28 مارس,2024

علي مع الحق

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال النبي علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار .

يتعرض النبي الأكرم في هذه المقالة إلى بيان ملازمة دائمية بين طرفين هما علي والحق. ومن المعلوم أن الحق الذي يتحدث عنه ليس أي حق ليتصور أن هذه الملازمة أمر عادي، بل إن الحق الذي يتحدث عنه عبارة عن القيمة المطلقة في دين الله عز وجل وتتمحور عليه أهداف حياة الإنسان جميعها إذ هو المنطلق الذي يعتمده كل أفق من آفاقه وكل شأن من شؤونه فهو إذن الركن الأساس في بناء الشخصية التي تنتجب .

إذ لا يخفى على أحد أن الكيان الإسلامي لما كان كياناً حيوي الطبيعة أدواره ومواقعه متكاملة يستحيل أن يستكمل صبغة الحق مع أدنى خلل في شمول هذه الصبغة لحقائقه.

وعلى هذا نستطيع أن نصل إلى أنه يريد أن يقرر من خلال هذه المقالة إنتجاب علي وإصطفائه وإختياره من الله تعالى لخلافته وقيادة الأمة من بعده .

إذ لا يخفى أن قوله: يدور معه حيثما دار. تأكيد لإستقامة الإسلام وشرائط الحق في هذه الشخصية بعدما تحقق الإصطفاء الإلهي لها.

والنبي إنما يؤكد في هذه المقالة وأمثالها تجلي عنصر الحق في هذه الشخصية وأنه قد استوعب جميع شرائطه وخصائصه كل آفاقها وأبعادها ومكوناتها بلا استثناء أو قصور.

شرائط الحق المتصور في المصطفين لتسنم المناصب العليا:

ثم إنه يعتبر في المصطفين شرائط لتسنم المناصب العليا:

الأول: إستقامة الحق في أصفيائه:

إن وجود شخصيات إنسانية تتوفر فيها جميع ملامح تلك الصورة الإسلامية العليا للإنسان لهو إحدى الضرورات التكوينية التي لابد منها لكي تتجلى حكمة التكوين وهذا قبل أن يكون وجود تلك الشخصيات ضرورة إسلامية تتجلى بها حكمة التشريع لأن الشخصية التي تتكامل فيها ملامح الصورة الإسلامية المثلى للإنسان لا تعتبر هي الشخص المسلم الحق أو الإنسان الأمثل فقط بل تعتبر قبل ذلك مظهراً من مظاهر حكمة الله تتجلى فيها في إنشائه للكون وخلقه لمظاهره كافة لأنه إذا لم توجد تلك الشخصية تكون جميع المظاهر قاصرة الدلالة والإدراك لعظمة الحكمة التي أبدعتها ودبرت شأنها.

مضافاً إلى أن ما تطمع له الذات الإنسانية هو انتظام الحياة وقيامها على أساس ثابت من أصل تكوينها وفطرتها من قبل أن يكون هذا هو هدفها الناشيء من الإلتزام بالإسلام والتعبد ببيناته ودلائله.

فمذهب الحق لا يملي على الإنسان ولا يشرع له من الأحكام والتصورات إلا الذي يستقيم مع مقتضيات حكمة الله تعالى في خلقه للإنسان وتهيئته لتسنم دور خاص من بين مخلوقات هذا الكون وتوفير مختلف السبل والوسائل التي يحتاجها طريق تحقيق هذا الدور سواء في تكوينه الذاتي أم في قدرته على التصرف فيما حوله من المخلوقات ومن هنا يتضح لنا رعاية الحق تعالى لشخصية المرتضى صلوات الله عليه في هذه الناحية.

الثاني: استيعاب شخصية الولي جميع حدود وملامح الصورة الإسلامية العليا للإنسان:

إذا اصطفى الله عز وجل شخصية معينة من الناس لحمل مهمات كبرى في رسالاته وتسنم مناصبها العليا في البشرية كالولاية على العباد وإبلاغ دينه القويم والأولوية بالناس عليهم من أنفسهم فلابد من أن يتعهد تعالى بأن تكون شخصية هذا المصطفى مستوعبة جمع حدود وملامح تلك الصورة الإسلامية العليا للإنسان كيما يتمكن من أداء مهمته الموكولة له بشكل يضمن وحدة الحق ووضوحه ومطابقته للواقع الإنساني.

الثالث: أن لا يحصل أي انحراف من تلك الشخصية ولو بنحو جزئي:

إن صدور أي نحراف ولو كان الإنحراف جزيئاً من إحدى الشخصيات المنتخبة من قبل الذات المقدسة يتنافى والحقائق الإسلامية بمعنى أنه لا تتحقق استقامة الحق في الإسلام ذاته وعدم تكامل شرائطه فيه.

لأنه بمجرد أن تصطفى الشخصية فإنها تكون ممثلة للإسلام لأنها تكون حقيقة من حقائقه فيصبح جميع ما يصدر منها من قول أو فعل جزءاً من تلك الحقيقة خصوصاً وأنها الواسطة بين الخلق والرب.

والإعتذار بأن ما صدر منهم من خطأ أمر جزئي أو متعلق بأمر عادي في الأمور الحياتية لا يقبل لأنه يتنافى وكون الحق أمراً لا يتجزأ لأن إستقامة الحق تشمل كل ما يصدر منهم من عمل وكل حال يكون عليها.

كما أن هذا التقسيم لكون الشيء جزئياً أو كلياً لا يتصور في المبادئ الأولى لمكونات الشخصية لأن الإستقامة في تلك المراحل الأولى واحدة كما أن الإنحراف فيها كذلك بدون فرق بين أي مورد من موارده.

فالملاحظ في هذه المرحلة هو وحدة الشخصية الإنسانية ومكوناتها وحدة ذات صيغة حيوية متكاملة لايمكن فيها التبعيض والتجزئة. كما أن تجريدها عن بعض أبعادها من المستحيلات فلا يمكن التفكيك فيما بينها في أي موقف أو حالة يكون عليها الإنسان لتداخل مشاربها وتشابك جذورها فكل موقف يصدر من الإنسان هو صادر عن شخصيته المتكاملة لأنه تتراءى فيه جميع تلك المكونات والأبعاد دون استثناء.

فأي مخالفة تحصل منه أو أي خلل في أحد مواقفه يعتبر أثراً بارزاً لوجود خلل في المكونات نفسها وضعف التكامل فيما بينها مما يكشف عن امتداد هذه الخلل في مختلف جوانب الشخصية فينعكس بالتالي على سلوكياتها الأولية كافة وكيفية تعاملها مع الحياة.

وقد يؤيد ما ذكرنا تصورات علم النفس القريبة من الواقع في هذه الناحية لأنه قد توصل إلى معرفة هذه الوحدة في الشخصية وحيوية العلاقة فيما بينها وعمق الروابط. ولم يقتصر على خصوص عالم الشعور بل تعدى إلى وراء هذا العالم مشيراً إلى أن الشخصية تتأثر بأمور تكمن وراء الشعور تملي عليها مقتضياتها ذات الأثر الفعال في تكوين بنيتها وفي سلوكها حتى لو لم يدرك الوعي من أسبابها ما يمكنه الإستفادة من إيجابياتها أو تلافي سلبياتها.

وتوصل علم النفس أيضاً إلى معرفة تأثير بعض العوامل الطبيعية في شخصية الإنسان وسلوكه كالقوى الفسيولوجية والغدد التي تجري في جسمه وبعض الظواهر التكوينية التي يعيش بها كالبيئة والجو والوسط الإجتماعي.

فلا ينفك سلوك الإنسان في أي جانب من الجوانب في حياته عن هذه العوامل بل لكل منها دوره ولكل منها أثره البارز أو الخفي فيه.

ومن خلال هذا نفهم الحدود اللازمة لشرائط الحق التي تتصور في المصطفين من قبل الله والمنتجبين لتسنم وتولي مناصب عليا في دينه القويم كالولاية العامة على الخلق وإبلاغ الرسالة لهم وغير ذلك.

فنخلص إلى أمرين:

1 ـ أن تكون هذه الشرائط السابقة مستوعبة جميع حدود شخصية المنتجب بكل دقائقها وجزئياتها لأنه لا تبعيض في التكامل الشخصي للإنسان كما لا استثناء فيه.

2 ـ لابد أن تتعمق هذه الشرائط في التكوين الذاتي لتلك الشخصية فتنطلق لتتراءى هذه الشرائط في سلوكياتها.

سؤال مهم:

بعد معرفة ما تقدم نواجه سؤالاً مفاده: كيف يمكن لشخص أن يستقل بمفرده في الوصول إلى هذا المدى من دون رعاية مباشرة من الحق تعالى وبدون تعهد خاص يضمن له هذا البلوغ من دون أي وهن أو غموض؟… خصوصاً وأن الإستيعاب لشرائط الحق في الشخصية المنتجبة ليست مأطرة بإطارها الشخصي بحيث يقتصر عليه بل هو أوسع بحيث تستوعب مسؤوليته في دين الله ودوره في الحياة الإنسانية بل الوجود التكويني.

وفي مقام الجواب نقول: إن هذه الإستقلال محال ولتوضيحه نذكر مقدمة:

بعدا الولاية:

إن الولاية الإسلامية كيان يتكون من بعدين مختلفين يتميز كل منهما عن الآخر بعدة خصائص ومميزات. كما أن كلاً منهما له مستلزماته وضروراته.

البعد الأول: الإنتساب لله عزوجل:

لما كانت الولاية حقيقة من حقائق الإسلام فلابد أن ترد ضمن دعائمه التي يعتمد عليها وجوده في الحياة الإنسانية فهي أحد مجالي اللطف الإلهي بالإنسان كما أنها مظهر من مظاهر رحمته بالعباد ورعايته لهم بكفاية حاجاتهم من مناهج الحق وسبل الرشد والهدى.

وهذا يقتضي الإلتزام بنفي القصور فيها عن أي من متطلبات الحق لأنه القاعدة التي أقيم الكيان الإسلامي عليها ويمتنع أن تتفاوت مع شيء من مقتضياته لا في مفهومها ولا في حدودها ولا في شؤونها وأحكامها ولا في أدوارها الكبرى في دين الله أو في حياة الإنسان.

فإن أي قصور أو تفاوت يتصور فيها سينعكس على الكمال في ذات الله المنـزل لهذا الدين والضامن لرعايته وهذا محال لأنه منـزه تعالى عن كل نقص وتعالت حكمته عن أي تفاوت.

وهذه القضية كما تمضي في سعة الرسالة المحمدية وشمولها للبشرية في كل زمان ومكان مع إختلاف الأفكار والحضارات والمستويات أخذت في ولاية أمير المؤمنين بسعتها في كل شأن من شوؤن العامة والخاصة.

البعد الثاني: البعد الإنساني:

تعتبر الولاية مع كونها حقيقة إسلامية- منصباً إنسانياً فلا بد من اسنادها في وجودها ومهماتها إلى شخص من الناس حيث يستحيل تحققها بدونه فتكمن هنا المفارقة. إذ من المعلوم قصور الإنسان عن أحتواء جميع معالم الحق وهذا لا يحتاج برهنة في إثباته.

عوامل القصور الإنساني:-

حيث توجد عدة عوامل مؤثرة في ذلك نشير هنا إلى بعض منها:

1 ـ طبيعة العلاقة التي تربط بين الإنسان وذاته وما بينه وبين غيره من الموجودات سواء في ضمن البيئة الإنسانية أم في ضمن البيئة الأوسع أم في ضمن الوسط التكويني الذي يعيش فيه. فإن هذه العلاقة وإن اتسمت بالإستقامة والتكامل في بعض جوانبها لكنها لن تخلو عن الصراع في بعض جوانبها بل لعله الحاكم فيها. وهذا الفرق وإن كان واضحاً في موارد لكنه يخفى في موارد اخرى بحيث لا يتضح للمرء ذاته بل قد يتداخل الإتجاهان حتى في الموقف الواحد بشكل غير متصور.

من هنا لابد أن توجد شرائط الحق في شخصية أحد من الناس وأن يكون ممتلكاً قوة ذاتية تمكنه من خلال عقله وبصيرته أن يهيمن على جميع علاقاته الذاتية مع نفسه ومع غيره وعلى جميع أبعاد مكامن الصراع التي تحصل في مواقفه وتفاعله مع القضايا والأحداث للوصول إلى الصواب الكامل بلا وهن أو قصور. بحيث لا يمضي إلا مع الحق. وهذا محال بدون مدد رباني ورعاية مباشرة لضمان تلك الشرائط لإستحالة الدقة والهيمنة التامة على المواقف كلها لأحد من الناس دون مدد ورعاية إلهية.

2 ـ طبيعة نشأة الإنسان ومدى تأثره بالعوامل الوراثية والبيئية:

من المعلوم أن هذه العوامل لها أكبر الأثر في تحديد معالم شخصية الفرد وبناء كيانه كما أشارت لذلك الدراسات التربوية النفسية فلا ريب في تأثر الفرد بهذه العوامل سلبية كانت أم إيجابية بل يذكر بعضهم أن هذا التأثر إن لم يبلغ مرحلة الجبر إلا أنه كافٍ لتحديد التوجيهات الذاتية للفرد وتعيين إتجاهات شخصيته.

ومن غير الممكن أن تتوفر لفرد من الناس -في زمان مراحل عمره- الدرجة العليا من الكمال في جميع العوامل الوراثية والبيئة معاً من دن تدخل من العناية الإلهية وبدون مدد منها فتمده بكل القيم الذاتية التي يكون بحاجة إليها في طريق الإستقامة المطلقة مع الحق فيلتزم إنطلاقة ثابتة لا يشذ عنها ولا يحيد في أي حال من أحواله وفي كل صعيد من أصعدة الحياة كما يتطلب الأمر في الشخص المرتضى لقيام كلمة الله عز وجل في هذه الأرض.

وبعبارة أخرى إن النقص الناجم من هذه العوامل يمكن تجنبه متى كانت هناك عناية إلهية ومدد رباني للشخص فيرتفع عن الموهنات ويسموا عما يتأتى لها من نتائج غير مرتضاة للحق ودينه.

3 ـ كيفية النمو الإنساني ومرحلية تكامل غرائز الفرد الجسدية والعقلية والنفسية من الولادة إلى حين نضجه الكامل في المراحل العليا:

بمجرد ولادة الإنسان تولد معه تلك الغرائز لكن كل واحدة منها تمر بمراحل من النمو التدريجي المتصاعد والكمال فتمتاز كل مرحلة بمزاياها البارزة وطابعها المختصة وتأثيرها على شخصية الفرد وتوجهاتها.

والظاهر أن تحقق الإستفادة التامة في مكونات الشخصية التي تستوجب شرائط الحق في شخصية المصطفى وإن كان ممكناً في المراحل المتأخرة من النضج عند بعض الناس إلا أنها لا يمكن تحققها في المراحل السابقة خصوصاً مراحل الحياة الأولى لعدم إكتمال قوى العقل والإدراك والوعي. فيستحيل مجانبة القصور الموجود في تلك الأدوار فلا يأمن عدم تأثيرها خصوصاً في عالم اللاشعور.

ولذا لابد من الرعاية الإلهية واللطف الشامل لأولئك الأصفياء مع الإشراف المباشر عليهم بحيث يكون هو المتعهد لشخصية القيم على دين الحق والمبلغ لدلائله منذ أدوار وجوده الأولى حتى آخر مرحلة يحقق بها مسؤوليته في هذه الأرض فلا يتأثر بنوازع الهوى أو يقصر لعدم الإكتمال أو يكبو عن القصد.

وأعلم أن هذه الرعاية لا تختص بعلي من بين الأصفياء كما لا اختصاص فيها برسالة المصطفى ولا بمنتجبيها بل هي لجميع الأولياء والأصفياء منذ أول مصطفى ومنتجب إلى آخرهم .

ماذا تعني الرعاية الإلهية لأولئك الأصفياء؟..

إن النتيجة التي وصلنا لها أن الإنسان العادي لا يمكنه بمفرده أن يستقل لتحقيق الشخصية المتمثلة في الحق والسائرة معه والمستقيمة عليه من دون مدد غيبي ودون رعاية إلهية.

وهذا يجعلنا نتسائل في محاولة للتعرف على هذه الرعاية وماذا تعني؟ وماهي مواردها في شخصياتهم الطاهرة وماهي آفاقها التي تجري فيها منهم وإلى أي مدى تمضي معهم؟…

والحق كل الحق قصور الإدراك البشري عن إدارك هذه الرعاية مع أنه يلمس هذه الرعاية بل يعيشها في كل شيء من شوؤن نفسه وكل حالة من حالاته. مع الإلتفات أن تلك الرعاية الخاصة فيوض ربانية أختص بها نخبة من الناس حيث اقتضتها فيهم حكمة الإصطفاء فيستحيل على شخص من الناس بلوغ كنهها أو الإحاطة بحدودها.

من هنا كان لزاماً علينا أن نحاول الإجابة على هذه التساؤل من خلال النصوص التي وردت في بيان شرائط النبوة والإمامة ومن خلالها تتجلى مظاهر الرعاية الإلهية لتلك الشخصيات المنتجبة:

الأول: إنشاء الشخصية المنتجبة:

بما تضمن من مكونات وأصول وطاقات على أكمل صورة تعنيها التسوية الربانية للإنسان الحق.

فجميع النقائض المتصورة من الجانبين الوراثي أو البيئي تنتفي متى تدخلت الرعاية الإلهية وهذا ما أشار له عز وجل في قصة نبي الله يحيى قال تعالى:- (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً)[1].

وفي قصة نبي الله عيسى حيث قال عز وجل:- (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً.قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً)[2].

فلا غرابة في هذا التجاوز لوجود الرعاية الإلهية الخاصة من الذي بيده مقادير الأمور وتدبيرها وكونها رعاية قد اقتضتها الحكمة الربانية التي شاءت أن تصطفي تلك الذوات لتظهر فيها من سمو دين الله ما يقيم بها حجة الله على العباد.

وأسمى الملامح التي يقدمها التصور الإسلامي وتتطلبها فكرته العامة عن كماله الذي يحقق حكمة الله فيه غاياتها بلا نقص أو خلل يقصر عن استيعاب مستلزمات الحق وشرائطه في الإنسان المرتضى هو أمير المؤمنين إذ هو الشخصية المثالية العظمى الجامعة لكل ذلك بعد النبي الأكرم.

الثاني:البناء الكمالي لتلك الشخصيات:

وهذا ما تقتضيه حكمة الله تعالى في الإنسان لتتحد في هذه الذوات حكمة الخلق مع حكمة التشريع ويكون وجودها مظهراً من مظاهر عظمة الله تعالى ومظهراً لحكمته ولذا قال في حق أمير المؤمنين :يدور معه حيثما دار.

الثالث:الهيمنة المطلقة للعقل على جميع قوى وأركان شخصية المنتخب:

فلا يمكن لأي شيء أن يزيغ بالعقل عن تبصره كما لا عقد نفسية تكون حاجبة فيوجد الخطأ أو الزلل وإنما هو هدى كامل يستوعب كل الجوانب والآفاق لتلك الشخصية.قال تعالى في حق خليل الرحمن )اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم([3]. وتحدث عز وجل عن حبيبه محمدفقال تعالى)إنك لعلى هدى مستقيم ([4].وفي دعاء النبي لعلي :-اللهم اهد قلبه وثبت لسانه.

الرابع:الوقاية التامة لها من التأثير:

فيحصل تحصين لتلك النفوس الطاهرة عن التأثر في رؤيتها للأمور أو عند تعاملها مع القضايا بشيء يمنع من الإستقامة مع الهدى الإلهي كما يرتفع بها عن أن تستكين لدواعي الهوى أو تحيد مع معضلات الأماني فيكون كل شيء فيها لله وحده وإمامته وهداه.قال تعالى في قصة نبيه يوسف )كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ([5].وقال تعالى في حق أهل بيت العصمة والطهارة ) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً([6].

ومن المعلوم أن علياً داخل في جميع هذه الخطوط التي توضح الرعاية الربانية ليكون محاطاً بالمدد الرباني وإلا كان من المستحيل عليه أن يحقق شيئاً من مهماته الكبرى لولا ذلك.

الوسائل التي يحتاجها الولي:

ثم إنه بعد الكمال الذاتي المعطى من قبل الله سبحانه وتعالى لأوليائه يحتاج الولي أيضاً إلى إمتلاك وسائل وقابليات وإمكانات مختلفة تعينه على الوفاء بوظيفته وأداء مهمته ودوره لا بلحاظ عصره فقط بل بلحاظ جميع العصور والأزمنة.

وكأن هذه الأشياء يحتاجها في مقام إثبات الحجة على العباد ولما كنّا نعيش هذه الأيام شهر أمير المؤمنين وهو شهر رجب الأصب وذكرى ولادته المباركة فلا بأس بالإشارة إلى بعض الوسائل التي أعطيت له روحي له الفداء:

منها: العلم بالأمور الغيبية:

لست هنا بصدد الحديث عن علم علي إذا أن ذاك بحث مستقل ينبغي التعرض له وبيان ما هو جهة الإرتباط بينه وبين الحق وما هي النكتة في كثرة تأكيده على علمه وكثرة ما ورد عن النبي في ذلك ومفاخرة أبنائه بذلك..

وإنما أود هنا بيان مدى الإرتباط بين الجانب الغيـبي في علم علي u وبين الإصطفاء الإلهي لتحقيق أهدافه.

إذ من الواضح أن علياً بحاجة لعلم الغيب حتى يقوم بمسؤولياته الكبرى فمن الضروري أن يمده الله تعالى به ليفي بجميع متطلباته وتحقيق شرائط الحق فيها. والعلم بالغيب أحد تلك المتطلبات المفروضة بل هو أهمها لأن دين الإسلام صلة رابطة بين الغيب والشهادة فلا بد أن يرفد المنتجب للقيام بدور خاص في هذا الدين برصيد يمكنه من أداء دوره ومهمته.

ويمكن تصنيف النصوص الواردة في علم علي بالغيب إلى مجموعات:

الأولى: ما هو عن النبي عن تعداده صفات علي إذ عد منها علمه بالمغيبات وجعل ما عنده من علم كما عند الأنبياء وأن مصدرها عند الجميع هو الله تعالى. كما في قوله : علي عيبة علمي. وقوله: علي وارث علمي. وقوله: علي باب علمي.

الثانية: ما صدر عن علي نفسه بإبرازه هذه الصفة ليلفت بصائر البشرية إلى ماله من موقع خاص في دين الله عز وجل وإعداده من بعد الرسول لقيادة الأمة. بقوله أنا الذي عندي علم الكتاب وما كان وما يكون[7].وقوله: أنا الذي عندي مفاتيح الغيب لا يعلمها بعد محمد غيري[8].

وقوله: سلوني عن أسرار الغيوب فإني وارث علوم الأنبياء والمرسلين[9].

الثالثة: الإخبارات التي صدرت منه عن حوادث لم تقع حتى زمانه ثم صدقه الواقع فيما أخبر به.

كإخباره بقتل ابن ملجم لعنه الله له وإخباره بشهادة ولده الحسين وإخباره بملك معاوية بعده وإخباره بقتاله الفرق الثلاث وإخباره بمجئ ألف فارس لبيعته وهو بذي قار.

الرابعة: ما ورد عمن عاصره حيث يشهدون فيها بإخباره عن المغيبات ثم وقعت.وهذه النصوص طائفة كثيرة، كما في إخباره رشيد الهجري بشهادته وغير ذلك من القضايا.

والحاصل إن هذه الأمور الصادرة عنه وعلمه بالمغيبات لم يكن لولا وجود رعاية ربانية به.

ومنها: الكمال في قواه الجسمية والنفسية والعقلية والقدرة الذاتية على التحمل ومعالجة الأمور لتحقيق المسؤولية الإلهية:

بحيث يمكنه أن يحقق جميع ما يريده في مسؤوليته الإلهية حتى لو تجاوزت هذه القوى الحدود المتعارفة عند الإنسان العادي ولتوضيح ذلك نشير لبعض الشواهد على ما ذكرنا:

1-القوة الجسمية:

يكفينا في هذا المضمار قراءة الغزوات التي خاضها النبي وكان علي إلى جانبه لنتعرف مدى القوى الجسمية الموجودة عنده من خلال تلك الشجاعة العجيبة كما أن قلع باب خبير شاهد حي في التأريخ يجسد هذه المقالة. وقد ورد عنه أنه قال: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية وإنما بقوة ربانية[10].

2 ـ القوة النفسية:

ويكفينا هنا شاهداً على المدعى صبره صلوات الله وسلامه عليه على الأذى وما كان يلقاه وخصوصاً‌ ذلك الصبر على ظلامة السيدة الزهراء(ع) يقول العلامة الجشي :

يا ابن عم النبي صبرك انسى صبر أيوب في قديم العصور

ضاق ذرعاً بأمر رحمة لمـا جزت الشعر شاكياً للخبير

وأراك اصطبرت والقوم آذوا فاطماً في عشيها والبكور

3ـ القوة العقلية:

وهنا تطالعنا مجموعة من الشواهد الكثيرة التي تنم عن قوة عقلية خارقة. إذ ينقل عنه كثيراً أنه كان يجيب عن المسائل الرياضية المعقدة بسرعة وهو على ظهر فرسه. ولقد أجاد الدكتور احمد أمين في كتابه القيم التكامل في الإسلام عندما استعرض الناحية الرياضية عند أمير المؤمنين وذكر شواهد في بيانه لذلك[11].

وهنا لا بأس أن نشير بنحو من الإيجاز في هذه الناحية لنقطة مهمة في هذه الجهة ألا وهي قدرته العقلية في القضاء فنقول:

تنقسم قضاياه u إلى قسمين:

الأول: القضايا القضائية.

الثاني: القضايا غير القضائية.

وينقسم كل منهما إلى قسمين:

1 ـ ما هو مطابق للقاعدة الشرعية.

2 ـ ما يكون من الأمور النادرة في بابه. وليس معنى ذلك إلغاء القاعدة الشرعية فيه أو عصيانها وإنما يراد منه التوصل بعمل معين إلى استنتاج النتيجة بدون حاجة للقاعدة الشرعية أو يكون المورد خارجاً عن حدود الشريعة.

وهذا ما يصطلح عليه اليوم في العلم الحديث بعلم الكشف عن الجريمة حيث يجعل من النقاط الأساسية مثلاً دراسة الحالة النفسية للمتهم فيفاجئ بشيء معين يجعله يعترف بالجرم وهذا ما استخدمه أبو الحسن في هذا القسم من القضايا وتوجد عليه مجموعة من الشواهد كقضية المرأتين حينما اختصما في طفل وقضية العبد وسيده حينما أدعى كل منهما ملكية الآخر.

وتوجد قضايا أخرى نادرة تشتمل أحكاماً قضائية أعمل فيها ملاحظة الشواهد الخارجية كقضية المرأة التي ادعت أن أنصارياً فجر بها وقد دفقت بياض بيضة على ثوبها ومثلها قضية الغلام الذي ادعى على امرأة أنها أمه وهي تنكره فزوجه إياها فاعترفت بذلك والقضايا الواردة في هذا المقام كثيرة أكثر من أن تحصى فمن أراد الاستزادة فعليه بمراجعات قضاء أمير المؤمنين للشيخ التستري وأما القسم الأول وهو القضايا القضائية المطابقة للقاعدة أو غير القضائية المطابقة لا أراني بحاجة للحديث عنها لوضوحها ولأن محلها هو الفقه فلتطلب من هناك.

نعم أشير هنا إلى أن هذه الأمور التي تطابق القواعد الشرعية الصادرة منه تعتبر مصدراً من مصادر التشريع لأن السنة كما هو مقرر في محله تشمل أهل البيت كما تشمل النبي.

نعم هذا لا يجري في النوادر التي صدرت منه كما سبق ذكر بعض الأمثلة لكونها من مختصاته .

ومنها: قدرته على التصرف الذي يريده في الأشياء حتى لو استلزم ذلك خرق النواميس الطبيعية:

وهذا هو المعبر عنه بالولاية التكوينية ولسنا هنا بصدد الحديث عنها وذكر الأدلة الدالة عليها فإن لذلك محله الذي يطلب منه.بل إن غرضنا ينصب في ذكر شيء من الشواهد الموجودة في تلك السيرة المباركة لهذه الشخصية المنتجبة فمن تلك الشواهد:

1ـ رد الشمس له مرتين وهذا أمر معروف تعرضت له كتب الفريقين بحيث أرى نفسي في غنى عن ذكر التفاصيل فيها وما يقال من الإشكال والتأمل في مثل هذه الكرامة مدفوع بأدنى تأمل ولتحقيقه مجال آخر.

2 ـ قصة الغراب مع خفه فقد ذكر شيخنا المجلسي عن أبي الرعل المرادي أنه قدم أمير المؤمنين فتطهر للصلاة فنـزع خفه فانسابت فيه أفعى فلما دعا ليلبسه انقض غراب فحلق به ثم ألقاه فخرجت الأفعى منه[12].

3 ـ قصة جويرية بن مسهر عندما عزم على الخروج فقال له : أما أنه سيعرض لك في طريقك أسد. قال: فما الحيلة؟… فقال: تقرأه السلام وتخبره أني أعطيتك منه الأمان، فبينما هو يسير إذ أقبل نحوه أسد فقال: يا أبا حارث إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام وأنه قد أمنني منك، قال فولى وهمهم خمساً، فلما رجع حكى ذلك لأمير المؤمنين فقال: فإنه قال لك فأقرأ وصي محمد مني السلام وعقد بيده خمساً[13].إلى غير ذلك من الشواهد الكثيرة التي يراها المتبع في الكتب المعدة لذلك.

ومنها: ضمان الإستجابة الإلهية لدعائه في المهمات:

قد ثبت بطرق كثيرة معتبرة استجابة دعائه في بسر بن أرطأة بإختلاط عقله. وكذا استجابة دعائه على جاسوس معاوية فعمي وكذا في دعائه على طلحة والزبير بأن يقتلا بأذل حالة وقد استجيب دعاؤه. وكذا دعاؤه على منكري بيعة الغدير فأصيبوا بالبرص أو العمى. إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في الكتب الموضوعة لذلك.

هذا هو أمير المؤمنين الذي مع الحق والحق معه لا ينفكان ولا يبتعدان عن بعضهما البعض بل هما متلازمان معاً دائماً وأبداً.

اللهم ثبتنا على ولايته والبراءة من أعدائه آمين رب العالمين.

—————————————————–

[1] سورة مريم الآية 12.

[2] سورة مريم الآية 29.

[3] سورة النحل الآية 121.

[4] سورة الحج الآية 67.

[5] سورة يوسف الآية 24.

[6] سورة الأحزاب الآية 33.

[7] إحقاق الحق ج 4 ص 608.

[8] المصدر السابق ج 7.

[9] المصدر السابق ص 62.

[10] التفسير الكبير ج 21 ص 91.

[11] التكامل في الإسلام ج 4 ص 114.

[12] بحار الأنوار ج 41 ص 243.

[13] المصدر السابق ص 245.