلوغ في الذكر (1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

المعروف بين أصحابنا أن الذكر يلزم بالتكاليف الإلهية متى تحققت إحدى العلامات الدالة على حصول البلوغ بالنسبة إليه، وهي على نحوين، علامات مشتركة، وعلامات مختصة، ومن العلامات المختصة بلوغ الذكر بالسن، وقد حدد المشهور ذلك بإكماله خمسة عشر سنة هلالية، ودخوله في السادسة عشر، إلا إن هناك مخالفة من بعض الأعلام في المقام، وكيف ما كان، فلأصحابنا ثلاثة أقوال في المسألة:

الأول: أنه خمس عشرة سنة، بمعنى أن يكمل خمسة عشرة سنة هلالية، ويدخل في السادسة عشر، وهو القول المشهور الذي كاد أن يكون مورد اتفاق، قبل ظهور المقدس الأردبيلي S.

الثاني: أنه الأربع عشرة سنة، أي أنه أتم أربعة عشرة سنة، ودخل في الخامسة عشر، وقد نسبة العلامة إلى ابن الجنيد في المختلف.

الثالث: أنه ثلاث عشرة سنة، بمعنى أنه قد أتم ثلاثة عشرة سنة، ودخل في الرابعة عشر، وهو مختار الشيخ في قضاء النهاية.

هذا وقبل استعراض ما يستدل به لكل قول، نتعرض لبعض كلمات الأصحاب في المقام، خصوصاً وأن المسألة من المسائل الأصلية، فنقول:

قال الشيخ في الخلاف: يراعى في حد البلوغ في الذكور بالسن خمس عشرة سنة، وبه قال الشافعي… إلى أن قال دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم قد أوردناها في الكتاب الكبير[1].

أقول: الإجماع المدعى في كلامه S لا يمكن الاعتماد عليه، لكونه مدركياً فلاحظ.

وقال في المبسوط: …فالصبي محجور عليه ما لم يبلغ، والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء: خروج المنيي، وخروج الحيض، والحمل، والإنبات، والسن، فثلاثة منها يشترك فيها الذكور والإناث، وإثنان ينفرد بهما الإناث، فثلاثة المشتركة فهي السن وخروج المني والإنبات، والإثنان اللذان يختص بهما الإناث، فالحيض والحمل، والمني إنما يراد به خروج الماء الذي يخلق منه الولد سواء خرج في النوم أو اليقظة أو كان مختاراً له، لقوله تعالى:- (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا)، وأراد به بلوغ الإحتلام، قال(ص): رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن المغمى عليه حتى يصحو. وروي عن أم سلمة(رض) أنها قالت: سألت النبي(ص) عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال النبي(ص): إذا رأت ذلك فتغتسل.

وأما الحيض، فقد ذكرناه في كتاب الحيض، وبينا صفته وكيفيته ومقداره. أما الدليل على أنه بلوغ، فما روي عن النبي(ص) أنه قال: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار، وأراد من بلغت الحيض، فلا تصلي إلا بخمار يستره-إلى أن قال-وأما الحمل فإنه ليس ببلوغ حقيقة وإنما هو عام على البلوغ، وإنما كان كذلك لأن الله تعالى أجرى العادة أن المرأة لا تحبل حتى يتقدم منها حيض، ولأن الحمل لا يوجد إلا بعد أن ترى المرأة المني لأن الله تعالى أخبر أن الولد مخلوق من ماء الرجل وماء المرأة، بقوله:- (يخرج من بين الصلب والترائب)أراد من الصلب الرجل، والترائب المرأة، وقوله:- (من نطفة أمشاج نبتليه)أراد بالأمشاج الإختلاط. والإنبات فإنه دلالة على البلوغ، ويحكم معه بحكم البالغين، ومن الناس من قال إنه بلوغ.

فإذا ثبت هذا فثلاثة أشياء بلوغ: وهي الإحتلام والحيض والسن، والحمل دلالة على البلوغ، وكذلك الإنبات على خلاف فيه، وإذا كان بلوغاً فهو بلوغ في المسلمين والمشركين، وإذا كان دلالة على البلوغ فمثل ذلك في كل موضع والاعتبار بإنبات العانة على وجه الخشونة التي يحتاج إلى الحلق دون ما كان مثل الزغب، ولا خلاف أن إنبات اللحية لا يحكم بمجرده بالبلوغ، وكذلك ساير الشعور، وفي الناس من قال: إنه علم على البلوغ، وهو الأولى لأنه لم تجر العادة بخروج لحية من غير بلوغ.

وأما السنة، فحدّه في الذكور خمسة عشر سنة، وفي الإناث تسع سنين، وروي عشر سنين[2].

أقول: تضمن كلامه الإشارة إلى علامات البلوغ وبيان موارد الاختلاف فيها، بين ما هو علامة على البلوغ، وبين ما هو كاشف عنه، وما يهمنا في البين هو التعرض لما هو المربوط بمحل بحثنا وهو ذكر علامة البلوغ في الذكر بالسن، فذكر أنها خمسة عشر سنة.

نعم لم تتضمن عبارته الإشارة إلى أنه إكمال الخامسة عشر والدخول في السادسة عشر، أم أنه إكمال الرابعة عشر والدخول في الخامسة عشر. اللهم إلا أن يقال بأنه متى ما أطلق الخمسة عشر سنة، كان المراد منها إكمالها والدخول في السادسة عشر، فتأمل.

وقال ابن زهرة: حدّ السن في الغلام خمس عشرة سنة، وفي الجارية تسع سنين، بدليل الإجماع المشار إليه[3].

أقول: أشار إلى علامة البلوغ في كل من الذكر والأنثى عن طريق السن، وقد حددها بالنسبة للذكر بما إذا بلغ خمس عشرة سنة.

وقال ابن إدريس: والاعتماد عند أصحابنا على البلوغ في الرجال، وهو إما الاحتلام، أو الإنبات في العانة، أو خمس عشرة سنة، وفي النساء الحيض، أو الحمل أو تسع سنين[4].

أقول: المستفاد من عبارته(ره) أن هناك علامات مختصة بالذكر، وهناك علامات تختص بالأنثى، فالعلامات التي تختص بالذكر هي:

1-الاحتلام.

2-نبات الشعر الخشن في منطقة العانة.

3-بلوغ خمس عشرة سنة.

وهذا يعني أن الأنثى لا تشترك مع الذكر في العلامتين الأوليتين، وهو ما بنينا عليه في محله، إذ ذكرنا أن العلامتين المذكورتين من العلامات المختصة بالذكور، وليست مشتركة بينهم وبين الإناث، فلاحظ.

وعلى أي حال، نص على أن بلوغ الذكر بالنسبة إلى السن يكون ببلوغه خمس عشرة سنة.

وقال العلامة في التذكرة: السن عندنا دليل على البلوغ، وبه قال جماهير العامة كالشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل، لما رواه العامة عن ابن عمر: قال: عرضت على رسول الله في جيش وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردني، وعرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فقبلني.

وعن أنس بن عن النبي(ص) قال: إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة، كتب ما له وما عليه وأخذت منه الحدود.

هذا وقد يستدل لمقالة المشهور على المدعى بأمور:

الأول: الإجماع المدعى في كلمات غير واحد من الأصحاب، وقد سمعت شيئاً من تلك الدعاوى فيما قدمناه من كلماتهم.

هذا وينبغي التوجه إلى أن حجية الإجماع على المبنيـين، سواء قلنا بمبنى المشهور القائل بأن الإجماع كاشف عن قول المعصوم من خلال وجود شخص مجهول النسب بين المجمعين يحتمل كونه الإمام(ع) فيؤول الإجماع حينئذٍ إلى السنة الشريفة، وتكون تسميته دليلاً مستقلاً من باب المسامحة.

أم قلنا بما هو المختار لنا وفقاً لغير واحد من الأعلام من أن الإجماع يكشف عن وجود ارتكاز متشرعي بين القدماء من الأصحاب(رض)، وعليه يكون بنفسه دليلاً لا أنه كاشف عن السنة الشريفة، فإنه يعتبر في حجيته توفر أمرين، وهما:

الأول: أن يكون هذا الإجماع صادراً من قبل الطبقة الأولى من أصحابنا، لا أنه صادر عن الطبقة المتأخرة منهم.

الثاني: أن لا يكون في البين ما يصلح للدليلية غير الإجماع المذكور، ضرورة أن وجود ما يصلح للدليلية يوجب سلب دليليته، ويجعله مدركياً لا ينفع الاعتماد عليه.

والإنصاف، أنه لو سلمنا وجود الأمر على الأول، فلا إشكال في أنه لا مجال للبناء على تحقق الأمر الثاني، ضرورة أن المجمعين قد استندوا إلى جملة من النصوص في إثبات المدعى، فلاحظ.

وبالجملة، لا مجال للاعتماد على هذا الإجماع في مقام إثبات المدعى.

الثاني: الشهرة الفتوائية، وقد عرفت أنها منعقدة على ذلك إلى زمان المقدس الأردبيلي(ره) حيث لم يعرف خلاف في ذلك بين الأصحاب.

هذا ولا يخفى أن تمامية هذا الدليل تعتمد اعتمادا كلياً على كبراه، فإنها متى ما تمت كان ذلك موجباً للبناء على تماميته، أما لو قيل بعدم تماميتها فلا ريب في أنها لن تصلح دليلاً على المدعى، نعم وفقاً لكون الشهرة الفتوائية تكشف ولو في الجملة عن شهرة عملية يمكن الاستفادة منها في جبر سند خبر ضعيف لو كان دالاً على المدعى.

والحق أننا ذكرنا في الأصول أنه لا دليل عندنا على حجية الشهرة الفتوائية، وبالتالي تسقط الكبرى التي يقوم الدليل المذكور عليها، فلاحظ.

الثالث: النصوص، وهي:

1-خبر حمران بن أعين قال: سألت أبا جعفر C قلت له متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامة، ويقام عليه ويؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم وأدرك. قلت: فلذلك حد يعرف به؟… فقال: إذا احتلم أو بلغ خمس عشرة سنة، أو أشعر، أو أنبت قبل ذلك، أقيمت عليه الحدود التامة وأخذ بها وأخذت له-إلى أن قال-ولا يخرج من اليتم حتى يـبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم، أو يشعر، أو ينبت قبل ذلك[5].

أقول: ورد هذا الخبر في مستطرفات السرائر عن حمزة بن حمران، وهذا لا يكون مانعاً من قبول الخبر إذ أن اختلاف الراوي لا يضر بالخبر شيئاً لو حكم بوثاقة كلا الراويـين، عمدة ما كان لا مجال لتقديم مقالة السرائر على الكافي، لا لما قيل من أضبطية الكليني على غيره، بل لما ذكرناه غير مرة من أن ابن إدريس يفتقر إلى المعرفة الرجالية، والإحاطة بالمصادر مما لا يمنع وقوع الاشتباه منه، وقد ذكرنا لذلك العديد من الشواهد في محله.

وتقريب دلالتها على المدعى من خلال ما جاء في كلامه(ع) من أن الغلام إذا بلغ خمس عشرة سنة، أقيمت عليه الحدود، على أساس أن في البين مقدمة مطوية، مفادها أن الصباوة مانع من إقامة الحدود على الجاني، فإثبات إقامتها على من بلغ خمسة عشر سنة، كاشف عن انتفاء الصباوة عنه، وتحقق البلوغ فيه.

وبعبارة أخرى، إن إقامة الحدود عليه، تكشف عن خروجه من مرحلة إلى مرحلة أخرى، أما المرحلة التي خرج منها، فهي مرحلة الصباوة، التي لا يكون الفرد فيها ملزماً بشيء من التكاليف، وأما المرحلة التي دخل فيها، فهي مرحلة الرجولة، التي يلزم الفرد فيها بالتكاليف.

هذا ويشكل التمسك بالخبر المذكور من ناحيتين، سنداً ودلالة:

أما من جهة السند، وبالتحديد من جهة عبد العزيز العبدي، الوارد في سند، حيث نص النجاشي على تضعيفه.

وقد يعالج ذلك من خلال ما احتمله بعض الأعيان، بوجود أمرين:

أولهما: أن عبد العزيز العبدي، متحد مع عبد العزيز بن عبد الله العبدي الخزاز.

ثانيهما: إن منشأ تضعيف النجاشي له هو غلوه في العقيدة، لأن العبدي الخزاز كان يقول فيهم C بالربوبية[6].

أقول: لو تم الأمران اللذان ذكرهما P لكان العبدي حينها مهملاً، فيـبحث عن إمكانية توثيقه، وقد يمكن دعوى ذلك من خلال رواية الأجلاء عنه، حيث روى عنه ابن محبوب، فيدعى من خلال ذلك وثاقته.

لكنك قد عرفت منا في الفوائد الرجالية عدم تمامية ذلك فلاحظ.

وأما ما ذكره المحقق المذكور S فهو لا يعدو كونه احتمالاً يحتاج إلى إقامة شواهد عليه، والإنصاف عدم توفرها مما يمنع عن قبول ذلك، فالنتيجة هي بقاء الإشكال السندي على حاله.

هذا ولو قيل بدخول الخبر دائرة الحجية من جهة كونها مجبورة بعمل المشهور، وبالتالي يمكن الفتوى على طبقها.

ولا يخفى أن الكبرى، وإن كانت تامة، إلا أن الكلام في الصغرى، إذ ذكرنا غير مرة أنه لابد من إحراز الاستناد إلى الخبر حتى يكون مجبوراً بعمل المشهور، وهو في البين غير متحقق، إذ يحتمل أن المشهور قد استندوا إلى النصوص الأخرى المذكورة.

وأما من جهة الدلالة، فلأن الخبر لا يدل على مقالة المشهور، بل هو دال على مقالة القول الثاني، ذلك لأن البلوغ عبارة عن الوصول، وليس البلوغ عبارة عن الإكمال.

وقد يجاب: بأن البلوغ في اللغة عبارة عن الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنـتهى مكاناً أو زماناً أو غيره، كما جاء في مفردات الراغب، وعليه يكون مفاد النص أنه أنهى خمسة عشر سنة، فتكون موافقة لمختار المشهور. خصوصاً وأنه لا يقال لمن كان له من العمر أربعة عشر سنة ونصف، ابن خمسة عشر سنة.

هذا ويشهد لما ذكرنا، قوله تعالى:- ( بلغ أشده) وقوله تعالى:- (فإذا بلغن أجلهن فلا تعضلوهن).

هذا والصحيح أن الموجود في كلام غير واحد من اللغويـين أن البلوغ بمعنى الوصول، وهذا يعني تحكم الإشكال وبقائه على حاله، وكون الخبر على خلاف مقالة المشهور.

نعم الوارد في مفردات الراغب، كما أشير إليه، تفسير البلوغ بأنه الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنـتهى، مكاناً كان أو زماناً، أو أمراً من الأمور المقدرة[7].

لكن الظاهر أنه لا دلالة له على مرام المجيب، لأن الذي يـبدو من قول الأصفهاني الانتهاء إلى أقصى المقصد، يعني الوصول إلى المكان المطلوب والمراد، وهذا لا يعني البلوغ إلى نهايته.

نعم لو قيل أن المراد من البلوغ بالخمس عشرة سنة، يعني الوصول إلى أقصى الخمس عشر، فيفيد حينئذٍ إنهائها، كان ما ذكره وجيهاً. لكنه خلاف الظاهر.

فالإنصاف أن اللفظ ظاهر في خصوص الوصول، ولا ربط له بالتمامية، وعليه يكون معنى الخبر الدخول في الخامسة عشر، وليس معناه إكمالها.

اللهم إلا أن يكون في المراد قرينة صارفة للفظ عن ظهوره في معناه، فحينئذٍ يلتـزم بمفادها.

وأما ما ذكر من أنهم لا يقولون لمن بلغ الرابعة عشر والنصف، ابن خمسة عشر، فلا معنى له، لأنهم لا يقولون لمن بلغ الخامسة عشر وأشهر، أنه ابن خمسة عشر.

وأما الاستشهاد بالآيتين اللتين ذكرتا، فأما الأولى، وهي قوله تعالى:- ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)[8]، فإنها لا تفيد، لأنها تشير إلى الوصول إلى الأشد، لا أنه يعني إكماله، وكذا الكلام بالنسبة إلى سن الأربعين، فإنه لا يعني إكمال الأربعين.

وأما الآية الثانية، وهي قوله تعالى:- ( فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن)[9]. فإنها لا تشير إلى أكثر مما ذكرناه، وهو يعني الوصول إلى نهاية العدة، لكنه هنا لا معنى لأن يقال بأنها وصلت إلى العدة.

وبعبارة أخرى، إن البلوغ هنا، وإن كان بمعنى غاية المقصد ونهايته، والوصول إلى آخر شيء فيه، لكنه لقرينة صارفة عن معناه الأولي، وهي أنه لا معنى لأن يفسر البلوغ هنا بمجرد الوصول، كما لا يخفى.

وبالجملة، إن الإشكال المذكور محكم، وما ذكر من الجواب غير دافع له.

هذا وقد يقال: إنه ما المانع من الالتـزام بأن البلوغ من المشتركات اللفظية، بحيث يكون موضوعاً لكلا المعنيـين، فيكون عنوان البلوغ موضوعاً جامعاً شاملاً تحته مصاديق، كما ذكر الأصوليون ذلك في باب الأمر من أنه موضوع للأعم من الوجوب والاستحباب وأنه حقيقة في كليهما، وكما ذُكر أيضاً في باب المياه من أن الماء موضوع للأعم من المطلق والمضاف، وهو حقيقة في كليهما، أو أنه كان موضوعاً في أحدهما ثم نقل للآخر حتى صار بمثابة الحقيقة فيه[10].

ولا يخفى أن هذا البيان حسن في نفسه، ضرورة أنه يمكننا حينئذٍ الاستناد إلى النصوص المذكورة في إثبات دعوى المشهورة، لكننا نحتاج إلى أمرين:

أولهما: الالتـزام بصحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى، ومحل هذا إلى الأصول، فليطلب من هناك.

ثانيهما: أن تكون هناك قرينة دالة على المعنى المراد، أما لو لم تكن هناك قرينة معينة للمعنى المراد، فإنه سيكون موضوعاً للأعم، وبالتالي لن ينفع في إثبات المدعى.

ولا ريب أنه لا يوجد في المقام ما يصلح للقرينية، وعليه لن يمكن الاستناد لهذه النصوص المذكورة في إثبات مقالة المشهور.

هذا وقد يتمسك في دعوى وجود القرينة من خلال الاستناد إلى كبرى الجارية من عمل المشهور، فيقال:

إن عمل المشهور كما أنه جابر للضعف السندي، وإعراضهم كاسر لصحة الرواية، فكذلك استنادهم إلى الرواية جابر لضعفها الدلالي، وإعراضهم عنها كاسر لظهورها في الدلالة.

ولا يخفى أن الموجود عندنا مسألتان:

الأولى: أن عمل المشهور يجبر الضعف الدلالي كما يجبر الضعف السندي.

الثانية: أن إعراض المشهور يكسر الظهور الدلالي كما يكسر الصحة السندية.

أما بالنسبة إلى المسألة الثانية، فلا إشكال في تمامية ما ذكر، ضرورة أن حجية الخبر تدور مدار تحقق أصالات ثلاث، فمتى أنتفت واحدة منها كان ذلك مانعاً من حجيته، وتلك الأصالات هي:

1-أصالة الصدور.

2-أصالة الظهور.

3-أصالة الجهة.

والإعراض ينشأ من أحد أسباب أربعة:

أولها: ضعف رواة الحديث في نظرهم فلا يعتمد عليه.

ثانيها: وجود معارض أقوى من الحديث الصحيح قد ظفروا به، كسيرة قطعية متصلة بعصر المعصوم ولم يردع عنها، أو إجماع شرعي معتبر لا توجد فيه شائبة الخدشة من قريب أو بعيد أو غيرهما.

ثالثها: حصول علم لديهم بكون الحديث صادراً تقية.

رابعها: عدم تمامية الدلالة في نظرهم.

ولا ريب في أنه لو كان الإعراض ناجماً من خلال السبب الرابع، فإنه من صغريات الخلل في أصالة الظهور، وهو من أقوى الموارد الموجبة لرفع اليد عن الخبر، بل لعله هو المتعين من الوجه في الإعراض.

وذلك لأن العقلاء يتوقفون عن الظهور حين وجود أمارات عرفية بوجود قرائن ترفع اليد بها عن أصالة عدم القرينة، أو أصالة الجهة ونحوهما، مما كان العمل بالظهور مبنياً عليه، ولذا ابتنت سيرة الفقهاء على ترك الروايات المهجورة من الأصحاب، ضرورة أن هجرها يمثل قرينة عرفية توجب الوثوق بعثورهم على خلل في ظهورها أو جهتها، أو أصل صدورها، وإن لم يقطع بذلك.

إنما الكلام كله في المسألة الأولى، فهل يمكن البناء على أن عمل المشهور برواية يوجب انعقاد الظهور لها فيما أدعاه المشهور حتى تصلح دليلاً على مدعاهم أم لا؟…

المستفاد من كلام جملة الأصحاب هو البناء على ذلك، فكما أن الشهرة العملية جابرة للضعف السندي، فإنها تجبر الضعف الدلالي، ففي كتاب الطهارة لشيخنا الأعظم الأنصاري(قده) في باب الحيض قال عند قول المصنف(ره) : ويجب عليها الاستبراء عند الانقطاع لدون العشرة. على المشهور، بل ظاهر المحكي عن الذخيرة نسبته إلى الأصحاب…واستدل عليه بالأخبار المستفيضة، ثم ذكر صحيح محمد بمن مسلم، ومرسلة يونس، ورواية شرحبيل الكندي، وموثقة سماعة، وما جاء في الفقه الرضوي، وأخيراً قال(ره):

والإنصاف أنه لولا فتوى الأصحاب بالوجوب كان استفادته من هذه الأخبار مشكلة، لأن بعضها مسوق لبيان وجوب ذلك عند إرادة الالغتسال لئلا يظهر الدم فيلغو الاغتسال[11].

وعبارته واضحة فيما قلناه، ضرورة أنه يقرر عدم وضوح دلالة النصوص المذكورة على كلام المشهور، لكن الفهم الذي صدر منهم مثل قرينة على أن ما جاء فيها هو المعنى المراد، ولذا يعول عليه ويعتمد، ومن الواضح أن هذا جبر لدلالة النصوص المذكورة بعدما كانت دون الدلالة بنظر الشيخ الأعظم(ره)[12].

وأما المتتبع لجواهر الفقيه الماهر صاحب الجواهر(قده) فإنه يظفر من ذلك بالشيء الكثير، فلاحظ.

هذا ولسنا بصدد تعداد الشواهد المثبت لهذه الدعوى، بل ينبغي أن يصرف عنان البحث إلى كيفية تخريجها بصورة فنية، حتى يصح الاستناد إليها، فنقول:

إن الظهور من الأمور العقلائية-كما قرر في بحث حجية الظواهر-وفهم هؤلاء الأصحاب من النص أمراً وهو من هم أساطين الفقه ومن العقلاء كاشف عن وضوح ذلك المعنى من النص.

وهذا البيان بهذه الصورة لا يصلح في إثبات المدعى، ضرورة أنه إن لم يكن مصادرة فهو بها أشبه، حيث أن كون المستظهرين من المشهور أساطين الفقه وأوتاده، وأنهم من العقلاء لا يثبت بالضرورة صحة ما أستظهروه، وعدم قابلية الخدشة فيه، بل المشاهد خارجاً أن القدماء من الأصحاب كانوا على القول بنجاسة ماء البئر حتى جاء العلامة(ره) فخالف في ذلك، وأبرز ما لم يكن واضحاً عندهم، وعليه سار من جاء بعده.

وقد يقرب بما جاء في كلمات بعض الأكابر(قده) من أن الاستظهار مسألة تشبه الحس، لأن المستظهرين يمثلون العرف، بل هم العرف الأدق والأبصر، فإذا فهموا بأجمعهم معنى معيناً من النص، فلا محالة يحصل الجزم أو الوثوق بأن ذلك الفهم العرفي صحيح[13].

وما أفاده(ره) لا غبار عليه، لكنه أشار في نهاية حديثه إلى أن هذا البناء مقيد بعدم وجود ما يمنع من القبول به، قال: …لولا نكتة خاصة تكون مفسرة لخطأهم في الفهم كنكتة مشتركة[14].

ويمكننا تفسير النكتة المشتركة المفسرة للخطأ بوقوع الواحد منهم تحت تأثير الآخر بحيث يتأثر المتأخر بالمتقدم بالفتوى. نعم لو كانت الفتاوى في عرض واحد كان هذا الاحتمال ممنوعاً، لكن كونها في طول يكون الاحتمال قوياً.

وبالجملة، بعد اللتيا والتي يصعب البناء على أن عمل المشهور برواية ضعيفة الدلالة جابر لضعفها الدلالي.

نعم يمكن البناء على هذا القول في الجملة، لا بالجملة، فيقال: بأنه إذا كان في اللفظ إجمال نتيجة تردده بين محتملين من المعاني، فإن عمل المشهور بأحد المحتملين يمثل قرينة على إرادة هذا المعنى دون الآخر.

لكن هذا الأمر أيضاً في النفس منه شيء، لأن عمل المشهور ما لك يكن منشأه واضحاً، فإنه يكون بمثابة الحدس والانتخاب اشتهاء، فتأمل.

ثم إن جميع ما ذكرناه مبني على أن يكون لفظ البلوغ موضوعاً لأكثر من معنى، أو أن يكون موضوعاً لمعنى الوصول، لكن المشهور عمدوا إلى استعماله في معنى الإكمال والانتهاء، ويكون عملهم بمثابة القرينة الموجبة لذلك.

——————————————————————————–

[1] الخلاف ج 2 ص 282 مسألة 2 من كتاب الحجر.

[2] المبسوط ج 2 ص 282-283.

[3] غنية النـزوع كتاب الحجر ص 215.

[4] السرائر ج 2 ص 199.

[5] وسائل الشيعة ب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 2.

[6] قاموس الرجال ج 6 ص 178-179.

[7] مفردات الراغب ص 144.

[8] سورة الأحقاف الآية رقم 15.

[9] سورة البقرة الآية رقم 232.

[10] ذكر هذا الاحتمال أحد الأخوة في مجلس المباحثة، زاد الله في توفيقه بمحمدٍ وآله الطاهرين(ع).

[11] كتاب الطهارة من مجموعة تراث الشيخ الأعظم ج 3 ص 336-337.

[12] قد يدعى أن المذكور يمثل قرينة على إرادة المعنى، وبالتالي لا يكون جبراً، لكنه مرفوض لأن مدعي الجبر يلتـزمون بأنه يكون بمثابة القرينة الموضحة للمعنى، فلاحظ.

[13] بحوث في علم الأصول ج 4 ص 312.

[14] المصدر السابق.