29 مارس,2024

علم الإمام بالغيب (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

علم الإمام بالغيب (2)

 

المانع عن علم المعصوم بالغيب:

وفي مقابل القائلين بثبوت علم الغيب للمعصوم، تمسك النافون لذلك بدليلين، القرآن الكريم والسنة المباركة، فمن القرآن الكريم، استندوا لجملة من الآيات الحاصرة لعلم الغيب في الباري سبحانه وتعالى دون من سواه، ومن السنة، فللروايات التي تضمنت نفي الإمام(ع) لعلم الغيب عن نفسه.

القرآن الكريم:

أما الآيات الشريفة التي وردت في القرآن الكريم، فيمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما دل على الحصر المذكور بالمنطوق، مثل قوله تعالى:- (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيّان يبعثون)[1]، ودلالتها على المدعى واضحة، فإن المستفاد منها عدم وجود من يعلم الغيب في السماوات والأرض، سوى الله سبحانه وتعالى، وهذا عنوان عام، يدخل تحته جميع المخلوقات، الملائكة، والأنبياء والأولياء.

ومنها: قوله تعالى:- (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)[2]، وهي أوضح دلالة في المدعى لمكان الحصر الموجود فيها,

ومنها: قوله تعالى:- (فقل إنما الغيب لله)[3]، ووجود أداة الحصر(إنما) يمنع من ثبوت علم الغيب لأي أحد إلا الله سبحانه وتعالى.

الثاني: ما دل على حصر علم الغيب في الباري سبحانه وتعالى بالمفهوم، وهي عدة آيات:

منها: قوله تعالى:- (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم)[4]، ودلالتها على المدعى من خلال حصرها علم الغيب والشهادة فيه سبحانه وتعالى، إذ لو كان غيره يعلم ذلك لم يصح حصر الوصف فيه.

ومنها: قوله تعالى:- (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)[5]. ودلالتها على المطلوب مثل دلالة سابقتها، بملاحظة حصر الوصف فيه عز وجل.

ومنها: قوله تعالى:- (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين)[6]، حيث دلت على حصر علم الغيب فيه سبحانه من خلال أداة الحصر إنما.

الثالث: ما تضمن نفي علم الغيب عن أشخاص بأنفسهم، كالآيات التي اشتملت على نفي علم الغيب عن النبي محمد(ص):

منها: قوله تعالى:- (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون)[7]، وكذا قوله تعالى:- (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع إلا ما يوحى إليّ)[8]، ودلالة هذه القسم من الآيات صريحة في نفي الغيب عن النبي(ص)، ومن باب أولى نفي ذلك عن غيره كالأئمة الأطهار(ع)، وظاهرها حصر العلم به في خصوص الله سبحانه وتعالى.

السنة الشريفة:

وأما النصوص التي تتضمن نفي علم الغيب عن المعصوم(ع):

منها: ما رواه سدير الصيرفي، قال: كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداود بن كثير في مجلس أبي عبد الله(ع) إذ خرج إلينا وهو مغضب فلما أخذ مجلسه، قال: يا عجباً لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني، فما علمت في أي بيوت الدار هي؟

قال: سدير: فلما أن قام من مجلسه وصار في منزله، دخلت أنا وأبو بصير وميسر، وقلنا له: جعلنا فداك، سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ونحن نعلم أنك تعلم علماً كثيراً، ولا ننسبك إلى علم الغيب.

قال، فقال: يا سدير، ألم تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قال: فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل:- (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)، قال: قلت: جعلت فداك، قد قرأته.

قال: فهل عرفت الرجل؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال: قلت: أخبرني به.

قال: قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر، فما يكون ذلك من علم الكتاب؟ قال: قلت: جعلت فداك ما أقل هذا.

فقال: يا سدير، ما أكثر هذا أن ينسبه الله-عز وجل- إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير، فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله-عز وجل-أيضاً:- (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)، قال: قلت: قد قرأته جعلت فداك. قال: فمن عنده علم الكتاب كله أفهم، أم من عنده علم الكتاب بعضه؟ قلت: لا، بل من عنده علم الكتاب كله، قال: فأومأ بيده إلى صدره، وقال: علم الكتاب والله كله عندنا، علم الكتاب والله كله عندنا[9]. والاستدلال به على ما جاء في صدره، وهو يشير لأمرين:

الأول: نفيه(ع) أنه يعلم الغيب.

الثاني: ذكره مصداقاً يشير إلى عدم علمه بالغيب، من خلال ذكره لقضية هروب جاريته منه واختبائها في موضع لم يطلع عليه.

ومنها: ما رواه عمار الساباطي، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الإمام: يعلم الغيب؟ فقال: لا، ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء، أعلمه الله ذلك[10].

ومنها: رواية أبي المغيرة قال: كنت أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن عند أبي الحسن(ع)، فقال له يحيى: جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب، فقال: سبحانه الله ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقت شعرة فيه ولا في جسدي إلا قامت، ثم قال: لا والله ما هي إلا وراثة عن رسول الله(ص)[11].

ومنها: رواية عنبسة بن مصعب، قال: قال لي أبو عبد الله(ع): أي شيء سمعت من أبي الخطاب؟ قال: سمعته يقول: إنك وضعت يدك على صدره وقلت له: عه ولا تنس! وأنك تعلم الغيب، وأنك قلت له: عيبة علمنا وموضع سرنا أمين على أحيائنا وأمواتنا. قال: لا والله ما مس شيء من جسدي جسده إلا يده، وأما قوله: إني قلت أعلم الغيب، فوالله الذي لا إله إلا هو ما أعلم فلا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له. قال: وقدامه جويرية سوداء تدرج قال: لقد كان مني إلى أم هذه أو إلى هذه كخطة القلم، فأتتني هذه فلو كنت أعلم الغيب ما كانت تأتيني، ولقد قاسمت عبد الله بن الحسن حائطاً بيني وبينه فأصابه السهل والشرب، وأصابني الجبل، وأما قوله: إني قلت: هو عيبة علمنا وموضع سرنا أمين على أحيائنا وأمواتنا، فلا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له شيئاً من هذا قط[12]. وهو واضح الدلالة في عدم علم المعصوم(ع) بالغيب، وقد استشهد لإثبات ذلك، بذكر بعض الأمثلة والنماذج الخارجية التي وقعت له(ع)، وأنه لو كان يعلم الغيب لما كانت تحصل بهذه الكيفية.

معالجة الآيات الشريفة:

وللمناقشة في ما تقدم دليلاً على منع ثبوت علم الغيب للمعصوم(ع)، مجال، فالآيات المباركة لا تصلح لذلك، سواء من ناحية المقتضي، أم من ناحية المانع. ولتوضيح ذلك يقال:

أما بالنسبة للمقتضي، فإن كل واحدة من الآيات المباركة ليست دالة على المطلب، ويتضح ذلك بالوقوف على كل آية آية ذكرت في هذا المجال، ولنشر لبعضها ويمكن للقارئ العزيز المتابعة للبقية:

منها: قوله تعالى:- (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون)[13]، وتمامية دلالة الآية الشريفة تعتمد على تحديد المقصود بالغيب الوارد ذكره في الآية، ولكي تكون تامة على المدعى لابد وأن يكون المقصود منه مطلق الغيب، وليس خصوص شيء معين، كما لا يخفى.

مع أن الموجود في بعض النصوص خلاف ذلك، فقد ورد في نهج البلاغة تحديده بخصوص قيام الساعة، ففي كلام لأمير المؤمنين(ع) يخبر عن الملاحم بالبصرة: يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة، وما عدّده الله سبحانه بقوله:- (إن الله عنده علم الساعة وينـزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت)[14]. ويساعد على هذا المعنى ذيل الآية الشريفة المشير لوقت البعث، بقوله عز من قائل:- (وما يشعرون أيان يبعثون).

ومثل ذلك ما ورد عن أبي أسامة، عن أبي عبد الله الصادق(ع)، أنه قال: قال لي أبي: ألا أخبرك بخمسة لم يطلع الله عليها أحداً من خلقه؟ قلت: بلى. قال(ع): إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير[15].

ومنها: قوله تعالى:- (ولله غيب السماوات والأرض)، وكذا قوله سبحانه:- (وله غيب السماوات والأرض)، وقوله عز من قائل:- (إنما الغيب لله)، فإنه لكي يكون الاستدلال بها تاماً، لابد وأن يكون لها عقدان من الظهور:

الأول: حصر علم الغيب فيه سبحانه وتعالى دون من سواه.

الثاني: نفيها للغيب عن غيره.

ولا إشكال في توفر الأمر الأول منهما، كما أن الثاني يمكن إحرازه بالمفهوم، كما سمعت، إلا أن المنفي في الأمر الثاني هل هو مطلق علم الآخر بالغيب، ولو كان بتعليم منه سبحانه وتعالى، أم أن المنفي فيها هو علم الآخر بالغيب على نحو الاستقلال والانفراد عنه سبحانه، فلو كان المنفي فيها هو مطلق علم الغيب عن الآخر ولو كان بتعليم منه سبحانه، كان جعلها دليلاً على خلاف ما يعتقده الشيعة الإمامية في محله، لأن الشيعة الإمامية يعتقدون أن المعصوم(ع) يعلم الغيب بتعليم من الله تعالى، وليس على نحو الاستقلال، والمنفي المطلق شامل لمورد التعليم، أما لو كان المنفي فيها هو خصوص العلم الاستقلالي والانفرادي، فلن تكون منافية لما يعتقده أهل الطائفة المحقة، أعلى الله كلمتهم وأنار برهانهم، لأنهم لا يقولون بعلم المعصوم(ع) على نحو الاستقلال والانفراد، وعليه لن تكون الآية الشريفة دالة على المدعى.

وبالجملة، إن المقتضي للبناء على دلالتها يعتمد عل المحتمل الأول، واستفادته منها بعيد غايته، وليست الآية الشريفة بصدد النفي المطلق للغيب عن كل أحد ولو بتعليم منه سبحانه وتعالى. ويساعد على ما ذكرنا، قوله تعالى:- (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول)[16].

ومنها: قوله تعالى:- (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)، والكلام في دلالتها والجواب عنه هو نفس ما تقدم في الحديث عن الآيات السابقة، إذ أن المقصود منه هو وجود عالم آخر بنحو الاستقلال والانفراد بذلك دونه سبحانه، لا أن المنفي وجود العالم بواسطته، وعن طريق تعليمه له سبحانه، ويساعد على ذلك قوله تعالى:- (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)[17].

ومنها: الآيات التي تضمنت نفي العلم عن أفراد محددين، وقد سمعت جملة منها في ما تقدم، مثل قوله تعالى:- (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)[18]، ودلالة الآية على خلاف ما يريده المستدل أوضح، ويظهر ذلك بملاحظة السياق الذي يعدّ من القرائن العقلائية في مقام المحاورة، فإن الآية السابقة عليها، تتضمن السؤال عن وقت قيام الساعة، وقد كانت الإجابة أن علمه عند الله سبحانه، وهذا ربما ساعد على أن الغيب المنفي علمه(ص) به هو ذلك الذي يختص به تعالى، وهو علم الساعة، فتأمل.

ويساعد على هذا قوله تعالى:- (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك وما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل)[19].

ومن المحتمل جداً أن الموضوع في الآية مختلف تماماً عما يراد البحث عنه وإثباته، إذ ليس المقصود من نفي علم الغيب عنه، إلا التأكيد على عنصر البشرية الذي ركز القرآن الكريم عليه كثيراً في العديد من آياته، والذي كان المشركون يرونه حائلاً دون التصديق بنبوة النبي الأكرم(ص)، فإنهم كانوا يتوهمون أن الله تعالى لا يبعث رسولاً بشراً.

ومثل ذلك في عدم الدلالة على مراد المانع من عقيدة الشيعة الإمامية، في علم المعصوم(ع) بالغيب، قوله تعالى:- (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب)، فقد ذكر الشيخ الطبرسي(ره) في تفسيرها: أن المنفي هو علم الغيب الذي يختص علمه بالله سبحانه وتعالى[20].

والحاصل، إن التأمل في الآيات القرآنية التي استند لها المانعون من نفي ثبوت علم الغيب للمعصوم(ع)، يكشف عن عدم تمامية المقتضي لها، لأن الموضوع الموجود فيها ينسجم وما يقوله المثبتون لعلم المعصوم(ع) بالغيب.

وجود المانع:

ثم إنه لو لم يقبل ما ذكر من منع وجود المقتضي للمانع، فإنه تمنع دلالة الآيات الشريفة على مدعاهم لوجود المانع، وهو اشتمال القرآن الكريم على آيات تثبت علم الغيب لغير الله سبحانه وتعالى، وتدل على عدم حصر ذلك فيه سبحانه:

منها: قوله تعالى:- (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء)[21]، فإن المستفاد منها اطلاعه سبحانه لبعض عباده على الغيب. ومثلها في الدلالة قوله سبحانه:- (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا* إلا من ارتضى من رسول)[22]، فإن الاستثناء من النفي اثبات، فتثبت وجود علم غيب عند من قام سبحانه وتعالى بتعليمهم إياه. وكذا قوله تعالى:- (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)[23]، فإنها تدل على تعليم الله تعالى بعض خلقه أموراً غيبية، واطلاعهم عليها.

ويساعد على ما ذكرنا، وجود جملة من الآيات المباركة التي أخبر الله سبحانه وتعالى فيها أنبيائه وغيرهم عن الغيب، والمواد المستقبلية:

منها: قوله تعالى:- (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)[24]، فقد اتفقت كلمة المفسرين على نزول هذه الآيات بعد المعركة التي وقعت بين الروم والفرس، وهما الدولتان التي كانتا تسيطران على العالم القديم، وكانتا تتنازعان السيادة على بلاد الشام، فقد نزلت هذه الآيات بعدما سيطر سابور ملك الفرس على بلاد الجزيرة، وما والاها من بلاد الجزيرة، وأقاصي بلاد الروم، واضطر هرقل ملك الروم إلى الذهاب إلى القسطنطينية، وأصبح محاصراً فيها مدة طويلة، وقد أخبرت عن أمر غيبي سوف يقع في المستقبل القريب، وهذا هو ما حصل، فإنه بعد نزول هذه السورة بمدة تمكن هرقل من الانتصار الحاسم على الفرس، وفك الحصار عن القسطنطينية.

ومنها: قوله تعالى:- (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم)[25]، وهذا من الإخبارات الغيبية التي أطلع الله تعالى نبيه(ص) عليها، لأنها تتحدث عن فتح مكة ودخول المسلمين إليها، وقد تحقق ذلك فعلاً.

ومنها: قوله تعالى:- (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)[26]، وهي تتحدث عن إخبار غيبي للنبي(ص) بأنه سوف يعود من جديد إلى مكة بعدما أخرج منها، وقد تحقق هذا الإخبار الغيبي، وعاد رسول الله(ص) إلى مكة فاتحاً.

ومنها: ما جاء في شأن نبي الله عيسى(ع)، قال تعالى:- (وأنبئكم بما تأكلون ما تدخرون في بيوتكم)[27]، وهي واضحة الدلالة، لأن إخباره(ع) بما يدخرون في بيوتهم من أجلى مصاديق الأخبار الغيبي.

ومنها: ما جاء في شأن أم نبي الله موسى(ع)، وهو قوله تعالى:- (وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين)[28]، وهي صريحة في إطلاع أم موسى(ع) على الغيب، لأنها قد تضمنت إخبارها عن أمرين بعدُ لم يقعا، وهما:

الأول: أن موسى(ع) سوف يعود إليها بعدما تلقيه في اليم.

الثاني: أنه سوف يكون نبياً من الأنبياء الذين يرسلهم الله تعالى لقومه.

وقد تحقق الأمران فعلاً، فقد رده الله سبحانه وتعالى إليها بعدما ألتقطه آل فرعون، وأصبح بعد ذلك نبياً مرسلاً.

ومنها: ما تضمنته الآيات القرآنية من عرض لقصص الأنبياء السابقين، وأخبار أممهم، قال تعالى:- (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا)[29]، وهذا من أجلى وأوضح مصاديق الإخبار الغيبي كما لا يخفى[30].

ومن هنا يتضح وجود صنفين من الآيات القرآنية، الأول منهما يدل على الاختصاص به سبحانه وتعالى دون من سواه من الموجودات، والثاني ما يثبت علم الغيب لغيره سبحانه.

ومن المعلوم عدم حصول المنافاة في القرآن الكريم، وقد دعى ذلك الأعلام للبحث عن كيفية تصوير العلاج بينهما، ورفع المنافاة المتصورة، وقد ذكرت في المقام علاجات، نشير لبعضها، ويمكن للقارئ العزيز متابعة ذلك في البحوث التخصصية الموسعة:

أحدها: أن يحمل الصنف الأول، وهو الآيات التي تضمنت حصر علم الغيب فيه سبحانه دون من سواه، على المعلوم بالذات، ليكون مختصاً بمن كان عالماً بالذات والاستقلال، فليس محتاجاً فيه إلى غيره أبداً، لأنه واجب الوجود، غني عمن سواه، وهو مصدر كل الكمالات ومنبعها.

ويحمل الثاني منهما وهي ما تضمن إثبات ذلك لغيره من الموجودات على الإحاطة بذلك بنحو الهبة والإفاضة الكاشفة عن تبعية الموهوب والمفاض عليه لله سبحانه، فليس علمه ذاتياً استقلالياً، بل هو تبعي، وقد أوجب وجود مصلحة أن يفاض عليه العلم ويعطاه.

ثانيها: أن يلتـزم بدلالة الصنف الأول من الآيات على الموجبة الكلية، بينما يكون مدلول الصنف الثاني منها على الموجبة الجزئية، وهذا يعني أن مفاد الصنف الأول هو أنه سبحانه وتعالى مطلع على العلم بكل شيء بشكل مطلق، وتنفي أن يطلع غيره على علم الغيب بشكل مطلق شامل لكل الموارد. وهذا يعني أنها تنفي الغيب المطلق وليس مطلق الغيب وعليه لا تكون منافاة بين الصنفين، لأن الثاني يثبت الغيب لكن ليس بشكل مطلق، بل في الجملة. فيكون مفاد المعالجة، أنه لم يثبت علم النبي(ص) بكل غيب لينافي الآيات، بل الدليل على خلافه.

ثالثها: أن يعمد للجمع بين الصنفين المذكورين بالتخصيص، بأن يكون الصنف الثاني منها مخصصاً للصنف الأول، لتكون النتيجة أن العلم بالغيب منحصر فيه سبحانه وتعالى، إلا خصوص ما أطلع عليه سبحانه من يشاء من عباده.

وهذا الجمع في نفسه حسن، إلا أنه ليس بنحو الموجبة الكلية، بل بنحو الموجبة الجزئية، لأنه يجري في بعض الآيات دون البقية، وعليه يكون العلاج المذكور أخص من المطلوب.

[1] سورة النمل الآية رقم 65.

[2] سورة الأنعام الآية رقم 59.

[3] سورة يونس الآية رقم 20.

[4] سورة السجدة الآية رقم 6.

[5] سورة الجمعة الآية رقم 8.

[6] سورة يونس الآية رقم 20.

[7] سورة الأعراف الآية رقم 188.

[8] سورة الأنعام الآية رقم 50.

[9] الكافي ج 1 كتاب الحجة باب أن الأئمة بعلمون متى يموتون ح3 ص 638.

[10] المصدر السابق ح 4 ص 640.

[11] بحار الأنوار باب أنهم(ع) لا يعلمون الغيب ح 5 ص 102.

[12] بحار الأنوار ج 25 باب نفي الغلو في النبي(ص) والأئمة(ع) ح 91 ص 321.

[13] سورة النمل الآية رقم 65.

[14] نعج اللاغة الخطبة رقم 128.

[15] بحار الأنوار ج 26 باب أنهم(ع) لا يعلمون الغيب ح 2 ص 102.

[16] سورة الجن الآيتان رقم 26-27، وسيأتي الحديث عنها حال الكلام عن المانع، فأنتظر.

[17] سورة الجن الآية 26.

[18] سورة الأعراف الآية رقم 188.

[19] سورة هود الآية رقم 49.

[20] مجمع البيان ج 4 ص 470.

[21] سورة آل عمران الآية رقم 179.

[22] سورة الجن الآيتان رقم 26-27.

[23] سورة البقرة الآية رقم 32.

[24] سورة الروم الآيات رقم 2-4.

[25] سورة الفتح الآية رقم 27.

[26] سورة القصص الآية رقم 85.

[27] سورة آل عمران الآية رقم 49.

[28] سورة القصص الآية رقم 7.

[29] سورة هود الآية رقم 49.

[30] علم الإمام ص 259-261(بتصرف).