25 أبريل,2024

قبول فتوى الفقيه

اطبع المقالة اطبع المقالة

من المعلوم أن ذمة المكلف مشغولة بجملة من الأحكام الإلزامية التي يجب عليه إفراغها منها، وقد نص الفقهاء على أنه يمكن للمكلف إفراغ ذمته من التكاليف التي اشتغلت ذمته بها من خلال الاعتماد على أحد طرق ثلاثة، وهي:

الأول: الاجتهاد.
الثاني: الاحتياط.
الثالث: التقليد.

وسائل معرفة الفتوى:

هذا ومع اختيار المكلف للطريق الثالث وهو التقليد، ينبغي أن يتم التعرف على الطرق التي يمكنه من خلالها الإحاطة بفتوى الفقيه الذي يجب عليه تقليده، وقد ذكرت لذلك عدة وسائل يمكن من خلالها معرفة فتواه:

الأولى: أن يسمع ذلك من الفقيه مباشرة وشفاهاً، وذلك بأن يوفق المكلف للالتقاء بالفقيه في مكان إقامته مثلاً، ويعمد إلى سؤاله أو أن يسأله شخص وهو حاضر عنده، فيسمع حينها جواب الفقيه عن المسألة المسئول عنها، فيعرف الحكم فيها.

وهنا لابد من الالتفات إلى أنه يعتبر في الاعتماد على هكذا فتوى أن يحرز المكلف أن الفقيه فيما نقله من فتاواه غير مخطئ ولا مشتبه أو ناسي، نعم الخطأ والاشتباه الذي يعذر فيه الإنسان وهو ما يكون محدوداً جداً لا مانع من التسامح فيه.

هذا ولا ينحصر تحصيل فتوى المجتهد من السماع منه مباشرة بخصوص الصورة التي ذكرناها، بل يمكن عدّ جملة من الصور الأخرى التي ينطبق عليها تحصيل فتوى المجتهد شفاهاً منه، كما لو رأى المجتهد يعمل عملاً معيناً أحرز من خلاله أنه مطابق لفتواه، مثلاً رأى المجتهد يفطر بمجرد سقوط قرص الشمس، ولا ينتظر ذهاب الحمرة المشرقية، مما يعني أن الغروب عنده يتحقق بمجرد سقوط القرص، وكذا لو رآه يقتصر في صلاته على تسبيحة واحدة من التسبيحات الأربع، أو أنه لا يقرأ بعد الفاتحة سورة أو سورة كاملة، فإنه يستكشف من خلال ذلك فتواه.

ومما يعدّ من السماع شفاهاً، ما لو رأى المجتهد على شاشة التلفاز يخبر عن فتواه، أو يبينها، وكذا لو استمع إليه في جهاز المذياع، أو تسنى له الحديث معه عن طريق جهاز الهاتف، فإنه في جميع هذه الصور ينطبق عليه أخذ الفتوى من المجتهد شفاهاً.

الثانية: إخبار عادلين بفتوى المجتهد، وذلك إما مجتمعين في وقت واحد وفي مكان واحد، فيخبراه بذلك، أو أنهما يخبراه منفردين لكنهما يتوافقان في الإخبار بحيث يكون الحجية في القبول لقولهما منضمين لا لقول أحدهما دون الآخر.

والظاهر أن المقام لا ينحصر بخصوص الشهادة القولية، بمعنى أنه يمكن التوسع لما يصدر منهما من فعل، فلو أنهما اتفقا على فعل من الأفعال أمكن القول بأنه من مصاديق الشهادة.

وبعبارة أوضح، لو كان المقلد يعلم أن العادلين المعينين يقلدان مرجعه في التقليد مثلاً، ووجدهما يلتـزمان في مقام العمل بأمر ما، كشف ذلك عن كونه فتوى مرجعه، وعدّ إخبار منهما، مثلاً لو وجدهما يرتمسان في نهار شهر رمضان المبارك ولم يكن هناك ما يمنعهما من الصوم، كشف ذلك عن إخبارهما بأن الارتماس ليس من المفطرات عند مرجعه.

أو وجدهما يتداولان في أسهم البنوك، عدّ ذلك إخبار منهما بجواز التداول في أسهم البنوك عند مرجعه، وهكذا.

وبالجملة، إن البناء على توسعة دائرة الإخبار الصادر من العادلين عن فتوى المرجع ليشمل ما يصدر منهما من فعل أو تقرير غير بعيد، فلاحظ.

الثالثة: أن يخبر بفتوى المجتهد عدل واحد، بل مطلق الثقة، على كلام بين الأعلام في أنه يعتبر أن يكون قوله موجباً لحصول الاطمئنان، وعدمه.

وعلى أي حال، فوفقاً للقبول بهذه الوسيلة على أي من النحوين المشار إلى الخلاف فيها بين الأعلام، فإنه يجري بحسب الظاهر فيها ما سبقت الإشارة إليه في الوسيلة السابقة، كما هو واضح.

الرابعة: وجدان الفتوى في الرسالة العملية.

التعريف بالرسالة العملية:

وقبل الحديث عن هذه الوسيلة، نود الإشارة إلى أن مصطلح الرسالة العملية يقصد به الكتاب أو المجموع الذي يكون حاوياً لفتاوى المجتهد ومتضمناً لآرائه الفقهية، وقد يكون في مجلد واحد، أو ربما كان في أكثر.

ويغلب عليه أن يكون عرضاً لبيان الأحكام الفتوائية التي يحتاج إليها المكلف في مقام الامتثال، ولا يشار فيه إلى بيان الوجه أو الموجب للنتيجة المذكورة، وهو ما يسمى بالاستدلال.

وقد كان الموجب لكتابة مثل هذا الكتاب هو التسهيل على المكلف، ضرورة أن المكلف قد لا يتسنى له الاتصال بالمجتهد دائماً، أو يكون في اتصاله به عسر وحرج، كما أن المكلف يصعب عليه الإحاطة بفتاوى المجتهد كلها، وربما لا يكون قريباً منه من يرجع له للسؤال منه لمعرفة رأي المجتهد في هذه المسألة، فجاءت كتابة هذه الرسالة أو الكتاب لتكون بمثابة المرجع الذي يرجع له المكلف لمعرفة وظيفته الشرعية.

وربما يقال أن هذا الأمر كان متبعاً منذ عصور الأئمة(ع)، من خلال ما كان يكتبه أصحابهم من كتب وأصول تتضمن الروايات الصادرة عنهم(ع)، وهكذا سار فقهائنا بعد ذلك.

هذا وقد جرت العادة أن المجتهد يعمد إلى انتخاب رسالة عملية لمرجع سابق عليه أو معاصر ويعمد إلى مطابقة آرائه ونظرياته الفقهية على طبق تلك الرسالة، ثم يضمنها إياها، أو يجعلها عليها بمثابة التعليقة.

وقلّ أن يكتب الفقهاء رسالة عملية جديدة، ولعل ذلك لأنس المقلدين بالرسائل العملية السابقة وتعودهم على لغتها، لدى يستحسن بقائهم على ما كانوا عليه.

هذا وقد يكون الموجب شيئاً آخر، مثل سلاسة العبارة أو كثرة الاشتمال على الفروع الفقهية الابتلائية، كما لعله يذكر ذلك في شأن كتاب العروة الوثقى للسيد اليزدي(قده)، ولذا نجد أن الكثير من الفقهاء يعمدون للتعليق عليها، وإن كان اليوم كثير من فروعه الفقهية خارج عن دائرة الابتلاء.

هذا وللسيد الشهيد الصدر(ره) كلام في التأمل في رسائل الفقهاء العملية، وذلك لأن لغة الخطاب التي اشتملت عليها لا تواكب الحياة العصرية اليوم، كما أنها تشتمل على العديد من المصطلحات التي ربما ضاق على بعض المنتسبين للعلوم الدينية القدرة على الإحاطة بمعناها، فضلاً عن أن لغتها لغة معقدة، وغير ذلك[1]، ولذا عمد(قده) إلى كتابة رسالة نموذجية بنظره، وهي رسالته العملية الفتاوى الواضحة، لكنه لم يتسن له إكماله، حيث لم يخرج منها إلا القسم الأول.

وعلى أي حال، بعدما أحطنا بشيء حول الرسالة العملية, نعود لذكر الوسيلة الرابعة من الوسائل التي يمكن للمكلف من خلالها الإحاطة بفتوى المجتهد، وهي وجدانه فتاواه في رسالته العملية المنسوبة إليه، وغالباً ما تكون مكتوبة من قبله، أو من قبل جملة من تلامذته أو ثقاته الذين يعتمد عليهم.

وبالجملة، إذا وجد المكلف فتوى المجتهد في رسالته العملية، بحيث رأى الرسالة تضمنت أن السمك الذي يكون له فلس، فإنه يحل أكل لحمه، كان مطالباً عندها بالتعبد على وفقها.

نعم يشترط للقبول بما جاء في الرسالة العملية إحراز سلامتها من الخطأ والاشتباه، بمعنى لابد وأن يحرز الصحة في الرسالة العملية، أما لو لم يكن محرزاً لذلك، فإنه يعدّ مانعاً من التعبد بما جاء فيها، نعم لا يضر وجود الخطأ والغلط النادر والمتعارف، ذلك لما ذكروه من أن أغلب الطباعات لا تخلو منه.

هذا ونود أن نشير إلى أن الرسالة العملية للفقيه قد تطبع طبعات متعددة، بينها تفاوت من حيث التاريخ الزمني، فربما طبعت طبعة أولى تفرق عن العاشرة بعشر سنين أو أزيد، فهل يكون التعامل مع كلتا الطبعتين بنحو واحد من دون تفريق بينهما، أم أنه يختلف اللحاظ، فيعتمد على خصوص الطبعة المتأخرة دون الطبعات الأولى القديمة.

وبتعبير آخر، هل أن حجية فتوى المجتهد في رسالته القديمة تبقى على حالها حتى مع تقادم الزمن، بملاحظة أن فتح باب الاجتهاد مفتوح، وبالتالي قد يتصور تغيرها وتبدلها، أم يستصحب بقاء الفتوى على حالها.

الظاهر-والله سبحانه أعلم-البناء على استصحاب حجية الفتوى وبقائها على الحجية، وما يتصور من وجود علم إجمالي، يبدو عدم تنجزه ضرورة خروج بعض الأطراف عن دائرة الابتلاء، وتفصيله أكثر في البحوث التخصصية.

وبالجملة، لا فرق في الحجية للفتوى في الرسالة العملية بين كون طبعتها قديمة، أم جديدة، ما دام لم يحصل عند المكلف ما يوجب التوقف في القبول بها.

تعارض وسائل معرفة الفتوى:

هذا وقد يحصل تعارض في بيان فتوى المجتهد عند وصولها للمكلف، فيختلف الحال بين من يطرح بياناً بالحلية، وآخر ينقل بياناً بالحرمة، وما شابه.

هذا وهنا صور للتعارض نشير إليها، ثم نعمد إلى بيان كيفية العلاج فيها، فنقول:

الأولى: أن يحصل التعارض بين بينتين، بحيث أن العادلين في الطرف الأول ينقلان أن الطالب الذي يدرس في منطقة تبعد عن وطنه مسافة شرعية وظيفته التقصير والإفطار، بينما تنقل البينة الثانية أن وظيفته التمام والصيام، ومن المعلوم أن المعارضة هنا بين خبري العادلين.

الثانية: أن يتعارض الناقلان العادلان لفتوى المجتهد، فينقل أحدهما أن وظيفة كثير السفر هي القصر، بينما ينقل الآخر أن وظيفته هي التمام. ولا يخفى أن هذا من صغريات التعارض بين خبري العدل، أو بين خبري الثقة.

ولا يخفى أن الصورتين لا تنحصران في خصوص النقل مشافهة، بل تشمل أيضاً نقلهم لفتواه من رسالته العملية، فلاحظ.

الثالثة: أن تكون المعارضة بين ما سمعه المكلف من المجتهد شفاهاً وبين ما ينقله العادلان، أو ما ينقله العدل، أو الثقة.، بحيث أن المكلف سأل المجتهد عن السيارة التي يستخدمها لشؤونه الخاصة، فأفتاه أنه لا يتعلق الخمس بها، لكنه سمع من العادل، أو من الثقة أنه يتعلق الخمس بها.

الرابعة: أن تكون المعارضة بين ما سمعه المكلف من المجتهد شفاهاً، وبين ما جاء في الرسالة العملية، بحيث أن المكلف سمع من المجتهد أنه لا يجب الحضور لصلاة الجمعة في زمن الغيبة، وجاء في الرسالة العملية أنه يجب الحضور فيها، ولو بنحو الاحتياط الوجوبي.

الخامسة: أن تكون المعارضة بين النقل وبين ما جاء في الرسالة العملية، مثل أن ينقل عادلان، أو عدل، أو ثقة أنه يحرم أكل سمك الصافي، مع أن الوارد في الرسالة العملية البناء على حليته، لكونه مما له فلس.

هذه صور خمس للمعارضة، وقد تكون هناك صور أخرى يمكن للقارئ ملاحظتها.

وبالجملة، ففي جميع هذه الموارد، كيف يمكن للمكلف أن يعالج المعارضة المتصورة.

الحق أن يقال، أنه إذا حصل عند المكلف اطمئنان ناشئ من خلال تجميع القرائن العقلائية بأحد طرفي المعارضة، فإنه يبني عليه، ولنوضح ذلك بتطبيقه على أحد الصور السابقة، ومنه يتضح الأمر في بقيتها: في حال كون المعارضة بين النقلين المنقولين سواء من قبل بينتين، أم من قبل عدلين، أم ثقتين، تارة يكون بينهما اختلاف في التاريخ، بحيث يكون أحدهما متأخراً على الآخر، والظاهر أن التاريخ المتأخر يعتبر أمراً عقلائياً موجباً لتوريث الاطمئنان عند الآخرين، فعليه يمكن القول بأن المتأخر تاريخاً يقدم على المتقدم عند المعارضة، وهكذا.

متى تقبل الفتوى:

هذا وينبغي أن نشير إلى أنه متى ما وصلت للمكلف فتوى من الفتاوى، وادعي نسبتها للمجتهد، فهل ينبغي عليه القبول بها مطلقاً، أم أنه مطالب برفضها وردها، أم كيف يمكنه التعاطي والتعامل معها.

لابد من الالتفات إلى أن صدور الفتوى من المجتهد تكون وفق جملة من الضوابط، يتم من خلالها صدورها ، وهذا يعني أنه لابد من ملاحظة الفتوى وفقاً لتلك الضوابط، فمتى كانت تلك الفتوى متوافقة والضوابط المعروفة والمقررة، كان ذلك موجباً للقبول بالفتوى، أما لو وجدنا أنها تتخالف والضوابط المعروفة فالظاهر أنه لا مجال للبناء عليها، ولنشرح ذلك بصورة أكثر تفصيلاً:

إن في كل مسألة من المسائل الشرعية يوجد أصل أولي يمكن من خلاله معرفة الوظيفة العملية للمكلف، فمثلاً سمك الصافي، لو أردنا أن نعرف الأصل الأولي بالنسبة له، لوجدنا أن الأصل الأولي فيه هو الحرمة، لأن الأصل في لحوم البحر هو الحرمة، على عكس الأصل الأولي في لحوم البر فإنه الحلية.

بعد ذلك نرى هل أن في الأدلة الاجتهادية، من نصوص وما شابه ما يوجب رفع اليد عن الأًصل الأولي القاضي بالحرمة أما لا، فإذا وجدنا في النصوص ما يشير إلى ذلك، فإننا سوف نرفع اليد عن القول بالحرمة، وهذا ما نجده في السمك الذي له فلس، وفي خصوص الربيان، فيحكم عندها بحلية خصوص هذين النوعين من الحيوانات البحرية، وهو الأسماك ذات الفلس والربيان، أما بقية المخلوقات البحرية فيحرم أكلها، كأم الروبيان مثلاً.

نعم أود أن أنبه على أن بعض المجتهدين، قد يسلكون في مقام المعالجة للفتاوى طرقاً غير مألوفة، وذلك من خلال الإبداع في مقام الاستدلال، فربما يتصور البعض أن ذلك خروجاً عن الطريق فيرفض الفتوى، وهذا في غير محله، فينبغي الالتفات إليه.

ووفقاً لما ذكرنا لو وجدنا فتوى صادرة من المجتهد تقول بأن سمك الصافي مثلاً يحرم أكله، مع أنه له فلس، فالظاهر أنه لا مجال للقبول بهذه الفتوى، وذلك لأنها مخالفة للضوابط التي يسار عليها في عملية الاستنباط، وهكذا.

هذا وقد يذكر البعض أنه وطبقاً لما ذكرتم، فإنه لا يتسنى لكل أحد القدرة على معالجة الفتاوى الواصلة إليه بهذه الصورة، ضرورة أن هذا الأمر يحتاج أن يكون الإنسان من أهل الاختصاص، كما ينبغي أن يكون ممتلكاً فضيلة علمية حتى يملك القدرة على المعالجة بالصورة المذكورة.

وما ذكر صحيح، فإنه وبالخصوص في الفتاوى المستجدة[2] التي لا تكون موجودة في الرسالة العملية لا يمكن التعويل على كل نقل وبأي كيفية كان، كما لا ينقل القول لمجرد النسبة، وهذا يعني أنه يوكل مثل هكذا موارد إلى أهل الاختصاص، حتى يقرروا صحة الصدور من عدمه.

خاتمة:

هذا وفي الختام أود أن أوجه نصيحة للأخوة القراء، تتضمن انتخاب من يُسأل، فليس كل أحد يملك القدرة على الجواب للسؤال الموجه إليه، كما أنه ليس لكل أحد القدرة على الفهم التام بالمسألة الشرعية، ونحن هنا لا نود التعريض بأحد، أو الانتقاص من أحد-حاشا لله-بل نود التنبيه على أن البشر يتفاوتون في القدرات، فلا ينبغي لنا أن نحمل الآخرين ما لا طاقة لهم بحمله.

——————————————————————————–

[1] مقدمة الفتاوى الواضحة.

[2] نقصد من المستجدة الاستفتاءات التي تنسب للمجتهد، وليست موجودة في رسالته العملية، ولا نقصد منها المسائل المستحدثة.