تفويض الدين(7)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
6
1

تفويض الدين(7)

 

معنى التفويض إليهم:

ثم إنه بعد افراغ عن معرفة أن المقصود من التفويض الذي تضمنته نصوص ثبوت الولاية التشريعية للمعصوم(ع) هو خصوص الاحتمال الأول من المحتملات التي تقدمت الإشارة إليها، صار الأعلام للإجابة على سؤال مفاده: لماذا لم يجعل الله سبحانه وتعالى هذه الأحكام التي جعلت من قبل المعصوم(ع) خصوصاً وأنها مشتملة على مصلحة لو كانت فعلاً، أو مفسدة لو كانت تركاً؟

وبكلمة، لو أن الأمر المذكور ذو مصلحة، لكان الله سبحانه وتعالى آمراً به، ولو كان ذو مفسدة، لصدر النهي عنه من الله عز وجل، فما هو الموجب لعدم صدور ذلك عن الله سبحانه وتعالى، وصدوره بعد ذلك عن النبي(ص) مثلاً، أو عند أحد الأئمة الطاهرين(ع).

 

وقد عرضت إجابات عن ذلك:

الأول: ما ذكره العلامة المجلسي(ره) في البحار، وحاصله: إن تفويض أمر الدين إليهم(ع) يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون الله تعالى قد فوض إليهم(ع) أن يحلوا ما شاءوا، ويحرموا ما شاءوا من غير وحي، وإلهام منه سبحانه، بل إن لهم(ع) أن يغيّروا ما قد أوحى إليهم بأرائهم.

وهذا باطل، لا يقول به عاقل، لأن رسول الله(ص) كان ينتظر الوحي أياماً كثيرة لجواب سائل، ولا يجيبه من عند نفسه، وقد قال تعالى:- (وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى)[1].

ثانيهما: أنه سبحانه وتعالى لما أكمل نبيه(ص) بحيث لم يكن يختار من الأمور شيئاً إلا خصوص ما يوافق الحق، والصواب، ولا يخطر في باله ما يخالف مشيئة الله تعالى في كل باب، عندها فوض إليه سبحانه وتعالى بعض الأمور كالزيادة في الصلاة، وتعيـين النوافل في الصلاة والصوم، وطعمة الجد، وغير ذلك إظهاراً لشرفه(ص)، وكرامته عنده. ولم يكن أصل التعيـين إلا بالوحي والإلهام، وكان يؤكد ما أختاره(ص) بالوحي.

وقد حمل(ره) نفي الصدوق(قده) التفويض على خصوص الأمر الأول دون الثاني منهما.

ومقتضى هذا الكلام الصادر من غواص بحار الأنوار(ره)، إنكاره ثبوت الولاية التشريعية للمعصومين(ع)، لأن جميع الصادر منهم(ع)، هو صادر في الحقيقة عن الله تعالى، وهذا خلاف ظاهر بل صريح النصوص والتي تقدم عرضها، وتمسك بها القائلون بثبوت الولاية التشريعية.

 

الثاني: إن الذي قد نزل على رسول الله(ص) هو مجرد روح الأحكام وجوهرها وهو الذي قد أوحي إلى رسول الله(ص) من دون أن يكون مشتملاً على الخصوصيات والأركان والمصاديق، وأما التفاصيل فهو(ص)، ومن بعده الأئمة الطاهرون(ع)، يتصدون لذلك، مثلاً: فرض الله سبحانه وتعالى الحج، ولم يتعرض لبيان تفاصيله وأجزائه وأركانه، وقد تصدى لذلك رسول الله(ص) ومثل ذلك الزكاة أيضاً.

الثالث: ما هو منسوب للشيخ الآخوند الخراساني(ره) صاحب الكفاية، وحاصله: البناء على أن الذي قد أوحي إلى رسول الله(ص) هو خصوص المصالح والمفاسد وليس الأحكام، فما نزل على رسول الله(ص) من الوحي، أو ما قد ألهم إلى المعصومين(ع)، هو خصوص ذلك، ثم فوض إليهم الجعل والتشريع على وفق ذلك.

 

الرابع: ما أختاره المحقق الخراساني(ره) من أن الموحى إلى رسول الله(ص) هو الحكم الشأني، وكذا الذي قد ألهم إلى الأئمة الطاهرين(ع)، وليس مجرد المصلحة والمفسدة، ويقصد من الحكم الشأني الحكم الذي قد أنشأه الله سبحانه وتعالى من أجل تلك المصلحة، أو تلك المفسدة، يعني بسبب وجود تلك المصلحة، أو المفسدة قد اقتضى الإنشاء. نعم هو شأني، وليس فعلياً. وبعد وصول ذلك الحكم الشأني ينقدح في أنفسهم الشريفة الإرادة والكراهة، فينشئوا الوجوب أو الحرمة.

وبكلمة، إن الله تعالى يوحي إلى رسول الله(ص) بالمصلحة والمفسدة، ويوحي إليه بالوجوب الشأني للصلاة المحددة، فيريد رسول الله(ص) الصلاة فينشأ وجوبها الفعلي، فتكون واجبة يلزم الاتيان بها.

والذي دعاه لهذا، هو ما أختاره(قده) في بحث الإرادة، حيث فسر الإرادة الإلهية بعلمه بالصلاح والفساد، لذا لم يمكنه القول بإرادته للواجبات، وكراهته المحرمات، لأنه كيف تُحدث المصلحة والمفسدة إرادة الله سبحانه وكراهته، فتكون علة لإرادته، وكراهته، فيلزم عليه التغير، وهو ممنوع، لكون علمه عين ذاته.

 

الخامس: ما أختاره المحقق النائيني(ره)، من أن إرادة النبي الأكرم(ص) هي سبب وجوب الفعل، فإذا تعلقت إرادته(ص) بشيء كان واجباً، وإذا تعلقت إرادته بتقيـد شيء بشيء، كان مقيداً به، وهكذا. ويمكن توضيح ذلك بولاية الأبوين على ابنهما، فإنه لو تعلقت إرادتهما أن يأتي ابنهما بفعل مباح، فإنه سوف يتحول إلى واجب إذا كان تركه يوجب إيذائهما أو مطلقاً.

 

بل يمكن أن يقال: إن ثبوت المصلحة في شيء من الأمور لا تحصل إلا بعد إرادة النبي(ص) له، بحيث يتغير الشيء عما كان عليه ليتحول من شيء إلى شيء آخر.

ويمكن تقريب ما أفاده(ره) بمثال: لو أرادت الدولة شراء البيوت أو الأراضي في منطقة بعد شهر مثلاً، فإن أسعار البيوت فيها سوف ترتفع، لأن قرار شرائها قد أثر في سوق العقار، وأدى إلى ارتفاع الأسعار. بل إن مجرد انتشار احتمال إقدام الدولة على الشراء، سوف يكون موجباً لتحرك سوق العقار، وارتفاع الأسعار، وهذا يعني أن الموجب لحصول هذا الارتفاع هو القرار الذي صدر من الدولة، ومن دونه لن يكون هناك ما يوجب تحرك السوق، وتغير الأسعار فيه.

وفي المقابل، لو اتخذت الدولة قراراً بعد ذلك بتوزيع البيوت على الناس، فإن ذلك سوف يؤدي إلى انخفاض الأسعار فوراً وتغير في حركة سوق العقار من جديد. والذي أوجب انخفاض الأسعار وتغير القيمة في السوق هو القرار الصادر من الدولة بتوزيع البيوتات، إذ لولاها لم تتغير الأسعار، وبقية على حالها.

 

ومثل ذلك ما لو اتخذت الدولة قراراً بمنع استيراد السيارات وحددت ابتداء تأريخ المنع بعد مضي ستة أشهر من حين صدور القرار، فإن من الواضح أن ذلك سوف يؤدي إلى ارتفاع سعر السيارات، وبمجرد أن تتخذ قراراً بفتح باب الاستيراد لها، سوف يؤدي ذلك إلى انخفاض أسعارها.

وهكذا عيناً ما يكون صادراً من رسول الله(ص)، فإنه قبل أن يصدر منه شيء لم يكن الأمر مطلوباً، لأنه لا يكون مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، فإذا صدر كان مطلوباً وإلزامياً، لأنه سوف يكون مشتملاً على المصلحة، أو على المفسدة.

وهو جواب صحيح، لا يوجد فيه أي اشكال، بل هو ينسجم كثيراً مع نظريتي دخالة الزمان والمكان في عملية الاستنباط، وأيضاً مع أطروحة الثابت والمتغير، ويعالج كثيراً من مشكلة التعارض الحاصل بين النصوص.

 

معالجة المعارضة:

ثم إنه بعد عرض أدلة القولين، والتي قد تبين من خلاله تمامية ما يصلح دليلاً لقول المانعين، وما يصلح دليلاً لقول المثبتين، ولكن في خصوص رسول الله(ص) دون الأئمة الطاهرين(ع)، فإنه لو رفعت اليد عن المناقشة في دلالة النصوص المستند إليها لثبوت سلطة وولاية تشريعية إليهم(ع)، فإنها لن تسلم سنداً كما عرفت.

وعليه، سوف تكون المعارضة حاصلة بين ما دل على تمامية الدين، وكمال الشريعة، واشتمال القرآن الكريم على كل شيء، وأن كل ما يصدر عن رسول الله(ص) هو وحي ملقى إليه من الله تعالى، بحيث لم تعد هناك حاجة إلى جعل وإنشاء وراء ذلك، وما دل على أنه(ص) قد جعل أموراً وأشياء.

 

وكيف ما كان، فقد تذكر علاجات:

أحدها: منع صلاحية نصوص القول الثاني للدلالة على المدعى، لعدم صلاحيتها في نفسها لإثبات الموضوع، وذلك لأنه من الموضوعات الخطيرة والمهمة جداً، وهو لا يقل أهمية عن موضوع الإمامة ولو في الجملة، ومثل هكذا موضوعات لا يمكن أن يكتفى في بيانها بأخبار الآحاد، بل لابد وأن يكون مبيناً بنصوص جلية واضحة من حيث الكم والكيف، فكما يعتبر أن تكون نصوص متواترة، فإنه يعتبر أيضاً أن تكون نصوصاً جلية واضحة الدلالة، فتدل على المطلوب بالنص، وليس بالظهور[2].

وقد أجيب عنه، بأن النصوص المستند إليها، وإن لم تكن قطعية الصدور، إلا أنها محفوفة بما يوجب الاطمئنان بصدورها مثل حديث الثقلين، والذي تضمن عدّ العترة الطاهرة عدلاً للقرآن الكريم، وأدلة العصمة المانعة من حصول خطأ منهم(ع). نعم لو أدعي أنه لا يتولد وثوق بمثل هذه النصوص وأن ضم حديث الثقلين، وأدلة العصمة لا يوجب تحقق ذلك، كان ما أفاده تاماً.

مضافاً إلى أنه يمكن دفع ما ذكر علاجاً، بكونه ناظراً لثبوت الولاية التشريعية للأئمة الأطهار(ع)، والمفروض عدم صلاحية شيء من النصوص لذلك، ولا يصلح الجواب المذكور في شأن رسول الله(ص)، لعدم الحاجة أساساً لمثل هذه النصوص، إذ يتصور أن يفوض الله تعالى له عملية الجعل والإنشاء، وليس بالأمر المستبعد، أو المستغرب.

 

ثانيها: العمد للجمع العرفي، على أساس أن ما تمسك به المانعون من الدليل مطلق أو عام، وهو قابل للتقيـيد أو التخصيص بنصوص القول الثاني، من باب حمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص.

ثالثها: البناء على نفي وجود معارضة بين الدليلين، لأن ما دل على قول المانعين، يثبت أن الولاية لله سبحانه وتعالى، وما دل على القول الثاني من ثبوت ولاية تشريعية للنبي الأكرم(ص)، مثبتاً أيضاً، ولا يعارض دليل المانعين، لأن المفروض أن ما دل على ثبوت الولاية للنبي(ص)، لا يفيد أن الولاية له(ص) على نحو الاستقلال، وإنما يفيد أن نفسه البشرية بعدما بلغت الكمال، ووصلت إلى أعلى درجات الصفاء، صار بإمكانها أن تحيط بالمصالح والمفاسد، وبالتالي تجعل حكماً شرعياً، إلا أنه لا يكون فعلياً منجزاً على المكلفين إلا بعد أن يجيزه الله سبحانه وتعالى، فإذا أجازه تعالى بلغه رسول الله(ص)، ليعملوا على وفقه. وبهذا لا تكون أدنى منافاة بين أدلة الطرفين.

 

وربما بني على الالتـزام بثبوت الإذن من الله تبارك وتعالى لنبيه الكريم محمد(ص)، على الأحكام الشرعية، فيكون له(ص) سلطة وولاية تشريعية عليها، وذلك لعدم المعارضة بين نصوص الطائفة الأولى الدالة على ثبوت الولاية له(ص)، وبين نصوص المانعين، لعدم وجود معارضة بين طائفتي النصوص، لأن كلتيهما مثبتة وليس بينهما مانعة، فلاحظ من نصوص المانعين، نصوص الطائفة الثانية، والتي تضمنت تدوين كل شيء في كتاب أمير المؤمنين(ع)، والذي أملاه رسول الله(ص)، وكذا نصوص الصنف الأول من نصوص الطائفة الثالثة، والذي تضمن اعتبار موافقة الخبر لشيء من الكتاب، أو قول من رسول الله(ص)، وأيضاً نصوص الطائفة الرابعة التي تضمنت أنه لا تشريع إلا تشريع محمد(ص)، ونصوص الطائفة السادسة التي تضمنت أن كل شيء في الكتاب والسنة.

 

معالجة التشريعات الصادرة من المعصومين:

ثم إن البناء على عدم ثبوت ولاية تشريعية للمعصومين(ع) على جعل الأحكام الشرعية، يصطدم بالموجود خارجاً من نصوص صدرت عنهم(ع) تضمنت تشريعات لم يرد شيء منها في الكتاب الكريم.

ويمكن علاج ذلك بالتالي:

الأول: البناء على أن الصادر على ألسنتهم(ع) ليس جعلاً أو تشريعاً، وإنما هو إخراج للحكم من مرحلة الإنشاء والجعل إلى مرحلة الاقتضاء والفعلية، فالأحكام الشرعية كلها قد صدرت عن الله تبارك وتعالى، وأنزلت على رسول الله(ص) وعلم بها، أو أنها كلها قد صدرت عن رسول الله(ص)، إلا أن الظروف الموضوعية لم تتوفر لإبلاغها، فأودعها عند وصيه أمير المؤمنين(ع)، وصارت تنقل بين الأئمة(ع) لتبلغ متى توفر ظرفها، وتوضيح ذلك:

نص الأصوليون أن للحكم الشرعي مراتب، وقد اختلف فيها فعدها المحقق الخراساني(ره) أربع، وهي: مرحلة الاقتضاء، وإدراك وجود المصلحة أو المفسدة، ومرحلة الإنشاء والجعل، ومرحلة الفعلية، ومرحلة التنجز[3]. وعدّها غيره اثنتين، وهما: مرحلة الإنشاء، ومرحلة الفعلية، لأن المرحلتين الأولى والأخيرة من لوازم الحكم، وليست مراتباً له[4].

 

وعلى أي حال، سواء بني على أنها أربع، أم اثنتان، فإن عمدة المراتب هما اثنتان، وهما مرتبة الجعل والإنشاء، أي التشريع من قبل مصدر التشريع، ومرتبة الفعلية، وهي مرحلة إبلاغ الحكم إلى الناس. والذي يتولى مرحلة الجعل دائماً وأبداً هو الباري سبحانه وتعالى، بينما يقوم رسول الله(ص) بمرتبة الفعلية، والإبلاغ للناس، ومن المعلوم أن عملية الإبلاغ تحتاج عادة إلى أرضية مهيئة، وظروف موضوعية متوفرة، قد لا تكون متوفرة في بعض الأحيان، فيؤخر إبلاغ الحكم الشرعي لمصلحة اقتضت تأخر تبليغه، فيبقى الحكم حبيس مرتبة الجعل والإنشاء ولا يخرج إلى مرتبة الفعلية، فإذا توفرت الظروف الملائمة خرج من تلك المرتبة إلى مرتبة الفعلية، وهذه الظروف قد تتوفر في زمان النبي(ص)، أو في زمان أمير المؤمنين(ع)، أو في زمان الأئمة الأطهار(ع) من بعدهما، وهذا يعني أن الصادر منهم(ع) ليس إنشاءاً وجعلاً، وإنما هو إبلاغ وجعل الحكم في مرتبة الفعلية. ويساعد على ما ذكر، أن هناك أحكاماً بعدُ لم تبلغ للناس لا زالت محفوظة عند سيدي ولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء) كما قيل، يبلغها عند ظهوره المبارك.

 

والحاصل، إن مقتضى آية كمال الدين، وكذا آية بيانية القرآن الكريم لكل شيء، البناء على كمال الدين، وتمامه، فلم يعد بحاجة أن يضاف إليه شيء آخر، وإنما بعض أحكامه بلغت مرحلة الفعلية فبلغت، وبعضها الآخر لم تصل لذلك لظروف اقتضت ذلك، ومنها التدريج في تبليغ الأحكام. وقد أشار لهذا المعنى بعض الأعيان(ره)، قال: ثم إن للمحيط وحال المكلفين دخلاً تاماً في إجراء الحكم وإعلانه، فإن ساعدت الأحوال ووجدت شرائط الإجراء يأمر الحاكم بإعلانه، وإيصاله إلى المكلفين، وإلا فيترقب تناسب المحيط واستعداد الناس بقبوله، ويترك هو في سنبله الإنشائي.

 

والذي نسميه حكماً إنشائياً أو شأنياً، هو ما حاز مرتبة الإنشاء والجعل، سواء لم يعلن بينهم أصلاً حتى يأخذه الناس ويتم عليهم الحجة، لمصالح في إخفائها، كالأحكام التي بقيت مخزونة لدى ولي العصر(عجل الله تعالى فرجه)، ويكون وقت إجرائها زمان ظهوره، لمصالح تقتضي العناية الإلهية، كنجاسة بعض الطوائف المنتحلة بالإسلام وكفرهم، فهو حكم إنشائي في زماننا، وإذا بلغ وقت إجرائه يصير فعلياً.

أو أعلن بينهم، ولكن بصورة العموم والإطلاق ليلحقه التقيـيد والتخصيص بعدُ بدليل آخر، كالأحكام الكلية التي تنشأ على الموضوعات، ولا تبقى على ما هي عليها في مقام الإجراء.

فالمطلقات والعمومات قبل ورود المقيدات والمخصصات أحكام إنشائية بالنسبة إلى موارد التقيـيد والتخصيص، وإن كانت فعليات في غير هذه الموارد.

والذي نسميه حكماً فعلياً هو ما حاز مرتبة الإعلان، وتم بيانه من قبل المولى بإيراد مخصصاته ومقيداته، وآن وقت إجرائه وحان موقع عمله.

 

فتلخص: أن الأحكام منقسمة إلى حكم إنشائي، وهو ما لم ير الحاكم صلاحاً في إجرائه، وإن كان نفس الحكم ذا صلاح، كالأحكام المودعة عند صاحب الأمر الواصلة إليه من آبائه(ع)، أو يرى صلاحاً في إجرائه، ولكن أنشأ بصورة العموم والإطلاق، ليلحق به خصوصه وقيده، هو نفسه أو وصي بعده، وإلى حكم فعلي قد بيّن وأوضح بخصوصه وقيوده، وآن وقت إجرائه وإنفاذه[5].

وقريب من ذلك جاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها، قال(ره): يعتقد الإمامية إن لله بحسب الشريعة الإسلامية في كل واقعة حكماً حتى أرش الخدش، وما من عمل من أعمال المكلفين من حركة أو سكون إلا ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة.

وما من معاملة على مال، أو عقد نكاح، ونحوهما إلا وللشرع فيه حكم صحة أو فساد، وقد أودع الله سبحانه جميع تلك الأحكام عند نبيه خاتم الأنبياء(ص)، وعرفها النبي بالوحي من الله تعالى أو الإلهام، ثم إنه(ص) حسب وقوع الحوادث، أو حدوث الوقائع، أو حصول الابتلاء، وتجدد الآثار والأطوار بيّن كثيراً منها للناس، وبالأخص لأصحابه الحافين به، الطائفين كل يوم بعرش حضوره ليكونوا هم المبلغين لسائر المسلمين في الآفاق:- (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).

 

وبقيت أحكام كثيرة لم تحصل الدواعي والبواعث لبيانها، إما لعدم الابتلاء بها في عصر النبوة، أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها.

والحاصل، إن حكمة التدريج اقتضت بيان جملة من الأحكام، وكتمان جملة، ولكنه(ص) أودعها عند أوصيائه، كل وصي يعهد بها إلى الآخر، لينشرها في الوقت المناسب لها حسب الحكمة، من عام مخصص، أو مطلق مقيد، أو مجمل مبين، إلى أمثال ذلك. فقد يذكر النبي عاماً، ويذكر مخصصه بعد برهة من حياته، وقد لا يذكره أصلاً، بل يودعه عند وصيه إلى وقته[6].

الثاني: ما جاء في كتابه الرسائل في رسالة التعادل والترجيح، وحاصله، إن الصادر من المعصومين(ع) ليس شيئاً جديداً لم يصدر عن رسول الله(ص)، وإنما هو ذات ما صدر عنه(ص) عمدة ما كان، أن الأمة في عهده(ص) لم تكن تضبط ما يصدر عنه، وكانت منشغلة بأمور أخرى، وقد أولى أمير المؤمنين(ع) ذلك عناية خاصة، فكان يضبط كل ما يصدر منه، وقد خلف علي(ع) ما ضبطه من ذلك إلى أولاده، فكان ينتقل لكل واحد من المعصومين(ع) ويكون عنده. قال(ره): إن رسول الله(ص) وإن بلغ جميع الأحكام الكلية على الأمة، لكن لما لم يكن دواعي الحفظ في صدر الشريعة وأول بدء الإسلام قوية، لم يضبط جميعها بخصوصياتها إلا من هو بطانته، وأهل بيته، ولم يكن في الأمة من هو أشدّ اهتماماً وأقوى ضبطاً من أمير المؤمنين(ع)، فهو لشدة اهتمامه ضبط جميع الأحكام وتمام خصوصيات الكتاب الإلهي، تفسيرها وتأويلها، وما كانت دخيلة في فهم آيات الكتاب، وضوابط السنن النبوية، ولعل القرآن الذي جمعه وأراد تبليغه على الناس بعد رسول الله هو القرآن الكريم مع جميع الخصوصيات الدخيلة في فهمه المضبوطة عنده بتعليم رسول الله.

 

وبالجملة، إن رسول الله وإن بلغ الأحكام حتى أرش الخدش على الأمة، لكن من لم يفت منه شيء من الأحكام وضبط جميعها كتاباً وسنة هو أمير المؤمنين(ع)، في حين فات من القوم كثير منها لقلة اهتمامهم بذلك، ويدل على ما ذكر بعض الروايات[7].

ومن النصوص التي أشار إليها(قده)، خبر محمد بن حكيم، عن أبي الحسن الأول(ع)، قال: قلت له: تفقهنا بكم في الدين، وروينا عنكم الحديث، وربما ورد علينا رجل قد ابتلي بالشيء الصغير الذي ليس عندنا فيه شيء نفتيه، وعندنا ما هو مثله ويشبهه، أفنقيسه بما يشبهه؟ فقال: لا، وما لكم وللقياس؟ في ذلك هلك من هلك، فقلت: أتى رسول الله(ص) الناس بما يكتفون به؟ فقال: أتى والله رسول الله الناس بما استغنوا به في عهده، وبما يكتفون به من بعده إلى يوم القيامة، فقلت: فضاع منه شيء؟ فقال: لا، هو عند أهله[8].

 

ومن ذلك النصوص التي دلت على كتاب علي(ع)، ففي صحيح محمد بن مسلم، قال: نشر أبو عبد الله(ع) صحيفة، فأول ما تلقاني فيها ابن أخ وجد، المال بينهما نصفان، فقلت: جعلت فداك إن القضاة عندنا لا يقضون لابن الأخ مع الجد بشيء، فقال: إن هذا الكتاب خط علي(ع)، وإملاء رسول الله(ص)[9].

ويختلف هذا العلاج عن سابقه، في دلالته على تبليغ رسول الله(ص) جميع الأحكام وبلوغها مرتبة الفعلية، عمدة ما كان أنها لم تضبط ما أوجب ضياع بعضها، فافتقرت الأمة إلى بديل، وهذا ما لم يحصل عند أتباع مدرسة أهل البيت(ع)، لأن أمير المؤمنين(ع)، كان قد ضبط جميع ما كان يصدر عن رسول الله(ص)، ويساعد على ما ذكر حالة منع تدوين الحديث، وأن القوم لم يبدأوا بالتدوين إلا في حقبة زمنية متأخرة، بل إن من دون من الصحابة شيئاً من حديث رسول الله(ص) قد أمر بإتلاف ما دون، كما يذكر ذلك في بحث تدوين الحديث.

 

الثالث: ما ذكره(قده) أيضاً، من أن الصادر عن رسول الله(ص) ليس بيان جميع الأحكام وحقائقها بما هي عليه، وإنما صدر منهم(ص) بيان لروح الأحكام، وملاكاتها، ومن ثمّ عمد الأئمة(ع) إلى بيان جزئياتها، ومصادقها الخارجية، من خلال تطبيق تلك الكليات والحقائق على الواقع الخارجي، قال(رض): وهو أن الأئمة(ع) لامتيازهم الذاتي من سائر الناس في فهم الكتاب والسنة بعد امتيازهم في سائر الكمالات فهموا جميع التفريعات المتفرعة على الأصول الكلية التي شرعها رسول الله(ص)، ونزل بها الكتاب الإلهي ففتح لهم من كل باب فتحه رسول الله(ص) للأمة ألف باب حين كون غيرهم قاصرين، فعلم الكتاب والسنة وما يتفرع عليهما من شعب العلم ونكت التنـزيل، موروث لهم خلفاً عن سلف، وغيرهم محرومون بحسب نقصانهم عن هذا العلم الكثير النافع، فيعولون على اجتهادهم الناقص من غير ضبط الكتاب والسنة تأويلاً وتنـزيلاً ومن غير الرجوع إلى من رزقه الله تعالى علمهما، وخصه به، فترى آية واحدة كآية الوضوء كيف اختلافهم مع غيرهم وقس على ذلك، وهذا باب واسع يرد إليه نوع الاختلافات الواقعة في الأمة، ولقد أشار إلى ما ذكرنا كثير من الروايات في الأبواب المختلفة.

 

فالصوارف التي في لسانهم(ع) يمكن صدور كثير منها من رسول الله(ص) منفصلاً عن العمومات والمطلقات، ولم يضبطها على ما هي عليها إلا خازن علمه أمير المؤمنين، وأودعها إلى الأئمة(ع)، وإنما أخر البيان إلى زمن الصادقين(ع)، لابتلاء سائر الأئمة المتقدمين عليهما ببليات كثيرة سد عليهم لأجلها بيان الأحكام، كما يشهد به التاريخ، فلما بلغ زمانهما اتسع لهما المجال في برهة من الزمان فاجتمع العلماء والمحدثون عليهما، فانتشرت الأحكام وانبثت البركات، ولو اتسع المجال لغيرهما ما اتسع لهما لصارت الأحكام منتشرة قبلهما، ولو تأملت فيما ذكرنا وتتبعت الأخبار لوجدت ما ذكرنا احتمالاً قابلاً للتصديق[10].

ومن الواضح الفرق بين هذا البيان والبيان الثاني، لأنه أقرب للبيان الأول، بل ويلتقي معه كثيراً في عدم صدور كل شيء من رسول الله(ص)، نعم يختلف عن البيان الأول، ففي حصول البيان من رسول الله(ص) بنحو الفعلية.

إلا أن الظاهر أن ذلك كان لخصوص أمير المؤمنين(ع)، وليس لمطلق الأمة، وبالتالي يعود المانع من قبول البيان الأول على ذات هذا البيان أيضاً، فتأمل.

 

مخرجات ونتائج مهمة:

ويترتب على ما ذكر، نتائج مهمة كشمولية الشريعة المحمدية لكافة الجوانب الحياتية، فلا توجد واقعة من الوقائع الحياتية إلا وفيها حكم صادر ينطبق عليها، وأنها سوف تكون ملبية لكافة الاحتياجات البشرية، وصالحة لكل زمان ومكان، وتكون منسجمة تمام الانسجام مع المتغيرات الحياتية.

وهذا يعني عدم وجود فراغ تشريعي، يحتاج أن يتصدى إلى ملئه، الفقيه من قريب أو بعيد، وتفصيل ذلك كله يطلب من محله.

 

 

 

 

 

 

[1] بحار الأنوار ج 25 ص

[2] الولاية الإلهية ج 1 ص 212-213.

[3] كفاية الأصول ج ص

[4] أنوار الهداية ج 1 ص 39.

[5] تهذيب الأصول ج 1 مبحث الضد المقدمة الرابعة ص 434-435.

[6] أصل الشيعة وأصولها ص 233-234.

[7] رسالة التعادل والترجيح ص 26-27.

[8] بصائر الدرجات ص 322.

[9] الكافي ج 7 ص 112.

[10] رسالة التعادل والترجيح ص 27.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة