19 أبريل,2024

نور فاطمة (ع)

اطبع المقالة اطبع المقالة

قل ما يعرض الباحثون في سيرة المعصومين(ع) للحديث حول الجوانب الغيبية التي تضمنتها سيرهم المباركة، بخلاف ما كانت عليه سيرة السلف الصالح، فإن المعروف عنهم أنهم كانوا يقومون بتأليف كتب خاصة في خصوص هكذا مفردات، يكون موضوعها خصوص الأبعاد الغيبية في سيرة كل واحد من المعصومين(ع)، ولسنا بصدد معرفة الدواعي والأهداف التي أدت إلى بروز مثل هذا الأمر، وأنه يمثل ظاهرة أو لا، وما هي الحلول المقترحة حتى تعود عملية الاعتناء بدراسة هذه النواحي من سيرتهم(ع)، فإن لذلك مجالاً آخر.

ومن الأمثلة الواضحة في هذا الجانب، سيرة السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع)، فإن مما لا ريب فيه اشتمال سيرتها المباركة(ع) على مجموعة من النواحي الغيبية التي تدعو للوقوف عندها، والتأمل فيها، بدئاً من خلقها النوري، وتحديد المقصود منه، مروراً بالمصدر الذي انعقدت منه النطفة الطاهرة لها، وكيف تحصل النبي(ص) على تلك المادة التي كانت مصدراً لنطفتها المباركة، وهكذا.

الوجودي النوري للزهراء(ع):

وقد تضمنت النصوص أن السيدة الزهراء(ع) كانت نوراً، وأن الله سبحانه قد خلق نور فاطمة(ع) قبل أن يخلق الخلق، ففي موثقة سدير الصيرفي، عن أبي عبد الله الصادق عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله(ص): خلق نور فاطمة عليها السلام قبل أن يخلق الأرض والسماء، فقال بعض الناس: يا نبي الله فليست هي إنسية؟ فقال: فاطمة حوراء إنسية، قالوا: يا نبي الله وكيف هي حوراء إنسية؟ قال: خلقها الله عز وجل من نوره قبل أن يخلق آدم إذ كانت الأرواح فلما خلق الله عز وجل آدم عرضت على آدم. قيل يا نبي الله وأين كانت فاطمة؟ قال: كانت في حقة تحت ساق العرش، قالوا: يا نبي الله فما كان طعامها؟ قال: التسبيح والتقديس والتهليل والتحميد، فلما خلق الله عز وجل آدم وأخرجني من صلبه وأحب الله عز وجل أن يخرجها من صلبي جعلها تفاحة في الجنة وأتاني بها جبرئيل(ع)، فقال لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمد! قلت: وعليك السلام يا حبيبي جبرئيل، فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، قلت: منه السلام وإليه يعود السلام، قال: يا محمد إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة. فأخذتها وضممتها إلى صدري، قال: يا محمد يقول الله جل جلاله كلها ففلقتها فرأيت نوراً ساطعاً وفزعت منه[1].

ومضافاً لتضمن المعتبر سابقية وجودها النوري على وجودها الدنيوي، فقد تضمن أيضاً أنها خلال فترة الوجود النوري كانت مشغولة بعبادة خاصة، تمثلت في التسبيح والتهليل والتحميد، وأن ذلك كان طعامها، كما أنها قد عرضت على آدم(ع)، والظاهر أن المقصود من عرضها عليه، يعني عرض معرفتها، فيستفاد أنه قد أخذت معرفتها منه(ع)، وهذا المعنى قد أشير إليه في بعض النصوص التي وردت في تفسير قوله تعالى:- (وعلم آدم الأسماء كلها)[2]، كما أنه أحد المعاني المحتملة في قوله(ع): وعلى معرفتها دارت القرون الأولى.

ولا وجه لجعل عرض معرفتها(ع) على آدم(ع) مانعاً من القبول بالخبر، على أساس أنها ليست نبياً، ولا إماماً، فيكون عرض معرفتها لا معنى له، وأقرب للغوية. لأنه لا يوجد عندنا ما يحصر وجوب معرفة الأولياء على المكلفين في خصوص الأنبياء والأئمة(ع)، مع أنه يمكن أن يكون الموجب للبناء على عرض معرفتها على الأنبياء والمرسلين(ع)، بما لها من مقامات، أوجبت لها أن تكون قريبة من مقام النبي(ص)، وجعلت في مصاف أمير المؤمنين(ع)، فلاحظ.

وبالجملة، ليس في النص، ما يمنع من القبول به، والبناء على مضمونه، وهو واحد من النصوص التي تضمنت الحديث عن الوجود النوري للبضعة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع).

وعن جابر الجعفي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: لم سمّيت فاطمة الزهراء زهراء؟
فقال: لأنّ الله عزّ وجلّ خلقها من نور عظمته، فلمّا أشرقت أضاءت السموات والأرض بنورها، و غشيت أبصار الملائكة، وخرّت الملائكة لله ساجدين، وقالوا: إلهنا وسيّدنا، ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري، وأسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي، أخرجه من صلب نبيّ من أنبيائي، أفضله على جميع الأنبياء، وأخرج من ذلك النور أئمّة يقومون بأمري، ويهدون إلى حقّي، وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي[3].

ومضافاً إلى تضمن الحديث المذكور أن منشأ وجودها النوري هو النور الإلهي، وأنها(ع) قد خلقت من نور عظمة الله سبحانه وتعالى، تضمن أيضاً أنها بنت أفضل الخلق جميعاً وهو النبي محمد(ص)، وأنه يخرج منها الأئمة الأطهار(ع)، الذين يقومون بالأمر من بعده(ص).

تفسير الوجود النوري:

ولا يذهب عليك قصور العقل البشري، وعدم قدرته على الإحاطة بحقيقة هذا الوجود، فضلاً عن الوقوف على خصوصياته[4]، لأنه مأسور بما قد اطلع عليه وعلمه، وهو خصوص عالم المادة والشهادة، وهذا يجعل جميع ما يتصوره ويحتمله في بيان تلك الحقيقة وتفسيرها لا يخرج عن دائرة وحدود ذلك العالم.

إلا أن هذا القصور والعجز البشري لا يوجب بقاء الموضوع غامضاً، لأن ذلك يمكن رفعه من خلال الرجوع إلى من قد أعطوا هذا الفضل، وخصوا بهذه المنـزلة، وهم أهل بيت العصمة والطهارة(ع)، وذلك بملاحظة النصوص التي صدرت عنهم(ع)، والتي تضمنت عرضاً وبياناً لكيفية خلق المعصومين(ع)، وكيف أنهم كانوا موجودين قبل وجود الخلق، وأنهم كانوا أنواراً، فإن الإحاطة بذلك تساعد كثيراً في تفسير معنى وجودها النوري(ع).

وكيف ما كان، فإن النصوص التي تحدثت عن كيفية بدأ خلق المعصوم(ع)، على طوائف، نشير لبعض منها:

الأولى: ما تضمنت أن النبي الأكرم محمد(ص)، وعترته الطاهرة، كانوا أشباح نور، فقد روى الصدوق(ره) بإسناده عن معاذ بن جبل أن رسول الله(ص) قال: إن الله خلقني وعلياً وفاطمة والحسن والحسين(ع) قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام، قلت: فأين كنتم يا رسول الله؟ قال: قدام العرش نسبح الله ونحمده ونقدسه ونمجده، قلت: على أي مثال؟ قال: أشباح نور حتى إذا أراد الله عز وجل أن يخلق صورنا صيرنا عمود نور ثم قذفنا في صلب آدم، ثم أخرجنا إلى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ولا يصيبنا نجس الشرك ولا سفاح الكفر، يسعد بنا قوم ويشقى بنا آخرون، فلما صيرنا إلى صلب عبد المطلب أخرج ذلك النور فشقه نصفين، فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في أبي طالب، ثم أخرج الذي لي إلى آمنة، والنصف إلى فاطمة بنت أسد، فأخرجتني آمنة، وأخرجت فاطمة علياً، ثم أعاد عز وجل العمود إليّ فخرجت مني فاطمة، ثم أعاد عز وجل العمود إلى علي فخرج منه الحسن والحسين، يعني من النصفين جميعاً، فما كان من نور علي فصار في ولد الحسن، وما كان من نوري صار في ولد الحسين، فهو ينتقل في ولده إلى يوم القيامة[5].

ومثله ما رواه جابر بن يزيد قال: قال لي أبو جعفر(ع): يا جابر، إن الله أول ما خلق، خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله. قلت: وما الأشباح؟ قال: ظل النور، أبدان نورانية بلا أرواح[6].

الثانية: ما تضمنت أنهم(ع) كانوا في أظلة خضراء، فعن المفضل، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): كيف كنتم حيث كنتم في الأظلة؟ فقال: يا مفضل، كنا عند ربنا-ليس عنده أحد غيرنا-في ظلة خضراء، نسبحه ونقدسه، ونهلله ونمجده، وما من ملك مقرب ولا ذي روح غيرنا[7].

الثالثة: ما تضمنت أن النبي الأكرم محمد(ص)، قد خلقه الله تعالى روحاً، بلا بدن، فقد روى مرازم عن أبي عبد الله(ع) قال: قال الله تبارك وتعالى: يا محمد إني خلقتك وعلياً نوراً يعني روحاً بلا بدن قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري فلم تزل تهللني وتمجدني، ثم جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة، فكانت تمجدني وتقدسني وتهللني، ثم قسمتها ثنتين وقسمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة محمد واحد وعلي واحد والحسن والحسين ثنتان، ثم خلق الله فاطمة من نور ابتدأها روحاً بلا بدن، ثم مسحنا بيمينه فأفضى نوره فيناً[8].

ولا يتوهم أحد وجود معارضة بين النصوص السابقة، ذلك أن المقصود من عالم الأشباح، وعالم الظلال واحد، فعالم الظلال لا يخرج المقصود به عن أحد محتملين، إما عالم الأرواح، أو عالم المثال، وكلاهما منسجم تماماً مع عالم الأشباح، فتدبر.

كما أن تضمن بعضها خلقه(ص) من دون روح، واشتمال آخر على وجود الروح، لا يوقع المعارضة بينها، ذلك أن الروح المنفي فيها إنما هي الأرواح الحيوانية، والروح المثبتة هي التي تكون مناسبة لعالم الأنوار، فلاحظ.

على أن الاختلاف في المدة الزمنية التي بقوا فيها في ذلك العالم بعد خلقهم أنوراً، وإن كان يظهر من النصوص اختلافها، إلا أن الظاهر أن ذلك كان وفق تنقلهم في مراحل ذلك العالم، وهو ظاهر من ملاحظة النصوص جميعاً، فلا تغفل.

ولا يذهب عليك، أن مقتضى ضم هذه النصوص بعضها مع بعض يوجب أن يكون المقصود من حقيقة الوجود النوري، هو: نور ساطع، تتكون منه أبدان نورانية، ومُثُل نورانية، مخلوقة بطلوع ذلك النور العظيم عليها.

وهذا يستدعي أن يكون لسيدتي ومولاتي الزهراء(ع) وجودان، وجود نوراني، وجود ناسوتي.

ويستفاد من النصوص الشريفة أن مصدر هذا النور أحد أمرين:

الأول: أن يكون مصدره هو الباري سبحانه وتعالى، لأنه يكون مخلوقاً من نور عظمته عز وجل، فقد روى مرازم عن أبي عبد الله(ع) قال: قال الله تبارك وتعالى: يا محمد إني خلقتك وعلياً نوراً يعني روحاً بلا بدن قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري فلم تزل تهللني وتمجدني، ثم جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة، فكانت تمجدني وتقدسني وتهللني، ثم قسمتها ثنتين وقسمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة محمد واحد وعلي واحد والحسن والحسين ثنتان، ثم خلق الله فاطمة من نور ابتدأها روحاً بلا بدن، ثم مسحنا بيمينه فأفضى نوره فيناً[9].

الثاني: أن يكون مصدره هو نور ظله وشعاعه، فقد روى محمد بن مروان عن أبي عبد الله(ع) قال: سمعته يقول: إن الله خلقنا من نور عظمته، ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش فأسكن ذلك النور فيه، فكنا نحن خلقاً وبشراً نورانيـين لم يجعل لأحد مثل الذي خلقنا منه نصيباً[10]. فلاحظ.

ويمكن تقريب معنى الوجود النوري للذهن، بالوجود المثالي الذي يكون لجميع الناس في عالم البرزخ، فإنها هناك مؤيدة بروح القدس، من الله سبحانه وتعالى، بلا أرواح حيوانية، فهي وجود نوري لاهوتي يشبه الوجود الجسمي الناسوتي بشكله الفعلي، أو بأي شكل يناسب ذاك العالم.

ويؤيد المعنى الذي ذكر لحقيقة الوجود النوري، ما تضمنته نصوص عدة من أن جملة من الأنبياء(ع)، قد رأوا تلك الأنوار، وعاينوها، بل قد ورد أن بعضهم توسل لله سبحانه وتعالى وسأله بها، فقد جاء في بعض النصوص، أن أبا البشر آدم(ع) قد رأى تلك الأنوار، كما تضمن قسم آخر منها، رؤية خليل الرحمن إبراهيم(ع) إياها، فتدبر[11]. فمن تلك النصوص، ما روي عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله(ص) لعلي بن أبي طالب(ع): لما خلق الله عز وجل ذكره آدم ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته وزوجه حواء أمته، فرفع طرفه نحو العرش فإذا هو بخمسة سطور مكتوبات، قال آدم: يا رب من هؤلاء؟ قال الله عز وجل له: هؤلاء الذين إذا تشفع بهم إليّ خلقي شفعتهم. فقال آدم: يا رب بقدرهم عندك ما اسمهم؟ قال: أما الأول فأنا المحمود وهو محمد، وأما الثاني، فأنا العالي الأعلى وهذا علي، والثالث فأنا الفاطر وهذه فاطمة، والرابع فأنا المحسن، وهذا حسن، والخامس فأنا ذو الإحسان، وهذا حسين، كل يحمد الله عز وجل[12].

إشكال وجواب:

هذا وقد يقال: إن الغاية التي تسعون للوصول إليها من خلال هذه النصوص غير متحصلة، لسببين يمنعان من ذلك:

الأول: ما ذكره علماء اللغة في حقيقة النور، وأنه: ظاهر في نفسه، ومظهر لغيره، وقد فسر بأنه الوجود، لكونه أظهر المصاديق لهذا المعنى، وهذا يستوجب أن تكون جميع الموجودات موجودة بوجود الله سبحانه وبنوره.

الثاني: ما تضمنته مجموعة من النصوص، من أن المؤمن خلق من نور الله سبحانه وتعالى، فعن معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): جعلت فداك هذا الحديث الذي سمعته منك، ما تفسيره؟ قال: وما هو؟ قال: إن المؤمن ينظر بنور الله، فقال: يا معاوية، إن الله خلق المؤمنين من نوره، وصبغهم في رحمته، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية على معرفته يوم عرّفهم نفسه، فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، أبوه النور، وأمه الرحمة، وإنما ينظر بذلك النور الذي خلق منه[13].

ومقتضى الجمع بين الأمرين، يستوجب عدم وجود مزية أو خصوصية للسيدة الزهراء(ع)، في أنها قد خلقت من نور عظمة الله سبحانه وتعالى، أو أنها قد خلقت من ظله عز وجل، لأن جميع الموجودات وفقاً لما ذكره علماء اللغة في حقيقة النور، يكون وجودها مستمداً من نور عظمته سبحانه وتعالى، ولا أقل من أن النصوص قد تضمنت أن المؤمن مخلوق من نور الله عز وجل، وهذا يعني اشتراك المؤمن وإياها، على أقل التقادير في أن مصدر خلقهما هو نور الباري سبحانه وتعالى.

ولا يخفى أن الإشكال المذكور مبني على تصور أن النور حقيقة واحدة، وأنه من المفاهيم المتواطئة التي تتساوى فيها جميع الأشياء، فإنه لو سلم بذلك كان الإشكال المذكور وارداً، إلا أنه لو بني-كما هو الصحيح- على أن النور من المفاهيم المشككة والذي تكون له مراتب متعددة تختلف حسب مواردها، فإنه لن يكون للإشكال المذكور مجال أصلاً، ذلك لأنه سوف يبنى على أن جميع الممكنات والموجودات، وإن كانت تشترك في أن مصدر وجودها هو النور الإلهي، إلا أنه لا ريب في أن هذا الاشتراك لن يكون للجميع على مستوى واحد، وفي مرتبة واحدة، بل لابد وأن يكون فيها تفاوت بينها، كما أن مجرد خلق المؤمن من نور عظمة الله تعالى، لا يعني أنه يتساوى وبقية الموجودات التي خلقت من نور عظمته، كما لا يخفى.

ويؤيد ما ذكرنا، ما رواه المفضل-في حديث- عن أبي عبد الله الصادق(ع)، وقد سأله: ما كنتم قبل أن يخلق الله السماوات والأرضين؟ قال(ع): كنا أنواراً حول العرش نسبح الله ونقدسه، حتى خلق الله سبحانه الملائكة، فقال لهم: سبحوا، فقالوا: يا ربنا لا علم لنا، فقال لنا: سبحوا، فسبحنا فسبحت الملائكة بتسبيحنا، ألا إنا خلقنا من نور الله، وخلق شيعتنا من دون ذلك النور[14]. فإن تعبيره(ع): من دون ذلك النور، صريح في وجود تفاوت في المخلوقين من النور، وأنهم ليسوا على مستوى واحد، فلاحظ.

موانع القبول بالنصوص:

ثم إنه قد يدعى[15] عدم إمكانية الاستناد لشيء من النصوص المذكورة، فضلاً عن العمل على طبقها والاعتقاد بما جاء فيها، لا لضعف أسناد جملة منها، فإن جملة أخرى معتبرة الأسناد، بل قد يكون بينها ما هو من الصحيح الأعلائي، ولو على وفق بعض المباني، مضافاً إلى أن القول بتواترها ولو تواتراً معنوياً، غير بعيد، وهذا يمنع الخدشة فيها من حيث الصدور، إلا أن الموانع المتصورة بلحاظ جوانب أخرى، فإنها تفتقد إلى موافقة القاعدة الشرعية، وكذا العقلية الموجبة للحجية والاعتبار، وبعبارة أخرى، إن النظر للنص المانع من القبول به، لا ينحصر في نقد سنده فقط، وإنما يمكن أن يكون المانع من قبوله هو متنه، لعدم القبول به بعد نقده، توضيح ذلك:

إنه حتى يلتـزم بكون الخبر حجة ويستند إليه، لابد وأن يعرض على القاعدة الشرعية، فلا يكون مخالفاً للكتاب العزيز، كما يلزم أن لا يكون مشتملاً على ما يوجب المخالفة لحكم العقل، ولذلك أمور متعددة، كأن لا يكون متضمناً لغرائب يأبى العقل البشري قبولها، أو أن تكون متضمنة لما يكون مخالفاً للحقائق التاريخية المسلمة، أو يوجد له معارض يمنع من العمل على وفقه، وهكذا. والنصوص محل البحث، فاقدة لذلك.

أما مخالفتها للقاعدة الشرعية، فله سببان:

أحدهما: مخالفة هذه النصوص لظواهر جملة من الآيات الشريفة: فلأن المستفاد من القرآن الكريم، أن امتياز النبي(ص) على بقية المخلوقات البشرية، إنما هو بالكمالات النفسية الاكتسابية، والتي قد تحصل عليها(ص) جراء قيامه بجملة من المجاهدات والترويض للنفس، ولا يستفاد من الآيات القرآنية أن هناك خصوصية ذاتية امتاز بها النبي(ص). فلاحظ قوله تعالى:- (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)[16]، وقوله سبحانه:- (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله)[17]، وقال عز من قائل:- (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً)[18]، وقوله تعالى:- (ألم نشرح لك صدرك*ووضعنا عنك وزرك* الذي أنقض ظهرك)[19]، وكذا قوله سبحانه:- (ألم يجدك يتيماً فآوى* ووجدك ضالاً فهدى* ووجدك عائلاً فأغنى)[20]، فإن المستفاد من جميع هذه الآيات الشريفة، وغيرها أنه(ص) لا يخرج عن دائرة العنصر البشري، وأن كل ما كان موجوداً لديه من ملكات وامتيازات، لم ينلها بنحو الخصوصية المجعولة له من قبل الله تعالى، وإنما حظي بذلك نتيجة ما كان يقوم به لتحصيل ذلك.

ولا ريب أنه إذا لم يكن للرسول الأكرم(ص) أية خصوصية ذاتية تميز بها على بقية الموجودات البشرية، فمن الطبيعي أن لا يكون لابنته السيدة الزهراء(ع)، وهي التي لا تضاهيه في مقامه ومنـزلته، شيئاً خاصاً يميزها على بقية العنصر البشري، وعليه سوف يبنى على رفع اليد عن هذه النصوص، والبناء على عدم حجيتها، لأن مقتضى القاعدة الشرعية، هو عرض النص أي نص على الآيات القرآنية، ومتى كان مخالفاً لها، بحيث لا يمكن التوفيق بينهما، أوجب ذلك رفع اليد عنه، فلاحظ.

ثانيهما: وجود المعارض لهذه النصوص، حيث توجد جملة من الروايات تضمنت أن أول ما خلق الله سبحانه وتعالى الماء، وفي طائفة أخرى جاء أن أول المخلوقين هو العقل، وطائفة ثالثة تضمنت أن أول المخلوقات هو القلم، وهذا يستدعي وجود المعارض لهذه النصوص التي تضمنت أن أول المخلوقين هو نور النبي(ص)، ومن ثمّ نور أهل بيته(ع)، كما عرفت. فمن تلك النصوص ما جاء في التفسير المنسوب للقمي: من أن أول ما خلق الله الهواء[21].

وأما مخالفتها للقاعدة العقلائية، فله نحوان أيضاً:

أحدهما: مخالفتها لحكم العقل القطعي، بسبب تضمنها جملة من الأحكام الغريبة التي يصعب على العقل البشري القبول بها، فضلاً عن تصديقها، مثل وجودهم(ع) قبل وجود الخلق بمدة زمنية، ومثل وجودهم بصورة الأشباح، أو أنهم كانوا أظلة خضراء، وغير ذلك، وهذا يجعلها في عداد الأمور المنكرة، فتسقط عن الاعتبار.

ثانيهما: إن الاعتقاد بهذه النصوص يوجب حصول الغلو عند المكلفين، لأنهم سوف يجعلون لأهل البيت(ع) ما لا ينبغي أن يكون لهم، وقد وردت نصوص عديدة عنهم(ع) تمنع من الغلو، وتحاربه، وتشير إلى ابتعاد أصحابه عن المعصومين(ع).

والحق، أنه لا يوجد ما يمنع من القبول بالنصوص المذكورة، وما ذكر من مخالفتها للقاعدتين الشرعية والعقلية غير ممسوع.

أما السبب الأول من سببي القاعدة الشرعية، فيدفعه، أن المستفاد من النصوص الشريفة أن للمعصوم(ع) وجودين، وجوداً يرتبط بعالم الأمر، ووجوداً يرتبط بعالم الخلق، ويختلفان في جوانب متعددة، منها أن الأول لا ربط له بعالم الجسمانيات، بينما للثاني تمام الارتباط بذلك، فعالم الأمر هو الوجود النوري للمعصوم، وعالم الخلق هو الوجودي البشري إليه.

ومن الطبيعي جداً أن القرآن الكريم، لما جعل النبي الأكرم(ص) عنصر القدوة، والنموذج الأكمل الذي ينبغي للأمة أن تتبعه، وتسير على وفق نهجه وهديه، لابد وأن يكون عرضه إليهم من خلال وجوده المرتبط بعالم الخلق، وهو الوجود البشري، وليس الوجود النوري، ولهذا نجد تأكيد القرآن الكريم في العديد من آياته الشريفة على الوجود البشري للنبي(ص)، وما هذا إلا لكونه القدوة التي يلزم الاقتداء بها، إلا أن هذا لا يعني نفي وجود نوري له(ص)، وإنما هو أمر مسكوت عنه.

وإن شئت فقل، إن الآيات الشريفة ليست في مقام البيان من جميع الجهات، وإنما أقصى ما يستفاد منها، الإشارة إلى الوجود البشري للنبي(ص)، لكنها ساكتة عن وجود نوري إليه(ص) سواء بنحو النفي، أم بنحو الإثبات، وأين هذا من دعوى وجود المخالفة والمنافاة بين النصوص محل البحث، وبين الآيات القرآنية، فتدبر.

وأما السبب الثاني، من سببيها، فإنه يمكن علاج المعارضة المدعاة بأحد بيانين:

الأول: ما ذكره غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده)، فإنه بعدما أشار إلى الخلاف الموجود بين العلماء في أول المخلوقات، واختلاف الأخبار في ذلك، وذكر الأقوال في المسألة، عمد إلى ذكر جمع بين النصوص، يعالج الأمر، بما يكون مرتبطاً بمحل بحثنا، فجمع بين النصوص المشيرة لتقدم بعض الموجودات وجوداً على الوجود النوري للمعصومين(ع)، من خلال التفريق بين ما يكون وجوده مرتبطاً بعالم الأرواح، وما يكون وجوده مرتبطاً بعالم المادة، وحاصله: إنه لا معارضة بين النصوص، ذلك لأن الموضوع الوارد فيها مختلف، إذ أن النصوص التي تضمنت أسبقية الوجود النوري للمعصومين(ع)، ناظرة لوجود الأرواح، وهو المرتبطة بعالم الأمر، وأما النصوص التي تضمنت تقدم خلق الماء، فإنها ناظرة لعالم الخلق، وهو الذي يكون مرتبطاً بالجوانب المادية، وهذا يعني أن المقصود بأسبقيته في الوجود، يعني الوجود بالنسبة إلى العناصر والأفلاك، كما لا يخفى.

وعليه، سوف يكون وجود الأرواح سابقاً على وجود الماء، مثلاً، أو غيره من العناوين التي أدعي تقدمها في الوجود.

وحتى لا يرمى ما أفاده(قده) من الجمع بكونه جمعاً تبرعياً، أشار(ره) إلى بعض النصوص التي تضمنت أسبقية الملائكة وجوداً على خلق العناصر والأفلاك، فلاحظ[22].

وعليه فيكون التقدم بالنسبة لبعضها البعض على البقية تقدم إضافي وليس تقدماً حقيقياً، بهذا البيان، إن الله عز وجل أول ما خلق، خلق النور المحمدي، وهو المرتبط بعالم الأرواح، وخلقه معه نور بقية المعصومين(ع) بما فيه نور سيدتي ومولاتي الزهراء(ع)، ولم يكن عندها قد خلق شيئاً مرتبطاً بعالم المادة، فيكون تقدم خلق الوجود النوري للمعصومين(ع) سابقاً على وجود بقية الموجودات، ثم خلق تعالى بقية الموجودات المادية، وقد جعل بينها تقدماً رتبياً أيضاً، فكان خلق الماء أسبق وجوداً على بقية الموجودات المادية من العناصر والأفلاك، فيثبت المطلوب.

الثاني: أن يلتـزم بأن التقدم المذكور في النصوص تقدم حقيقي، وأن الأسبقية واقعة فعلاً، وذلك من خلال البناء على أن تقدم الوجود للماء بلحاظ كونه مادة على الوجود المرتبط بعالم الخلق للمعصومين(ع)، وبالتالي لا تكون أدنى منافاة بين النصوص، فلاحظ.

ثم إن هذا كله مبني على التسليم بوجود المعارضة بين النصوص، وإلا لو بني على أن المقصود من العناوين التي تضمنتها النصوص، من ذكر الماء، أو القلم أو العرش، أو ما شابه، إنما هي عناوين تشير إلى الحقيقية المحمدية، من خلال ذكر مراتبها، وأن كل واحد من هذه العناوين يحكي مرتبة من المراتب الثابتة لها، وهذا يكشف عن وجود تعدد في مراتبها، فلن يكون هناك معارضة أصلاً، فتدبر[23].

وأما النحو الأول من نحوي القاعدة العقلائية، فإنه لا يوجد ما يفيد أن مجرد كون الحكم غريباً يحكم العقل برفضه، وبالتالي لا يمكن التسليم به، وإلا لزم أن لا يقبل بشيء مما يكون مرتبطاً بعالم المجردات، كالملائكة على سبيل المثال، كما أنه يلزم أن لا يؤمن بشيء مما يرتبط بعالم القبر من البرزخ، وما يتعلق به، كما يلزم أن لا يؤمن بشيء مما يرتبط بعالم القيامة، وما يتعلق به من بعث ونشور وحساب وجنة ونار، فإن جميع هذه الأمور من الأشياء التي تعدّ من الغرائب بالنسبة للعقل البشري، ويصعب عليه التصديق بها، خصوصاً وأنه لا يملك إحاطة أو دراية بها. ومع ذلك لم يقل أحد برد النصوص التي تضمنت ذلك. ومقامنا من هذا القبيل، فما يقال هناك، بعينه يجري في المقام، فتدبر[24]. ويساعد على نفي الغرابة بل يدل عليه، ما تضمنه القرآن الكريم من الحديث عن أخذ الميثاق في عالم الذر، وما تضمنته النصوص المعتبرة من خلق الأرواح قبل الأجساد بمدة من الزمن، فإن هذا يوجب نفي الاستبعاد والغرابة في نصوص الوجود النوري، فلاحظ[25].

ثم إنه لو لم يقبل بجميع ما ذكر، فلا أقل من أن قصور العقل البشري، كما أشار لذلك العلامة المجلسي(ره)[26] عن إدراك حقيقة هذه النصوص، والوصول إلى كنه المقصود بعالم النور الذي كان منه نور مولاتي الزهراء(ع)، لا يوجب طرح هذه النصوص، والإعراض عنها، وإنما يلزم أن تترك في سنبلها، ويرجى أمرها لحين لقاء الإمام(ع)، كما تضمنت ذلك بعض النصوص، فلاحظ.

وأما النحو الثاني، من نحوي القاعدة العقلائية، وهو ترتب الغلو نتيجة الإيمان بهذه النصوص، فيكفي في جوابه ملاحظة حقيقة الغلو وبيان مفهومه، فإن المستفاد من كلماتهم أن الغلو عبارة عن تجاوز الحد، عما يستحقه الإنسان بزيادة ما يوجب حمده أكثر مما له، أو يوجب ذمه أكثر مما فيه.

وهذا يكون بتجاوز أشخاص البشر عن مقاماتها من حد العبودية إلى مقام الربوبية، كما فعل ذلك أهل الكتاب بأنبيائهم[27].

[1] بحار الأنوار ج 43 ص 4 ح 3.

[2] سورة البقرة الآية رقم 31.

[3] علل الشرائع ج 1 ص 180 ح 1.

[4] أشير لهذا المعنى في كلام العلامة المجلسي(ره) في كتابه مرآة العقول ج 5 ص 188.

[5] علل الشرائع الباب 156 ح 11 ص 246.

[6] أصول الكافي ج 2 كتاب الحجة باب مولد النبي(ص) ووفاته ح 10 ص 442.

[7] أصول الكافي ج 2 كتاب الحجة باب مولد النبي(ص) ووفاته ح 7 ص 440.

[8] أصول الكافي ج 2 كتاب الحجة باب مولد النبي(ص) ووفاته ح 3 ص 437.

[9] أصول الكافي ج 2 كتاب الحجة باب مولد النبي(ص) ووفاته ح 3 ص 437.

[10] أصول الكافي ج 2 كتاب الحجة باب خلق أبدان الأئمة وأرواحهم وقلوبهم ح 2.

[11] النبي الأعظم(ص) ووجوده النوري ص 164(بتصرف).

[12] بحار الأنوار ج 15 ح 18 ص 14.

[13] بصائر الدرجات الباب 11 ح 2.

[14] بحار الأنوار ج 25 باب بدء خلقهم وطينتهم وأرواحهم ح 34 ص 21.

[15] حكى ذلك في كتاب النبي الأعظم(ص) ووجوده النوري ص 195-199.

[16] سورة آل عمران الآية رقم 144.

[17] سورة الأحزاب الآية رقم 40.

[18] سورة الأعراف الآية رقم 188.

[19] سورة الانشراح الآيات رقم 1-3.

[20] سورة الضحى الآيات رقم 6-8.

[21] تفسير القمي ج 1 ص 321.

[22] بحار الأنوار ج 57 ص 309.

[23] ذكر هذا في حاشية بحار الأنوار ج 54 ص 307.

[24] النبي الأعظم(ص) ووجوده النوري ص 197.

[25] المصدر السابق ص 198.

[26] مرآة العقول ج 5 ص 188.

[27] الجذور التاريخية والنفسية للغلو والغلاة ص 19.