29 مارس,2024

حكم ما لا فلس له من الأسماك (6)

اطبع المقالة اطبع المقالة

[size=6][/size]

[font=arial]أما بالنسبة للمؤيد الأول الذي ذكره، فيمكن الجواب عنه بكونه أشبه بالمصادرة، فلا يمكن الركون حتى لجعله مؤيداً، فلاحظ. ولعل هذا هو الذي دعى المجيب أن يجعله مؤيداً دون أن يجعله دليلاً. [/font]

وأما وروده في تفسير القمي، فالإنصاف أن مقتضى القبول بكون الموجود بأيدينا اليوم هو كتاب تفسير علي بن إبراهيم، والتسليم بكون الديـباجة صادرة منه، يستلزم الحكم بكونه إمامياً، مما يعني وقوع المعارضة بين ما صدر من العلمين الكشي والشيخ، وبين علي بن إبراهيم، بل قد عرفت أن مقتضى تمامية التقريب السابق عن النجاشي تحقق المعارضة بينه وبين ما صدر من الكشي والشيخ(ره).

وقبل الحديث عن المعارضة وبيان ما يتصور من علاج أو غير ذلك، ينبغي الإشارة لما حكيناه عن بعضٍ من أن مقتضى روايات مسعدة بن صدقة، هو الحكم بكونه عدلاً، وليس عامياً أو بترياً، حيث أجيب عنها، أولاً: بأن الغالب فيها كونها ضعيفة الأسناد، مما يمنع من الركون إليها في إثبات المدعى.

ثانياً: بأن مضمونها ثابت الرواية عن بعض العامة، فلا تنفع في إثبات إماميته، لأنه يكون من العامة غير النواصب، بل هو من العامة المحبين لأهل البيت(ع)، كما قيل بذلك في حق حفص بن غياث[1].

أقول: من الروايات التي وردت الإشارة إليها في كلام المستشهد، ما جاء في بحار الأنوار، وهي ما رواه أبو علي بن شيخ الطائفة عن أبيه عن المفيد عن أبي القاسم جعفر بن محمد عن أبي علي محمد بن همام عن علي بن محمد بن مسعدة بن صدقة عن جده مسعدة قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد(ع) يقول: والله لا يهلك هالك على حب علي بن أبي طالب إلا رآه في أحب المواطن إليه، ولا يهلك هالك على بغض علي بن أبي طالب إلا رآه في أبغض المواطن إليه[2].

ومن الواضح عدم دلالة هذه النص على المدعى، لأنه من المحتمل جداً أن يكون مسعدة من العامة المحبين لأمير المؤمنين(ع)، لأنه لا ملازمة بين كون الشخص من العامة، وبين بغض أمير المؤمنين(ع)، نعم ذلك ثابت في حق النواصب كما هو بيّن لكل أحد. على أنه قد سبق أن مسعدة من البترية، وقد عرفت حقيقة البترية، وهي تستدعي عدم ثبوت البغض لأمير المؤمنين(ع)، مما يعني عدم دلالة النص المزبور على المدعى. كما أنها مخدوشة سنداً بوقوع علي بن محمد بن مسعدة في سندها، فإنه مجهول الحال.

ومنها: ما رواه علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد الله(ع): إن الناس يروون أن علياً قال على منبر الكوفة: أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني، ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرؤوا مني، فقال(ع): ما أكثر ما يكذب الناس على علي(ع)! ثم قال: إنما قال: إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني، ثم تدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد، ولم يقل: ولا تبرؤوا مني، فقال له السائل: أرأيت إن أختار القتل دون البراءة؟ فقال: والله ما ذلك عليه وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان فأنزل الله عز وجل فيه:- (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)، فقال له النبي(ص) عندها: يا عمار إن عادوا فعد، فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا[3].

ولا يخفى تمامية سند هذه الرواية، لكن الظاهر عدم دلالتها على مدعى المستدل، حيث أن عمدة ما تفيده هو المنع عن البراءة من أمير المؤمنين(ع)، وهذا لا يظهر كونه من مختصات الشيعة(أعلى الله كلمتهم، وأنار برهانهم) لأن من الممكن أن لا يصدر ذلك من أبناء العامة غير النواصب، خصوصاً مع معتقد بعضهم في كونه رابع أربعة.

على أننا لو سلمنا بكونه مختصاً بالشيعة الإمامية، إلا أن مقتضى ما عرفت في بيان معنى البترية يستدعي عدم قبولهم للتبرئ من أمير المؤمنين(ع) لكونهم يعتقدون تقديمه على البقية، إلا أنه تنازل عن ذلك الأمر للأولين، أو لا أقل من كونهما تقدما عليه، وقد قبل بذلك، وهذا يعني أن المضمون المنقول في النص المزبور لا يكشف عن شيء يشير إلى كون حال مسعدة شيعياً.

لا يقال: إن التعبير بـ(الناس) الوارد في النص يشير إلى العامة، وعليه يكون الحديث كاشفاً عن ذلك.

فإنه يقال: إن هذا وإن تمّ، إلا أن عرض مسعدة للنص على المعصوم(ع) كاشف عن توقفه في قبوله، وتعبده بعد ذلك بما صدر من المعصوم، فيـبقى الحديث لا يستفاد منه المدعى، فلاحظ.

هذا وقد أشار المستشهد أو المستدل إلى روايات لمسعدة بن صدقة في المجلد الأربعين من البحار، وبمقدار ما تفحصت عاجلاً، لم أجد الروايات المشار إليها، نعم الموجود رواية لمسعدة بن زياد، كما أن هناك روايتين لمسعدة من دون نسبة لكونه ابن زياد أو كونه ابن اليسع أو كونه ابن صدقة.

هذا وتوجد روايات أخر قد تذكر للاستدلال بها على ثبوت كون مسعدة بن صدقة من الشيعة، لم يتعرض إليها المستدل، نشير إلى جملة منها:

منها: ما جاء في تفسير الكوفي عن مسعدة بن صدقة بسنده عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: إن نبينا محمداً(ص) أخذ بيدي يوم غدير خمّ، فقال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، فهل رأيت المؤمنون احتملوا ذلك إلا من عصمهم الله منهم؟! ألا فابشروا ثم أبشروا، فإن الله قد خصكم بما لم يخصّ به الملائكة والنبيـين والمؤمنين بما احتملتم من أمر رسول الله(ص)[4].

وبعيداً عن الخدشة السندية، لا دلالة للنص المذكور في المدعى، ضرورة أن المعنى السابق بالنسبة للبترية يساعد على نقل مسعدة لمثل هذا المضمون كما لا يخفى.

ومنها: ما جاء في قرب الإسناد بسنده عن مسعدة بن صدقة، قال: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه: أن إبليس عدو الله رنّ أربع رنات: يوم لُعن، ويوم أُهبط إلى الأرض، ويم بُعث النبي(ص)، ويوم الغدير[5].

ولا يخفى عدم دلالته على المدعى، لجريان الجواب المتقدم فيه، فلا حاجة للإعادة.

ومنها: ما رواه بسنده عن مسعدة بن صدقة، قال: حدثنا جعفر عن آبائه، أنه لما نزلت هذه الآية على رسول الله(ص):- (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قام رسول الله(ص) فقال: أيها الناس! إن الله تبارك وتعالى قد فرض لي عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدوه-إلى أن قال-فقال أبو عبد الله: فوالله ما وفى بها إلا سبعة نفر: سلمان، وأبو ذر، وعمار، والمقداد بن الأسود الكندي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، ومولى لرسول الله(ص) يقال له: ثبيت، وزيد بن أرقم[6].

ربما قيل بتمامية دلالة النص المذكور على المدعى، لأن الظاهر كونه(ع) بصدد الإشارة إلى انحراف الأمة عن أهل البيت(ع) بمنعهم الخلافة عن أهلها، وهذا يشير إلى ما عبّر عنه في بعض النصوص بارتداد الناس.

والأنصاف حسن هذا الوجه، لكن المانع من قبوله ما تقدم في بيان معنى البترية، مما يمنع من قبول التقريب المذكور، فتأمل.

ومنها: ما رواه بسنده عن مسعدة بن صدقة، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن آبائه، أن النبي(ص) قال: في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وإن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من توفدوا في دينكم وصلاتكم[7].

والأنصاف عدم دلالته على المدعى، خصوصاً بملاحظة ما ذكرنا في معنى البترية، فلاحظ.

ومنها: ما رواه بسنده عن مسعدة بن صدقة قال: قال أبو عبد الله(ع): امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وإلى أسرارنا كيف حفظهم لها عن عدونا..[8].

وقد يقال: بأن دلالتها على المدعى واضحة جداً، من خلال قوله:امتحنوا شيعتنا…الخ…، لأن الظاهر أن هذا الكلام الصادر منه(ع) يراد به توجيه شيعته، وبالتالي يكون المتحدث إليه منهم، حتى يقوم بنقل ذلك لأصحابه.

لكن الأنصاف عدم وضوح ذلك، خصوصاً بملاحظة عدة نصوص يستفاد منها كونه(ع) بصدد تمحيص المنـتسبين إليه، وليس مجرد ادعاء الانتماء إلى مذهب أهل البيت(ع) كافٍ لثبوت النسبة.

بل يحتمل قوياً عدم انعقاد ظهور للنص المذكور في المدعى أصلاً، بملاحظة الظروف الموضوعية التي صدر فيها النص، إذ الظاهر أن هذا النص يشير إلى حالة الغلو التي كانت منـتشرة في عصر الإمام الصادق(ع)، حيث قد أدعى بعضهم أن مجرد ولاية أهل البيت(ع) والبراءة من أعدائهم تكفي لإحراز رضا الله سبحانه وتعالى، ودخول الجنة، فيكون هذا الحديث ناظراً لتلك الحالة ورافضاً إياها، فتأمل.

ثم إن هذه الروايات التي نقلناها عن قرب الأسناد لا خدشة فيها من ناحية السند بناءاً على أن الواقع في السند هو هارون بن مسلم، وذلك لأن الحميري(ره) ذكر أنه يروي عن أبيه عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة.

ومنها: ما جاء في كمال الدين بسنده عن هارون بن مسلم عن سعدان عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن آبائه، عن علي(ع)، أنه قال في خطبة له على منبر الكوفة: اللهم لابدّ لأرضك من حجة لك على خلقك، يهديهم إلى دينك، ويعلمهم علمك، لئلا تبطل حجتك، ولا يضلّ أتباع أوليائك بعد إذ هديتهم به، إما ظاهر ليس بالمطاع، أو مكتـتم مترقب، إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم، فإن علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون[9].

والظاهر كونه مثل غيره من النصوص المتقدمة في عدم الدلالة على المدعى، من خلال ملاحظة المعنى المذكور للبترية، وبالتالي لا مجال للتمسك به.

ولا يخفى أن الوارد في المصدر ما سبق منا نقله، ويحتمل وجود تصحيف في المقام، وأن الصحيح هو هارون بن مسلم بن سعدان، لأن المقرر في محله أن هارون بن مسلم يروي عن مسعدة من دون واسطة. وبناءاً على هذا سوف يحكم بتمامية السند.

هذا وتوجد روايات ربما تمسك بها منقولة في تفسير العياشي، لكنها لا تخلو عن ضعف سندي، بل دلالتها على المدعى ليست واضحة، بحيث يمكن الجزم بالنـتيجة المدعاة منها، ولذا أعرضنا عن ذكرها.

فتحصل عدم بعض نهوض النصوص المشار إليها من قبل المستشهد مما ذكرناه سنداً ودلالة، كما أن النصوص التي ذكرت غير ما أفاده المستشهد وإن تمّ بعضها سنداً، لكنها مخدوشة بحسب الدلالة.

هذا وقد يمنع عن التمسك بهذه النصوص التي ذكرها المستدل، ونقلنا غيرها على المدعى لغير الخدشة السندية، وعدم تمامية الدلالة، وإنما لكونها معارضة بكون روايات مسعدة يظهر منها التقية، ففي التهذيب بعدما نقل بسنده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر، عن أبيه(ع) قال: قال علي(ع): لا وصية لوارث، ولا إقرار بدين…الخ…

قال(ره): فهذا الخبر ورد مورد التقية[10].

ومنها: ما جاء فيه عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: حدثني شيخ من ولد عدي بن حاتم، عن أبيه، عن جده عدي بن حاتم وكان مع علي(ع) في حروبه، أن علياً(ع) لم يغسّل عمار بن ياسر(ره) ولا هاشم بن عتبة-وهو المرقال-دفنهما في ثايبهما، ولم يصل عليهما.

قال محمد بن الحسن: ما تضمن هذا الخبر في آخره من أن علياً(ع) لم يصل عليهما، وهم-إلى أن قال-على أن هذا الخبر طريقه رجال العامة، وفيهم من يذهب إلى هذا المذهب، وما هذا حكمه لا يجب العمل به، لأنه يجوز أن يكون مورد التقية[11].

لكن الإنصاف عدم صلوح مثل هذه الرواية للمعارضة لتلك النصوص لو كانت تامة الدلالة والسند، لأن مجرد صدور رواية من المعصوم(ع) على التقية، لا تعني أن الراوي من المخالفين، بل من جزم بكونه منهم قد أورد عدة روايات عنهم(ع) على خلاف مذهب المخالفين، فلاحظ مرويات السكوني. نفسه.

لا يقال: إن ما ذكر صحيح في نفسه، لكننا إذا وجدنا عدة روايات لشخص موافقة لمذهب العامة، فإن ذلك يشير إلى شيء، وهو كونه منهم.

فإنه يقال: لو سلمنا بما ذكر، إلا أننا نقول بأنه لم يثبت كثرة في النقل لمرويات مسعدة الموافقة للعامة. بل الظاهر انحصار الأمر في مورد واحد، لأن المورد الثاني الذي نقلناه قد عقبه الشيخ(ره) في آخر قوله بالتالي: قوله: ولم يصل عليهما، وهم من الراوي[12]. فبناءاً على هذا لن تكون الرواية مخرجة على التقية، نعم تضمنت الخدشة في صلاحية الراوي للنقل، والحاجة إلى التأني في قبول مروياته، لعدم كونه ضابطاً.

فالأنصاف أنه بناءاً على تمامية الوجهين المذكورين للبناء على كونه إمامياً، تحصل المعارضة بين ما ذكره العلمان الجليلان الكشي والشيخ(ره)، وبين ما ذكره العلمان الجليلان النجاشي والقمي، فلابد للنظر في كيفية علاج ذلك، فنقول:

الموجود عندنا معارضة بين مقالة الكشي والنجاشي، كما عندنا معارضة بين مقالة الشيخ والنجاشي، وكلاهما معارضان لمقالة الشيخ القمي بناءاً على ما تقدم منا اعتباره ليحقق الغرض المطلوب.

وعلى أي حال، فأول ما يقع الحديث فيه، المعارضة بين مقالة الكشي ومقالة النجاشي، فنقول:

المعروف عن الفاضل الخاجوئي الالتـزام بتقدم قول الكشي على قول النجاشي، وعلل ذلك بأن الكشي لما كان أقدم زماناً، جعله ذلك أبصر بأحوال الرجال[13].

ولعل هذا المعنى أيضاً يظهر من شيخنا البهائي(قده) من خلال حكمه في ترجمة حماد بن عيسى بأن له نيفاً وسبعين سنة، وهو الموافق لمقالة الكشي، بينما اختار النجاشي أن له نيفاً وتسعين سنة، ومقتضى القواعد الطبيعية أن شيخنا البهائي قد اطلع على مقالة النجاشي، فتقديمه لمقالة الكشي خير شاهد على تقدم قوله عنده حين المعارضة بين المقالتين.

وقد يستظهر هذا المعنى أيضاً من رجال ابن داود[14]، وكذا من نقد المقال للسيد التفرشي(ره)[15]، إذ قدما رجال الكشي على رجال النجاشي في مقدمة كتابيهما عند استعراضهما لبيان الرموز، فيستكشف من ذلك تقديم مقالة الكشي على النجاشي.

وفي مقابل من ذكرنا مختارهم هناك من قال بتقديم قول النجاشي على قول الكشي، وقد ذكرت لذلك تقريـبات:

منها: أن النجاشي أضبط علماء الرجال، وهذا واضح في أنه يستلزم تقديم مقالته على مقالة غيره، ويظهر هذا التقريب من غير واحد من الأعلام، كبعض الأعاظم(قده) في موسوعته الرجالية في غير مورد من موارد التعارض فلاحظ.

ومنها: ما يستفاد من الأستربادي، حيث قدم ذكر النجاشي على كتاب الكشي عند استعراضه للرموز، بل جرى على تقديمه في تضاعيف التراجم[16].

ومنها: ما التـزم به الشيخ الكلباسي في رسائله من أن نكتة التقديم لقول النجاشي على قول الكشي، أمران:

أولهما: أن نظر المتأخر أقرب إلى الصواب.

ثانيهما: لا ريب في أن النجاشي متفطن لأغلاط الكشي، كما يظهر ذلك حين تعرض النجاشي لحال الكشي، ونصه على أن له كتاب الرجال، وفيه أغلاط كثيرة[17].

أقول: ينبغي بناء المسألة على ما هو الوجه في حجية قول الرجالي، فإننا لو بنينا الحجية فيه على ما هو المختار من أنه خبر الثقة في الموضوعات إذا أفاد وثوقاً واطمئناناً، فلا ريب في أن العقلاء في مثل هذه الموارد يـبحثون عن موجبات الوثوق، ومدى حصولها لكي يحكم بتحققه، ومن ثمّ البناء على التقديم، ومن الواضح أن هذا لن يوجب الجزم بتقديم قولٍ، بقول مطلق من القولين دائماً، بل سوف يخـتلف المورد من مقام لآخر في الجملة.

ولذا ذكرنا في محله في البحث الرجالي، أن الحق يقتضي التوقف عند حصول مثل هكذا موارد للشك في حصول الاطمئنان والوثوق، فلا مجال للحكم بأحد القولين، وتفصيله بشكل أكبر يطلب من البحث الرجالي.

وأما بالنسبة للوجوه التي ذكرت لتقديم كل واحد من القولين، فلا يخفى ما فيها من الخدشة والمناقشة.

ومنه يتضح الكلام بالنسبة للمعارضة بين قول الشيخ(ره) وبين قول النجاشي، إذ تبتني المسألة فيه أيضاً على نفس المسألة السابقة، وبالتالي يجري فيه ما تقدم أيضاً كما لا يخفى.

ومثل هذا يجري أيضاً بالنسبة للمعارضة بين مقالتي الكشي والشيخ وما جاء في التفسير، وعليه يأتي الكلام السابق الذي تقدم ذكره.

وبالجملة، مقتضى ما بنينا عليه المسألة، هو البناء على التوقف في كون مسعدة إمامياً، أو بترياً أو عامياً، فما جزم به بعضهم بعدم ثبوت المعارض لمقالة العلمين والبناء على أن مسعدة بتري، أو عامي[18]، ليس كما ينبغي فلاحظ.

السادس: ما يمكن استظهاره من عدة قرائن ذكرناها في بحوث سابقة، وخلاصتها البناء على اتحاد مسعدة بن صدقة مع مسعدة بن زياد الذي ورد في حقه توثيق من النجاشي، وبالتالي الحكم بوثاقة مسعدة بن صدقة. وقد حكم بهذا الوجه بعض الأعلام(قده)[19].

ومنها: مرسل الصدوق، قال: قال الصادق(ع): كُل من السمك ما كان له فلوس، ولا تأكل منه ما ليس له فلس[20].

ولا يخفى تمامية دلالتها على المدعى، لكن المشكلة تكمن في ضعفها السندي بسبب الإرسال.

وقد يحاول التغلب على ذلك من خلال أحد طرق ثلاثة:

الأول: التمسك بما جاء في مقدمة الفقيه في الديـباجة، من تصريح الصدوق(ره) من أنه لا ينقل في كتابه إلا خصوص ما كان حجة بينه وبين ربه، وعليه يكون ذلك شهادة منه(قده) بصدور هذه النصوص عن المعصوم(ع)، فيقبل قوله، قال(ره): ولم أقصد فيه قصد المصنفين إلى إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتى به وأحكم بصحته وأعتقد أنه حجة بيني وبين ربي جل ذكره، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع[21].

الثاني: إن النصوص الواردة في كتابه كلها مستخرجة من كتب مشهورة، وعليها المعول وإليها المرجع، وهذا يستدعي قبولها ودخولها دائرة الحجية[22].

الثالث: من الواضح أن هذا النص من مرسلات الصدوق(ره)، وهو سبب داعٍ إلى سقوطه عن الحجية والاعتبار بسبب الإرسال، إلا أنه لابد من التفصيل بالنسبة لمرسلات الصدوق، بجعلها قسمين، يخرج أحدهما عن دائرة الحجية، لكونه لا يخـتلف عن بقية المراسيل الأخرى، وهو ما ورد بلسان(روي)، ويدخل الآخر دائرتها، وهو المراسيل التي تكون بلسان(قال)، وهو المعبر عنه بمراسيل الصدوق الجزمية، التي جزم فيها بنسبته الحديث للمعصوم(ع)، ومقتضى إحاطة الصدوق(رض) بكون الكذب على المعصوم من الكبائر، وكون الصدوق أحد أجلاء الطائفة وفقهائها، يمنعه عن أن ينسب للإمام(ع) ما لم يحرز صدوره، فيـبثت صدور الخبر.

وقد بنى على هذا الوجه غير واحد من الأعلام، كالفقيه الجليل السيد البروجردي(ره) وبعض الأعيان(قده) وبعض الأعلام المعاصرين، ومال له بعض الأساتذة(دامت أيام بركاته) كما يحكى عنه.

لكن المحقق في محله عدم نهوض أي واحد من الوجوه السابقة للحكم بحجية مثل هذا الخبر، وبالتالي لن يدخل الخبر دائرة الحجية.

ومنها: خبر الفضل بن شاذان عن الرضا(ع)-في كتابه إلى المأمون- قال: محض الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله-إلى أن قال-وتحريم الجري من السمك، والسمك الطافي، والمارماهي، والزمير، وكل سمك لا يكون له فلس[23].

أقول: لا يخفى أن مصدر هذا النص هو كتاب عيون أخبار الرضا(ع)، وقد يقال: إن مقتضى تسمية الكتاب بهذا الاسم مدعاة للبناء على حجية جميع رواياته واعتبارها،

لأن المراد من العين هو خصوص ما يكون منـتخباً ومميزاً، فكأن الصدوق(ره) أنتخب ما هو مميز ومعتبر ونقله في هذا الكتاب.

لكن الصحيح عدم تمامية هذا المعنى، لأننا ذكرنا في محله المنع عن تمامية هذه الدعوى، ومن ثمّ لا مجال للبناء على مثل هذه المقالة، بل ينبغي أن تعامل روايات الكتاب كسائر الروايات الأخرى.

هذا وقد يذكر مانع عن قبول هذا النص فضلاً عن الإشكال السندي المتصور فيه، وهو عدم نقله في أحد الكتب الأربعة، حيث نجد أن شيخنا الصدوق(ره) مع كونه قد كتب كتابه الفقيه الذي نقل فيه خصوص ما يكون حجة بينه وبين ربه، إلا أنه لم ينقل فيه هذا النص، مما يكشف عن إعراض منه عنه، وبالتالي سقوطه عن دائرة الحجية، لأن الإعراض من المشهور، لو لم يكن بنفسه مانعاً من دخول الخبر دائرة الحجية، فلا ريب في أنه يكشف عن وجود خلل في أصالة الصدور أو الجهة، بل ربما أصالة الظهور أيضاً كما هو غير بعيد، فلاحظ.

نعم ربما كان وجود نصوص أخرى متضمنة لنفس المضمون داعية للقبول بمثل هذا النص لو لم يكن هناك مانع آخر عن حجيته.

——————————————————————————–

[1] وسائل الإنجاب الصناعية ص 650.

[2] بحار الأنوار ج 39 ص 280.

[3] المصدر السابق ج 23 ص 310 .أصول الكافي ج 2 ص 219.

[4] تفسير فرات الكوفي ح 494 ص 364.

[5] قرب الإسناد ص 9 ح 30.

[6] المصدر السابق ص 78 ح 254.

[7] المصدر السابق ص 77 ح 250.

[8] المصدر السابق ص 87 ح 253.

[9] كمال الدين وتمام النعمة ص 302 ح 11.

[10] التهذيب ج 9 ح 665.

[11] المصدر السابق ج 6 ح322.

[12] المصدر السابق ج 1 ح 968.

[13] الفوائد الرجالية ص 49.

[14] رجال ابن داود ص 25.

[15] نقد الرجال ج 1 ص 35.

[16] منهج المقال ص 14.

[17] الرسائل الرجالية للكلباسي ج 2 ص 302.

[18] وسائل الإنجاب الصناعية ص 650.

[19] مصادر فقه الشيعة في شرح وسائل الشيعة ج 1 ص 122.

[20] الوسائل ب 8 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 7.

[21] من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 3.

[22] المصدر السابق ص 3.

[23] الوسائل ب 9 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 9.