28 مارس,2024

قاعدتا الفراغ والتجاوز

اطبع المقالة اطبع المقالة

الإنسان المخلوق على وجه الأرض على نوعين من حيث إمكانية طرو النسيان والاشتباه عليه وعلى الأعمال الصادرة منه على نحوين:

الأول: وهو المعصوم، الذي خلقه الله سبحانه وتعالى منذ ولادته منـزهاً من الخطأ والنسيان، فلا يتصور أن يصاب في عمل من أعماله بخطأ أو نسيان أو ما شابه.

الثاني: وهو الإنسان العادي الذي يصيبه الخطأ، ويبتلى بالنسيان والاشتباه وما شابه ذلك.

وحديثنا مع القسم الثاني، دون القسم الأول، فإنه خارج عن حريم بحثنا.

أصحاب القسم الثاني، أثناء أدائهم لفريضة الصلاة التي تعتبر عمود الدين، والتي إذا قبلت قبل ما سواها، ومتى ردت رد ما سواها، قد يحصل عندهم أمور:

منها: يصابوا بحالات الشك، وهذه الشكوك تارة تكون في صحة العمل الصادر منهم، وتارة في كونه مستجمعاً للشروط المعتبرة فيه.

ومنها: يصابوا بحالات من النسيان والخطأ.

ولا يخفى أنه لو قررنا أنه متى ما صدر من الإنسان خطأ أو نسيان، أو أصابته حالة الشك، بطلت صلاته لكان في لك عسر وحرج على المكلفين، إّ لا يخلو فرد من المكلفين إلا أصحاب القسم الأول عن ذلك.

من هنا جاءت مجموعة من القواعد غايتها تصحيح الصلاة الصادرة من هؤلاء بما يقبل التصحيح، وحديثنا يقع حول قاعدتين من هذه القواعد، وهما قاعدتا الفراغ والتجاوز.

قاعدتان أم قاعدة:

هذا ويوجد خلاف بين أعلامنا في أنهما قاعدتان، أم أنهما قاعدة واحد، فبعض علمائنا كالسيد الخوئي(ره)، وأستاذنا الشيخ التبريزي(دامت بركاته) وسيدنا السيستاني(أطال الله في بقائه) يلتـزمون بأنهما قاعدتان، وليستا قاعدة واحدة، بينما يلتـزم الإمام الخميني(قده)، بأنهما قاعدة واحدة.

وعلى أي حال، هذا خلاف علمي، تترتب عليه جملة من الثمرات، لكننا لسنا بصدد الحديث عنها الآن.

معنى القاعدتين:

تختلف القاعدتان عن بعضهما البعض في التالي:

أما قاعدة التجاوز، فهي شك في أن المصلي هل أتى بالعمل المطلوب منه أملا، فنلاحظ أن الشك هنا ليس شكاً في صحة العمل المأتي به، بل هو شك في أنه هل جاء بالعمل، أم أنه لم يأتِ به.

وأما قاعدة الفراغ: فإنها مجراها حين الشك في صحة العمل المأتي به، فهي تقرر أنه قد تحقق العمل وقد جيء به، لكنه يشك في أن العمل الذي نقطع ونتيقن بالمجيء به هل أنه صحيح أم لا؟..

ولذا قال: بأن الشك في قاعدة التجاوز شك في الوجود، بينما الشك في قاعدة الفراغ شك في الصحة.

سعة دائرة القاعدتين:

وقع البحث بين الأعلام في أن القاعدتين هل تختصان بباب الصلاة والوضوء، أم أنهما تجريان في بقية الأبواب الفقهية كالحج مثلاً، فلو أن شخصاً كان يطوف وبعد فراغه من طوافه شك في صحة طوافه الذي أداه، هل يمكن أن يحكم بصحة طوافه استناداً إلى قاعدة الفراغ أم لا؟…

وكذا لو شك الإنسان بعدما دخل في السعي أنه هل جاء بصلاة ركعتي الطواف أم لم يأتِ بها، فهل يمكن إجراء قاعدة التجاوز أم لا؟…

الظاهر أن الأعلام يلتـزمون بجريان القاعدتين في بقية الأبواب الفقهية كجريانها في بابي الوضوء والصلاة من دون فرق، ولذا يحكم بصحة الطواف الذي ذكرناه في المثال السابق، كما يحكم بأنه قد جاء بصلاة الطواف في المثال الثاني.

وكذا لو شك بعد الفراغ من عقد من العقود في أنه كان صحيحاً أم لا، فالظاهر أيضاً الحكم بكون العقد المذكور صحيحاً تمسكاً بقاعدة الفراغ، وهكذا.

الوضوء والقاعدتان:

من البحوث المهمة التي ينبغي التوجه لها ونحن بصدد الحديث عن عمومية القاعدتين لكافة أبواب العبادات، بل بقية الأبواب الفقهية، أن هناك استثناءً من تحت هذا العموم، بحيث أن قاعدة التجاوز لا تجري في الوضوء، فلو أن شخصاً كان يتوضأ وشك في الجزء السابق من الوضوء بعدما انتقل إلى الجزء اللاحق، فهل يمكنه إجراء قاعدة التجاوز في المقام، ويحكم بصحة الوضوء، وأنه قد جاء بالجزء المشكوك فيه، أم لا؟…

الصحيح أنه لا يمكنه والحال هذه إجراء قاعدة التجاوز وتطبيق تحقق الجزء المشكوك فيه، وقد دلنا على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء صحيحة زرارة عن أبي جعفر(ع) أنه قال: إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله، أو تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت إلى حال أخرى في الصلاة، أو في غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه[1].

كما يمكننا أيضاً أن نعلل عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء بأن الوضوء أمر بسيط وليس أمراً مركباً، وبالتالي لا مجال لتحقق التجاوز في الأمر البسيط، فتأمل.

ومقتضى أن الوضوء من الأمور البسيطة لا مجال لجريان قاعدة الفراغ في أثنائه، لأنه لا يتحقق فيه الخروج من شيء والدخول في شيء آخر، فلا يتحقق موضوع القاعدة حينئذٍ.

نعم لو تحقق الفراغ من العمل بأكمله، وحصل له الشك في صحة الوضوء، فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ حينئذٍ.

الغسل والتيمم:

وما دمنا قد تحدثنا عن جريان القاعدتين في الوضوء وعدم جريانهما، ينبغي لنا أن نعمد للحديث عن جريانهما في قسميه وهما الغسل والتيمم، فهل أنهما تجريان فيهما أم لا، مثلاً: لو شك الإنسان أثناء غسله للجانب الأيسر من بدنه أثناء الغسل في أنه غسل الجانب الأيمن أم لا، فهل يمكنه في هذه الحالة أن يجري قاعدة التجاوز أم لا؟…

وكذا لو شكت المرأة أثناء غسلها للجانب الأيسر من بدنها في أن غسلها لجانبها الأيمن هل كان صحيحاً أم لا، فهل يمكنها إجراء قاعدة الفراغ أم لا؟…

وعين الكلام يأتي أيضاً بالنسبة للتيمم.

المستفاد من فتاوى السيد السيستاني(دامت أيام بركاته) الاحتياط في الإلحاق، وبالتالي عدم ترتيب أثر القاعدتين، كما هما بالنسبة إلى الوضوء.

هل يعتبر الدخول في الغير:

وقع البحث بين العلماء في أنه هل يعتبر في جريان قاعدتي الفراغ والتجاوز الدخول في الغير، أم لا، مثلاً: من شك في الركوع قبل دخوله في السجود، فهل تجري قاعدة التجاوز في حقه أم لا؟…

وكذا من شك في صحة الجزء أو شك في صحة الكل، لكنه بعدُ لم يدخل في غيره، فهل تجري قاعدة الفراغ أم لا؟…

أما بالنسبة إلى قاعدة الفراغ فلا يعتبر في جريانها الدخول في الغير، بل يكفي في جريانها تحقق موضوعها، وهو يتحقق بالانتهاء من العمل حتى يصدق عليه أنه قد انتهى ومضى.

وأما بالنسبة لقاعدة التجاوز، فإنه يشترط في جريانها الدخول في الغير، ضرورة أنه لو لم يتحقق الدخول في الغير لا يحكم بتحقق التجاوز حينئذٍ، مضافاً إلى أن الدليل الذي دل عليها قد اعتبر تحقق ذلك، فقد ورد في صحيحة زرارة: إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره، فشكك ليس بشيء.

ما هو المراد من الغير:

الآن وقد عرفنا أن جريان قاعدة التجاوز متوقف على الدخول في الغير، بحيث لو لم يتحقق الدخول فيه، فلن يحكم عندها بجريان القاعدة المذكورة، لكن ما هو المراد من الغير؟…

لا إشكال في أن الدخول في الجزء اللاحق محقق لعنوان التجاوز، سواء أكان ذلك الجزء واجباً أم كان ركناً.

وهل يشمل الكلام في الدخول في جزء الجزء، فمن شك في الفاتحة بعد الدخول في السورة، فهل يعتني بشكه أم لا؟…

لا إشكال في أن عنوان المضي المعتبر في تحقق عنوان التجاوز قد تحقق، وبالتالي تجري القاعدة المذكورة.

وهل تشمل القاعدة الشك في جزء الجزء، ما لو شك في آية من سورة الفاتحة بعدما دخل في آية أخرى، أم أنه لا تشمل ذلك؟…

الصحيح هو شمول القاعدة لمثل ذلك، وبالتالي يحكم بجريان قاعدة التجاوز.

إنما الكلام في الدخول في الأجزاء المستحبة، كمن شك في القراءة بعدما دخل في القنوت، فهناك خلاف بين أعلامنا، فبعضهم كالسيد الخوئي(ره)، لا يرى جريان القاعدة في مثل هكذا مورد، بينما السيد السيستاني(دامت أيام بركاته) يرى جريانها.

وهل تجري القاعدة في موارد الدخول في مقدمات الأجزاء، أم لا، مثلاً: إذا شك في الركوع بعد الهوي إلى السجود، فهل يحكم بجريان القاعدة فلا يعتنى بالشك، أم لا؟…

هناك خلاف بين علمائنا، فقد التـزم السيد الخوئي(ره) بعدم جريانها، لكن الظاهر من السيد السيستاني(أطال الله بقائه) هو البناء على جريانها.

——————————————————————————–

[1] وسائل الشيعة ب 42 من أبواب الوضوء ح 1.