18 أبريل,2024

دور الإمام الرضا في التشريع

اطبع المقالة اطبع المقالة

من النقاط الجديرة بالبحث خصوصاً وأنها تكون مثار جدل وتساؤل عند الكثيرين، مسألة تشريع الأحكام، وهل للأئمة المعصومين(ع) فيها مدخلية أولا؟

وبعبارة واضحة، هل للمعصومين(ع) حق التشريع، أو أنه ليس لهم ذلك؟…

معنى تشريع الحكم:

عندما نـتحدث عن الأحكام الشرعية، فنقسمها في البداية إلى قسمين:

الأول: الأحكام الواقعية.

الثاني: الأحكام الحكومتية.

ونعني بالأحكام الواقعية: الأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، أو على لسان نبيه المصطفى(ص) وجاء فيها الأثر القائل: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة.

وتنقسم الأحكام الواقعية إلى قسمين:

1-الأحكام الواقعية الأولية.

2-الأحكام الواقعية الثانوية.

الأحكام الواقعية الأولية:

ونريد من الأحكام الواقعية الأولية: الأحكام المجعولة للشيء أولاً وبالذات، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليها من عوارض أخر مثل وجوب الصلاة والصوم وإباحة شرب الماء وإباحة النوم في النهار وحلية بيع الطعام وحرمة شرب الخمر بالعناوين الأولية، وغير ذلك من الأحكام تكليفية، أو وضعية.

الأحكام الواقعية الثانوية:

وهي ما يجعل للشيء من الأحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيـير الحكم الأولي، فالصوم إذا كان مضراً بالمكلف ينقلب حكمه إلى الحرمة، أو عدم الوجوب، وشرب الماء إذا كان لإنقاذ الحياة يكون واجباً، والنوم في النهار إذا كان فيه خيانة للجيش الإسلامي يكون محرماً، وشرب الخمر إذا كان لإنقاذ النفس المحترمة من الموت يكون واجباً، وهكذا أكثر الأحكام الأولية إذا طرأت عليها عناوين ثانوية تبدل واقعها وحكمها الأولي، إلى حكم ثانوي.

وهذه أحكام شرعية واردة على موضوعاتها الأولية والثانوية، لا تـتغير ولا تـتبدل إلى يوم القيامة. فإذا ثبت أن هناك تشريعاً من النبي(ص) فهو في هذه الأحكام، وكذا ما يقال عن ثبوته للمعصوم(ع).

الحكم الحكومتي:

أما الأحكام الحكومتية: فهي الأحكام التي ترك الإسلام مهمة ملئها إلى ولي الأمر الذي يكون على رأس السلطة في الدولة الإسلامية، سواء كان ولي الأمر هو النبي(ص) أو الإمام المعصوم(ع)، أو الفقيه الذي تصدى لإقامة دولة إسلامية، ونجح في ذلك، وحينئذٍ يقوم ولي الأمر بتنظيم أحكام تسمى بالأحكام الحكومتية، تميـيزاً لها عن الأحكام الشرعية الواقعية، حسب المصلحة التي تـتطلبها الدولة أو المجتمع الإسلامي في كل زمان.

خصائص الحكم الحكومتي:

وللأحكام الحكومتية مجموعة من الخصائص والفوارق تـتميز بها عن الأحكام الشرعية الواقعية نشير لواحد منها وتطلب بقية الفوارق من البحوث الفقهية:

إن هذه الأحكام ليس لها صفة الثبوت إلى الأبد، بل هي أحكام متحركة مؤقتة يمكن تبديلها أو إلغاؤها حسب المصلحة التي يراها ولي الأمر، لأنها ليست أحكاماً صدرت من ولي الأمر بما أنه مبلغ للأحكام العامة الثابتة، بل صدرت من ولي الأمر بما أنه حاكم وولي على المسلمين.

منطقة الفراغ:

وهذه الأحكام تغطي حاجة تطور علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة عبر الزمن، والتي قد تكون مهددة للعدالة الاجتماعية إن لم تكن هناك أحكام متحركة يفرضها ولي الأمر، فمثلاً هناك الحكم القائل: بأن من سبق إلى معدن فهو أحق به، قد صدر في زمان كان النص فيه حكماً عادلاً، لأن من الظلم أن يساوي بين السابق إلى المعدن وغير السابق، إلا أن قدرات الإنسان السابقة في الاستفادة من المعدن كانت محدودة، أما في زمان تكون فيه القدرات كبيرة بحيث يمكن لقلة حرمان الآخرين من الاستفادة من المعادن الكثيرة باستخدام الآلات التقنية المتطورة للسيطرة على المعادن، فقد يؤدي الأمر إلى تزعزع العدالة الاجتماعية في الدولة الإسلامية.

لهذا جعل الإسلام لولي الأمر صلاحية أن يشرع في منطقة الفراغ، أحكاماً حكومتية مؤقتة تمنع في العصر المتطور من تطبيق: من سبق إلى معدن فهو أحق به.

وهكذا نقول في ما شرعه الإسلام من حرمة احتكار أمور معينة في صدر الإسلام من الحنطة والشعير والزبيب والتمر والسمن والملح، أما في زمانـنا هذا فيمكن لجماعة قد أتيحت لها قدرة مالية معينة أن تحتكر سلعة معينة كالحديد أو الأسمنت بحيث يرتفع سعرها بما يخل بموازين العدالة الاجتماعية، فيمكن لولي الأمر أن يتدخل هنا ويمنع من احتكار الحديد أو الإسمنت، ويعاقب عليه، حتى تـتمكن الدولة من تنظيم أمور المسلمين.

حدود منطقة الفراغ:

أما حدود هذه المنطقة التي يملؤها الحاكم الشرعي ورئيس الدولة فهو الفعل المباح تشريعياً بطبيعته، فيحق لولي الأمر إعطاؤه حكماً بالوجوب أو الحرمة، وهذا الوجوب أو الحرمة لا يتصف بالبقاء إلى يوم القيامة، بل هو تابع للمصلحة التي يراها ولي الأمر للمجتمع، فقد يغير بعد مدة من الوقت أو يرفع حسب ما يراه الحاكم من المصلحة.

المشرع هو الله سبحانه:

هذا ومما ينبغي معرفته أن المشرع الأول هو الله سبحانه وتعالى، ويكون دور النبي(ص) هو تبليغ ما شرعه الله تعالى ووصل إليه عن طريق الوحي إلى الناس، وهذا مما اتفق عليه المسلمون.

تفويض الأمر إلى الرسول:

هذا وتوجد مجموعة من الروايات يستفاد منها تفويض أمر الخلق إلى رسول الله(ص) ليسوس الناس والأمة بالعدل والحق ويحكم فيهم بما أراد الله عز وجل، كما فوض الله إلى رسوله أمر الدين في ناحية خاصة، وفي منطقة فراغ معينة ليملأها بنفسه، فملأها (ص) وأقره الله سبحانه على ذلك. فمثلاً ورد أن النبي(ص) سأل ربه في أن يخفف جعل عدد الصلاة على أمته، فجعلها خمس صلوات، ثم فوض إليه أن يزيد عليها، فزاد رسول الله(ص) وأقره الله عليها.

وكما ورد في حرمة الخمر:- ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان)[العبيدان1] .

وفوض إلى النبي(ص) أن يزيد فحرم رسول الله(ص) كل مسكر وأقره الله تعالى عليه.

وهذا التفويض من قبل الله سبحانه لرسوله(ص) هو في دائرة خاصة فملأها رسول الله(ص) بنفسه، فما دل عليه الدليل بأن الله سبحانه قد فوض الأمر فيه إلى النبي(ص) وأقرّه على تشريعه يثبت فيه حق النبي في تشريع بعض الأحكام التي ترجع في النهاية إلى مشرعية الله تعالى بعد إقراره عليه.

ومن النصوص الدالة على ذلك، صحيحة فضيل بن يسار قال: سمعت الإمام الصادق(ع) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب، قال: إنك لعلى خلق عظيم، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عز وجل: وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، وأن رسول الله(ص) كان مسدداً وموفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزل ولا يخطىء في شيء مما يسوس به الخلق، فتأدب بآداب الله، ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله(ص) إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل له ذلك كله، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة. ثم سن رسول الله(ص) النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فأجاز الله عز وجل له ذلك.

والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعد بركعة مكان الوتر. وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان، وسن رسول الله(ص) صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة، فأجاز الله له ذلك. وحرم الله عز وجل الخمر بعينها وحرم رسول الله(ص) أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة، ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه، ولم يرخص لهم رسول الله(ص) فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم، فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخص فيه لأحد، ولم يرخص رسول الله(ص) لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عز وجل، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً، لم يرخص لأحد في شيء من ذلك إلا للمسافر، وليس لأحد أن يرخص شيئاً ما لم يرخصه رسول الله(ص)، فوافق أمر رسول الله(ص) أمر الله عز وجل ونهيه نهي الله عز وجل، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى[العبيدان2] .

هذا والنـتيجة التي نخلص إليها من هذا النص وأمثاله من النصوص الواردة في نفس الباب، أن النبي(ص):

1-مبلغ عن الله سبحانه وتعالى ما شرعه الله للناس عن طريق الوحي.

2-حاكم على الناس.

3-مشرع لأحكام خاصة، وهي التي فوض الله فيها أمر التشريع إلى النبي(ص) في دائرة خاصة وملأها رسول الله (ص) بنفسه وأقره الله عليها.

هل الأئمة مشرعة:

بعدما عرفنا أن لرسول الله(ص) حق التشريع، فهل أن هذا الحق الخاص الثابت للنبي(ص) ثابت لأئمتنا المعصومين(ع)، أو لا؟…

هناك روايات يستفاد منها أن النبي(ص) قد أعطى ما فوضه الله إليه إلى الأئمة(ع) أو إلى علي(ع)، ذكرها شيخنا الكليني في كتابه الكافي في جزئه الأول، في باب التفويض للنبي والأئمة(ع)، لكن هذه الروايات غير معتبرة وليست بحجة، لأنها إما مرسلة أو ضعيفة السند، فلا يثبت بها المدعى.

نعم هناك بعض الروايات المعتبرة الأسناد، لكنها غير تامة الدلالة على المدعى، بمعنى أنها لا تفيد ثبوت حق التشريع للأئمة المعصومين(ع).

بل حتى لو سلمنا تمامية هذه النصوص على المدعى، إلا أنها لا تعدو كونها أخبار آحاد لا يمكن الاستناد إليها في مثل هكذا مقام، كما أنها معارضة بالنصوص التي وردت عنهم(ع) بأنهم يحدثون عن رسول الله(ص)، وأن لديهم كل شيء بإملاء رسول الله(ص) وخط علي(ص) حتى أرش الخدشة.

تبليغ الأحكام:

هذا ولا يـبعد أن تحمل الروايات التي وردت في تفويض أمر التشريع إلى الأئمة المعصومين(ع) على تبليغ الأحكام وحفظها، ويكون ذلك بتفويض من النبي(ص) إليهم(ع) لعصمتهم دون غيرهم، فهم الأجدر بتبليغ الحكام وحفظها من الضياع، وهم الأجدر بحكومة الناس، لعصمتهم عن الوقوع في الخطأ أو الاشتباه أو النسيان.

دور الإمام الرضا في التشريع:

لقد كان الإمام الرضا(ع) كغيره من أئمتنا(ع) يعيش تحت الرقابة الصارمة من قبل حكام عصره، خصوصاً وأنهم(ع) لم يفكروا في الخروج على الحاكمين ولا في السلطة التي يتنافس عليها الناس، وكل ما كان يهمهم هو أن يتهيأ الجو المناسب لنشر تعاليم الإسلام والدفاع عنها بالحجة والدليل.

وقد كان إمامنا الرضا(ع) كغيره من الأئمة الهداة يستغل المناسبات لهذه الغاية، وقد اتيح له بعد شهادته أبيه الإمام موسى(ع) في حبس الرشيد، أن يتابع رسالته إلى حد ما، بالرغم من أن أجهزة الحاكمين كانت تراقب جميع تصرفاته وحاولت أكثر من مرة إغراء الرشيد به متخذة من التفاف الناس حوله للاستفادة من تلك الثروة العلمية الهائلة ومعطياتها التي ورثها عن آبائه عن جده بعد أن جعلهم الأمناء على رسالته من بعده، وسيلة للإيقاع به في شرك أولئك الطغاة.

ولكن الله سبحانه قد كتب له أن يجتاز تلك المرحلة الصعبة من حياته ويـبقى بعد أبيه نحو من عشرين سنة ليترك للأجيال من عطائه الفكري في مجالات المعرفة المتنوعة ما يقيها من شر التعثر في مسيرتها لو قدر لها أن تأخذ بما تركه هو وآباؤه من تشريع وقيم وآداب ونصائح في مخـتلف المجالات.

هذا وعندما نحلل الفترة الزمنية التي عاشها الإمام الرضا(ع) والعطاء الفكري الذي صدر عنه في المجالات المتعددة، نجد أن الصادر منه يعتبر شيئاً متميزاً بالنسبة لما صدر من أبيه الإمام الهمام موسى الكاظم(ع)، وذلك للفسحة التي أتيحت للإمام الرضا(ع) سواء في عصر الرشيد، أم عصر المأمون، حيث كانت حلقاته العلمية ومدرسته الفكرية تذكر بمدرسة جده الإمام جعفر الصادق(ع)، ولتقارب العصرين من جهة إتاحة الفرصة لكل واحد منهما، فصار ذلك سبباً لإظهار ما يحويه كل واحد منهما من علم جم، ومعرفة هائلة.

وليس بوسعي أن استعرض جميع ما تركه الإمام الرضا(ع) في هذه المواضيع، وبخاصة في مجال الفقه والحديث، وقد تكفلت مجاميع الفقه الشيعي والحديث الكثير منه.

ولهذا قلما يجد الباحث باباً من أبواب الفقه أو فصلاً من فصوله إلا وللإمام الرضا(ع) رأي أو حديث فيه، بل قد يجد القارئ أن له في بعض البواب الفقهية عشرات الأحاديث والروايات.

كتاب فقه الرضا:

هذا وقد نسب للإمام الرضا(ع) كتاب يعرف بكتاب الفقه الرضوي، أو كتاب فقه الرضا(ع) حيث أدعى بعضهم أن هذا الكتاب من تأليفه(ع) وأنه يحوي مجموعة من رواياته عن آبائه، وقال آخرون بأن هذا ليس كتاباً له بحيث كتبه هو بخطه الشريف، وإنما هذا كتاب لأحد تلامذته أملاه هو(ع) عليه، وكتبه تلميذه.

لكن الصحيح أن هذا الكتاب ليس له ربط بالإمام (ع) من قريب أو بعيد، بل الظاهر أنه كتاب لأحد علمائنا الأجلاء، وقد التبس الأمر على بعض المتأخرين من علمائنا فظن أنه كتاب للإمام الضامن الرضا(ع).

نعم من المسلم به أن له الرسالة الذهبية في الطب، كتبها بناء على طلب المأمون، وهو كتاب معروف ومتداول، يحوي الكثير من النصائح الطبية، والمعلومة المفيدة.

هذا وقد تـتلمذ على يدي الإمام الرضا(ع) مجموعة من أجلاء أصحابنا وأكابر فقهاء الطائفة الذين كان لهم دور بارزاً في حفظ المذهب الشريف ونشره، كأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، وأضرابه.

——————————————————————————–

[1]سورة المائدة الآية رقم 90.

[2]أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة باب التفويض إلى رسول الله(ص) وإلى الأئمة ح 4.