16 أبريل,2024

مانعية الدين عن الاستطاعة(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

اعتبر الأصحاب في وجوب الحج كون المكلف مستطيعاً، وقد ذكر أن الاستطاعة تتقوم بأمور خمسة، أحدها توفر الزاد والراحة، وهذا يعني توفر النفقة عنده. ولم يفرق بين وجوده بالفعل، أو بالقوة، إلا أن الكلام في ما لو كان المكلف مديوناً، فهل يكون دينه مانعاً من صدق الاستطاعة، لانتفاء توفر النفقة عنده، أم لا؟للمسألة فرضان:

أحدهما: أن يكون للمكلف مال وعليه دين أيضاً إلا أن المال أزيد من الدين، بحيث يكون المال الزائد وافياً بنفقات الحج، فلا ريب في انطباق عنوان المستطيع عليه، فيجب عليه الحج حينئذٍ.

الفرض الثاني: أن يكون دينه زائداً على المال الموجود عنده ومستوعباً له، بحيث لو أدى به الدين لم يبق عنده ما يفي بنفقات الحج.

ولا كلام لنا في الفرض الأول لتحقق عنوان الاستطاعة، إنما الكلام في الفرض الثاني، فهل يحكم بكونه مستطيعاً لوجود المال وإن كان الدين موجوداً، فيجب عليه الحج، أم يحكم بانتفائها عنه، لأن الدين مقدم، فلابد من أدائه فلا يجب الحج عليه؟…

عمد الأصحاب دباية إلى ملاحظة الدين، ومن ثمّ ألتـزم بالتفصيل، بين ما إذا كان الدين حقاً لله سبحانه وتعالى،وبين ما إذا كان لآدمي. وجرياً على منهجهم نوقع الحديث ضمن مسألتين:

الأولى: ما إذا كان الدين لآدمي:

والأقوال في المسألة أربعة:

الأول: ما أختاره المحقق(ره) في الشرائع، والعلامة في المنتهى والشهيد الأول في الدروس من الحكم بمانعية الدين مطلقاً، وبجميع أقسامه عن تحقق الاستطاعة.

الثاني: ما أختاره صاحب المدارك(ره) من التفصيل بين أقسام الدين، فإذا كان الدين حالاً مطالباً به كان مانعاً عن الحج، أما إذا كان الدين مؤجلاً فإن كان للمديون وجه للوفاء به بعد الحج، وجب عليه الحج، وإلا فلا.

الثالث: ما يظهر من كلام الفاضل الهندي(قده) في كتابه كشف اللثام من الحكم بمانعية الدين مطلقاً من تحقق الاستطاعة من دون فرق بين كونه حالاً ومؤجلاً، نعم لو كان الدين مؤجلاً موسع وقته، فإنه لا يمنع من وجوب الحج عليه[1].

الرابع: ما أختاره شيخنا الأعظم الأنصاري(قده) وهو الالتـزام بعدم وجوب الحج على المديون مطلقاً إلا أن يفضل عن دينه قدر الاستطاعة.

والذي يبدو أن عدّ الأقوال أربعة كما في كلمات غير واحد من الأصحاب في غير محله[2]، ضرورة أنه يمكن إرجاعها لقولين، إذ أن مختار شيخنا الأنصاري(ره) لا يختلف عن مختار أصحاب القول الأول، عمدة ما كان أنهم لم يتعرضوا للفرض الأول المذكور في كلامنا، وهو ما تضمنه كلام الشيخ الأعظم(ره)، وواضح أن عدم التعرض له لوضوحه كما أشرنا لذلك قبل قليل. كما أن عدّ كلام الفاضل الهندي(قده) قولاً مغايراً لمختار صاحب المدارك لا يخلو عن شيء، ضرورة أنه يؤول لباً له، فتدبر.

وبالجملة، الأقوال لا تعدو كونها قولين فقط، لا أنها أربعة.

هذا ولو كنا ومقتضى القاعدة لبني على أن المانع من وجوب الحج على المكلف هو ثبوت الحرج عليه، تمسكاً بقوله تعالى:- (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، وهذا يعني أنه متى كان متمكناً من أداء الحج وإن كان مديوناً وكان في أدائه للحج حرج عليه كان ذلك مانعاً من أدائه، أما ما لم يكن هناك حرج عليه، بأن كان متمكناً من أداء الدين بعد عودته من الحج، ودونما حرج ومشقة، فلا ريب في أن القاعدة قاضية بوجوبه عليه، كما أن مقتضى صحيح المحاربي أن المانع من الأداء هو وجود حاجة تجحف به، فلو كان وجود الدين مجحفاً بحاله فيمنعه عن أداء الحج كان ذلك موجباً لعدم الوجوب، وإلا فلا.

وعليه كل من قال بعدم وجوب الحج عليه، لابد أن يأتي بدليل يوجب رفع اليد عن مقتضى القاعدة، ليكون وجود الدين موجباً للحرج، أو بمثابة الحاجة المجحفة، فلاحظ.

هذا وقد استدل للقول الأول بأمور:

الأول: إن المستفاد من جملة من النصوص اعتبار اليسار في من قصد أداء الحج، ففي موثقة أبي بصير قال: من مات وهو صحيح موسر[3]، وكذا رواية عبد الرحيم القصير، حيث جاء فيها: ذلك القوة في المال واليسار، قال: فإن كانوا موسرين فهم ممن يستطيع؟ قال: نعم[4]، ولا ريب في أن المديون لا ينطبق عليه عنوان اليسار، فيكشف ذلك عن عدم وجوبه عليه.

ولا يخفى أنه وطبقاً لاطلاق النصوص في اعتبار اليسار، سوف يكون الدين مانعاً منه، سواء كان حالاً أم مؤجلاً، وبين كونه مطالباً به أم لا، على أن القدرة على الوفاء بالحال مع الرضا بالتأخير، وكذا بالمؤجل، لا يكفي لصدق عنوان اليسار فعلاً[5].

وأجاب بعض الأعاظم(ره) عنه: بأن اليسار المأخوذ في موضوع الحج مقابل العسر، ومن يتمكن من أداء الدين بسهولة ومن دون مشقة، بعد صرفه ما يملك من المال في الحج وعودته يكون موسراً، فإن ترك الحج كان ممن ترك الحج وهو موسر، ومجرد اشتغال الذمة بالدين لا يمنع من صدق اليسار[6].

وحاصل كلامه(ره) المنع من انتفاء عنوان اليسار المعتبر توفره في من يريد الحج بقول مطلق، بل ينبغي التفصيل بين حالات الدين، إذ في بعض الموارد لا يحكم بعدم تحقق اليسار المقابل للعسر، كما لو كان متمكناً من أداء الدين بعد عودته من الحج بسهولة ويسر لوجود موارد يمكنه العود إليها فيتحصل من خلالها على ما يعينه على أداء الدين، فإن العرف هنا يحكم بعدم كونه معسراً وغير موسر، فلو ترك الحج بدعوى عدم اليسار، لم تسمع دعواه.

ومنه يتضح أن مجرد اشتغال الذمة بالدين لا يوجب انتفاء عنوان اليسار عنه بقول مطلق، فلاحظ.

هذا ولا يخفى أن هاهنا محتملين في مفهوم اليسار المذكور في هذه النصوص:

الأول ما أفاده بعض الأساطين(ره)، وهو التقريب الذي قدمنا ذكره في بيان الأمر الأول من أدلة القائلين بالقول الأول.

الثاني: ما أفاده بعض الأعاظم(ره)، ومؤداه أن العرف لا يحكم بانتفاء اليسار بمجرد ثبوت الدين، وإنما يفصل بين وجود ما يعينه على الأداء من عدمه، ففي حال عدم التمكن يحكم بانتفاء عنوان اليسار، لا مطلقاً.

وربما قيل أن هذا يوجب إجمالاً في مفهوم اليسار الوارد في هذه النصوص، ومعرفة المقصود منه، فيمنع ذلك من التمسك بها.

والإنصاف بعدُ ما أفاده بعض الأعاظم(قده)، إذ أن الظاهر كونه قد خلط بين عنوانين، بين عنوان اليسار وعنوان اليسر، ولا يخفى الفرق بينهما. إذ أن اليسار بمعنى السعة في المال، أما اليسر فهو مقابل العسر، فمن لم يملك إلا ما يؤدي به دينه فقط فليس موسراً، وليس صاحب يسار، نعم ليس معسراً. وهذا يعني أن النسبة بينهما هي العموم من وجه.

وأورد بعض الأعيان على خبر عبد الرحيم القصير بأن الروايات المتعرضة لتفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة قرينة على كون المراد باليسار ملكية الزاد والراحلة بالفعل، أو القوة المتحقق حتى مع فرض اشتغال الذمة بالدين[7].

ولا يخفى أن ما أفاده(ره) وإن كان محتملاً إلا أنه يحتمل أيضاً أن تكون نصوص اعتبار اليسار بمثابة المفسر لاعتبار ملكية الزاد والراحلة الوارد في غير واحد من النصوص، فيكون المقصود ليس مجرد امتلاك الزاد والراحلة موجب لوجوب الحج، وإنما امتلاكهما بقيد اليسار.

الثاني: ما قرب به صاحب الجواهر(ره) مختار المحقق(قده)، من أن منشأ عدم الوجوب يعود لكونه مطالباً بأداء الدين، ذلك أن التكليف الموجه له بأدائه أسبق من توجه التكليف له بوجوب الحج، ومنشأ أسبقية توجه التكليف بأداء الدين على وجوب الحج هو أسبقية استقرار الدين في ذمة المكلف.

لا يقال: كيف تتصور الأسبقية في أداء الدين في فرض كون الدين مؤجلاً.

قلنا: بأن الحال والمؤجل إنما هو لحاظ لظرف الأداء، أما أصل الأداء فهو واجب وإن كان الدين مؤجلاً، فتأمل[8].

ولا يخفى أن هذا الوجه يتم لو قلنا بأن المقام ليس من صغريات التزاحم، أما لو حكم بكون المورد من صغرياته، فعندها لابد من ملاحظة الأهم ملاكاً فيكون هو المقدم، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله فأنتظر. وليست الأسبقية موجباً لحصول الأهمية، أو احتمالها لتكون موجبة للتقديم.

الثالث: ما ذكره العلامة(قده) في المنتهى بقوله: لو كان له مال وعليه دين بقدره لم يجب عليه الحج، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، لأنه غير مستطيع مع الحلول، والضرر متوجه عليه مع التأجيل، فسقط فرض الحج[9].

وحاصل كلامه(ره): أن الدين إن كان حالاً فيجب عليه صرفه في أداء الدين، وهذا يعني انتفاء المال عنه فلا يكون مستطيعاً، لأنه لا مال له يحج به. أما لو كان الدين مؤجلاً، فبسفره إلى الحج وصرف المال فيه، سوف يقع في الضرر بعد عودته، لعدم تمكنه من إرجاع الدين عند نهاية الأجل.

وأورد عليه في المدارك، بقوله: ولمانع أن يمنع توجه الضرر في بعض الموارد، كما إذا كان الدين مؤجلاً أو حالاً لكنه غير مطالب به، وكان للمديون وجه للوفاء بعد الحج[10].

أقول: يمكن ذكر عدة طرق للوفاء بعد الحج، منها أن يكون المديون كاسباً، ومنها: أن يكون صاحب صنعة تدر عليه ربحاً، ومنها: أن يكون صاحب وظيفة يرتجي من ورائها مالاً، وهكذا. نعم لو لم يكن كذلك، ولم يكن عنده مال غير الذي سينفقه في الحج، فعندها تأتي مقالة العلامة(ره) من توجه الضرر عليه لعدم تمكنه من أداء الدين عند نهاية الأجل.

وأما القول الثاني، فقد استدل له صاحب المدارك، أولاً: بمنع توجه الضرر في الدين الحال غير المطالب به والمؤجل، إذا كان للمديون وجه للوفاء به بعد الحج، ومتى انتفى الضرر وحصل التمكن من الحج تحققت الاستطاعة المقتضية للوجوب.

ثانياً: التمسك بصحيح معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن رجل عليه دين، أعليه أن يحج؟ قال: نعم، إن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين، ولقد كان من حج مع النبي(ص) مشاة، ولقد مرّ رسول الله(ص) بكراع الغميم فشكوا إليه الجهد والعناء، فقال: شدّوا أزركم واستبطنوا، ففعلوا ذلك فذهب عنهم[11]. حيث يستفاد منه عدم مانعية الدين من وجوب الحج.

وأورد عليه بعض الأعاظم(قده) بأنه لو تم كلامه(ره) من التفصيل بين الدين الحال المطالب به والمؤجل، فالمانع عن الاستطاعة هو الأول دون الثاني، فلابد من الالتزام بشمول الدين المانع من الاستطاعة للدين الذي لم يأذن الدائن للمدين بالتأخير وإن لم يكن مطالباً به، لأن العبرة في المنع وجوب الأداء، وكما أن الدين المطالب به يجب أداؤه، فكذلك الدين الحال الذي لم يطالب به الدائن لسبب ما، لكنه لا يأذن في التأخير أيضاً يجب أداؤه.

وبالجملة، إن المانع من صدق عنوان الاستطاعة هو وجوب الأداء، ولا يختص ذلك بالحال المطالب به، بل يشمل ما حل ولم يأذن له الدائن بالتأخير وإن لم يطالب به[12].

ولا يخفى أن ما أفاده(ره) لا يعدُّ نقضاً على صاحب المدارك(ره)، ضرورة أنه تعرض لمورد إضافي لم يذكره(ره)، ويمكن القول بأنه ملتـزم به، إذ أن المدار عند صاحب المدارك هو انتفاء عنوان الاستطاعة مع وجود الدين المانع من تحققها، سواء كان حالاً، أم كان مؤجلاً لا طريق لأدائه حين حلول أجله، وواضح أن هذا يشمل النقض المذكور في كلام بعض الأعاظم(ره)، فلاحظ.

نعم الحق أن يورد على صاحب المدارك أنه بناءً على جعل المورد من صغريات التزاحم، فذلك يعني تحقق الاستطاعة بوجود المال الكافي لأداء الحج، أو لأداء الدين، وهذا يعني أنه متى قدّم الدين فصرف المال فيه صار مانعاً عن الصرف في الحج، فلا يجب عليه، لعدم الاستطاعة، وكذا العكس، وهذا لا يفرق فيه بين كون الدين حالاً أو مؤجلاً، فلاحظ.

وأما القول الثالث، فقد عرفت حاله، وأنه لا يعدّ قولاً مستقلاً بنفسه، فلا حاجة للتعرض لما يصلح دليلاً له، وإن أبيت، فقد تعرض له بعض الأعاظم(قده) ونقض عليه، والظاهر تمامية النقض المذكور، فراجع[13].

وأما مختار الشيخ الأعظم(ره)، وهو ما جعله بعض الأعاظم(قده) قولاً رابعاً كما عرفت، فقد استدل الشيخ(ره) للدين الحال غير المطالب به بثلاثة أمور:

الأول: أنه يعتبر في تحقق الاستطاعة لوجوب حجة الإسلام اليسار، استناداً لموثقة أبي بصير، وقد جاء فيها: من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عز وجل:- (ونحشره يوم القيامة أعمى)[14]. ولا يخفى أن المديون بدينٍ حالٍ وإن لم يطالب به، لا يصدق عليه أنه موسر لإمكان مطالبة الدائن إياه في كل وقت.

الثاني: إن المستفاد من صحيح ذريح المحاربي عن أبي عبد الله(ع) قال: من مات ولم يحج حجة الإسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحج…إلخ..[15]. أن المانع عن وجوب الحج أمران، وجود الحاجة ووجود المرض، ولا ريب أن الذي عليه دين وإن كان له مال فإن له حاجة في ذلك، وصرفه في الحج يوجب إجحافاً بحاله، فلا تتحقق الاستطاعة، فلا يجب عليه الحج.

الثالث: لزوم الحرج، فإن صرف المال في الحج مع الالتفات إلى أن الدين حال يمكن أن يطالبه به المدين في كل وقت يوقع المديون في الحرج.

نعم هناك فرضان استشكل فيهما الشيخ الأعظم(قده)، فلم يفت فيهما بشيء، لا بوجوب صرف المال في أداء الدين، ولا بوجوب صرفه في الحج، والأمران هما:

الأول: لو لم يُرد المديون أداء الدين وكان الدائن لا يطالبه، كما في صداق غالب الزوجات، فغالباً الزوجة لا تطالب به، والزوج لا يريد الأداء، فمن جهة فإن الدين حال، ومن جهة أخرى هو مستطيع لعدم مطالبة الزوجة.

الثاني: لو كان الدين مؤجلاً، فمن جهة يجب عليه الأداء ولو لاحقاً، ومن جهة أخرى لا مشكلة في صرفه المال في الحج الآن، والأداء لاحقاً.

وألتـزم في نهاية المطاف، بأنه لايـبعد الحكم بالتخيـير في هذين الموردين.

والظاهر أن مستنده(قده) في البناء على التخيـير فيهما هو وقوع التزاحم بين وجوب صرف المال في الحج، ووجوب صرفه في أداء الدين، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر، فيثبت التخيـير، لأنه لو صرف المال في أداء صداق الزوجة كما في الأول منهما، صار غير مستطيع، فلم يجب عليه الحج، وإن أبقاه اتكالاً على مسامحة الزوجة في المطالبة كان مستطيعاً، فوجب عليه.

هذا وللمحقق النراقي(قده) في البين كلام يمكن عدّه قولاً خامساً، وحاصله: إن فرض المسألة وجود مال عند المكلف لا يفي إلا لأحد أمرين، إما أداء الدين، وإما الذهاب إلى الحج، فلو صرفه في أداء الدين لم يذهب للحج، كما أنه لو صرفه في الذهاب إلى الحج لم يؤدِ الدين. فيكون المورد من موارد القدرة الواحدة مع وجود تكليفين، وكلما توجه للمكلف تكليفان وكان قادراً على امتثال أحدهما فقط، كان من باب التزاحم، وإذ لا مرجح في البين فيكون مخيراً بين الأمرين. ثم ذكر صوراً ثلاثاً للمسألة وبيّن حكم كل واحد منها:

الأولى: أن يكون الدين حالاً، أو مؤجلاً مع عدم سعة الوقت للحج والعود وأداء الدين، سواء عُلمت المطالبة أم لا، فيكون من باب التزاحم، ولعدم المرجح لأحدهما على الآخر يتخير بينهما.

الثانية: أن الدين حالاً، مع العلم برضا الدائن بالتأخير، فيقدم الحج لسقوط التكليف بأداء الدين نتيجة رضا الدائن أو إذنه في التأخير، فيبقى خطاب الحج خالياً عن المعارض، فيكون واجباً.

الثالثة: أن يكون مؤجلاً مع سعة الوقت للحج والعود منه، وأداء الدين-سواء ظن أنه له طريقاً للوفاء بعد العود أم لا-فلم أعثر للقدماء على قول في المسألة، وكذا كثير من المتأخرين، والحق وجوب الحج.

والدليل على ذلك، أولاً: صدق عنوان الاستطاعة عليه عرفاً، لأن معناها أنه له مالاً يحج به، وله زاد وراحلة، ومن المعلوم أن المكلف في فرضنا له مال يحج به، فيجب عليه الحج.

ثانياً: النصوص المستفيضة والمصرحة بأن الاستطاعة التي يجب معها الحج هي أن يكون له مال يحج به، فلاحظ صحيحة معاوية بن عمار[16]، وصحيحة محمد[17]، وصحيحة الحلبي[18]، وصحيح الخثعمي[19]، ولا إشكال في أن من استدان مالاً على قدر الاستطاعة يكون ملكاً له، للاتفاق على أن القرض ملك للمديون، فيصدق عليه أنه عنده مال وله ما يحج به، فيجب عليه الحج.

ثالثاً: النصوص الدالة على عدم كون الدين مانعاً عن الحج، بل يجب عليه وإن كان مديوناً بقول مطلق:

منها: خبر-لوجود محمد بن الفضيل وهو مشترك بين الثقة وغيره، كما فصل في محله- أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: أرأيت الرجل التاجر ذا المال حين يسوف الحج كل عام وليس يشغله عنه إلا التجارة أو الدين، فقال: لا عذر له يسوف الحج، إن مات وقد ترك الحج فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام[20]. إذ يستفاد منها أن مطلق الدين لا يعدُّ مانعاً من أداء حجة الإسلام، ويحتمل قوياً جداً كون الدين المشار إليه في النص مؤجل وليس حالاً بقرينة الحديث عن التجارة. على أنه لو بني على عمومها وشمولها للموردين، أمكن رفع اليد عن الدين الحال، لدخوله في مسألة التزاحم حينئذٍ، فيبقى المؤجل، فلاحظ.

لا يقال: إن الخبر يختص بمن استقر الحج عليه والمقام في من لم يستقر عليه الحج، فلا تصلح للدلالة على المقام.

فإنه يقال: ظاهر الخبر هو عام الاستطاعة الأول، وأن التاجر مسوف للحج، فلاحظ.

هذا ولا يخفى أن كلامه(ره) تضمن أمرين، وهما:

الأول: جعل المسألة من صغريات التـزاحم، ومن ثمّ حكم في الصورة الأولى بالتخيـير بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالدين، وهذا نتيجة للتزاحم.

ولا كلام لنا في كون المقام من صغريات التـزاحم، وإنما البحث في التخيـير، ضرورة أن التخيـير إنما هو فرع عدم ثبوت أهمية أحد المتزاحمين ملاكاً على الآخر،، ولا أقل من كونه محتمل الأهمية، وإلا فلا مناص عن ترجيح الأهم، أو محتمل الأهمية، وسيأتي البحث عن ذلك مفصلاً، فأنتظر.

نعم ذكر أنه لا يوجد تزاحم متى كان الدين حالاً وأذن صاحبه بالتأخير، فألتـزم هنا بفورية أداء الحج لصدق الاستطاعة، وعدم المزاحم، تمسكاً بعدم فورية أداء الدين بعد إذن الدائن بالتأخير، فلا مزاحم عندها لوجوب الحج، فيكون فعلياً.

الثاني: حكم(ره) في حالة كون الدين مؤجلاً بعدم مانعية الدين عن الاستطاعة مطلقاً، واستدل لتحقق الاستطاعة وصدقها بالنصوصن كما عرفت.

ويلاحظ عليه: إن الدين إذا كان مؤجلاً، فعندنا صورتان:

الأولى: أن يكون المديون واثقاً من القدرة على أداء الدين عند نهاية الأجل، وبهذا الوثوق تخرج المسألة عن باب التـزاحم، لأنه إنما يكون فيما لو كان هناك تكليفان وقدرة واحدة، ومع وثوق المديون من قدرته على أداء الدين عند نهاية الأجل، يوجد تكليفان وقدرتان، لتمكنه من الحج الىن بالمال الذي بيده، فتجب عليه حجة الإسلام، والفرض أنه واثق من أداء الدين عند نهاية الأجل.

الثانية: أن لا يكون واثقاً من ذلك، وهو أعم من كونه ظاناً بقدرته على أداء الدين، أو غير ظانٍ بذلك، وقد حكم(ره) بوجوب الحج هنا أيضاً، وأن المسألة ليست من صغريات التزاحم.

مع أن الصحيح دخولها في باب التزاحم أيضاً، وذلك لأنه مع عدم الوثوق بالأداء لا حجة شرعية عنده على قدرته على الأداء، وإن كان ظاناً بالقدرة العقلية عليه، فلا يكون عنده إلا قدرة واحدة وتكليفان، أحدهما وجوب الحج، والآخر وجوب أداء الدين. نعم ظرف أداء الدين في المستقبل، لكن نفس الوجوب حاصل الآن في ذمة المديون، فيكون أداء الدين أحد الواجبات الثابتة في ذمة المديون عند نهاية الأجل. ولهذا هو غير متمكن من القيام بعمل يفوّت به القدرة على الأداء عند نهاية الأجل من جهة كون التكليف فعلياً عليه الآن، وإلا إن لم يكن التكليف بأداء الدين فعلياً الآن، لأمكنه القيام بعمل يفوّت به القدرة على الأداء عند الأجل.

والحاصل، ليس عنده أكثر من قدرة واحدة، ويجب عليه إما حفظها لأداء الدين، أو صرفها في الحج، فيكون مراده(قده) أن وجوب أداء الدين فعلي، ويجب امتثاله الآن، غاية الأمر أن امتثاله الآن يكون بحفظ القدرة، وامتثاله عند نهاية الأجل يكون بأدائه للدين، لأن أداءه تكليف يحتاج إلى امتثال، وامتثال هذا التكليف له مراتب، وفي كل زمان بحسبه.

وأما استدلاله(قده) بالنصوص، فسوف نتعرض له فيما يأتي من البحث، فأنتظر.

وقد أختار السيد اليزدي(قده) في العروة أن الأقوى كون الدين مانعاً من الاستطاعة، إلا مع التأجيل والوثوق بالتمكن من أداء الدين إذا صرف ما عنده في الحج، وذلك لعدم صدق الاستطاعة في غير هذه الصورة، وقد عدّ هذا منه(ره) قولاً سادساً في المسألة، والأمر سهل.

هذا ويستفاد من كلامه(قده) أنه لا يجب الحج مع وجود الدين الحال بجميع أقسامه، وكذلك لا يجب مع الدين المؤجل إذا لم يكن واثقاً من التمكن من أدائه. ويستثنى من الدين الحال في عدم المانعية إذا لم يكن مطالباً به من قبل الدائن، لرضاه بالتأخير، والوثوق بالتمكن من الأداء.

وقد جعل(ره) الدليل على مختاره هو انتفاء عنوان الاستطاعة عنه، فلا يكون الحج واجباً عليه، لأنه يعتبر في وجوب الحج كونه مستطيعاً.

إلا أن الإنصاف، أن البناء على هكذا دليل بنحو الإطلاق لا يخلو عن شيء، بل الصحيح هو الحكم بالتفصيل، بأن يقال: لا ريب في أن المديون إذا كان له مال، فإنه يصدق عليه أنه ممن له مال يحج به، وإن كان في المقابل مديوناً، إذ أن مال القرض ملكه، يمكنه التصرف فيه بما يشاء، مما يعني تحقق الاستطاعة عنده، فيكون وجوب الحج عليه فعلياً، إلا أنه لما كان مديوناً ويجب عليه أداء دينه، والمال الموجود عنده لا يفي للأمرين، للحج ولأداء الدين، يقع التزاحم بين التكليفين فيما كانا فعليـين، وبما أن الحج فعلي لتحقق شرطه، وهو الاستطاعة، فلابد من معرفة أن وجوب أداء الدين في أي قسم من الأقسام يكون فعلياً في حق المكلف.

الصحيح أنه إذا كان الدين حالاً، أو كان مؤجلاً ولم يكن المديون واثقاً من القدرة على أدائه عند نهاية الأجل، فإنه يكون فعلياً.

أما لو كان الدين حالاً، وقد أذن صاحبه بالتأخير، أو كان الدين مؤجلاً، والمديون واثق من القدرة على الأداء في وقته، فإنه يسقط وجوب الأداء عن الفورية، فيكون وجوب الحج بدون مزاحم-بناءً على المشهور من فوريته، وخلافاً للمختار-فيلزم صرف القدرة في الواجب الفوري. والسر في ذلك يعود لما هو مقرر في محله أنه إذا كان هناك وجوبان أحدهما فوري، والآخر ليس فورياً، فإنه لا يكون المورد من صغريات التزاحم حتى يقدم الأهم منهما ملاكاً، أو يقدم محتمل الأهمية، وإنما يكون التقديم مباشرة للواجب الفوري ما لم يكن في تقديمه تفويت الآخر الأهم، كما في مثال إزالة النجاسة من المسجد والصلاة، فإن الصلاة أهم ملاكاً، لكنها ليست فورية، وإزالة النجاسة ليست أهم ملاكاً مع أنها فورية، فتقدم إزالة النجاسة من المسجد بلحاظ الفورية، إلا أن يستوجب تقديمها تفويت الصلاة الأهم ملاكاً. والوجه في ذلك هو أن صرف القدرة في الإزالة لا يسلب القدرة على امتثال الصلاة، للتمكن من إتيانها في وقتها بعد الإزالة، أما لو كان صرف القدرة في الإزالة يوجب سلب القدرة على امتثال الصلاة الأهم ملاكاً، فإنه يجب حفظ القدرة على امتثالها وإن كان وجوبها موسعاً، ولا يحق له صرف القدرة في الإزالة.

وبالجملة، إنما يتصور التزاحم حال كون الوجوبين فوريـين، لا ما إذا كان أحدهما فورياً والآخر غير فوري.

ومقامنا من هذا القبيل، فإن الدين الحال بعدما إذن صاحبه بجواز التأخير، فإن الإذن يوجب تبدل الوجوب الفوري لأداء الدين إلى وجوب غير فوري، فتنـتفي فورية الأداء، لا أن نفس وجوب الأداء قد انتفى، وعندها سوف يقدم أداء الحج لأنه فوري، وقد عرفت قبل قليل أن الوجوب الفوري مقدم على الوجوب غير الفوري لأداء الدين، اللهم إلا أن يقال: بأن تقديم الحج فيصرف المال في أدائه يستوجب تفويت القدرة على أداء الدين الأهم ملاكاً، فلا يكون لإذن صاحب الدين أدنى تأثير في فعلية الحج وتقديمه، لأن العقل يحكم بلزوم حفظ القدرة على أداء الدين، لأنه الأهم ملاكاً، وهو أهم من الحج.

هذا مع أنه يمكن التفصيل في صورة إذن الدائن في تأخير الدين، إلى صورتين:

الأولى: أن يكون الإذن الصادر من الدائن بالسماح للمديون بالسفر إلى الحج وعدم أداء الدين في وقته، ويؤديه بعد عوده عند القدرة، فهكذا إذن يسقط فورية وجوب أداء الدين، فلا يلزم حفظ القدرة على أدائه بترخيص من نفس الدائن، والظاهر أن هذا هو معنى الإذن في التأخير، فيقدم الحج على وجوب الأداء.

الثانية: أن يكون الإذن بالتأخير بمعنى عدم وجوب الأداء الىسنة، لكن مع حفظ القدرة على الأداء لاحقاً، فيكون الإذن مقيداً بحفظ القدرة، فلا يقدم الحج على أداء الدين قطعاً، فمع صرف القدرة في الحج تنتفي القدرة على أداء الدين، لوجود قدرة واحدة عنده لا غير بحسب الفرض، ولأن إذن الدائن في التأخير لا أثر له من هذه الجهة.

هذا كله في الدين الحال، وأما بالنسبة للدين المؤجل، فإن كان واثقاً من قدرته على أداء الدين عند الأجل، فإنه خارج عن باب التزاحم، لأن الفرض وجود القدرة على الحج فعلاً، ووجود القدرة على الأداء حين حلول الأجل، وأما إذا لم يكن واثقاً فليس له-بحسب وثوقه وعلمه-إلا قدرة واحدة، فيندرج في باب التـزاحم، كما هو واضح.

نعم لصاحب العروة(ره) إشكال في البين، فإنه يشكل على كون المسألة من باب التزاحم، فيما إذا كان الواجبان مطلقين وفي عرض واحد، والمفروض أداء الدين مطلقاً، بخلاف وجوب الحج، فإنه مشروط بالاستطاعة الشرعية.

وهكذا إشكال يمكن المناقشة فيه، بأن يقال: إن الاستطاعة في الحج إذا كانت بلحاظ الأمور الأربعة، الزاد والراحلة، وصحة البدن، وتخلية السرب، فإنها استطاعة شرعية، أما اعتبار الاستطاعة في غير هذه الأمور، فإنها عقلية فإذا تحققت هذه الأمور فوجوب الحج يزاحم كل واجب مطلق.

[1] كشف اللثام ج 5 ص 98.

[2] لاحظ السيد الحكيم في المستمسك ج 10 ذيل المسألة السابعة عشر من الاستطاعة، وكذا السيد الخوئي في المعتمد ج 26 ذيل نفس المسألة.

[3] وسائل الشيعة ب 6 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 7.

[4] المصدر السابق ب 9 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 3.

[5] مستمسك العروة ج 10 ص 97.

[6] معتمد العروة ج 26 ص 90.

[7] كتاب الحج للسيد الشاهرودي ج 1 ص 118.

[8] جواهر الكلام ج 17 ص 258.

[9] منتهى المطلب ج ص

[10] مدارك الأحكام ج 7 ص 43.

[11] وسائل الشيعة ب 11 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 1.

[12] المعتمد ج 26 ص 91.

[13] المعتمد ج 26 ص 91.

[14] وسائل الشيعة ب 6 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 7.

[15] وسائل الشيعة ب 7 من أبواب الحج وشرائطه ح 1.

[16] وسائل الشيعة ب 6 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 1.

[17] المصدر السابق ب 8 ح 1.

[18] المصدر السابق ب 8 ح 3.

[19] المصدر السابق ب 8 ح 4.

[20] وسائل الشيعة ب 6 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 4.