28 مارس,2024

مبدأ صلاة الليل(3)

اطبع المقالة اطبع المقالة

أدلة القول الآخر:

هذا وقد استدل للقول بجواز الإتيان بها اختياراً من أول الليل بوجوه:

الأول: المطلقات الواردة في صلاة الليل، والمتضمنة استحبابها، وأنها ثمان ركعات، أو أحد عشرة ركعة، أو أنها ثلاث عشرة ركعة في الليل، وهي مجموعة من النصوص:

منها: معتبرة حنان قال: سأل عمرو بن حريث أبا عبد الله(ع) وأنا جالس فقال له: جعلت فداك، أخبرني عن صلاة رسول الله(ص)؟ فقال: كان النبي(ص) يصلي ثمان ركعات الزوال وأربعاً الأولى، وثماني بعدها، وأربعاً العصر، وثلاثاً المغرب بعد المغرب، والعشاء الآخرة أربعاً، وثماني صلاة الليل، وثلاثاً الوتر، وركعتي الفجر، والعشاء الآخرة أربعاً، وثماني صلاة الليل، وثلاثاً الوتر، وركعتي الفجر، وصلاة الغداة ركعتين.

قلت: جعلت فداك: وإن كنت أقوى على أكثر من هذا يعذبني الله على كثرة الصلاة؟ فقال: لا، ولكن يعذب على ترك السنة[1].
ومنها: خبر محمد بن أبي نصر البزنطي، قال: قلت لأبي الحسن(ع): إن أصحابنا يختلفون في صلاة التطوع، بعضهم يصلي أربعاً وأربعين، وبعضهم يصلي خمسين، فأخبرني الذي تعمل به أنت، كيف هو حتى أعمل بمثله؟ فقال: أصلي واحدة وخمسين ركعة، ثم قال: أمسك-وعقد بيده-الزوال ثمانية، وأربعاً بعد الظهر، وأربعاً قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين قبل العشاء الآخرة، وركعتين بعد العشاء من قعود تعدان بركعة من قيام، وثمان صلاة الليل، والوتر ثلاثاً وركعتي الفجر، والفرائض سبع عشرة، فذلك إحدى وخمسون[2].

أقول: قد اشتمل سندها على سهل بن زياد، وقد تقرر في محله عدم البناء على مروياته، والمحاولة التي تذكر لتصحيحها قد عرفت هناك عدم إمكانية المساعدة عليها، فلاحظ. ومنها: ما رواه الحارث النصري قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: صلاة النهار ست عشرة ركعة، ثمان إذا زالت الشمس، وثمان بعد الظهر، وأربع ركعات بعد المغرب، يا حارث، لا تدعهن في سفر ولا حضر، وركعتان بعد العشاء الآخرة، كان أبي يصليهما وهو قاعد، وأنا أصليهما وأنا قائم، وكان رسول الله(ص) يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل[3].

وهناك نصوص أخرى يمكن ملاحظتها في نفس الباب[4]. وتقريب دلالتها على المدعى من خلال الاستناد إلى كلمة الليل الواردة فيها، فإنها مطلقة شاملة لجميع أجزاء الليل من أوله ووسطه وآخره.
ولا يخفى ما فيه، ضرورة أنها ليست بصدد بيان مبتدأ وقت صلاة الليل ومنتهاه، وإنما هي بصدد تحديد عددها، فلا يصح الاستناد إلى إطلاقها كما لا يخفى.

على أنه لو سلم أنها في مقام البيان من هذه الجهة، أمكن العمد إلى تقيـيد إطلاقها بما دل على أن مبتدأ وقتها هو منتصف الليل، كما لا يخفى.
الثاني: خبر حسين بن علي بن بلال، قال: كتبت إليه في وقت صلاة الليل، فكتب: عند زوال الليل وهو نصفه أفضل، فإن فات أوله وآخره جائز[5].

والإنصاف أن دلالتها على المدعى لا تخلو عن غموض، بل إن متن الرواية لا يخلو عن تشويش، ويظهر ذلك بملاحظة المقصود من زوال الليل المذكور في كلامه(ع)، إذ يحتمل أن يقصد منه نصف الليل، كما يحتمل أن يكون المقصود منه النصف الأخير من الليل، وعلى كلا المحتملين سوف يكون الضمير في قوله(ع): فأوله وآخره جائز، يشير إلى معنى، فلو كان المقصود هو المعنى الأول، كان مرجع الضمير حينئذٍ إلى النصف الأخير من الليل، فيكون المقصود من الخبر أن أفضل أوقات صلاة الليل هو منتصف الليل، فإن لم يتمكن من إيقاعها في ذلك الوقت، جاز له أن يوقعها في أول النصف الأخير من الأخير إلى آخره.

أما لو كان المقصود منه هو النصف الأخير، فالضمير سوف يعود إلى الليل، فيكون الخبر دالاً على جواز إيقاعها في أول الليل، كما يجوز إيقاعها في آخره.
هذا والظاهر أنه(ع) بصدد بيان وقتين لصلاة الليل، وقت المشروعية والجواز، وهو الذي يبتدأ بأول الليل وينتهي بآخره ووقت الفضيلة وهو وقت منتصف الليل، والتشويش الموجود في المتن منشأه نقل الرواية بالمعنى، فلاحظ.

نعم لا يمكن الاستناد للخبر المذكور بعد كون راويه غير موثق، فلاحظ.

وذكر بعضهم أن المقصود من الأفضل هو أصل الوقت، والمقصود من التقديم والتأخير، هو الإشارة إلى القضاء، وعليه سوف يكون الخبر أجنبياً عن المقام، بل سوف يكون دالاً على مقالة المشهور، لكونه يفيد أن مبتدأ وقت صلاة الليل هو منتصف الليل، ويجوز قضائها[6].

وهو خلاف الظاهر، ضرورة أن التعبير بكلمة(أفضل) تأبى الحمل على أصل الوقت كما لا يخفى. بل الظاهر من الخبر كما عرفت أنه بصدد ذكر أفضل أوقات أداء صلاة الليل وهو المنتصف، فإن لم يتمكن من أدائها فيه، فيمكنه أدائها في أوله أو في آخره، ما يدل على التوسعة في وقتها، فلاحظ.

الثالث: ما ذكره المحقق الهمداني(ره) من الاستناد للنصوص التي تضمنت جواز تقديمها على منتصف الليل لمن كان معذوراً، كما لو خاف من الجنابة، أو كان مسافراً، أو خاف عدم القيام، فلاحظ صحيحة يعقوب بن سالم عن أبي عبد الله(ع)قال: سألته عن الرجل يخاف الجنابة في السفر أو البرد، أيعجل صلاة الليل والوتر في أول الليل؟ قال: نعم[7].

وخبر الحلبي قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن صلاة الليل والوتر في أول الليل في السفر إذا تخوفت البرد وكانت علة؟ فقال: لا بأس، أنا أفعل إذا تخوفت[8].
أقول: في سندها محمد بن سنان، وهو ممن لم تثبت وثاقته.

وتقريب دلالتها على المدعى يظهر من خلال التوجه إلى أن الخوف من الجنابة لا يسوغ التقديم، بل أقصى ما يمكن القول به هو الانتقال إلى الطهارة الترابية، فتسويغ التقديم يكشف عن توسعة في وقتها، وأنه يجوز الإتيان بها من أول الوقت مطلقاً، لما عرفت من عدم مسوغية الخوف من الجنابة للتقديم، فلاحظ.
وبالجملة، إن تسويغه(ع) التقديم مع أن القاعدة قاضية بعدمه، يكشف عن توسعة في وقتها، فيثبت المطلوب[9].

وقد أجيب عنه، بأن مقتضى الجمع بينها وبين النصوص المتقدمة والمتضمنة لتحديد وقتها بمنتصف الليل، يستوجب حمل تلك النصوص على غير خائف الجنابة، فتكون هذه النصوص ظاهرة فيه، وعليه تكون التوسعة مختصة بذوي الأعذار.
وعلى الجملة، إن أقصى ما يفيده هذا الدليل هو البناء على التوسعة لذوي الأعذار ليس إلا، لا أنه يفيد توسعة لعموم المكلفين، فلاحظ[10].

الرابع: نصوص خاصة تفيد سعة وقت صلاة الليل، وأن مبتدأه أول الليل:

منها: موثقة سماعة عن أبي عبد الله(ع) قال: لا بأس بصلاة الليل فيما بين أوله إلى آخره، إلا أن أفضل ذلك بعد انتصاف الليل[11]. ودلالتها على مختار أصحاب هذا القول واضحة جداً، بل الظاهر أنها تصلح للحكومة على جميع النصوص المستدل بها للقول المشهور لتكون محمولة على أن وقت الفضيلة لصلاة الليل هو منتصف الليل كما لا يخفى.

ومنها: صحيحة محمد بن عيسى، قال: كتبت إليه أسأله: يا سيدي روي عن جدك أنه قال: لا بأس بأن يصلي الرجل صلاة الليل في أول الليل؟ فكتب: في أي وقت صلى فهو جائز إن شاء الله[12]. وهو لا يقصر من حيث الدلالة على المدعى عن موثق سماعة، فتدبر.

ومنها: صحيحة أبي بصير المرادي، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الصلاة في الليالي القصار صلاة الليل في أول الليل؟ فقال: نعم، نِعم ما رأيت ونِعم ما صنعت. يعني في السفر[13].

والظاهر أن الموجب لجعل موضوع السؤال هو الليالي القصار كون ذلك مظنة فوات الليل بالنوم وعدم الاستيقاظ. ولا يمنع الذيل المذكور في الصحيح من الاستناد له للدلالة على المدعى، إذ أن الظاهر كونه من زيادات الصدوق(ره)، أو تفسير من الراوي، وليس صادراً عن الإمام(ع)، ويساعد على الاحتمال الأول عدم وروده في التهذيب والاستبصار، فلاحظ.

ودلالتها على المدعى واضحة، ضرورة أن تسويغه(ع) التقديم خوفاً من الفوت يكشف عن عدم تقيـيد الوقت بمنتصف الليل، لأن القيد لو كان معتبراً لكان لازماً ودخيلاً في المصلحة، فلا يتصور تعلق الطلب بها قبل تحقق قيدها وهو الوقت، فلاحظ.
ومنها: خبر أبان بن تغلب، قال: خرجت مع أبي عبد الله(ع) فيما بين مكة والمدينة، فكان يقول: أما أنتم فشباب تؤخرون، وأما أنا فشيخ أعجل، فكان يصلي صلاة الليل أول الليل[14].

والتعجيل والتأخير إشارة إلى النوم، وليس إشارة للصلاة، ضرورة أنه لو كان المقصود هو الصلاة لم يكن هناك فرق بين الشباب والشيوخ، إذ أن الجميع معذور في كونه مسافراً.

وعلى أي حال، فإنها صريحة الدلالة في جواز الإتيان بصلاة الليل في أول الوقت. نعم وقع في سندها محمد بن إسماعيل، وهو مشترك لا مجال للبناء والحكم بوثاقته.
وإن أبيت عما ذكرنا، فإنه سوف تكون معارضة لما دل على جواز التقديم لبعض ذوي الأعذار، لدلالتها على أن التقديم ليس للمسافر مطلقاً، وإنما لخصوص من كان عجوزاً، فلاحظ. مضافاً إلى أنه لا يستفاد منها أن الأفضل للمعذورين تقديم الصلاة في أول الليل، وإلا لما فوت(ع) ذلك بتقديمه الصلاة، فتدبر.

وقد أجيب عن موثق سماعة، وصحيح محمد بن عيسى، بأنهما لما كانتا مطلقتين، بالنسبة لذوي الأعذار وغيرهم، كان مقتضى الجمع بينهما وبين موثقة زرارة ونحوها مما دل على التحديد بمنتصف الليل، هو حملهما على صورة العذر، والشاهد لهذا الجمع هي النصوص الدالة على جواز التقديم على الانتصاف لذوي الأعذار، الظاهرة في ثبوتٍ خاص للمعذورين، وثبوت تعدد الوقت واختلافه[15].

والجمع المذكور غريب، إذ مضافاً إلى أن الجمع بحمل المطلق على المقيد لا يجري في المستحبات مطلقاً، أو لا أقل لا يجري متى كانا مثبتين، فإن الفهم العرفي يقضي بحمل نصوص التحديد بمنتصف الليل على أنه وقت الفضيلة، لا على أنه وقت غير المعذورين، ليحمل الوقت من أول الليل على المعذورين.
كما أن تخصيصها بنصوص المعذورين فتحمل على من كان مسافراً مثلاً، أو من كان خائفا لجنابة، مما يأباه العرف، بل الذي يفهمه العرف هو حمل أخبار المنتصف على أفضيلة التأخير إلى منتصف الليل لغير المعذورين، فتدبر.

ثم إنه إن أبي عما ذكرنا، فلم يقبل كانت المعارضة بين الطائفتين مستقرة، لدلالة نصوص المشهور على تحديد وقت صلاة الليل بمنتصف الليل مطلقاً للمعذورين وغيرهم، ودلالة الموثقة والصحيحة على أن مبتدأ وقتها من أول الليل إلى آخره، من دون فرق بين المعذورين وغيرهم، وتكون النسبة بينهما هي العموم من وجه، فتكون المعارضة مستقرة، وعندها يعمد إلى إعمال المرجحات، وقد يلتـزم بتقديم الطائفة الأولى، والدالة على مقالة المشهور، لأحد بيانات:

الأول: إن النصوص المذكورة موافقة للكتاب العزيز، إذ أنها توافق قوله تعالى:- (والمستغفرين بالأسحار)[16]، والسحر وإن أختلف المفسرون في تحديد المقصود منه، إلا أن الإجماع المركب بينهم منعقد على أنه من منتصف الليل فما بعد.

الثاني: أنها مخالفة للعامة، فإن المحكي عنهم البناء على توسعة وقتها ليبدأ من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فقد جاء في بداية المجتهد لابن رشد أن اتفاق العلماء منعقد على أن وقتها يبدأ بعد صلاة العشاء ويمتد إلى طلوع الفجر[17].
وقريب منه ما جاء في الخلاف من حكايته اختيار مالك أن إتيانها في الثلث الأخير أفضل[18]، فإنه يكشف عن جواز إتيانها في أول الليل، وتأخيرها للثلث الأخير منه أفضل.

الثالث: إن نصوص التوسعة مما فيه الريب، لأن الإجماع منعقد على خلافها، كما عرفت حكايته في أول البحث، فتكون نصوص التضيـيق بالمنتصف مقدمة عليها، لما ورد في المقبولة، من الأمر بترك ما فيه الريب، فلاحظ.
هذا ولو لم يتم شيء من الأدلة الاجتهادية، ووصلت النوبة إلى الدليل الفقاهتي، فإنه يقضي بما تضمنته نصوص الطائفة الثانية، وما أختاره القائلون بسعة وقتها وأنه يبدأ من أول الليل إلى منتصفه، لأنه سوف تجري البراءة حينئذٍ عن الشرطية كما لا يخفى.

 

[1] وسائل الشيعة ب 13 من أبواب أعداد الفرائض ح 6.
[2] المصدر السابق ح 7.
[3] المصدر السابق ح 9.
[4] وسائل الشيعة ب 13 من أبواب أعداد الفرائض ح 16، 21، 23، 25.
[5] وسائل الشيعة ب 44 من أبواب المواقيت ح 13.
[6] تفصيل الشريعة كتاب الصلاة ج 1 ص 75.
[7] وسائل الشيعة ب 44 من أبواب المواقيت ح 10.
[8] وسائل الشيعة ب 44 من أبواب المواقيت ح 8.
[9] مصباح الفقيه ج 9 ص 268.
[10] مستند العروة ج 11 ص 268.
[11] وسائل الشيعة ب 44 من أبواب المواقيت ح 9.
[12] وسائل الشيعة ب ن أبواب المواقيت ح 14.
[13] وسائل الشيعة ب 44 من أبواب المواقيت ح 1.
[14] وسائل الشيعة ب 44 من أبواب المواقيت ح 18.
[15] مستند العروة ج 11 ص 266، تفصيل الشريعة كتاب الصلاة ج 1 ص 76.
[16] سورة آل عمران 17.
[17] بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج 2 ص 444.
[18] الخلاف ج 1 مسألة 272.