25 أبريل,2024

مفطرية الغبار

اطبع المقالة اطبع المقالة

وقع الخلاف بين علمائنا،في مفطرية الغبار،من عدمه،كما وقع الخلاف بين القائلين بالمفطرية بين كون مفطريته لعنوانه هو بنقسه،أم أن مفطريته لكونه مما لم يعتد أكله.

والقول بالمفطرية هو المشهور، وفي الجواهر: لم أجد فيه خلافاً بين القائلين بعموم المفطر للمعتاد وغيره إلا من المصنف في المعتبر[1].

أقول: لا يخفى أن ظاهر ما أفاده “قده” أن مفطرية الغبار ترجع إلى مفطرية الأكل بعد البناء على شموله للمعتاد وغيره ولذا لا يكون الغبار قسيماً للأكل بل فرداً من أفراده.

وفي كتاب الصوم للشيخ الأعظم “ره” لم يعلم مصرح بالخلاف إلى زمان بعض متأخري المتأخرين[2].

أقول: سيتضح من عرض الأقوال في المسألة التأمل فيما أفاده “قده”.

هذا والأقوال في المسألة ثلاثة:

الأول: البناء على عدم مفطريته كما هو الظاهر من جماعة من قدماء الأصحاب كالصدوق والشيخ في المصباح والديلمي. وهو صريح جمع من متأخري المتأخرين كالمحدث الكاشاني وصاحب الحدائق وغيرهما[3].

الثاني: كون الغبار مطلقاً غليظاً أم لا مفطراً كما اختاره الشيخان والحلبي وابن أدريس والمحقق[4].بل عن السيدين وابن أدريس والعلاّمة الإجماع عليه[5].

ثم إن أصحاب هذا القول إنما يوجبون خصوص المفطرية دون الكفارة. وهذا يبعد استنادهم لخبر المروزي كما سيأتي. كما يحتمل أنهم تصرفوا في دلالته فلاحظ.

الثالث: أن الغبار يوجب القضاء والكفارة وهو الذي عليه الشيخ في أكثر كتبه كما أنه مختار الماتن “ره”.

هذا ولما كانت المسألة معنونة في كتب الأصحاب فلا بأس بنقل بعض الكلمات فنقول:

قال في المقنعة:ويجتنب الصائم الرائحة الغليظة والغبرة التي تصل إلى الحلق،فإن ذلك نقص في الصيام[6].

أقول:من الواضح أنه بناء على هذه العبارة التي نقلناه عنه(ره)لا دلالة لكلامه على أنه قائل بالمفطرية،نعم ورد في نسخة ثانية من المقنعة التعبير بنقض عوضاً عن نقص،وعليه يتم الظهور في كونه قائلاً بالمفطرية.

وكيف ما كان يبتني نسبته للقول بالمفطرية على ترجيح النسخة الثانية على الأولى،وهو غير واضح،بل العكس أوضح فلاحظ.

نعم يمكن نسبته للقول بالمفطرية من خلال قوله في موضع آخر:وإن تعمد الكون في مكان فيه غبرة كثيرة أو رائحة غليظة وله غنى عن الكون فيه فدخل حلقه شيء من ذلك وجب عليه القضاء[7].

وقال في المبسوط في ضمن تعداده المفطرات،وإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعمداً مثل غبار الدقيق أو غبار النفض،وما جرى مجراه على ما تضمنته الروايات،وفي أصحابنا من قال:إن ذلك لا يوجب الكفارة وإنما يوجب القضاء[8].

أقول:الظاهر من عبارته أنه قائل بمفطرية الغبار لكونه غباراً،لا ما يمكن إحتماله في عبارة المفيد من كون قوله بمفطرية الغبار لكونه مما لم يعتد أكله،ويشهد لما ذكرنا في عبارة الشيخ أنه استند في ذلك للروايات فيحتمل أن نظره إلى خبر المروزي الآتي.

وقال أبو الصلاح:إذا وقف في غبرة مختاراً،فعليه القضاء[9].

أقول: لم يظهر أن منشأ حكمه بمفطريته لأجل عنوان الغبار،أو لكونه ما لم يعتد أكله،هذا والظاهر من عبارته أن مجرد الوقوف في الغبرة مدعاة لتحقق المفطرية،دونما قصد منه إلى إيصاله إلى جوفه،ولعل هذا يساعد على كونه يرى مفطرية الغبار لعنوانه فتأمل.

وقال ابن إدريس:الذي يقوى في نفسي أنه يوجب القضاء دون الكفارة إذا تعمد الكون في تلك البقعة من غير ضرورة،فأما إذا كان مضطراً إلى الكون في تلك البقعة،وتحفظ واحتاط في التحفظ،فلا شيء عليه من قضاء وغيره،لأن الأصل براءة الذمة من الكفارة،وبين أصحابنا في ذلك خلاف،والقضاء مجمع عليه[10].

وقال المحقق في الشرائع:وفي إيصال الغبار إلى الحلق خلاف، والأظهر التحريم وفساد الصوم[11].

قال في المسالك:لم يقيد الغبار بكونه غليظاً كما فعله جماعة،وورد في بعض الأخبار،والظاهر أن عدم القيد أجود لأن الغبار المتعدي إلى الحلق نوع من المتناولات،وإن كان غير معتاد فيحرم ويفسد الصوم،وتجب به الكفارة،سواء في ذلك الغليظ والرقيق،بل الحكم فيه أغلظ من تناول المأكول إذا كان غبار ما يحرم تناوله.

وحيث اعتبر الغليظ فالمرجع فيه إلى العرف،وسيأتي في العبارة أن ذلك وأشباهه مقيد بالعمد والإختيار،فلا شيء على الناسي ولا على من لا يتمكن من الإحتراز عنه بحال،وألحق به بعض الأصحاب الدخان الغليظ وبخار القدر ونحوه،وهو حسن إن تحقق معهما جسم[12].

أقول:من الواضح جداً من كلام الشهيد الثاني،أن منشأ الحكم بالمفطرية كونه مما لم يتعارف أكله،لا أن منشأ ذلك عنوان الغبار بما هو.

هذا ويظهر من السيد صاحب المدارك في كتابه البناء على عدم المفطرية،حيث أنه تعرض لنقل ما استدل به على المفطرية،وناقشه،ولم يسلم عنده دليل على المفطرية[13]،فمقتضى القاعدة الرجوع للأصل،وهو قاض بعدم المانعية.

ويظهر من المحقق الحلي في كتابه المعتبر التوقف في الحكم بمفطرية الغبار،حيث تعرض لرواية سليمان الآتية وردها بضعف السند،ثم قال:وليس الغبار كالأكل والشرب،ولا كابتلاع الحصى والبرد[14].

وكيف كان فقد استدل للمفطرية بأمرين.

الأول: المنع عن كل ما يصل إلى الجوف لكون مفاد ما دل على مفطرية الأكل والشرب مطلق لا إختصاص فيه بالمعتاد فيشمل الغبار فيحكم بمفطريته.

أقول: تقدم منا في المفطر الأول والثاني جواب هذا الوجه فراجع على أن الظاهر أن محل الكلام مالم يصل إلى صدق الأكل عليه وإلا لما احتاج استدلالاً بعد التعميم.

الثاني: خبر سليمان المروزي قال: سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمداً أو شم رائحة غليظة أو كنس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين فإن ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح[15].

وقد اشكل على هذا الخبر تارة من ناحية المقتضي وأخرى بوجود المانع:

اما عدم تمامية المقتضي: فالإشكال فيها سنداً ودلالة:

أما السند: فقد اشتملت على سليمان المروزي وهو مضافاً لعدم توثيقه مجهول مردد بين سليمان بن حفص أو ابن جعفر مضافاً إلى أنه مضمر حيث لم يرو عن المعصوم وليس المضمر كسماعة الذي تقبل مضمراته بقول مطلق.

وأما الدلالة: فباشتمالها على ما لا يقول به أحد من مفطرية المضمضة والإستنشاق وشم الرائحة الغليظة.

وأما وجود المانع فلمعارضتها بنصين:

الأول: صحيح محمد بن مسلم المتقدم الحاصر للمفطرات في أمور ليس منها الغبار.

الثاني: موثق عمرو بن سعيد عن الرضا “ع”: عن الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه، فقال “ع”: جائز لا بأس به. وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه. قال “ع”: لأ بأس[16].

وقد أجاب بعض الأعاظم “قده” عن إشكال المقتضي والمانع بما ملخصه: فذكر في جواب المقتضي بأن الإشكال في السند مدفوع بكون الراوي وهو سليمان المروزي بن حفص لا ابن جعفر لوجود قرينتين:

الأولى: إن سليمان بن جعفر لا وجود له نهائياً.

الثانية: إن الراوي عن سليمان في هذا الخبر هو محمد بن عيسى بن عبيد وهو يروي كثيراً عن سليمان بن حفص.

وبعد تمامية هاتين القرينتين وتعين كون الراوي هو سليمان بن حفص المروزي أمكن البناء على وثاقته لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات وقد عرفت منا غير مرة أننا نبني على تمامية ما صدر من ابن قولويه في ديباجة كتابه في إفادتها توثيق كل من ورد فيه.

وأما النقاش في الدلالة فيجاب عنه بأننا لو كنا وظهور الرواية الأولي لحكمنا بمفطرية كل ما ورد فيها من المضمضة والإستنشاق لكن لما جاءتنا قرائن خارجية دلت على عدم مفطرية ذلك مطلقاً بل في خصوص ما أدى إلى وصول الماء إلى الحلق فيحمل جميع ما ورد فيها على الإستحباب عدى الغبار فإن المنع عنه يبقى على حاله وظاهره.

وأجاب عن وجود المانع مقتصراً على خصوص موثق عمرو بن سعيد بأن الموثق مطلق يشمل صورة العمد وغيره بينما مفاد النص الآخر التقييد بصورة العمد فالنسبة بينهما العموم المطلق فيقيد الموثق به فينتفي التعارض المتصور بينهما[17].

أقول: لم يتعرض للجواب عن صحيح محمد بن مسلم لعله إعتماداً على ما سبق منه في طيات شرحه من أن النسبة بينه وبين ما رواه سليمان العموم المطلق فيصلح النص لتقييده.

وكيف ما كان ما أجاب به عن منع تمامية المقتضي ووجود المانع لا يخلو عن نظر فيلاحظ عليه أولاً: أما بالنسبة لعلاج السند فالقرينتان ممنوعتان:

أما الأولى: فلأن سليمان بن جعفر المروزي قد ورد في بعض نسخ هذه الرواية وغيرها.غاية الأمر لم يثبت أنه بن جعفر المروزي لا أنه ثبت عدمه هذا أولاً.

ثانياً: إن الشيخ “ره” قد نقل عنه في الاستبصار في غير مورد كما نقل عنه في التهذيب أيضاً.

ثالثاً: إن إحتمال التحريف وإن كان موجوداً خصوصاً مع تشابه الرسم بين حفص وجعفر إلا أن الوثوق والجزم به مشكل.

رابعاً: إن مجرد إشتهار الشخص وكثرة رواياته لا تنفي وجود الشخص الآخر. نعم هو موجب للظن ولا قيمة له فإحتمال كون راوي الخبر هو سليمان بن جعفر المروزي موجود إذن.

واما الثانية: أن غاية ما توجبه كثرة رواية محمد بن عيسى بن عبيد عن ابن حفص الظن بإلحاق المشكوك بالأعم الأغلب ولا أثر لهذا الظن ولا يصلح لأن يكون قرينة على أن المراد به هو ابن حفص المروزي.

ثانياً: لو أغمضنا عن المناقشة السابقة في القرينتين إلا أننا نمنع تمامية كبرى وثاقة من وقع في أسانيد كامل الزيارات على ما فصلناه في محله. وعليه حتى لو ثبت أن الراوي هو ابن حفص فإنه مجهول لا توثيق له. هذا وقد عدل هو “قده” عن هذا المبنى أيضاً ولعله لذلك عدل بفتواه في المقام من الفتوى إلى الإحتياط الوجوبي.

وأما الدلالة: فما أجاب به “ره” متين لكنه لا يتماشى مع كون شم الرائحة الغليظة مفطرة وتوجب الكفارة مما يعني بقاء إشكال إشتمال الخبر على ما لا يقول به أحد على حاله.

وأما جوابه عن وجود المانع: فكلا النصين مطلق لا يصلح للتقييد. وكذا صحيح محمد بن مسلم فإن لسانه آبٍ عن التقييد كما لا يخفى.

فلا مناص بعد استقرار المعارضة وعدم المميزـ كما هو المختارـ من التساقط والرجوع لأصالة البراءة.

هذا ويمكن ترجيح موثق عمرو بن سعيد في المقام ولا تصل النوبة للتساقط من خلال ما ذكرناه في الأصول من الترجيح بالحكومة حيث أن الموثق ناظر لخبر سليمان فيكون مرجحاً عليه بما فصلناه هناك.

ولا يذهب عليك أن هذا بعد البناء على إعتبار خبر سليمان الذي عرفت المنع عنه. فتحصل أن الأظهر عدم مفطرية الغبار والله أعلم بحقائق الأمور.

——————————————————————————–

[1] جواهر الكلام ج ص

[2] كتاب الصوم ج 12 ص 44.

[3] المقنع ص 60.المصباح ص 484.المراسم ص 98.المفاتيح ج 1 ص 248.الحدائق ج 13 ص 72.

[4] المقنعة ص 356.المبسوط ج 1 ص 271.الكافي ص 179.السرائر ج 1 ص 377.الشرائع ج 1 ص 189.

[5] الغنية من الجوامع الفقهية ص 571.السرائر ج 1 ص 377.التذكرة ج 6 ص

[6] المقنعة ص 356.

[7] المصدر السابق ص 358-359.

[8] المبسوط ج 1 ص 271.

[9] الكافي في الفقه ص 183.

[10] السرائر ج 1 ص 377.

[11] شرائع الإسلام ج 1 ص

[12] مسالك الأفهام ج 2 ص 17.

[13] مدارك الأحكام ج 6 ص 51.

[14] المعتبر ج 2 ص 654.

[15] الوسائل ب 22 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 1.

[16] الوسائل ب 22 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 2.

[17] مستند العروة ج 1 ص 145.