18 أبريل,2024

سلمية الإسلام- غزوة بن قريظة

اطبع المقالة اطبع المقالة

سلمية الإسلام

غزوة بن قريظة

 

اعتبر الكثير من أعداء الإسلام غزوة بني قريظة نموذجاً عملياً على بُعدِ الاسلام عن النواحي السلمية، واعتماده منهج العنف وعدم الرحمة، نتيجة الحكم الوحشي الذي صدر من سعد بن معاذ في بني قريظة، عندما ظفر بهم النبي(ص) بعد طلبهم الصلح، وهذا يستدعي الوقوف عند هذا الحكم الصادر من سعد، ومحاولة تحليله، وهل أنه كما يصفه هؤلاء، ويسعون لإثباته أم لا.

 

ولا بأس قبل البدء في ذلك من الإشارة إلى السبب الذي يجعل المستشرقين يصرون على وصف الإسلام بالدموية والعنف، إذ يجد القارئ فيما يكتبون أن واحدة من أهم شبههم تقوم على دعواهم أن السبب الرئيس في انتشار الإسلام ونفوذه سواء في عصر النبي الأكرم محمد(ص)، أم بعد ذلك هو عنصر الجهاد وقوة السيف.

 

وقد تضمنت كلماتهم ذكر أسباب متعددة:

 

منها: حالة الخوف الحاصلة عندهم من أن يتمكن المسلمون أو العرب من السيطرة على العالم بأسره.

ومنها: لما كان الدين الإسلامي يتمتع بحيوية لا تتوفر في بقية الديانات السماوية الأخرى، كان ذلك سبباً موجباً لأن يوقف أمامه، لأن هذه الحيوية توجب انتشارها بين البشر.

وهذا يعني أن هذه الإثارات الصادرة عنهم ليست متصفة دائماً بصفة العلمية والبحث عن الحقيقة، وإنما قد يكون لها مجموعة من الأهداف والدوافع التي يسعى لتحقيقها.

 

غزوة بني قريظة:

وينبغي قبل الحديث عن الحكم الصادر من سعد، أن يحاط إجمالاً بالغزوة المذكورة وما صاحبها من أمور.

إن الوارد في المصادر التاريخية أن النبي(ص) بعدما وصل إلى المدينة المنورة مهاجراً من مكة المكرمة، عمد إلى عقد ميثاقين أساسيـين، يكفلان التعايش بين سكان المدينة المنورة بعضهم مع بعض، ويحقق انهاء جميع أشكال الاختلاف والتنازع الذي كان بين سكانها، وحل الصراع الداخلي الحاصل بينهم.

 

وقد كان الميثاق الأول، بين الأوس والخزرج، واليهود، وقد كان موضوعه أن يتعاونوا جميعاً على الدفاع عن المدينة المنورة، وما حولها.

وأما الميثاق الثاني، فقد أبرمه النبي(ص) مع اليهود، وهو ينص على تعهدهم بعدم إلحاق أي ضرر أو أذى به(ص)، ولا بأحد من أصحابه، وأن لا يمدوا أعداءهم بخيل ولا سلاح، ومتى نقضوا هذا العهد وقاموا بمدّ أعداءهم بالخيل والسلاح، وكان للنبي(ص) الحق في قتلهم وسبي نساءهم وأبناءهم.

 

ولم يلتـزم اليهود بالميثاق المعقود بينهم وبين النبي(ص)، فعمدوا إلى نقضه، وتجاهلوا بنوده، ومواده، وقد اختلفت سبلهم في نقض هذا الميثاق، والإخلال بما تضمنه، فأول من قام بنقض العهد هم بنو قينقاع بقتل رجل مسلم، وخطط بنو النضير لاغتيال النبي الأكرم محمد(ص) فأجلاهم رسول الله(ص) عن المدينة المنورة، وأما بنو قريظة، فإنهم قاموا بالتعاون مع المشركين لضربهم عندما تآمروا مع الأحزاب على رسول الله(ص)، فحاصرهم النبي(ص) بعد هزيمة الأحزاب، عندها تشاوروا حال اعتصامهم، وقد شارك معهم في المشورة حي بن أخطب مثير معركة الأحزاب، وقد كان أمامهم محتملات ثلاثة:

 

الأول: أن يؤمنوا برسول الله(ص)، ويصدقونه، لأنه قد تبين لهم أنه نبي مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى، وأنه الذي يجدونه في كتابهم، فيأمنوا على دمائهم ونسائهم، وأبنائهم وأموالهم.

الثاني: أن يعمدوا إلى نسائهم وأبنائهم فيقتلونهم، ثم يخرجوا إلى ملاقاة رسول الله(ص)، وقتاله، فإذا تغلب عليهم، فقد هلكوا ولم يتركوا وراءهم نسلاً يخشى عليه، وإن هم انتصروا تزوجوا بعد ذلك، وأنجبوا من جديد.

الثالث: إنها ليلة السبت، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ.

 

رفض مقترحات بني قريظة:

ولقد عرض مندوب بني قريظة على رسول الله(ص) أن يعطوه الأموال والسلاح، ويحقن الدماء، إلا أنه(ص) أبى ذلك، ورفض هذا المقترح. وذلك خشية حصول الخيانة منهم مرة أخرى، لأنها ليست مستبعدة عليهم بعد خروجهم أن يقوموا بتحريك المشركين والعرب الوثنيـين ضد الإسلام والمسلمين، كما فعل ذلك بنو النضير، وتتعرض الدولة الإسلامية الفتية إلى أخطار كبرى وتتسبب في سفك دماء كثيرة.

 

الاختلاف في عدد القتلى:

وقد وقع الخلاف في عدد القتلى فتفاوت عددهم في المصادر التاريخية قلة وكثرة، والظاهر أن منشأ ذلك يعود إلى الاختلاف الحاصل في عدد بني قريظة، وعلى أي حال، فقد اختلفت المصادر التاريخية في عدد المقتولين منهم، فقد ورد في بعضها أنهم كانوا ما بين الثمانمائة، والتسعمائة، وقيل أن عددهم سبعمائة وخمسون، وقيل أنهم ما بين الستمائة والتسعمائة، أو ما بين الستمائة إلى السبعمائة، وأقل ما ذكر في عددهم أنهم مائة مقاتل. وعليه فقيل أن المقتولين منهم ثلاثمائة، وقيل أنهم أربعمائة.

 

ولا يبعد أن يكون هذا التفاوت في عدد القتلى يعود لمجموعة من الأغراض والدوافع السياسية أو الدينية، فيستفاد من ذلك، لأن ذكر هذه الأرقام المتفاوتة يوجب إثارة الشك في أن هناك من يريد الاستفادة من ذلك لتحقيق بعض المقاصد السياسية، أو الدينية. على أنه لا يبعد أن تكون أغلب الأقوال المذكورة مبنية على مجرد التخمين والتقدير دون أن تكون مستندة لعملية إحصائية دقيقة.

 

وعلى أي حال، فإن الذي تضمنته النصوص التاريخية أن سعداً لم يحكم بقتل جميع رجال بني قريظة، وإنما اقتصر على قتل خصوص من تحزب على رسول الله(ص)، أو خصوص من قاتله، وأسر بقية الرجال منهم، وسبى الذراري، والظاهر أن من قتله ممن أشعر من الصبية على أساس أنه ممن تحزب على رسول الله(ص).

 

وهذا يعني أن عدد المقتولين لا يبلغ ما تضمنته بعض المصادر التاريخية مما سمعت خصوصاً بملاحظة ما ذكروه من أنهم كانوا محاصرين مدة شهر تقريباً وكان القتال دائراً بينهم وبين المسلمين، وكان التراشق بالسهام حاصلاً، كما أنهم قد شاركوا في غزوات سابقة، وهذا يوجب أن يقع منهم قتلى ما يجعل عددهم أقل مما ذكر. ويساعد على ما ذكر خلو بعض النصوص التاريخية عن ذكر عدد المقتولين، والاكتفاء بذكر وقوع قتلى منهم.

 

النتائج الفقهية لغزوة بني قريظة:

وقد تمخضت غزوة بني قريظة عن مجموعة من النتائج الفقهية المهمة التي استفيدت منها:

 

إحداها: جواز قتل كل من نقض العهد، فالصلح بين المسلمين وغيرهم ينبغي احترامه والالتـزام به وببنوده، فإذا نقضه جاز للمسلمين قتاله، ولقد فعّل هذا القانون اليوم في الأنظمة الوضعية إذ تجد أن الدول تعمد إلى قتل كل من تثبت خيانته، وتواطؤه مع الأعداء.

الثانية: أنه يجوز أن يحكم شخص في أمور المسلمين ومهامهم، كما صنع رسول الله(ص) عندما حكم سعداً في هذه القضية.

 

نتائج الغزوة:

وقد حملت الغزوة نتائج مثمرة للمسلمين:

منها: تطهير الجبهة الداخلية للمدينة، واطمئنان المسلمين وتخلصهم من جواسيس اليهود.

ومنها: سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة المنورة، وقطع آمالهم من الفتن والقلاقل الداخلية.

ومنها: تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم الغزوة.

ومنها: تثبيت مكانة الحكومة الاسلامية وهيبتها في نظر العدو والصديق في داخل المدينة المنورة وخارجها.

ومنها: فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية خصوصاً فتح خيبر.

 

قراءة المستشرقين للغزوة:

وقد اختلفت قراءات المستشرقين للغزوة، ففي كتاب الإسلام في مرآة الغرب محاولة جديدة لفهم الإسلام، لآرمسترونغ، تقول: إن قراءة هذه القصة تجعل الكثيرين منا يقارنونها بالأعمال النازية، وتدفع بالكثيرين إلى الاغتراب الدائم عن الإسلام.

وخالفها آخرون، وحاولوا تصحيح الفعل بلحاظ بدائية المجتمع وأن الطريقة المثلى فيه هي القتل والذبح حتى لو كانت الدعوة لله تعالى.

 

وتعود آرمسترونج تبرر الفعل بأنه كان رسالة وجهها لأعدائه في خيبر ومكة والجزيرة العربية. ثم وصفت فعل النبي الأكرم محمد(ص) بأنه جريمة بحسب مفاهيم المجتمع الغربي المعاصرة، لكنها ليست جريمة كبرى، وما فعله النبي(ص) كان منطق القبيلة السائد في مجتمعه الذي يسمح بارتكاب جريمة في حق جماعة للحفاظ على جماعة أخرى، فهو لم يعيش في إمبراطورية عالمية.

 

أفكارها:

من الواضح جداً أن الأفكار التي تعمد آرمسترونغ لطرحها تقوم على تشويه الصورة الناصعة للنبي الأكرم محمد(ص)، لأن النبي محمد(ص) لم يأت لخصوص ذلك الزمان الذي قد وجد فيه، أو كانت رسالته محصورة في تلك البقعة الجغرافية المحدودة التي بعث فيها، بل إن رسالته عامة لكل زمان ومكان، وهي الرسالة الخاتمة، وهي رسالة إلهية تتضمن كل معاني الرحمة والمحبة، كما تتضمن كل معاني العدالة ومواجهة الفساد واصلاح المجتمع.

 

قراءة نقدية لنظرية آرمسترونغ:

وكيف ما كان، فقد تضمن كلام المستشرقة آرمسترونغ جملة من الأمور:

 

أحدها: إن رسالة النبي الأكرم محمد(ص) ليست رسالة خالدة، ولا تصلح لكل زمان ومكان، هذا بعد التسليم باعترافها بنبوته(ص) منذ البداية.

ثانيها: إن قيم المسيحية هي القيم الأسمى مقارنة بقيم الإسلام. وهذا يوجب طرح سؤال مهم في البين، حاصله: هل أن الرحمة والمحبة تنفع مع كل إنسان؟ وهل أن العدالة تستقيم عبر الثواب فقط دون العقاب؟ أم لابد من العقاب أحياناً.

ثم ألم يصبر النبي(ص) على يهود بني قينقاع، وبني النضير، وعفا عنهم، ولم يقتلهم، مع أنهم قد خانوه ونقضوا العهد مرات؟

ثالثها: وسم حكم سعد بن معاذ بكونه صادراً عن انفعال، وليس حكماً عادلاً.

رابعها: لقد كانت غاية النبي(ص) من إعدام بني قريظة إرهاب يهود خيبر من خلال هذه الرسالة.

 

وعندها نسأل: هل يعقل أن يقوم نبي الرحمة والإنسانية بقتل إنسان ظلماً وعدواناً؟ وهل يعقل أن يعمد إلى قتل إنسان لا لشيء إلا من أجل أن يوصل رسالة إلى جماعة سياسية؟

وفي كتاب محمد في المدينة، للمستشرق مونتغمري وات، اكتفى باعتبار موقفهم مشبوهاً لأنهم بقوا على الحياد مدة حصار المدينة من الأحزاب، إلا أنهم فاوضوا أعداءه(ص) ولم يحسموا أمرهم ولم ينقضوا العهد معه(ص). نعم هاجمهم(ص) بعدما تخلص من أعداءه ليظهر أن الدولة الفتية لا تسمح بالمواقف المشبوهة، وهي لم تقاوم، بل انسحبت ثم أرسلت من يطلب الاستسلام بالشروط التي استسلم بها بنو النضير، وكان الجواب تستلم دون قيد أو شرط.

ويذكر أن بعض الأوربيـين انتقد الحكم ووصفوه أنه وحشي وغير انساني، وأنه(ص) اتبع سياسة شديدة بطرد اليهود من المدينة لمجرد أنهم يهود.

 

وقفات مع مونتغمري:

وفي ما ذكره المستشرق المذكور عدة ملاحظات:

 

منها: لقد تضمنت كلماتهم أن النبي(ص) هو الذي تصدى لتعيـين سعد حكماً في اليهود، مع أن الثابت تاريخياً أن تعيـين سعد للتحكيم فيهم كان بطلب منهم ولم يكن ابتداء منه(ص).

ومنها: إن المستشرق المذكور متناقض مع نفسه، فإنه من جهة يعترف بخيانة يهود بني قريظة للنبي الأكرم(ص)، ويسوغ عقابهم لهم، وأن ما صدر من قتل لرجالهم، ليس حرباً ضد عدو، بل هو عقاب لحليف قد خانه، وأن بني قريظة قد سقطوا في أكثر من امتحان، فلم يتعظوا مما حدث مع بني قينقاع والنضير، ولم يكن بوسع النبي محمد(ص) أن يسامحهم، لأن المسألة لم تعد تحتمل خيانة كبرى بحجم خيانتهم.

ومنها: إن الإسلام دين الرحمة، ومن نماذج الرحمة فيه عفو النبي(ص) يوم فتح مكة عن الناس إلا نفر قليل.

 

المستند في الحكم على بني قريظة:

وعندما تقرأ غزوة بني قريظة، فإن أول التساؤلات المتبادرة إلى الذهن هو الحكم الذي صدر من سعد في حقهم، وبعيداً عن الإثارات الصادرة من المستشرقين أو غيرهم مقابل الإسلام، وجعلهم هذا الحكم ذريعة لهم في ذلك، يبقى أن النظرة الأولى له أنه يتنافى والإنسانية، وهذا يستدعي معرفة المستند الذي اعتمد عليه في هذا الحكم.

 

وقبل أن يعمد إلى بيان ذلك، ليسأل عن الموقف الذي كان يمكن اتخاذه معهم من قبل النبي(ص)، خصوصاً وأنهم قد كانوا السبب الأساس في كل ما حصل، فلو افترضنا أنه(ص) عمد إلى تجديد العهد معهم في تلك الفترة، فما هو الذي يمنعهم من نقض العهد مرة أخرى، والخروج على الرسول(ص) مرة ثانية كما فعلوا ذلك سابقاً؟

 

وما هو الضمان الذي يمنعهم أن يعودوا إلى نقض العهد من جديد، وتسديد الضربة القاضية للدولة الإسلامية الفتية حال ما تسنح لهم الفرصة.

إن الرجوع للآيات القرآنية التي تحدثت عن اليهود توقف القارئ العزيز على واقعهم، وما عندهم من انحراف عقدي، وسلوكي.

 

فمن انحرافهم العقدي، أن الإله عندهم لا يختلف عن البشر، فإنه يأكل ويشرب، ويتمشى في الأرض، ويغضب ويضل، ويكيد ويتشاجر مع بني إسرائيل، فتارة يغلبهم وتارة يغلبونه.

وقد اقتصر الكتاب المقدس على ذكر الترغيب والترهيب في عالم الدنيا من نعم وخيرات، أو محن وبلاءات وخلى من ذكر حقيقي للقيامة واليوم الآخر، والثواب والعقاب.

 

ويعتقد اليهود أن الجنة لهم، والنار لغيرهم، ويزعمون أنهم الشعب المختار الذي اختاره الله تعالى من بين سائر المخلوقات، فاختصهم بالكرامة وجعلهم أسياد الأرض، وسخر الناس جميعاً إليهم، فأجازوا لأنفسهم أكل الربا من الأميـين[1]، وأكل أموالهم وغشهم وخداعهم، وخيانة أماناتهم، ونسبوا ذلك كله إلى الدين على لسان أحبارهم في الكتاب المقدس.

 

وأما الانحراف السلوكي لهم، فيختصره الباري سبحانه في قوله عز من قائل:- (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون)[2]. والمستفاد من الآية الشريفة أن منهجيتهم كانت تقوم على أحد أسلوبين، إما من خلال قتل الشخصية، لقوله تعالى:- (فريقاً كذبوا)، وإما من خلال قتل الشخص، حيث يقول سبحانه:- (وفريقاً يقتلون).

وقد تضمنت التوراة نسبة أمور مشينة للأنبياء، يندى لها الجبين.

 

نقض العهد والميثاق:

اعتبر الإسلام نقض العهد جريمة يستحق القائم بها العقوبة، قال تعالى:- (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار)[3]، وقد كانت سيرة النبي الأكرم(ص) قائمة على ذلك، فإنه لم ينقض عهداً عاهده مع أحد، فقد عاهد قريشاً في الحديبية، ولم ينقضه حتى نقضوا، وعاهد بني قينقاع، وبني قريظة، ولم ينقض عهدهم إلا عندما نقضوا.

ولقد تعهد بنو قريظة للنبي(ص) أنهم لو تآمروا على المسلمين، وناصروا أعداءهم، أو أثاروا الفتن والقلاقل، كان للمسلمين الحق في قتلهم، ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم.

 

وعندما نقضوا العهد عمد رسول الله(ص) إلى بعث سعد بن معاذ وآخرين ليذكروهم العهد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يعني أنه(ص) قد أعطاهم فرصة لمراجعة أنفسهم والرجوع عما هم فيه، حتى لا يترتب عليهم عواقب وخيمة، إلا أنهم أساؤوا الإجابة.

وبالجملة، يتفق المؤرخون على حصول الخيانة من بني قريظة لوطنهم المدينة، ومواطنيهم، وللرسول(ص)، وتآمروا عليه مع الأعداء. ويساعد على ذلك قيامهم بالتحصن داخل قلاعهم، وخوضهم مواجهات مدة خمسة وعشرين يوماً مع المسلمين، فلو لم يكونوا ناقضين للعهد لخاطبوا رسول الله(ص) ودفعوا عن أنفسهم التهمة، وحقنوا دماءهم من القتل.

 

وقد ذكر المؤرخون أمراً يكشف عن الحالة النفسية التي يعيشها هؤلاء من سوء الظن وخبث النوايا، فإنهم قد رفضوا حكم رسول الله(ص)، وقبلوا بالنـزول على حكم سعد بن معاذ حليفهم، ظناً منهم أنه سوف يعاملهم بالصفح لأنه كان حليفاً لهم في الجاهلية، وعدم ثقة منهم في رسول الله(ص) وكرمه وسمو أخلاقه، وقد أجابهم النبي(ص) إلى ذلك.

 

بين جريمة بني قريظة وجرائم اليهود الأخرى:

والظاهر أن جريمة بني قريظة لا تقاس بجريمة بني النضير وبني قينقاع في حجمها وخطورتها على الإسلام والمسلمين، لأن بني قريظة قد تحركوا في خط الخيانة، وتوغلوا فيها إلى درجة أصبح معها أساس الإسلام في خطر أكيد وشديد. وقد بنوا كل مواقفهم على إبادة الوجود الإسلامي بصورة تامة وحاسمة، وهذا ما لم يصدر من بني قينقاع وبني النضير، ذلك أنهم لم يتوغلوا في أمر الخيانة إلى هذا المستوى، مضافاً إلى أن هدف بني قريظة كان قريب المنال في مستوى الحسابات العملية التي اعتمدوا عليها، وقد خطو خطوات عملية لإنجازه، حتى على مستوى التحرك العسكري الذي يستهدف تمكين الأحزاب وهم معهم من اجتياح الوجود الإسلامي وخصوصاً النبي(ص)، وبني هاشم. أما نقض بني النضير للعهد، فقد بقي في حدود الإصرار على إظهار التمرد والغطرسة والطغيان، ما يمنع من تساوي العقوبة للطرفين.

 

على أن عدم اعتبار بن قريظة بما حصل لبني النضير وبني قينقاع، يدلل على أنهم كانوا متعمدين لذلك، وقاصدين له، وهذا يجعل النقض الصادر منهم للعهد مختلفاً تماماً عما صدر ممن قبلهم، ما يوجب أن تكون عقوبتهم أشد.

والحاصل، إن ملاحظة ما تقدم ذكره توضح بصورة جلية الدافع لكون العقوبة الواقعة عليهم بهذه الصورة.

 

مطابقة الحكم لشريعة اليهود:

وقد جاء الحكم الذي أصدر في حقهم موافقاً لما تضمنته شريعتهم، فقد جاء في كتبهم المقدسة: حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب فيها يكون لك التسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك تأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك.

 

ومقتضى هذا النص أن ما قام به سعد بن معاذ، يتوافق والحكم الذي ورد في كتابهم المقدس، ولم يأت بشيء آخر يخالف ما هم عليه، فلا معنى أن يقال بعد ذلك أن الإسلام قد حكم فيهم بما لا يتوافق والإنسانية[4].

 

 

 

 

[1] من ليسوا أهل كتاب.

[2] سورة المائدة الآية رقم 70.

[3] سورة الرعد الآية رقم 25.

[4] العنف الديني في سياسة الجهاد دراسة تاريخية فقهية تحليلية القسم الثاني مجلة الاجتهاد والتجديد العدد 9-10 ص 173-200(بتصرف).