19 أبريل,2024

حرمة العمل بالقياس

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

حرمة العمل بالقياس

أتخذ فقهاء الجمهور طرقاً مختلفة في استنباط الحكم الشرعي تغاير الطرق المتبعة في مدرسة أهل البيت(ع)، فوضعوا مناهج مختلفة لما أسسه أهل البيت(ع).

وأحد تلك الطرق والمناهج هو العمل بالقياس، وقد ظهر في مدرسة الرأي على يد مؤسسها أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وأخذ حيزاً في الوجود والانتشار على يدي تلميذه القاضي أبي يوسف.

وقد وقف الأئمة الأطهار(ع) من القياس موقفاً متشدداً، واتخذوا حياله أساليب ثلاثة:

الأول: بيان مصادر المعرفة التي يؤخذ منها، ويرجع إليها، فقد ورد عن الإمام أبي الحسن موسى(ع) وقد سأله سماعة: قلت له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه(ص)؟ أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه(ص)[1].

الثاني: المنع من الأخذ بالقياس، والتشديد على المنع من العمل به، وقد وردت عنهم(ع) نصوص كثيرة في هذا سوف نأتي على ذكر بعضها إن شاء الله تعالى.

الثالث: إبطال هذا المنهج والرد على القائلين به، فقد ورد أن أبا يوسف سأل المهدي العباسي أن يأذن له أن يسأل الإمام الكاظم(ع) مسائل لا يملك الإمام فيها جواباً، وكان في ضمن تلك المسائل أن سأله عن التظليل للمحرم، وأنه كيف لا يجوز له حال السير، ويجوز له ذلك حال النـزول.

وقد يثير الموقف المتشدد من أهل البيت(ع) تجاه القياس التعجب والاستغراب، ويزول ذلك، بالوقوف على حقيقة القياس، وكيف أنه من مصاديق القول بالرأي، والعمل بخلاف ما أراد الله سبحانه وتعالى.

القياس لغة واصطلاحاً:

اتفقت كلمات أهل اللغة على أن المقصود من القياس في اللغة هو التقدير، ومنه قولهم: قست الثوب بالذراع، يعني قدرته به. ومنه قول أمير المؤمنين(ع) في حديثه عن أهل بيت العصمة(ع): لا يقاس بآل محمد(ع) من هذه الأمة أحد.  فإنه إشارة إلى عدم تقديرهم(ع) بأحد، لأن التقدير يفيد المساواة، وليس في الأمة من يساويهم، أو يعادلهم كي ما يقدر بهم.

وأما في الاصطلاح الأصولي، فقد تعددت التعريفات إليه، وهي قريبة في المعنى، فلنشر إلى بعضها:

منها: ما عرف به أنه: مساواة فرع بأصل في علة حكمه.

وهذا التعريف يشير إلى وجود اتحاد بين الأصل، وبين الفرع في العلة، واتحادهما فيها أوجب سريان الحكم من الأصل إلى الفرع.

ومنها: تعريف بأنه: إثبات حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في علة الحكم.

ولو لاحظنا نجد عدم اختلاف التعريف المذكور عن التعريف السابق، لأنه يفيد سريان حكم الأصل إلى الفرع ليكون ثابتاً فيه جراء وجود علة واحدة في كليهما.

ومنها: أن يعرّف كما عن بعض بأنه إثبات مثل حكم الأصل في الفرع بعلة جامعة.

أركان القياس:

والتعريفات المذكورة وإن اختلفت في ظاهرها، إلا أنها متفقة على أن القياس يقوم على أركان ثلاثة:

الأول: أن يكون هناك حكم ثابت لموضوع ما بسبب وجود دليل عليه، كحرمة شرب الخمر، إذ دل الدليل من الكتاب والسنة المباركة على حرمة شربه، وهذا يطلق عليه الأصل.

الثاني: أن يوجد موضوع يكون حكمه الشرعي مجهولاً، فلا يعرف ما ينطبق عليه من الأحكام الشرعية، نتيجة عدم وجود دليل يدل عليه، وهو ما يطلق عليه بالفرع.

الثالث: أن يقرر وجود علة مشتركة بين الأصل والفرع توجب سريان الحكم الثابت للأصل إلى الفرع نتيجة اتحادهما في العلة.

وهذا يعني أن ثبوت القياس يقوم على إحراز العلة الثابتة في حكم الأصل، ومع عدمها لا مجال لثبوت حكم الأصل للفرع.

ولنقرب ذلك بمثال، فنقول:

لا خلاف بين المسلمين في حرمة شرب الخمر، وعند حصول الشك في حكم شرب ماء الشعير، فلا يوجد ما يدل على حرمة شربه، كما لا يوجد نص يدل على حلية ذلك، ومع التأمل في منشأ حرمة شرب الخمر ،يتوصل الفقيه إلى أن الطريقة التي يتم تصنيع الخمر من خلالها، والتي تقوم على عملية استخلاصه من العنب بعد تخميره، هي العلة التي أوجبت البناء على حرمة شربه، وهذا بنفسه يجري في ماء الشعير، فإنه يستخلص من الشعير بعد تخميره، وعليه نجد أن بين الخمر وماء الشعير جهة اشتراك، وهي العلة التي حصل من خلالها، أعني التخمير والاستخلاص، فعندها يمكن للفقيه أن يفتي بحرمة شرب ماء الشعير، لأن ملاك حرمة الخمر، هو تخميره واستخلاصه من العنب، وهو يجري في ماء الشعير أيضاً.

ولو تأملنا، فيما حصل، لوجدنا أنه قد تم قياس حكم الفرع وهو ماء الشعير، على حكم الأصل وهو الخمر، بعدما كانا متحدين في العلة، وهي التخمير والاستخلاص.

أقسام القياس:

عند الرجوع للكتب الأصولية التي تتحدث عن القياس، نجد عرضها أقساماً له، ومقتضى الحكم البدوي حال سماع تعدد أقسامه، البناء على حرمة جميع الأقسام المذكورة إليه، من دون فرق بينها، وذلك لما عرفت من النهي والمنع من العمل به مطلقاً من دون فرق بين قسم وآخر.

وليس الأمر كذلك، إذ أن بعض ما يعدّ من أقسامه يحكم بجواز العمل على وفقه، وهذا قد يدعو للقول بالتفصيل في مشروعية القياس، فلا يلتـزم بحرمته بقول مطلق، وإنما يحكم بحرمة بعض أقسامه والمنع عنها.

إلا أن هذا يعتمد على صدق عنوان القياس على جملة من الأقسام التي تذكر إليه، وأن تسميتها بالقياس تسمية حقيقة، وليست تسمية مسامحية، أو مجازية، لأنه لو كان إطلاق القياس على بعض الأقسام تسامحياً، فلن يكون للتفصيل في مشروعيته وجه، لأن ما دل على المنع عن مشروعية العمل به ناظر لما هو القياس حقيقة.

وكيف ما كان، فلنشر لما تضمنته كلمات أهل الفن من أقسام له، ونشير إلى ما يدخل في محل النزاع منها، وما هو الخارج عنه:

قياس منصوص العلة:

وهو ما إذا نص الشارع المقدس على علة الحكم وملاكه، بحيث يعلم أن المعيار في الحكم هي العلة، فيدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، مثلاً لو نص الشارع على أن علة تحريم شرب الخمر هي الإسكار، فيصح إلحاق كل مسكر بهذا الحكم خمراً كان أم غيره.

ولا يخفى أن عدّ هذا القسم من القياس لا يخلو عن مسامحة، لأن المدار على توفر الضابطة التي ذكرها الشارع، وهي العلة، وهذا فرد منها، وليس إثبات حكم لموضوع لم يكن له حكم ثابت.

قياس الأولوية:

وهو إثبات الحكم من الأصل إلى الفرع بالأولوية العقلية القطعية لوجود علة الحكم في الفرع بشكل أشدّ وأقوى من وجودها في الأصل، وقد يعبر عنه بمفهوم الموافقة. مثل قوله تعالى:- (فلا تقل لهما أف)[2]، فقد تضمنت الآية الشريفة تحريم التأفف على الولد تجاه الوالدين، وهذا يدل على حرمة شتمهما، وضربهما بطريق أولى، لأنهما أشد من التأفف، فإذا كان ممنوعاً، فهما ممنوعان بطريق أولى.

وقوله تعالى:- (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً)[3]، حيث تدل الآية الشريفة على ثباتهم إلى حد الموت والشهادة، فيستفاد منها ثباتهم على ما هو أقل منهما بطريق أولى.

والإنصاف، أن عدّ هذا من القياس لا يخلو عن مسامحة، أو تسمية مجازية، بل هو من موارد منصوص العلة الصادرة من الشارع المقدس، ولذا لو عدّ هذا القسم من صغريات القسم الأول، لم يكن في ذلك ضير.

القياس العرفي:

وقد يعبر عنه أحياناً بتنقيح المناط، والمقصود منه أن يفهم العرف من الذي أثبت الحكم في الأصل أن المراد منه الأعم من الأصل وغيره، لعدم وجود خصوصية في الأصل توجب تقيـيد الحكم به وتحصره في حدوده، وذلك لأن العرف حسب فهمه للألفاظ ودلالاتها قد يلغي الخصوصيات الخاصة في بعض الأدلة، ويستظهر منها عموم الحكم، مثلاً: قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)[4]، فإن العرف لا يرى خصوصية للبيع، بل يشمل النهي كل معاملة تحصل عند النداء لصلاة الجمعة، كالإجارة، والقرض، وما شابه ذلك. ويرى العرف أن ذكر البيع كان من باب المثال فقط، أو لكونه المصداق الأوضح والأكثر تداولاً بين الناس. وإلا فإن مطلوب الشارع المقدس هو النهي عن كل ما يوجب الانشغال والاشتغال عن الصلاة.

ولا يختلف حال هذا القسم عن سابقيه، في أن تسميته بالقياس تسمية مجازية، لا تخلو عن مسامحة. لأنه من موارد تطبيق الكلي المنصوص عليه على مصاديقه.

قياس مستنبط العلة:

ويختلف هذا القسم عن القسم الأول، لأنه يقوم على العلة التي يستنبطها الفقيه وليس هناك علة قد نص الشارع المقدس عليها، لأنه قد يتوصل الفقيه من خلال مجموعة من القرائن وإعمال نظره في الأدلة إلى معرفة علة الحكم واستنباطها، فيقوم بتطبيق الفرع عليها. وهنا حالتان:

الأولى: أن يحصل له القطع بالعلة التي استنبطها، فيكون ملزماً بالعمل على وفقها لأن القطع حجة عليه لا يجوز له مخالفته.

ولا يخفى أن هذا ليس من قياس منصوص العلة، بل سوف يكون من صغريات قياس مستنبط العلة، لأن المفروض أنه قد حصل له قطع بعلة الحكم، ولا يتصور أن يحصل القطع المذكور من مقدمات ظنية، بل لا بد وأن يكون منشأها ما يوجب القطع واليقين، وهذا يعني أنها من الوضوح بمكان.

الثانية: أن يحصل على العلة بالظن، فلا يمكنه العمل على طبق ذلك، لورود النهي من الشارع المقدس عن العمل بالظن، قال سبحانه:- (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)[5]، وهذا يعني ما استنبطه ليس علة للحكم، وإنما هو حكمة له وليس علته.

وتختلف العلة عن الحكمة في أنها يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، كالإسكار الموجب للبناء على الحرمة، فلو كان الخل مسكراً صار محرماً، ولو وجد خمر لا يسكر لم يحكم بحرمته. وهذا بعكس الحكمة، فإن الحكم لا يتوقف في وجوده عليها، فقد يوجدان معاً، كما يمكن أن يوجد الحكم دون وجودها. ومثاله عدة المرأة المطلقة، فقد جعل الشارع عليها التربص والاعتداد بثلاثة قروء لاستعلام حالها من حيث الحمل وعدمه حذراً من اختلاط الأنساب، فلو كانت حبلى فعدتها أن تضع حملها. إلا أن الملاحظ أن معرفة حالها ليس هو ملاك الحكم والعلة التي جعل من أجلها بجعل العدة عليها، ويشهد لذلك جعل العدة على المرأة العاقر، أو من كان زوجها لا ينجب، أو قد غاب عنها زوجها مدة ثم طلقها، أو قطع بخلو رحمها من الحمل ولو من خلال الوسائل الطبية الحديثة التي تفيد الاطمئنان. وهذا يثبت أن معرفة حال المرأة من حيث الحمل وعدمه، والحذر من اختلاط الأنساب ليس علة الحكم بوجوب العدة، وإنما هو حكمة له، ولهذا يكون الحكم ثابتاً حتى في الموارد التي لا توجد الحكمة المذكورة.

ومثل ما ذكرناه يجري في المثال الآخر المذكور في كلماتهم، وهو حد السرقة، فإن الشارع لم ينص على علة الحكم بوجوب قطع يد السارق في قوله تعالى:- (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا)[6]. فإن المجتهد يستنبط أن الموجب للحكم بقطع يد السارق هو حماية الأموال من العدوان، فيفتي بوجوب القطع في كل سبب لإتلاف الأموال وضياعها كالإحراق، أو التبديد، وغير ذلك ما دامت العلة واحدة، وهي حماية الأموال.

والمانع من القبول بكون ما ذكر علة للحكم، عدم احراز أن العلة التي من أجلها جعل الحكم المذكور أعني القطع، وموضوعه السرقة، هو حماية الأموال من العدوان، فإن احتمال كون ذلك حكمة له وليس علة متصوراً. مع أن هناك قيداً يستظهر من نفس عنوان السارق الذي هو موضوع الحكم المذكور، وهو الذي يحضر مستتراً متخفياً عن الأنظار، وهذا يستدعي أخذ هذا القيد في تحقق الموضوع خارجاً لينطبق عليه الحكم المذكور، ما يجعل الحكم المذكور خاصاً بمن توفر فيه هذا القيد، فلا يشمل من أتلف الأموال علناً أمام الناس مثلاً، وهكذا.

ومن خلال المثالين السابقين يتضح أن هناك عملية اجتهادية يقوم بها الفقيه رغبة منه في الوصول إلى إحراز علة الحكم التي جعل على أساسها، وشرعت، بحيث يدور وجوده مدار وجودها، وعدمه حال عدمه، ولا يلزم أن يوفق للوصول إلى ذلك، بل الغالب هو عدم الوصول، ما يجعله يخلط عادة بين الحكمة والعلة تطبيقاً، فيجعل الحكمة علة، وهكذا. وهذا هو الذي منع من أهل البيت(ع)، ومنعه تبعاً لهم علمائنا.

وعلى أي حال، فقد وجد في هذا القسم من القياس قولان:

أحدهما: ما عليه علماء الشيعة الإمامية تبعاً لأئمة أهل البيت(ع)، من منع العمل على وفقه. ومنشأ منعهم يعود لوجود المانع، وإلا فإن المقتضي للبناء على حجيته والعمل على طبقه متوفراً، لأن القياس مما يمكن أن يحكم العقل بحجيته في كل مورد فقد فيه الدليل، لكونه يوجب الظن، ومن المعلوم أن الظن أقوى من الجهل، فيمكن إثبات حكم شرعي به بمقتضى حكم العقل، لولا منع الشريعة من العمل على وفقه.

وبالجملة، إن الموجب لعدم حجية القياس عن الإمامية يعود لوجود الممانع، وليس لفقدان المقتضي لحجيته[7].

ثانيهما: ما ألتـزمه علماء الجمهور، إلا ما ندر منهم على أنه أصل من أصول التشريع، ومصدر من مصادر الاستنباط للحكم الشرعي في كل مورد لم يرد فيها نص من الشارع المقدس، اعتبروه حجة عقلاً وشرعاً.

أدلة القائلين بحجية القياس:

وقد استند القائلون بحجيته وعدم وجود مانع يمنع من ذلك إلى أدلة ثلاثة:

الأول: الكتاب العزيز:

فقد تمسكوا بعدة آيات:

منها: قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر  منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله اليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)[8]. فقد دلت على أمرين:

1-وجوب طاعة الله سبحانه وتعالى والرسول الأكرم محمد(ص)، وأولي الأمر.

2-تضمنت وجوب الرد لله عز وجل، وللرسول في مورد التنازع والاختلاف للوصول إلى الحق والحقيقة.

ومن المعلوم أن النـزاع يقع بين المؤمنين في خصوص الموارد التي لا نص فيها، لأنه في الموارد التي يكون فيها نص لن يكون هناك اختلاف، وبالتالي يكون القياس من مصاديق الرد إلى الله سبحانه وإلى الرسول الكريم(ص) الذي قد أمرنا بالرد إليهما في كل مورد تنازع، لأنه إرجاع لما لا نص فيه لما فيه النص.

وقد أجيب عنه: بأن الرد لله سبحانه وتعالى وللرسول الأكرم(ص) له طريقان:

أحدهما: وهو الرجوع الحسي، من خلال الرجوع للرسول محمد(ص)، والسؤال منه عن حكم الواقعة التي لم يوجد فيها نص، كما كان الناس يرجعون إليه في أحكامهم، فسألوه عن الأهلة، وعن المحيض، وعما ينفقون، وهكذا. وقد كان(ص) يجيبوهم على ذلك.

ثانيهما: الرجوع العلمي، وذلك يكون من خلال الرجوع للقواعد العامة التي جعلها الله والرسول(ص) للناس لتكون معياراً للعلم والاستنباط للأحكام الشرعية، وهذا ما تجري عليه سيرة العقلاء. فقد جعل الشارع المقدس ضابطة للحكم في باب العقود، وهي لزوم الوفاء بها، استناداً لقوله تعالى:- (أوفوا بالعقود)[9]، فمتى شك في عقد أنه يجب الوفاء به أم لا، كعقد التأمين مثلاً، كان مقتضى الضابطة المذكورة هو وجوب الوفاء به.

وقد يكون الرجوع إليهما من خلال الاستفادة من القواعد المنطقية المتبعة عند العقلاء باستخراج ما يستفاد من كلام الله تعالى، وما جاء عن الرسول(ص)، كما صنع ذلك أمير المؤمنين(ع)، عندما حدد أقل مدة الحمل وأنها ستة أشهر بجمعه بين آيتين في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى:- (حمله وفصاله ثلاثون شهراً)[10]، وقوله سبحانه:- (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)[11]، فاستطاع(ع) تحديد ذلك من خلال ملاحظة الضابطتين اللتين وردتا في كلام الله سبحانه وتعالى.

ولا يخفى أن الرجوع للقياس ليس مصداقاً لأي من الطريقين، فليس هو رجوع حسي، وليس رجوعاً علمياً، ويساعد على ذلك الوجدان، والفهم العقلائي، نعم ما لا ينكر أنه رجوع للرأي الشخصي والاحتمال الظني، وهذا لا يثبت حكماً شرعياً.

وهذا كله بعد التسليم بكون الآية الشريفة في مقام بيان الضابطة التي يعتمد عليها حال التنازع في معرفة الأحكام الشرعية، بأن يبنى على شمول موضوعها إلى ذلك، لا أن يلتـزم-كما هو الصحيح-بأن موضوعها هو حال التنازع في القضايا الاجتماعية، وأن عندها يرد الأمر لله سبحانه وللرسول.

وبعبارة أخرى، إنه لا يمكن الاستناد للآية الشريفة في مقام إثبات شرعية الاستناد للقياس، وذلك لأن موضوعها مختلف تماماً، فإن موضوعها هو التنازع والاختلاف في الشؤون الاجتماعية بين الناس، وما يختص بباب القضاء، وهذا لا ربط له بالفتوى والحكم الشرعي.

الثاني: السنة المباركة:

وكما أستند القائلون بحجيته لعدة آيات من الكتاب الكريم، فقد تمسكوا أيضاً بنصوص عديدة:

منها: قصة معاذ عندما بعثه النبي الأكرم(ص) إلى اليمن، فقد رووا أنه(ص) سأله: بما تحكم يا معاذ؟ فقال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله(ص)؟. قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي. فقال رسول الله(ص): الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لاجتهاد الرأي[12]. فإن المستفاد منه جواز العمل بالرأي في كل مورد لم يوجد فيه نص، ولا ريب في أن القياس من مصاديق العمل بالرأي، فيستكشف من الحديث المذكور كونه مشروعاً ومرضياً عند الشارع المقدس.

ولو رفعنا اليد عن المناقشة السندية، وأن الحديث ضعيف بالإرسال، بل عدّ في كلمات بعضهم أنه من الموضوعات، فإنه لا يصلح للدلالة على المدعى، لأن تمامية الاستدلال به تعتمد على ظهور قوله: اجتهد ورأيي، في الاجتهاد الشخصي، وهو من الظن كما لا يخفى، فيكون منهياً عنه بنص القرآن الكريم:- (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً)[13]، فيشكل ذلك قرينة موجبة لحمل الاجتهاد المذكور على شيء آخر غيره، لأنه لا يتصور أن يقرّ رسول الله(ص) عملاً مخالفاً للقرآن الكريم، فيكون المقصود منه هو الرجوع للقواعد الكلية المستفادة من الكتاب الكريم، والسنة المباركة، وهذا لا إشكال فيه، وليس عملاً بالرأي، ليكون دالاً على مشروعية القياس. مضافاً إلى أن تمامية الاستدلال به تقوم على التسليم بدعوى وهي مساواة الاجتهاد الذي هو بذل الجهد للوصول للحكم الشرعي، مع القياس، مع أنهما متغايران حكماً وموضوعاً.

حكم العقل:

وثالث الأدلة التي تسمك بها القائلون بمشروعيته هو حكم العقل، وقد ذكرت تقريبات له، نشير لواحد منها، وحاصل ذلك: إن مقتضى محدودية النصوص الصادرة من الشرع الشريف سواء في القرآن الكريم، أم السنة لمباركة، وتجدد قضايا الناس يوماً بعد آخر بما يكون مرتبطاً بشأنهم الديني، يجعل العقل يحكم بالحاجة إلى وجود طريق يستند إليه لاستنباط الأحكام الشرعية، وذلك الطريق هو القياس.

ولا يخفى أن هذا التقريب قائم على مقدمتين، بطلان إحداهما هادم له، ولنركز على الأولى منهما، وهي دعوى محدودية النصوص الشرعية الصادرة من الشرع الشريف، فإنه لو كان المقصود من المحدودية محدودية العدد كان ما ذكر صحيحاً، مع أنه أجنبي عن محل البحث. أما لو كان المقصود هو محدودية المضمون والمحتوى، فهو باطل، لأن مقتضى خاتمية الرسالة المحمدية تلبيتها لكافة احتياجات البشرية إلى قيام الساعة، وهذا يستدعي أن تكون النصوص الشرعية متضمنة لتلبية كل ما يستجد ويحصل من حوادث للناس على مرّ الأزمان والعصور. وهذا ما يستفاد من العديد من اطلاقات الأدلة وعموماتها، وغير ذلك. فيثبت عدم تمامية الدليل المذكور.

أدلة المانعين من حجية القياس:

وقد تمسك المانعون من الاستناد إليه وبطلان العمل على وفقه بأدلة أيضاً نشير لأثنين منها:

أحدها: القرآن الكريم:

لقد نهى الشارع المقدس عن العمل بالظن فقال سبحانه:- (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)[14]، ولما كان القياس ظناً، فيكون منهياً عنه بمقتضى الآية الشريفة. وليس في البين ما يوجب رفع اليد عنها من مخصص كما لا يخفى.

ثانيها: السنة الشريفة:

وهي روايات متواترة صادرة عن أهل بيت العصمة والطهارة(ع)، متضمنة للمنع من العمل بالقياس، فعن سماعة عن العبد الصالح، قال: سألته، فقلت: إن أناساً من أصحابنا قد لقوا أباك وجدك وسمعوا منهما الحديث فربما كان شيء يبتلى به بعض أصحابنا وليس في ذلك عندهم شيء يفتيه وعندهم ما يشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس؟ فقال: لا، إنما هلك من كان قبلكم بالقياس. فقلت له: لم لا يقبل ذلك؟ فقال: لأنه ليس من شيء إلا وجاء في الكتاب والسنة[15].

وعن عثمان بن عيسى، قال: سألت أبا الحسن موسى(ع) عن القياس، فقال: ما لكم والقياس إن الله لا يسأل كيف أحل وكيف حرم[16].

وفي حديثه مع أبي يوسف القاضي، قال له: يا أبا الحسن، ما تقول في المحرم يستظل على المحمل؟ فقال له: لا، قال: فيستظل في الخباء؟ فقال له: نعم، فأعاد عليه القول شبه المستهزئ يضحك: يا أبا الحسن، فما فرق بين هذا؟ فقال: يا أبا يوسف، إن الدين ليس يقاس كقياسكم، أنتم تلعبون إنا صنعنا كما صنع رسول الله(ص)، وقلنا كما قال رسول الله(ص)[17].

وقد استأذن أبو يوسف المهدي يوماً أن يسأل الإمام الكاظم(ع)، عن مسائل عنده فيها شيء؟ فقال له: نعم، فقال لموسى ابن جعفر(ع) أسألك؟ قال: نعم.

قال: ما تقول في التظليل للمحرم؟ قال: لا يصلح. قال: فيضرب الخباء في الأرض ويدخل البيت؟ قال: نعم. قال: فما الفرق بين هذين؟ قال: أبو الحسن(ع): ما تقول في الطامث تقضي الصلاة؟ قال: لا. قال: فتقضي الصوم؟ قال: نعم، قال: ولم؟ قال: هكذا جاء. قال أبو الحسن(ع): وهكذا جاء هذا[18]. وهذا وإن لم يتضمن النص على القياس والمنع منه، إلا أن أبا يوسف أراد أن يقيس عندما جاء يستغرب من ثبوت حكم التظليل للمحرم حال السير، بحليته حال النـزول، فعارضه(ع) بالحائض، وكيف أنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة.

وكيف ما كان، فإن دلالة هذه النصوص كلها، وغيرها على المنع من العمل بالقياس، وجعله مستنداً يعتمد عليه في معرفة الحكم الشرعي واضحة[19].

[1] الكافي ج 1 ص 62.

[2] سورة الإسراء الآية رقم 23.

[3] سورة الأحزاب الآية رقم 23.

[4] سورة الجمعة الآية رقم 9.

[5] سورة النجم الآية 28.

[6] سورة المائدة الآية رقم 38.

[7] قد يلتـزم بأن منشأ المنع عن حجيته عندنا هو فقدان المقتضي وليس وجود المانع، لأن الأصل هو حرمة العمل بالظن، إلا ما خرج بالدليل.

[8] سورة النساء الآية رقم 59.

[9] سورة المائدة الآية رقم 1.

[10] سورة الأحقاف الآية رقم 15.

[11] سورة البقرة الآية رقم 233.

[12] عوالئ اللآلئ ج 1 ح 83 ص 414.

[13] سورة النجم الآية رقم 28.

[14] سورة النجم الآية رقم 28.

[15] الاختصاص ص 281.

[16] المحاسن ج 1 ص 214.

[17] وسائل الشيعة ج 12 ب 66 من أبواب تروك الإحرام ح 1 ص 520.

[18] عيون أخبار الرضا ج 1 ص 78.

[19] من مصادر البحث: أصول الفقه، الأصول العامة لأصول الفقه المقارن، أصول الفقه وقواعد الاستنباط.