29 مارس,2024

مفطرية غير المعتاد من الأكل والشرب

اطبع المقالة اطبع المقالة

يحكم أصحابنا الإمامية أعلى الله كلمتهم وأنار برهانهم بمفطرية الأكل والشرب بقول مطلق من دون فرق في المأكول والمشروب بين المعتاد كالخبز والماء ونحوهما، وبين غير المأكول كالتـراب والحصى، وعصارة الأشجار ونحوهما.

نعم خالف في ذلك ابن الجنيد، والسيد المرتضى أعلى الله مقامهما. وقد مال لهذا الرأي من المتأخرين السيد صاحب المدارك(قده).

هذا وقد ناقش في الجواهر في صحة نسبة الخلاف للسيد المرتضى، حيث أنه قد حكم بالمفطرية، في غير واحد من كتبه كما في كتابه الناصريات، وأنت خبير بما فيه، إذ من المحتمل أن الخلاف الصادر منه في كتاب آخر غير هذه الكتب، خصوصاً وأن السيد المرتضى قد كان مكثراً في التأليف، وعلى أي حال، فقد اختار السيد عدم المفطرية، في رسائله.

هذا والعمدة هي ملاحظة أدلة القولين، ومن ثم معرفة القول الصواب:

استدل القائلون بالعموم للمعتاد وغيره، بعدة أدلة:

الأول: التمسك بالإجماع المدعى من قبل الشيخ الطوسي في الخلاف، والسيد ابن زهرة في كتابه الغنية، وابن إدريس في السرائر، وظاهر العلامة في المنـتهى والتذكرة.

هذا ولتمحيص هذا الإجماع لابد من ملاحظة بعض الكلمات المدعية له، قال في الخلاف:

إذا أكل ما لا يؤكل باختياره، كالخزف والخرق والطين والخشب والجوهر، أو شرب غير مشروب كماء الشجر والورد والعرق، كل هذا يفطر، وهو قول جميع الفقهاء، إلا الحسن بن صالح بن حي فإنه قال:لا يفطر إلا المأكول المعتاد.

دليلنا: قوله تعالى:- ( ثم أتموا الصيام إلى الليل) والصيام هو الإمساك، وهذا يقتضي الإمساك عن كل شيء.

وما روي من الأخبار في أن من أكل أو شرب متعمداً أنه يفطر، وهذا يتناول هذا الموضع، لأن من أكل شيئاً مما ذكرناه أو شرب يسمى أكلاً.

أقول: تعتمد دعوى الإجماع المنسوبة إلى الشيخ(قده) على ظهور قوله:جميع الفقهاء، بحيث لا تنحصر في خصوص فقهاء العامة.

والظاهر خلاف ذلك، حيث أن ظاهر التعبير وبقرينة التعرض لخلاف الحسن بن صالح فقط، دون الإشارة إلى خلاف ابن الجنيد والسيد المرتضى، يشير إلى أن المراد من الفقهاء هنا فقهاء العامة، بمعنى أن المسألة إجماعية بينهم، ولا ربط لهذا بوجود إجماع بين الشيعة من عدمه.

هذا ولو قيل: بأن الشيخ وإن كان بصدد تأليف كتاب جامع بنحو الفقه المقارن بـين الشيعة والسنة، لكن غايته الأساس هي إثبات المطالب الفقهية الشيعية من خلال الأدلة المتفق عليها بين الفريقين.

قلت: إن هذا لا ينفي أن يكون(قده) في مقام الاحتجاج وإثبات المدعى من خلال كونه أمراً اتفاقياً بين علمائهم، بحيث لا يعد ما اعتمده الشيعة من البدع في القول، وإدخال ما ليس من الدين في الدين. هذا اولاً.

ثانياً: لو رفعنا اليد عما قدمناه، فإنه لا يمكن التعويل على هذا الإجماع، لكونه واضح المدركية، وليس محتملها، ذلك لأن الشيخ(قده) قد عقب دعواه إياه بالاستدلال بالآية الشريفة، والنصوص، ولا يـبعد أن يكون هذا قرينة أخرى على تأيـيد ما ذكرناه فلاحظ.

ثالثاً: إن هذا من إجماعات الشيخ الطوسي(ره) في الخلاف، المحقق في الأصول عدم مقبوليتها، لكونها من الإجماعات التي على القاعدة، أو الاجماعات اللطفية، وأمثال ذلك، وقد قرر في الأصول عدم حجية مثل هذه الإجماعات.

وما عن شيخنا الأستاذ(دام ظله) من التفصيل بينها فيما إذا عبر بما يشعر بالاختصاص بأهل قرن أو فترة زمنية، وبين ما كان بقول مطلق.

لا وجه له، بعد النقاش في أصل كبرى مثل هذه الإجماعات.

وقال العلامة في التذكرة: ولا فرق بين المعتاد وغيره عند علمائنا، سواء يغذى به أولا، وهو قول عامة أهل العلم، للعموم، ولأن حقيقة الصوم الإمساك، وهو غير متحقق مع تناول غير المعتاد.

وقال الحسن بن صالح بن حي: لا يفطر بما ليس بطعام ولا بشراب. وكان أبو طلحة الأنصاري يأكل البرد في الصوم، ويقول: ليس بطعام ولا شراب.

وقال أبو حنيفة: لو ابتلع حصاة أو فستقة بقشرها، لم تجب الكفارة، فاعتبر في أيجاب الكفارة ما يتغذى به أو يتداوى به، وهو مذهب السيد المرتضى.

والكل باطل بما تقدم.

أقول: لا ريب في وضوح عبارته(قده) في دعوى الإجماع، وذلك لتعبيره بـ(عند علمائنا) بل هو ظاهر قوله(عامة أهل العلم).

لكن هذا الإجماع، لا يمكن الركون إليه في مقام الاستدلال والفتوى، لكونه إجماعاً مدركياً، قد عقبه المدعي بما يصلح للدليلية.

هذا ويـبقى الكلام، في ما يتوهم من مانعية خلاف ابن الجنيد والسيد المرتضى، للإجماع، وهو في غير محله، لا لعدم العبرة بمثل خلافات ابن الجنيد كما هو المشهور المتداول، بل لما هو المعلوم من حقيقة الإجماع، بل عدم المانعية أوضح خصوصاً بناء على الاستفادة من حساب الإحتمالات في حجية الإجماع.

هذا كله في الدليل الأول، على العموم للمعتاد وغيره، وقد عرفت حاله.

الثاني: ما ذكره بعض الأساطين(قده) من التمسك بارتكاز المتشرعة.

ويمكننا أن نقرب هذا الارتكاز: إن الثابت في ذهن المتشرعة في جميع الأزمنة، من زمن النبي(ص) وإلى يومنا هذا هو البناء على مفطرية المعتاد وغير المعتاد من الأكل والشرب، من دون فرق بينهما، وقد قرر الشارع المقدس هذا الارتكاز وأمضاه بعدم الردع عنه، إذ لو لم يكن غير المعتاد من الأكل والشرب مفطراً لبين الشارع خطأ المرتكز في الأذهان إخراجاً لهم عن الضلالة والغي، وبياناً لاشتباههم، كما نهى عن ذلك في عدة موارد، فقد نهى عن الربا والفقاع، وغيرهما من المحرمات التي كان يرتكبها الناس ويعدونها من المباحات، فنبههم الشارع على خطئهم ومنعهم عنها، فيثبت المطلوب.

هذا ويمكن الملاحظة عليه أولاً: بأن سكوت الشارع عن عدم مفطرية غير المعتاد من الأكل والشرب، لعله يعود لاستحباب الاجتناب عنه، والتقرير دليل لبي، يصعب استفادة أكثر من ذلك منه.

ثانياً: قد يشكك في انتهاء هذا الارتكاز إلى عصر المعصومين(ع) حتى يستدل بتقريرهم له، فلعله حدث في الأعصار المتأخرة بلحاظ فتاوى الأصحاب بالمفطرية، وشيوع آرائهم بين المتشرعة.

ثالثاً: إن من المحتمل قوياً أن وجود هذا الارتكاز كان ناشئاً من أجل الحفاظ على الهيئة، ولعل هذا لجهة الاستحباب، أو لجهة المرجوحية، والاستمرار العملي لا يدل على وجوب العمل.

الثالث: ما جاء في كلمات شيخنا الأعظم الأنصاري(قده)، بأن حذف المتعلق يدل على تعلق الحكم بالاجتناب بالطبيعة، كما في قولك زيد يعطي ويمنع.

هذا وقد ورد التقريب لهذا الوجه بطريقين:

الأول: ما جاء في كلمات بعض الأساطين(قده) من التمسك بالإطلاق.

إن المدار في ثبوت الحكم هو تحقق الموضوع، ومتى تحقق ثبت الحكم حينئذٍ، والموضوع في الآية الشريفة وفي صحيحة محمد بن مسلم هو عنوان الأكل والشرب، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بينهما، فيثبت المطلوب.

إن قلت: إن الانصراف الحاصل في المقام، مانع من انعقاد الإطلاق.

فلت: إن الانصراف إلى المعتاد يتصور لو كان المراد من الآية ليس المعنى المصدري، بل المراد خصوص المأكول والمشروب، بمعنى أن الملحوظ هو الذات الخارجية، فعندها يمكن القول بالانصراف، لكن مع كون المراد من الآية هو المعنى المصدري، أي تعلق النهي عن نفس الأكل والشرب، فلا مجال للانصراف.

ويلاحظ عليه: بأن الظاهر من الآية الشريفة أن المراد من الأكل والشرب فيها، ليس المعنى المصدري، وإنما المراد منها هو المأكول والمشروب، ويشهد لذلك الإشارة في الآية إلى بيان وقت حلية الأكل والشرب، ولا معنى لأن يـبين الله تعالى وقت حلية ما ليس معتاداً ومتعارفاً.

كما أن صحيحة محمد بن مسلم قد ورد التعبير فيها بنفس(الطعام والشراب) وهذا يصلح لرفع الإطلاق المدعى في الآية لو سلم.

ثانياً: إن الخطابات الشرعية سواء منها النصوص القرآنية أم الروائية محمولة على الظهورات العرفية، ولا ريب في أن العرف يفهم من الآية الشريفة أن المراد هو المأكول والمشروب، وليس نفس الأكل والشرب.

الثاني: ما جاء في كلمات بعض الأعاظم(قده) من التمسك بالعموم، لأن حذف المتعلق دال على العموم.

وهو لا يفرق عما ذكره بعض الأساطين(قده)، وعليه يكون التقريب الذي ذكرناه، جارٍ بعينه هنا، فلاحظ.

ويلاحظ عليه: إن القول بدلالة حذف المتعلق على العموم، مقالة غير مبرهنة، ودعوى غير مثبتة.

والصحيح هو أن حذف المتعلق يرتكز على أساس ظهور الكلام في تعيـين المتعلق المحذوف، الأمر الذي يغني المتكلم عن ذكره للمخاطب باعتبار قدرة المخاطب على تشخيصه في المحاورات العرفية.

وأما عموم المتعلق وخصوصه فهو أمر موكول إلى المناسبات العرفية والقرائن المحتفة بالكلام.

ومع غمض النظر عن هذه المناسبات، فإن المحذوف له حالتان:

الأولى: أن يكون معيناً، لكنه يشك في سعته وضيقه.

الثانية: أن يكون غير معين، بل هو مردد بين مفهومين متباينـين في عالم المفهومية.

فإذا كان من الحالة الأولى، فعندها يمكن التمسك بالإطلاق، فإن المحذوف المقدر كالظاهر من هذه الجهة، فكما أن المحذوف لو كان مصرحاً به في الكلام، وشككنا في إرادة الطبيعي منه أو حصة خاصة جرت مقدمات الحكمة لإثبات الطبيعي، فكذلك الحال في المحذوف المقدر حذو القذة بالقذة.

أما في الحالة الثانية، فلا مجال للتمسك بالإطلاق، لأنه فرع تعيـن أحد المفهومين، إذ الإطلاق لا يعين نفس المفهوم، بل يعين سعته بعد تشخيصه، فيلزم حينئذٍ الاقتصار على القدر المتيقن.

ومن الواضح أن كلامنا ينطبق على الحالة الأولى، لدوران الأمر في المفهوم بين السعة والضيق، وعليه يمكن التمسك بالإطلاق ، فيثبت المطلوب، من المفطرية بقول مطلق للمعتاد وغيره.

إلا أن الصحيح خلاف ذلك، لأن الرجوع لإحدى هاتين الحالتين، إنما هو للمحذوف، بمعنى أنه لا يمكن تعيـين المتعلق المحذوف، وإلا مع إمكان تعيـينه، فلابد من ملاحظته حينئذٍ.

هذا والصحيح أنه يمكننا في المقام تشخيص المتعلق المحذوف، لوجود مناسبات عرفية تعيننا على ذلك، لأن الخطاب لما كان ملقى للعرف، وأنه يحمل على ما يفهمونه بحسب ظهوراتهم، يكون متعيناً حينها في خصوص المطعوم والمشروب المتعارف، ويشهد لذلك صحيح محمد بن مسلم، فعليه لا إطلاق في المقام.

الرابع: ما تمسك به المحقق الهمداني في المصباح، وكذا الشيخ الأعظم الأنصاري في إثبات المفطرية لغير المعتاد، بما ورد في مفطرية الغبار الغليظ.

ومثل ذلك صنع بعض الأساطين(قده) حيث جعله دليلاً ضمن الأدلة الدالة على المفطرية فيه.

نعم جعل التمسك بما دل على مفطرية الغبار مؤيداً بعض الأعاظم(قده)، وإن كان يظهر من آخر كلامه جعله دليلاً على المدعى، فلاحظ.

هذا ولا يخفى أن تمامية التمسك بهذا الدليل تعتمد على نهوض أمرين، لابد من تحققهما:

الأول: أن يكون ما دل على مفطرية الغبار معتبراً سنداً ودلالة.

الثاني: أن تكون مفطرية الغبار، تعود لكونه من مصاديق الأكل غير المتعارف، وليس لكونه قسيماً للأكل والشرب.

وكلا الأمرين غير متحققين في المقام، توضيح ذلك:

أما الأمر الأول: فلأن ما دل على مفطرية الغبار هو خبر المروزي، وهو ضعيف السند، وما ذكره بعض الأعاظم(قده) من القرينة على كونه سليمان بن حفص، وليس بن جعفر ليحكم بوثاقته لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات ممنوع، فضلاً عن أن المبنى في أصله غير تام. على أنه قد حكي عنه(ره) الرجوع عن القول بذلك بقول مطلق، فيـبنى على عدم وجود توثيق له.

ثم إننا لو رفعنا اليد عن المقتضي، فلا ريب في وجود المانع، وهو صحيح محمد بن مسلم الحاصر للمفطرات فيما ذكر، ولسانه آبٍ عن التقيـيد، وموثق عمرو بن سعيد، الدال على عدم المفطرية، والترجيح لهما، لكونهما موافقتين للعام الكتابي، فلا مجال للحكم مفطرية الغبار.

وأما الأمر الثاني: فالظاهر أن ما دل على مفطرية الغبار دال على مفطريته لهذا العنوان، وليس لصدق الأكل عليه، وهو أجنبي عن موردنا، لأن مقتضى تقيـيده بذلك، أن يلتـزم بأنه لابد من كونه ذرات غير قليلة حتى يمكن أن ينطبق عليها عنوان الأكل حينئذٍ، بينما على مقتضى جعله قسيماً لبقية المفطرات، عدم اعتبار هذا الشرط فيه.

هذا تمام الكلام عن أدلة القائلين بالمفطرية، وينبغي الحديث الآن عن أدلة القائلين بعدمها، قبل التعرض لبيان الأصل العملي.

هذا وقد استدل القائلون بعدم المفطرية بعدة أمور:

الأول: إن الآية القرآنية، وإن كانت بظاهرها مطلقة شاملة للأكل والشرب المعتاد وغيره، إلا أن التحريم في الأكل والشرب منصرف إلى خصوص المعتاد، لأنه المتعارف، وأما غيره فيشك فيه فيكون المرجع هو أصالة الإباحة.

ومن الواضح أن هذا الدليل، ينحل إلى دعويـين:

الأولى: أن المراد من الأكل والشرب في الآية الشريفة هو خصوص المعتاد والمتعارف، تمسكاً بالانصراف.

الثانية: إن غير المعتاد، لا دليل عليه، لعدم شمول الآية القرآنية له، فعندها يكون المرجع بعد فقد الدليل الاجتهادي هو الدليل الفقاهتي، فنحكم الأصل، وهو قاضٍ بالإباحة والحلية.

هذا وقد أجيب عن هذا الدليل كما عن بعض الأعاظم(قده) بما حاصله: إنه لا مجرى للانصراف في المقام، وذلك لأن النهي قد تعلق بالأكل والشرب، فعلى فرض وجود الانصراف فهو من الانصراف البدوي الذي يزول بأدنى تأمل. نعم لو كان النهي متعلقاً بالمأكول والمشروب، كان للانصراف وجه.

هذا ويمكن أن يعمق هذا الجواب بشكل أكثر فيقال: إن العرف واللغة شاهدان على أن مفهوم الأكل والشرب أوسع من المعتاد بحيث يقال أكل الطين وشرب النفط بدون عناية وتجوز،وقد ورد في بعض النصوص النهي عن أكل التربة الحسينية على مشرفها آلاف الصلوات والتحية.

أقول: إن الرجوع للانصراف فرع تمامية الإطلاق أو العموم، أما مع عدم انعقاد عموم أو إطلاق في البين، فلا حاجة لدعوى الانصراف، وقد عرفت منا في مناقشة أدلة القائلين بالمفطرية عدم ثبوتهما، فلا حاجة للانصراف حينئذٍ.

هذا وقد أجاب بعض الأساطين(قده) عن الانصراف، بأن الأكل والشرب في الآية الشريفة، محمولان على المعنى المصدري، فلا مجال حينها للانصراف.

وقد عرفت فيما تقدم الجواب عنه، فلا حاجة للإعادة.

الثاني: التمسك بصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب والنساء والإرتماس في الماء.

لتعبيره(ع) بالطعام والشراب، ولا ريب أن غير المتعارف لا يطلق عليه طعام، لأن الطعام هو ما يطعم به، فلا يقال لعصارة الشجر أو الطين أو الورق أنه طعام، فيصلح لتقيـيد ما أفاد الإطلاق.

وأجاب عنه بعض الأعاظم(قده) أولاً: إن من الجائز أن يكون المراد من الصحيح هو المعنى المصدري، بمعنى نفس الأكل والشرب، فلا تلحظ الذات الخارجية أعني المطعوم والمشروب. ومع كون المراد منها نفس الأكل والشرب، فتدل على مفطرية غير المعتاد.

ثانياً: إن الظاهر من الصحيح أن الحصر لم يرد بلحاظ ما للطعام والشراب من الخصوصية، ليدل على الاختصاص بالمتعارف، وإنما بقياسها إلى مثل الأفعال الخارجية والأمور الصادرة من الصائم من نوم ومشي وما شابه ذلك، فلا تضره هذه الأمور متى ما أجتنب هذه الأشياء.

ثالثاً: لا يـبعد الالتزام بالإجمال في الصحيح من حيث المراد من الطعام والشراب، وذلك لأن من المحتمل أن يكون المراد منهما هو المعنى المصدري، كما يحتمل أن يكون المراد منهما هو الأعيان أي الشيء الذي يطعم ويشرب، ومع تردد المعنى بين هذين المحتملين ولا معنى لأحدهما،فلا مناص عن الإجمال، وعليه لا يمكن التمسك بها للاستدلال على المدعى.

ويلاحظ عليه: أما بالنسبة لإشكاله الأول، فقد عرفت المنع عن حمل الأكل والشرب في الآية على المعنى المصدري، فكيف به في الصحيح، ضرورة أن ذلك خلاف الظاهر جداً.

وأما الثاني، فمضافاً لكونه دعوى لا شاهد عليها، أن الظاهر من ذكر النساء والارتماس في الصحيح هو الإشارة إلى كل عنوان بما له من خصوصية، على أن مقتضى ما أفاده(قده) أنه لن يكون للصحيح إطلاق يتمسك به، لأن البيان لم يكن ملحوظاً في جانب مفطرية الأكل والشرب.

وأما الثالث، وهو دعوى الإجمال، فقد عرفت مما تقدم أنه لا مجال لاحتمال المعنى المصدري في الآية، فكيف بالصحيح، وهذا يكفي لنفي وجود إجمال في المقام.

والإنصاف، أن هذا الوجه تام في نفسه.

الثالث: خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله(ع) عن آبائه(ع) أن علياً (ع) سئل عن الذباب يدخل في حلق الصائم. قال(ع): ليس عليه قضاء لأنه ليس بطعام.

وتقريب دلالتها أن يقال: إن الظاهر منه(ع) أن المناط في المفطرية، ليس كل شيء وصل إلى الجوف، وإنما هو خصوص ما طعمه الإنسان، وعليه يكون المفطر هو خصوص المأكول والمشروب المتعارف والمعتاد، لا مطلق ما يصل إلى الجوف.

أقول: في سند هذا الخبر مسعدة بن صدقة، وقد وثقه شيخنا التبريزي(دامت بركاته) تبعاً لبعض الأعاظم(قده) لورده في أسانيد تفسير القمي.

هذا وقد ذكرنا في محله عدم تمامية المبنى، فيسقط البناء. نعم ذكرنا في بحث التقليد أن المظنون قوياً اتحاد مسعدة بن صدقة مع مسعدة بن زياد، فيكون توثيق الثاني توثيقاً للأول، وقد أقمنا على ذلك شواهد فراجع.

نعم الالتزام بذلك في مقام النتيجة مشكل، وعليه لا محيص عن الالتزام بعدم دخول الخبر دائرة الحجية.

هذا وقد يقال بمنع دلالة الخبر على المدعى، من خلال كونه ناظراً إلى دخول ذلك في الحلق بغير اختيار، فعليه لا يكون شاملاً للمقام، ويشهد لما ذكر أنه لو تغذى شخص على كمية غير قليلة من الذباب وأوجبت له شبعاً، ألا يقال بأنه أكل الذباب، ويحكم ببطلان صومه، لا ريب في أن مقتضى الضرورة هو البطلان، لكون الذباب كبقية الحشرات.

ويلاحظ عليه أولاً: بأنه مصادرة واضحة، لأن المدعى كون أكل الذباب أو غيره من المفطرات، فإثبات المفطرية بكون الذباب كبقية الحشرات توجب المفطرية في غير محله.

ثانياً: لا أثر للشبع وعدمه في البين، لكي يكون المعيار على تحقق المفطرية من خلاله، بل المدار على انطباق عنوان الأكل، وهل هو خصوص المتعارف أو الأعم، فكون المكلف بأكله لكمية غير قليلة من الذباب توجب له شبعاً أو عدمه، لا أثر له في المقام.

كما أن جعل أكل كمية كبيرة من الذباب توجب الشبع، فتصلح قرينة على صرف ظهور الخبر لصورة الاتفاق وعدم الاختيار، ضعيفة لكونها من المصادرة على المطلوب كما لا يخفى.

ثالثاً: إن مقتضى التعليل الوارد في ذيل الخبر بقوله(ع): ليس طعاماً، هو نفي تحقق المفطرية لعدم تحقق موجبها، وهذا يعني أنه ليس لكونه حصل من غير اختيار وقصد منه.

فالإنصاف تمامية هذا الوجه على المدعى أيضاً، لولا التوقف من ناحية السند فلاحظ.

الرابع: صحيحة ابن أبي يعفور: عن الكحل للصائم؟ فقال: لا بأس به إنه ليس بطعام يؤكل.

هذا ولا يخفى أن دلالتها على المدعى أوضح من سابقتها، لأنه(ع) نص على أن استعمال الكحل في نهار رمضان، ليس من المفطرات، وذلك لانتفاء عنوان الطعام المأكول عليه، فكأنه جعل المدار على ثبوت عنوان المطعومية، فمتى تحقق ذلك تحققت المفطرية، وإلا فلا.

وإن شئت فقل: إن الأمر يدور مدار ثبوت عنوان الطعام الذي يتغذى عليه عادة بحيث يكون مأكولاً، فمتى ثبت على شيء ذلك كان مفطراً، وإلا فلا.

وأجاب عنه بعض الأعاظم(قده): بأن المراد من نفي الطعامية عنه، هو نفي كونه أكلاً. فلا يكون مفطراً لكونه ليس مصداقاً للأكل، لا أن الكحل ليس بطعام، فلا يكون مضراً، ولذا لو فرضنا أنه اكتحل بما يطعم كالطحين أو العسل، فلا يـبطل صومه مع كونه أكلاً. والحاصل ليس مراده(ع) أن كل فعل أتي به بالمأكول مفطراً ولو بغير الأكل. وحاصل مراده(قده) أن التعليل في الصحيح ناظر لمنع كون الكحل أكلاً، فلا يكون مصداقاً له، وليس المراد هو جواز إيصاله للجوف، بعد عدم ثبوت كونه طعاماً.

وهذا الجواب منه(قده) عجيب، لأنه إذا كان المناط في المفطرية هو صدق عنوان الأكل بما هو متعارف، فقد ثبت مطلوب السيد وابن الجنيد(قده)، وإن كان عنوان الأكل أوسع دائرة كما هي دعواه(ره) فضعف كلامه واضح.

ويشهد لما ذكرنا صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) في الصائم يكتحل. قال: لا بأس به ليس بطعام ولا شراب.

حيث أن ظاهره السؤال عن الاكتحال مع احتمال وصول طعم الكحل للجوف، ولما كان من الأكل غير المتعارف، سأل عنه محمد بن مسلم، فأجابه(ع)، بأن المفطرية تدور مدار المطعوم والمشروب، ولا ريب في أن ذلك ليس إلا المعتاد والمتعارف.

ثم إنه لو لم يقبل بما ذكرنا، ورفعت اليد عن ظاهر الآية الشريفة في هذه الناحية لوجود إجمال فيها، ومنعنا دلالة النصوص المذكورة، كما أن صحيح محمد لا يخلو عن إجمال، فلا محيص عن كون المرجع حينئذٍ هو الأصل العملي، ولما كان المقام من صغريات الشك في التكليف، فالمرجع في مثله هو أصالة البراءة.

فتحصل إلى هنا أن الأقوى هو القول بعدم المفطرية، لكن الاحتياط لا ينبغي تركه، حذراً من مخالفة المشهور، والله العالم بحقائق الأمور.