18 أبريل,2024

فقه النذر(2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

أقسام النذر:

ينقسم النذر من حيث تعليقه على أمرٍ ما، وعدم تعليقه إلى قسمين:

الأول: النذر المعلق،  بأن يكون الوفاء به مشروطاً ومعلقاً بحدوث أمر معين، وهو الأصل في النذر. مثل أن يقول: لله علي أن أصوم أسبوعاً كاملاً إذا نجح ولدي في الامتحان، فنلاحظ أن الصيام الذي ألزم الناذر نفسه به علقه على نجاح ولده، وهذا يعني أنه ما لم ينجح ولده في الامتحان، فلا يجب عليه الصيام.

الثاني: نذر التبرع، وهو الذي لا يكون معلقاً أو مشروطاً بشيء، ومثاله أن يقول الناذر: لله علي أن أصوم كل يوم خميس من كل اسبوع قربة لله تعالى. فنجد أن الناذر لم يعلق صيامه كل خميس من كل أسبوع، على شيء ما، بل أطلقها.
ولا إشكال في صحة كلا النذرين وانعقادهما، ولزوم الوفاء بهما.

أقسام النذر المعلق:

هذا وينقسم النذر المعلق إلى قسمين بحسب الشرط الذي علق عليه:

الأول: نذر بر:  ويعبر عنه بنذر المجازات، وهو النذر الذي يكون الهدف منه حث النفس، أو حث الغير، وبعثها  إلى أعمال الخير والبر، وذلك من خلال ما يكون شكراً لله سبحانه وتعالى على ما وفق إليه من أعمال، أو ما أفاض عليه من نعم. فإن في نفس الشكر ما يسبب زيادة انبعاث للنفس إلى الخير.

الثاني: نذر زجر: وهو الذي يكون المقصود منه زجر النفس عن فعل ما لا يحسن تمنيه وصدوره من المكلف، وتكون الغاية منه التشويق للطاعة والتزهيد في المعصية.

نذر الزجر:

ويمكن تقسيم نذر الزجر إلى قسمين بحسب ملاحظة متعلق النذر:
الأول: وهو النذر الذي يكون الغاية منه زجر النفس عن ترك الواجب، أو زجرها عن ترك المستحب، أو زجرها عن ترك كريم الأعمال، مثلاً: يقول الناذر: لله عليّ أن أتصدق بألف ريال إن تركت الصلاة، وغايته من ذلك أن يزجر نفسه عن ترك الصلاة، أو إن تركت الصلاة جماعة، وغايته المداومة والمحافظة على صلاة الجماعة، وهكذا.

الثاني: النذر الذي تكون الغاية منه زجر النفس عن فعل محرم، أو فعل مكروه، أو فعل ما يحتمل مبغوضيته من منافيات المروة.
ونود أن ننبه هنا إلى أن بعض موارد نذر الزجر قد تكون بمثابة نذر شكر على المعصية، وإنما يفرق الأمر من خلال قصد الناذر، فإذا كان قصده الشكر على المعصية أثم، ولم يكن النذر منعقداً، أما لو كان قاصداً الزجر عنها، فإنه ينعقد ويكون مثاباً. مثلاً لو قال:لله علي أن أمتنع عن شرب الماء البارد في الصيف إن شربت الخمر، فهنا يحتمل أمران:

1-أن يكون نذره في مقام زجر النفس وصرفها عن الشرب، ولذلك أوجب على نفسه الامتناع عن شرب الماء البارد في الصيف. فيكون نذر زجر، فينعقد.
2-أن يكون في مقام تنشيط النفس وترغيبها لفعل المعصية، بحيث يكون جعله للمنذور جزاءً لصدوره منه وتهيؤ أسبابه له، فيكون النذر نذر شكر، ولا ريب في عدم كونه منعقداً.
وبالجملة، تمام المدار كما قلنا على القصد، فإنه الذي يميز بين الموردين، فلاحظ.

نذر البر:

هذا وينقسم نذر البر إلى قسمين:

الأول: أن يكون النذر نذر شكر لله سبحانه وتعالى على إيجاد الشرط، سواءً كان الشرط لنفسه، أم كان الشرط لغيره، كما لو علق الصدقة على نجاحه في الامتحان، أو علق الصيام على شفاء ولده، أو علق الالتـزام بصلاة الجماعة على التوفيق لحج بيت الله الحرام، أو لزيارة المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، أو غير ذلك، من دون فرق بين كون المعلق عليه أمراً من أمور الدنيا ومصلحة من مصالحها، أو كان من أمور الدين، كما لا فرق بين كون الشرط مصلحة تحققت، أو كان الشرط عبارة عن مفسدة اندفعت.

الثاني: أن يكون النذر نذر بعث لغيره من أجل فعل الخير، كأن يقول لولده: إذا التـزمت بالصلاة في المسجد فلله عليّ أن أبذل لك نفقة حجك، أو يقول لابنته: إذا اقتديت بالسيدة الزهراء(ع) في كل فعالك، فلله عليّ أن أبذل لك نفقة زيارة الإمام الحسين(ع). ونحو ذلك مما يكون من قبيل الجائزة لفاعل الشرط على قيامه بالأمر.
 
س: يعتبر في المنذور أن يكون أمراً راجحاً، وعليه لو علق الناذر النذر على راجح، ثم عرض عليه ما يجعله مرجوحاً، فهل يبقى النذر على حاله أم أنه ينحل؟
ج: إذا كان النذر معلقاً على أمر راجح، ثم تحول الأمر الراجح إلى أمر مرجوح، مثلاً: لو نذر أن يصوم كل يوم خميس، وكان نذر الصيام عند عقد النذر راجحاً بالنسبة إليه، ثم بعد مدة من الزمن صار الصيام ضررياً عليه، فإنه يتحول الأمر الراجح إلى أمر مرجوح، وكذا أيضاً لو نذر ترك التدخين، ولم يكن تركه موجباً للضرر عليه، لكنه بعد مدة صار ترك التدخين ضررياً عليه، فهنا تحول الأمر الراجح إلى أمر مرجوح، وكذا لو نذر الولد نذراً، ثم صدر نهي الوالد عنه إشفاقاً منه عليه، فإنه يتحول الأمر الراجح إلى أمر مرجوح، وهكذا. فإن النذر في مثل هكذا حالة ينحل، ولا يلزم الوفاء به.
شروط الناذر:
كان الحديث في جميع ما تقدم منصباً على النذر من حيث الصيغة، ومن حيث أقسامه، والآن لابد من صرف الكلام والحديث حول الناذر، فإنه يعتبر فيه توفر جملة من الشروط:
الأول: البلوغ:
وهذا يعني أن الناذر لو كان صبياً غير بالغ، لم ينعقد نذره، وإن كان النذر بالصيغة المطلوبة. لأن الصبي غير مكلف، فلا يكون نذره مؤثراً، كما أنه مرفوع عنه القلم، وفقاً لما جاء في النصوص من أنه رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم.
 
س: لو كان الناذر صبياً مميزاً، وأوقع النذر، فهل يحكم بانعقاده أم لا؟
ج: مجرد كون الناذر مميزاً لا يوجب انعقاد نذره، بل حتى لو أن الولي أذن له في إيجاد النذر لم يكن ذلك موجباً لانعقاد النذر منه.
الثاني: كمال العقل:
فلا ينعقد النذر من المجنون بقسميه، سواء كان جنونه إدوارياً، فلا ينعقد النذر منه حال نوبة جنونه، أم كان جنونه إطباقياً.
حكم السفيه:
وأما السفيه، وهو الذي ليس له حالة باعثة على حفظ ماله والاعتناء بحاله يصرفه في غير موقعه، ويتلفه في غير محله، كما أن المعاملات المالية الصادرة منه لا تكون مشتملة على المكايسة، وعلى التحفظ عن الغبن، فهو لا يـبالي بالانخداع فيها.
فله حالتان تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى من حيث الحكم:
الأولى: أن يكون النذر الصادر منه متعلقاً بأمواله، كما لو قال: لله عليّ لأتصدقن كل ليلة جمعة بمائة ريال، ففي هذه الصورة يحكم بعدم انعقاد نذره، فلا يلزم الوفاء به، لعدم صحة النذر منذ البداية.
الثانية: أن يكون النذر الصادر منه متعلقاً بشيء من أفعاله، وليس مرتبطاً بشيء من أمواله، كما لو قال مثلاً: لله عليّ لأصومن كل يوم اثنين وخميس من كل أسبوع قربة لله تعالى، أو قال: لله عليّ لألتزمن بصلاة الجماعة في كل فريضة من الفرائض الخمس، قربة لله تعالى. فلا إشكال ولا ريب في انعقاد النذر حينئذٍ، ولزوم الوفاء به عليه.
نعم ربما يتسائل البعض: بأن هذا النذر وإن كان مرتبطاً بأفعاله، إلا أنه متى ما حنث بالنذر، ولم يفِ به استلزم ذلك إخراج كفارة الحنث بالنذر، ومن الطبيعي أن دفعها سوف يكون من أمواله، فيعود الكلام في هذه الصورة للصورة الأولى، لأنه يرتبط بأمواله، فكما لا ينعقد النذر في الصورة الأولى، يلزم عدم انعقاده في هذه الصورة أيضاً؟…
قلنا: بأن النذر في هذه الصورة مرتبط بفعل السفيه، وليس مرتبطاً بأمواله، ومجرد احتمال عدم وفائه بالنذر واحتمال حنثه به، ليستلزم الكفارة لا يعني تعلق النذر بأمواله، ولذا الأمر في الحقيقة مرتبط بفعله، واحتمال الحنث لتتعلق الكفارة بأمواله، لا يضر، فتدبر.
والمتحصل مما تقدم أن هاهنا صورتين، يلحق السفيه في الأولى منهما حكماً بالمجنون، فيكون ممنوعاً من التصرف، وبالتالي لا يصح النذر منه، بعكس الصورة الثانية، فإنه يحكم بصحة النذر الصادر منه، فلاحظ وتدبر.
الثالث: القصد:
فيعتبر في صحة النذر أن يكون الناذر عند صدور النذر منه قاصداً للنذر، ومتوجهاً لما يصدر منه من ألفاظ الصيغة، فلا ينعقد النذر من النائم، ولا من الساهي، ولا من الغالط، ولا السكران.

نذر من اشتد به الغضب:

ويمكن تعدية ذلك إلى من اشتد به الغضب إلى حد صار مسلوب الإرادة الجدية والقصد، بحيث لو كان في حالته الاعتيادية ما كان يصدر منه النذر. أو أنه يصدر منه إلا أنه ليس بالصورة التي صدر منه أثناء غضبه. والوجه في اعتبار لزوم القصد واضح، إذ أن النذر متقوم بالقصد، فإذا لم يكن الناذر قاصداً، فذلك يعني عدم تحقق النذر منه. مضافاً إلى أن المشروط عدم عند عدم شرطه، ولا ريب أن النذر مشروط بالقصد، والقصد شرط، فيكون النذر عدماً عند عدم القصد، فتأمل.

الرابع: الاختيار:

فلابد من أن يكون الناذر عند صدور النذر منه غير خاضع لضغط خارجي يفرض عليه إيقاع النذر، فلا يكون هناك من يكرهه على ذلك، ولا يكون من يتحرج منه ليوقع النذر،  وهذا يعني أن النذر لا ينعقد من الإنسان المكره ممن يتوعده على فعل ما يؤذيه ويضره. كما لا ينعقد النذر في مورد التحرج من مخالفة من يهمه استرضاؤه عند إصراره على أن يصدر منه النذر، كالأب، والأم، والزوجة ونحوهم ممن لا مفر له من إجابته والخضوع لرغبته في الظروف العصيبة والحرجة، بحيث لو لم تكن تلك الحالة لما صدرت منه. كل ذلك لما رواه إسماعيل بن جابر الجعفي عن أبي عبد الله(ع) قال: سمعته يقول: وضع عن هذه الأمة ست خصال: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه[1].

الخامس: أن لا يكون ممنوعاً من التصرف في أمواله بسبب الإفلاس:
إذا كان متعلق النذر شيئاً من المال المحجور عليه، نعم لو صدر إذن من أصحاب الحق من الغرماء المطالبين بالمال قبل صدور النذر من المفلس، صح النذر وانعقد.

السادس: إذن الأب والزوج:

مع أنه لا يشترط في انعقاد نذر الولد إذن أبيه، كما أنه لا يشترط في انعقاد نذر الزوجة إذن زوجها، بل يحكم بصحة نذريهما، ويلزمان بهما، إلا أنه إذا نهى الوالد ولده عن النذر إشفاقاً منه عليه، أو نهى الزوج زوجته لمنافاة نذرها حقه الواجب عليها، يحكم ببطلان النذر حينئذٍ. ووجه ذلك واضح، أما بالنسبة للولد، فلأنه مع نهي الوالد لا يبقى النذر مرجوحاً، ضرورة أن نذره يتضمن إيذاءً للأب، وقد تقرر في محله حرمة إيذاء الأبوين. وأما الزوجة فالحال فيها أوضح، لأنه مع منافاة نذرها لحق الزوج الواجب عليها يكون نذرها محرماً، فلا يتصور فيه الرجحان.
 
س: إذا منع الزوج زوجته من النذر، فهل يسوغ لها أن تعقد نذراً، ويجب عليها الوفاء به؟
ج: لا يصح نذر الزوجة إذا نهاها الزوج  ومنعها عنه، ولو نذرت بدون إذنه أمكنه أن يحله، لقول الإمام الصادق(ع) ليس للزوجة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير ولا هبة ولا نذر في مالها، إلا بإذن زوجها إلا في حج أو زكاة أو بر والديها، أو صلة رحمها[2].
 
س: لو نذرت الزوجة نذراً قبل أن ترتبط بهذا الزوج، وكان نذرها منافياً لحق الزوج، فهل يحكم ببطلانه أم لا، مثلاً لو نذرت الزوجة قبل زواجها أن تصوم كل اثنين وخميس من كل أسبوع، أو نذرت أن تصلي صلاة الليل كل ليلة من أيام السنة، وكان في صيامها، منافاة لحق الزوج الواجب، وفي قيامها لصلاة الليل منافاة لحق الزوج الواجب، فهل يبطل النذر، أم لا؟
ج: وقع الخلاف بين علمائنا في نذر الزوجة قبل ارتباطها بالزوجية بالزوج إذا كان منافياً لحق الزوج الواجب عليها، في أنه يعتبر فيه إذنه، فلا يجب عليها الوفاء به لو منعها الزوج عنه، أم أنه لا يعتبر فيه إذنه، فقال جماعة منهم بأنه يعتبر إذنه في نذرها هذا كالنذر الذي يكون صادراً منها حال الزوجية، وهذا يعني أنه إذا منعها من نذرها الصادر قبل الزواج، انحل النذر، وقال جماعة آخرون بأنه ليس له حل نذرها، وبالتالي لا يعتبر إذنه في مثل هكذا نذر.
 
س: لو أذن الزوج لزوجته بالنذر، فنذرت، فهل يجوز له بعد ذلك أن يحل نذرها؟
ج: إذا صدر النذر من الزوجة بإذن من الزوج فيما يعتبر فيه إذنه، انعقد النذر حينئذٍ، وبالتالي لا يمكنه حله، ولا المنع من الوفاء به.
 
س: إذا أوقعت الزوجة نذراً بأن تحج بيت الله الحرام، أو كان نذرها أن تدفع زكاة، أو أن تتصدق، أو أن تبر والديها، أو تصل أحد أرحامها، فهل يتوقف نفوذ هذا النذر ولزوم الوفاء به على إذن الزوج أيضاً؟
ج: في الفروض التي تضمنها السؤال، لا يتوقف انعقاد النذر ولزوم الوفاء به على إذن الزوج، بل لا يعتبر إذنه فيها، وبالتالي لو صدرت من الزوجة كان النذر منعقداً، فيجب عليها الوفاء به.
 
س: هل يقوم الجد من جهة الأب مقام الأب، فيمكن له إبطال نذر الولد، إشفاقاً منه عليه كما هو الحال في الأب؟
ج: لا يقوم الجد للأب مقام الأب، بل الحكم المذكور مختص بالأب فقط، فلا يشمل الجد.
 
س: هل نهي الولد عن الوفاء بالنذر إشفاقاً ينحصر في الأب فقط، فلا يشمل الأم، أم أنه لا فرق بينهما؟
ج: لا فرق في نهي الولد عن النذر إشفاقاً بين الأبوين، فكما يمكن للأب أن ينهى ولده عن النذر إشفاقاً عليه، فكذلك يمكن للأم ذلك أيضاً، ولنفس النكتة الموجبة للأب ذلك.
 
س: هل يعتبر في الناذر أن يكون مسلماً؟
ج: لا يعتبر الإسلام في الناذر، وإنما يعتبر فيه أن يكون مؤمناً بالله سبحانه وتعالى، كأهل الكتاب مثلاً.

 

[1] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب الأيمان ح 3.
[2] وسائل الشيعة ب 15 من أبواب النذر.