28 مارس,2024

حكم ما لا فلس له من الأسماك (4)

اطبع المقالة اطبع المقالة

[size=6][/size]
[font=arial]هذا وقد يتمسك لإثبات العموم أو الإطلاق بنحو خاص في باب صيد البحر فقط بإحدى آيتين، أو بكليهما:[/font]
الأولى: قوله تعالى:- (أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة)[1]. ودلالتها على المدعى بحسب الظهور الأولي لا تنكر، إذ يستفاد منها حلية كل ما تم اصطياده من البحر، وهي بهذا المعنى لا تفرّق بين كون المصيود سمكاً أو غيره، بل لا فرق بين كون السمك مما لا له فلس أو لا.

نعم قد يمنع من قبول دلالتها عدم وضوح المراد من كلمة(الصيد) في الآية، إذ يحتمل أن يكون بمعنى الاصطياد، كما يحتمل أن يكون بمعنى المصطاد. قال بعض الأعلام(قده) في مقام الحديث عن مدى إمكانية التمسك بالآية كعموم أو إطلاق يكون مرجعاً عند فقد الدليل، فذكر أنه لابد من تفسير كلمتين فيها وهما(الصيد) و(الطعام)، فذكر(ره) أن هناك احتمالات:

الأول: أن يراد بالصيد عملية الصيد نفسها، أو الاصطياد، ويراد بالحلية جوازها الشرعي، ويراد بالطعام كل ما استخرج من البحر مما يكون قابلاً لأكل البشر.

الثاني: أن يراد بالصيد الحيوان المصطاد، لا عملية الصيد نفسها وهو الأظهر عرفاً من الآية الكريمة. ومن قرائن ذلك عطف الطعام عليه، إذ أن وحدة السياق بينهما يقتضي وحدة النوع بينهما، فإذا كان معنى الصيد بمعنى الاصطياد كان النوع مختلفاً، فيتعين حمل الصيد على الحيوان المستخرج بالصيد.

ويراد بالحلية حينئذٍ هو حلية أكل لحمه ويراد بالطعام الأمور الأخرى القابلة لأكل البشر مما قد يكون موجوداً في البحر.

الثالث: أن يراد بالصيد خصوص الحيوان القابل للاصطياد عرفاً دون غيره، ومثال ما لا يكون قابلاً للصيد، تلك الأحياء التي لا تكون قابلة للسباحة، وإنما هي مربوطة بقعر الماء. وأما المراد من الحلية ومن الطعام فكما قلنا في الاحتمال السابق.

الرابع: أن يراد بالصيد خصوص ما يجوز أكله فعلاً من أحياء البحر، يعني بلحاظ الأدلة الأخرى الواردة بهذا الصيد لا مطلق ما يصدق عليه الصيد عرفاً، فيكون معنى الحلية والطعام ما سبق.

الخامس: أننا أي شيء فهمنا من معنى الصيد كان معنى الطعام شاملاً للباقي من موجودات البحر، فمثلاً مع الاحتمال الثالث يكون المراد في الطعام نباتات البحر مع الأحياء الأرضية فيه. ومع الاحتمال الرابع يكون المراد من الطعام مضافاً إلى ما قلناه كل ما لم يدل دليل على حليته فعلاً، كالسمك الذي ليس له قشور.

السادس: أن يراد بالطعام نفس ما أريد بالصيد فيكون عطفاً تفسيرياً عليه، من باب أن الحيوان المصطاد لا شك في أنه مأكول لحمه فيكون جزءاً من بعض الطعام.

والمهم أن القريب إلى الذهن العرفي في فهم الصيد هو الحيوان الذي يكون قابلاً للاصطياد عرفاً لا عملية الصيد ولا الحيوان الذي يكون قابلاً له، كما أن الظاهر في الطعام عرفاً هو ما لا يكون حيواناً عرفاً وإن كان قد يكون حيواناً بالفهم العلمي الحديث.

والقرينة على ذلك هو مقابلته للصيد الذي هو من جنس الحيوان، والعطف دليل على المغايرة، فيتعين أن يكون الطعام من غير جنس الحيوان. ولعل هذا الاختيار احتمالاً آخر غير الاحتمالات الستة السابقة.

وعلى أي حال، فلا شك في الآية الكريمة إطلاقاً واسعاً شاملاً لكثير من الحيوانات البحرية التي ثبت تحريمها بالأدلة الأخرى. إلا أنها على أي حال ستكون المرجع الرئيسي عند الشك في الحلية في شيء من موجودات البحر وستؤدي بنا إلى الحلية[2].

أقول: لا يخفى أن بعض المحتملات المذكور خالية عن القرينة مما يجعلها مجرد دعاوى لا يمكن قبولها، فلاحظ الاحتمال الثالث والرابع والخامس والسادس، ولذا ينبغي أن يكون محط البحث هو خصوص الاحتمالين الأول والثاني.

ولا ريب أن مقتضى حمل الألفاظ على معانيها العرفية وظهوراتها الأولية يوجب حمل الآية على الاحتمال الأول، وعليه لن تكون الآية دالة على المدعى، لأنها حينئذٍ سوف تكون في مقام بيان حلية الاصطياد، ولا نظر لها بالنسبة إلى ما يصاد من قريب أو بعيد، ونحن بصدد الحديث عن الثاني، لا عن الأول.

إن قلت: أن مقتضى حلية عملية الاصطياد مطلقاً تستوجب البناء على حلية كل ما يصاد، فيثبت المطلوب حينئذٍ.

قلت: بأنه لا ملازمة بين الأمرين، فربما حكم بحلية الصيد، لكنه لا يحكم بحلية كل ما وقع الصيد عليه.

لكن ربما كانت هناك قرينة تدل على المحتمل الثاني، ولا أقل من كونها مؤيدة لذلك، وهي تمسك الفقهاء بالآية الشريفة على اعتبار إخراج السمك حياً للحكم بذكاته. وهذا يعني أنهم فهموا أن المراد من الصيد بالآية عبارة عن المصيود.

إلا أنه هناك ما يمنع من قبول هذا الاحتمال، ويؤيد الاحتمال الأول، ضرورة أن الحلية متعلقة بصيد البحر، وليس متعلقة بحيوان البحر، ومع كون الأمر كذلك، لا مجال حينئذٍ للبناء على استفادة الحلية منها بقول مطلق.

وهذا نفسه شاهد على منع الاحتمالات الأربعة الأخيرة، مما يؤكد ما ذكرناه قبل قليل.

نعم يشهد للاحتمال الثاني بعض الروايات التي فسرت الصيد الوارد في الآية الشريفة بمعنى المصطاد من حيوان البحر، ففي خبر حريز عن أبي عبد الله(ع) قال: (أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم) قال: مالحه الذي يأكلون، وقال: كل طير يكون في الآجام يـبيض في البر ويفرخ في البر من صيد البر، وما كان من الطير يكون في البر ويـبيض في البحر ويفرخ فهو من صيد البحر[3].

وعن زيد الشحام عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن قول الله:- (أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة)قال: هي حيتان المالح، وما تزودت منه أيضاً وإن لم يكن مالحاً فهو متاع[4].

حيث أنه(ع) طبق الآية الشريفة على المصيود، وهذا يعني أن المراد من الصيد الوارد فيها هو المصيود.

نعم ربما قيل أن الوارد في النصين السابقين من باب الجري، ومع كونه كذلك لا يمكن التمسك بهذين النصين على المدعى، ويشهد لما ذكرناه صحيحة حريز عن أبي عبد الله(ع) قال: لا بأس أن يصيد المحرم السمك ويأكل طرّيه ومالحه، ويتزود، قال الله تعالى:- (أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم) فليختر الذين يأكلون. وقال: فصْلُ ما بينهما: كل طير يكون في الآجام يـبيض في البر ويفرّخ في البر فهو من صيد البر، وما كان من الطير يكون في البحر ويفرّخ في البحر فهو من صيد البحر[5].

ومثل ذلك مرسله المنقول في الكافي[6]، فلاحظ.

والحاصل، أن البناء على قبول الاحتمال الأول من الاحتمالات المذكورة، وكونه المراد من الآية الشريفة أقرب بحسب ما ذكرنا من شواهد، وأن الاحتمال الثاني لا ينهض ما يشير إليه أو يؤيده، وليست النصوص الواردة في الإشارة إليه صالحة للدلالة عليه، لكونها من باب الجري كما بيّنا، وعلى هذا لن تصلح الآية الشريفة حينئذٍ للدلالة على المدعى.

ثم إننا لو رفعنا اليد عن ما ذكرنا، وقلنا بقبول الاحتمال الثاني من الاحتمالات السابقة، بحيث تكون الآية الشريفة حينئذٍ دالة على المدعى، خصوصاً بملاحظة كلمات الفقهاء فتاواهم كما ذكرنا، بل أكثر من ذلك، ما صنعه ابن حزم الأندلسي من العامة من التمسك بالآية الشريفة للبناء على حلية مطلق السمك، وأنه لا تعتبر الذكاة فيه بحيث لا يفرق فيما أخذ من البحر بين كونه حياً أو ميتاً، إلا أنه لا مجال للتمسك بالآية أيضاً للدلالة على المدعى، لكون الموضوع فيها ليس مطلقاً بحيث يفيد حلية كل صيد من صيد البحر، بل الموضوع في الآية الشريفة أجنبي عن حلية صيد البحر، لأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي في مقام بيان حلية تناول ما كان محللاً للمحرم من صيد البحر قبل إحرامه، حتى بعد الإحرام، وعليه فهي ساكتة عن بيان ما يحل أكله من صيد البحر وما لا يحل.

ومما يؤكد هذا المعنى ذيل الآية المباركة إذ جاء فيها:- (وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً). بل أكثر وضوحاً في الدلالة على ذلك الآيات الشريفة المتقدمة على هذه الآية فإنها بصدد الحديث عن حرمة الصيد البري بالنسبة للمحرم، قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن أعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم*يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام*أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً واتقوا الله الذي إليه تحشرون)[7].

فإن مجموع الآيات واضح في كون الحديث كان منصباً على حرمة الصيد بالنسبة للمحرم، وهو بهذا المعنى أفاد معنى مطلقاً يشمل صيد البر والبحر، مما يفيد حظر كليهما على المحرم، فجاءت الآية محط البحث لترفع توهم الحظر بالنسبة لصيد البحر من جهة جواز تناوله، فأفادت أن صيد البحر الذي كان محللاً تناوله قبل الإحرام يجوز تناوله بعد الإحرام وليس ذلك بممنوع، بخلاف صيد البر.

ويؤيد ما ذكرناه مرسل حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله(ع) قال: لا بأس بأن يصيد المحرم السمك، ويأكل مالحه وطرّيه ويتـزود. وقال:- ( أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم) قال: مالحه الذي يأكلون، وفصْلُ ما بينهما: كل طير يكون في الآجام يـبيض في البر، ويفرّخ في البر، فهو من صيد البر، وما كان من صيد البر يكون في البر ويـبيض في البحر ويفرّخ في البحر فهو في صيد البحر[8].

وإنما جعلناه مؤيداً لعلة الإرسال، نعم يمكن أن يجعل شاهداً بلحاظ ما رواه الشيخ(قده) عن حريز عن أبي عبد الله(ع) قال: لا بأس أن يصيد المحرم السمك ويأكل طريه ومالحه، ويتـزود، قال الله تعالى:- (أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم) فليختر الذين يأكلون. وقال: فصْلُ ما بينهما: كل طير يكون في الآجام يـبيض في البر ويفرّخ في البر فهو من صيد البر، وما كان من الطير يكون في البحر ويفرّخ في البحر فهو من صيد البحر[9]. والقول بالإتحاد غير بعيد، خصوصاً وأن مصدر النص هو كتاب حريز، وبالتالي يتردد الأمر بين كونه مسنداً وبين كونه مرسلاً، وقد يقال: أن الترجيح لما رواه شيخنا الكليني(ره) لكونه أضبط من شيخنا الطوسي(قده) وهو الذي قد مدحه النجاشي بما مدحه به من كونه أعرف أصحابنا بعلم الحديث، وقد قضى تلك المدة الزمنية في جمع روايات كتابه. وأما شيخ الطائفة(ره) فقد ابتلي بكثرة التأليفات والتصنيفات فوقع في ما وقع فيه.

لكن الإنصاف أن هذا لا يمكن الالتـزام به، لأن كون شيخ الطائفة كذلك لا يعني عدم الاعتناء بنقله ولو في مورد الاختلاف، على أن ما ذكر في حق شيخنا الكليني(قده) لا يستلزم تقديم قوله على قول شيخ الطائفة كما لا يخفى.

وقد يجعل المورد من دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة، وقد يقال بتقدم أصالة عدم الزيادة، وهذا يستوجب تقديم ما رواه الشيخ(قده).

لكن الإنصاف أن هذين أصلان عقلائيان، يعمد إليهما العقلاء، والظاهر أن العقلاء في هكذا مورد لا يحكمون بتقدم أحدهما على الآخر، بل يعمدون إلى التوقف.

ولذا فالأنصاف يستوجب التوقف في قبول هذه الرواية من حيث السند، خصوصاً على مسلك الوثوق في الحجية كما هو المختار.

هذا وقد يقال بترجح ما رواه الكليني(قده) على ما رواه الشيخ، تمسكاً بما حكاه النجاشي في رجاله عن يونس، حيث قال: وقال يونس: لم يسمع من أبي عبد الله(ع) إلا حديثين[10].

وهذا يعني أن مرويات حريز عن أبي عبد الله(ع) لابد من كونها بواسطة، أو من خلال الوجادة، وبناءاً على عدم حجية الرواية بالوجادة كما قيل، فعندها لن تكون مروياته حجة إذا كانت كذلك، وأما لو كانت بالواسطة فإن عرف الواسطة نظر في حاله فإن حكم بوثاقته كما في مروياته عن محمد بن مسلم مثلاً، فلا ريب في قبولها، وإن لم يعرف الواسطة كما في موردنا لكونه مجهولاً بسبب الإرسال فيسقط الحديث عن الحجية، لعدم كون حريز ممن لا يرسل إلا عن ثقة.

وبالجملة، مقتضى هذه الشهادة الصادرة من يونس، وعدم تعقيب الشيخ النجاشي وهو خريت هذا الفن كما قيل عليها بشيء يكشف عن قبولها لها، ولو بطريق الإنّ، وعليه يترجح نقل الكليني(قده).

وقد أجاب عن شهادة يونس(رض) بعض الأعاظم(قده)، بأنه لا يمكن تصديق هذه الرواية المروية عن يونس، بعدما ثبت بطرق صحيحة روايات كثيرة تبلغ 215 مورداً عن حريز عن أبي عبد الله(ع)، ومع ثبوت هذا العدد الكثير كيف يمكن قبول عدم روايته عن أبي عبد الله(ع) من دون واسطة[11].

وهذا بنفسه ما التـزم به بعض المحققين(قده) إذ ذكر بعد نقله عبارة يونس السابقة أن الذي وقفنا عليه كثير، ثم أخذ في تعداد بعض النصوص التي لم يروها حريز بواسطة عن أبي عبد الله(ع)، وإنما رواه عنه(ع) مباشرة، فذكر أربعة عشر نصاً، ثم قال: لعل المتـتبع بجد أكثر من ذلك[12].

لكن لا يخفى أن هذا الجواب أشبه بالمصادرة، إن لم يكن مصادرة واضحة، حيث أنه(قده) عمد إلى إثبات الدعوى بعين المدعى، إذ المدعى رواية حريز عن أبي عبد الله(ع) بلا واسطة، والدليل على ذلك وجود عدة روايات لحريز عن أبي عبد الله(ع) بلا واسطة، فلاحظ.

على أنه لا مانع من كون جميع هذه الموارد مما روي مرسلاً، لكن النساخ أو الناقلين لهذه النصوص قد أسقطوا التعبير بما يشير للإرسال، فلاحظ.

ولبعض المحققين(قده) في البين كلام يصلح رداً على هذا الجواب المذكور، وهو: أن من المحتمل أن يكون حريز الوارد في هذه النصوص شخصاً آخر غير حريز السجستاني، في الموارد التي لم يكن أبوه مذكوراً، ولم يكن الراوي عنه حماد. لكون راويته هو حماد، فقد ورد في المشيخة والفهرست والنجاشي طرقاً متعددة إليه، كلها تنـتهي إلى حماد عنه.

مضافاً إلى أن البرقي قد عدّ من جملة أصحاب أبي عبد الله(ع) شخصاً آخر اسمه حريز بن عثمان[13].

وقد أجيب عن شهادة يونس(ره) بجواب آخر، وهو: بأنه لا مجال للترديد في رواية حريز عن أبي عبد الله(ع) بلا واسطة، لكثرة رواياته عنه، وهي على أنحاء:

الأول: ما كان حريز واقعاً فيها في آخر السند إلى الإمام الصادق(ع)، وهي التي يرمز لها اصطلاحاً بالقول(عن)، وهذه الطائفة وإن كثرت فربما لا تقاوم النص الذي ذكروه من أنه لم يرو عن أبي عبد الله(ع)، أو أنه لم يرو عنه إلا حديثين، فيكون قرينة على الإسناد بواسطة.

الثاني: الروايات التي صرح فيها بقوله: سألت، أو دخلت، أو سمعت، أو نحو ذلك، والأمر فيها ظاهر.

الثالث: الروايات التي ذكر فيها ما جرت بينهما من الوقائع مما هي صريحة في الرواية عنه، فيدفع بها القول بعدم روايته أو عدم روايته أكثر من حديثين كما لا يخفى.

فإن الشهادة على عدم الرواية من غيره مبنية على الحدس، ولا تكون حجة، فضلاً عن مقاومتها لهاتين الطائفتين من الروايات، ولم يشهد أحد بأن حريزاً قال: لم أسمع، أو لم أروِ عن أبي عبد الله(ع)، حتى تكون شهادة حسية عن إقراره.

مضافاً إلى أن عدة من أعلام الطائفة قد رووا بأسانيدهم عن حريز عن أبي عبد الله(ع) من دون واسطة بينهما، فقد روى البرقي والحميري والكليني والكشي والصدوق والشيخ والنعماني، وغيرهم[14].

أقول: لا ريب في أن تمامية كلامه(قده) في الإجابة عن شهادة يونس إنما تـتم وفقاً للنحوين الثاني والثالث من الأنحاء الثلاثة التي ذكرها في روايات حريز عن أبي عبد الله(ع)، دون النحو الأول، لا لما أشار له(قده) فقط، بل لما عرفت منا جوابه قبل قليل عن كلام العلمين السابقين، فراجع.

هذا والصحيح أن الإشكال السابق وارد في النحو الثاني من الأنحاء الثلاثة أيضاً، وذلك لأن الوارد هو قوله: سألت مثلاً، وهنا يوجد احتمالان:

الأول: أن يكون السائل هو حريز مباشرة من الإمام(ع)، ويثبت بذلك المطلوب.

الثاني: أن يكون السائل هو الذي يروي عنه حريز، فلا دلالة لذلك على المدعى.

وإنما يتصور الإشكال المانع من قبول الاحتمال الثاني، أو هذا النقل من حريز يستوجب كون حريز كاذباً، لأنه قد نسب السؤال إلى نفسه دونما إشارة إلى كونه قد سُأل من قبل غيره، لكن هذا المانع يندفع بملاحظة ما سبقت الإشارة إليه من احتمال إسقاط المنقول عنه مرسلاً من قبل النساخ أو مؤلفي الكتب، وعليه لا يقال في حق حريز أنه كاذب، فتأمل.

وأما النحو الثالث، فبمقدار ما فحصت عاجلاً مستعيناً بما ذكره بعض الأعاظم(قده) في ترتيب الطبقات، فلم أجد مصداقاً لما أفاده(قده)، ومن هنا يصعب الالتـزام به.

بقي أن نشير إلى ما جاء في ختام كلامه(ره) من أن شهادة يونس بعدم الرواية شهادة حدسية، مع أنه لم يسمع من حريز إقرار على عدم روايته عن أبي عبد الله(ع) ليكون أمراً حسياً.

ولا يخفى ما فيه، ضرورة أن كون يونس قريـباً من عصر هؤلاء الرواة يـبعد أن تكون شهادته هذه شهادة حدسية، فضلاً عن أن قبول مثل النجاشي(ره) وهو كما قيل خريت هذا الفن، يمنع من كون الشهادة حدسية، بل هي حسية أو قريـبة من الحس.

فالأنصاف أن البناء على روايات حريز المروية عن أبي عبد الله(ع) بدون واسطة لا يخلو عن إشكال، بل منع.

هذا ولا يذهب عليك أنه بناءاً على هذا الجواب الذي ذكرناه عن الآية يتساوى الاحتمالان الأول والثاني من حيث صلوحه للقرينية، وذلك لأننا لو قلنا بأن الآية في مقام بيان حلية الصيد البحري حال الإحرام، فعندها سوف يكون هذا الظهور بمثابة القرينة على الاحتمال الأول، أما لو قلنا بأن الآية بصدد بيان حلية أكل المصطاد أثناء الإحرام، فعندها سوف تكون الآية قرينة على إرادة الاحتمال الثاني.

والإنصاف أن كلا الاحتمالين وارد في الآية الشريفة، ويصعب الترجيح بينهما، فتأمل.

الثانية: قوله تعالى:- (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً)[15].

وتقريب الاستدلال بها: لقد دلت الآية الشريفة على حلية أكل الحيوانات المستخرجة من المياه سواء كانت مياهاً عذبة أم كانت مياهاً مالحاً، بشرط أن تكون هذه الحيوانات المستخرجة طرية، ولم تعتبر فيها شيئاً آخر وراء ذلك، فتفيد قاعدة كلية عامة يصلح الرجوع إليها عند إعواز الدليل.

ولا يخفى أنه إنما يتم التقريب المذكور إذا كانت الآية الشريفة في مقام البيان من هذه الجهة، أما لو كانت الآية المباركة ناظرة إلى شيء آخر، فلا ريب في أنه لن تصلح للدلالة على المدعى، والظاهر هو الثاني، حيث أن المستفاد كونها في مقام بيان نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان، وليست في مقام بيان الحلية والحرمة، حيث أن الظاهر كون الآية بصدد بيان المنافع الثابتة للبحار التي يمكن للإنسان أن ينتفع بها، ويشهد لهذا ما جاء في ذيل الآية الشريفة:- (وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله لعلكم تشكرون) حيث أنها تشير إلى أن من فوائد البحر كونه وسيلة من وسائل النقل والانتقال.

فتحصل إلى هنا أنه لم ينهض دليل اجتهادي بمثابة العموم يصلح الرجوع إليه عند إعواز الدليل، نعم لا ريب في وجود أصالة الحل القاضية بحلية كل شيء مما لم يرد دليل اجتهادي على المنع من أكله.

——————————————————————————–

[1] سورة المائدة الآية رقم 96.

[2] ما وراء الفقه ج 7 ص 57-59.

[3] تفسير البرهان ج 2 ص 532 ح 4، نقلاً عن تفسير العياشي.

[4] المصدر السابق ح 5.

[5] المصدر السابق ح 3، نقلاً عن التهذيب.

[6] المصدر السابق ح 1.

[7] سورة المائدة الآيات رقم 94-96.

[8] البرهان في تفسير القرآن ج 2 ص 531 ح 1.

[9] المصدر السابق ح 3 ص 532.

[10] رجال النجاشي ص 144 رقم 375.

[11] معجم رجال الحديث ج 5 ص 232.

[12] قاموس الرجال ج 3 ص 164- 166.

[13] قاموس الرجال ج 3 ص 167.

[14] تهذيب المقال ج 5 ص 280-281.

[15] سورة فاطر الآية رقم 12.