20 أبريل,2024

ثنائية الدين(2)

اطبع المقالة اطبع المقالة
ثنائية الدين(2)

 

نفي الإكراه:

فمن تلك الآية المستند إليها في ذلك، قوله تعالى:- (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)[1]، وقد قربوا دلالتها على مدعاهم بأن مفادها حرية تدين الإنسان بما يحب ويعتقد، وليس لأحد أن يجبره على شيء.

ومن المعلوم أن القبول بدلالتها على المطلوب رهين إحراز دلالتها على ذلك، وهذا يستدعي البحث فيها من جهات:

 

الأولى: سبب نزول الآية:

لا يخفى أن بعض الآيات الشريفة يتوقف احراز مدلولها وتحديد المقصود منها على ملاحظة سبب نزولها، فلا يمكن أن يعرف موضوعها دون ملاحظة ذلك، فمن ذلك قوله تعالى:- (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)[2]، فإنه لولا ملاحظة سبب نزول الآية الشريفة، يصعب تحديد المقصود بالذين آمنوا فيها، وأنه أمير المؤمنين(ع)، ومثل ذلك آية التطهير أيضاً، وغير ذلك العديد من الآيات الشريفة.

وعلى أي حال، فقد تضمنت المصادر التفسيرية ذكر عدة أسباب نزول لهذا المقطع من الآية الشريفة، نشير لبعضها:

 

أحدها: ما حكي عن ابن عباس، وغيره من أنها قد نزلت في رجل من الأنصار، أو في قوم منهم، كان لهم أولاد قد هودوهم، أو نصروهم، فلما جاء الإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختاروا الدخول في الإسلام.

ثانيها: ما أختاره مجاهد، وجماعة من أنها نزلت في استرضاع بعض الأنصار أولادهم في بني النضير.

ولمجاهد رأي آخر في سبب نزولها غير هذا الرأي، وهو أنها قد نزلت في رجل من الأنصار، كان له غلام أسود، يقال له: صبُع، وكان يكرهه على الإسلام.

ثالثها: أنها قد نزلت في رجل من الأنصار من بني عوف، وكان اسمه الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي(ص): ألا استكرهما فإنهما أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.

رابعها: ما نقل عن أنس من أنها نزلت فيمن قال له الرسول: أسلم، فقال: أجدني كارهاً.

ومع غض الطرف عن المناقشة في أسناد هذه النصوص الحاكية لسبب النـزول، إلا أن القارئ يلحظ اتفاقها على موضوع واحد وهو أهل الكتاب، فإنهم هم المنفي إكراههم على اعتناق الدين الإسلامي وإعطائهم الحرية في انتخاب العقيدة التي يرغبون التعبد بها.

 

والحاصل، إن موضوع أسباب النزول التي تقدمت هم أهل الكتاب، وهذا مانع من الاستناد إليها في إثبات المدعى من ثبوت حرية الاعتقاد لكل فرد فيمكنه انتخاب ما يحب.

نعم حتى يصح الاستناد إليها، يلزم ثبوت إطلاق لها، وعدم اختصاصها بأهل الكتاب، وهذا رهين توفر أحد أمرين:

 

الأول: الالتـزام بأن المورد لا يخصص الوارد، فيكن باقياً على حاله من حيث السعة والشمولية، سواء كان المورد عموماً، أم كان إطلاقاً.

الثاني: أن لا تصلح أسباب النـزول المذكورة للتقيـيد، لأنها من موارد الجري والتطبيق، فيكون أهل الكتاب أجلى مصاديق عدم الإكراه على اعتناق الدين، لا أنهم تمام الموضوع، فلا يكون الإكراه على الدين منحصراً فيهم، بل هو مطلق.

والإنصاف، أنه يصعب رفع اليد عن سبب النزول المذكور للآية الشريفة، ومجرد ضعف سند بعضها، واحتمال أنها من الاسرائيليات، لا يكفي لرفع اليد عنها، وإلا لزم أن ترد أكثر النصوص، بل أغلبها.

ولا يتوهم أحد أن بين أسباب النـزول معارضة، إذ أن الموضوع الوارد في كل واحد منها يختلف عن البقية، لأنه مدفوع بوحدة الموضوع في الجميع كما سمعت، واختلافها في كيفية الكشف عن ذلك الموضوع، لا يوجب المعارضة كما لا يخفى.

 

الثانية: حقيقة الإكراه والدين:

ولما كان المقطع المستدل به يتضمن كلمتين، وهما الإكراه، والدين، فيحسن العمد إلى بيان المقصود منهما، فإن ذلك يساعد على فهم الآية الشريفة.

 

الكلمة الأولى: الإكراه، وهو مأخوذ من الكره، ولها معنيان في اللغة:

1-الرفض والسخط، ويقابله الرضا، والقبول، ومنه قوله تعالى:- (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)[3].

2-الإجبار في مقابل الاختيار، ومنه قوله تعالى:- (حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً)[4]، لأن الحمل وإن كان أمراً مرغوباً ومقصوداً للزوجين، لكن وقت انعقاد النطفة، وتحققه ليس تحت اختيارهما، فلا يحصل الحمل بإرادة من المرأة.

ويلزم أن يحدد المقصود من الإكراه في الآية الشريفة، وأنه المعنى الأول، أو الثاني، وستأتي الإشارة إلى ذلك، خصوصاً وأن لهذين المعنيـين تأثيراً في تحديد سعة موضوع الآية الشريفة وضيقه.

 

وأما الكلمة الثانية في الآية، وهي كلمة الدين، فإن الموجود في كتب اللغة معنيان له:

الأول: أنه بمعنى الطاعة الجزاء.

الثاني: أنه الجزاء والمكافأة، والحساب.

إلا أن القرآن الكريم لم يستعمل المفردة المذكورة في أي منهما، بل استعملها في معنى آخر يغايرهما تماماً. وهو الطريقة المثلى في الحياة، التي توصل الإنسان إلى سعادته الدنيوية بما يناسب الكمال الروحي.

 

كما يمكن تعريفه بأنه المنهج القويم الذي يوصل الإنسان إلى سعادته الدنيوية بما يناسب الكمال الأخروي.

والحاصل، إن الدين عبارة عن كل منهج أو اسلوب يستخدمه الإنسان من أجل أن يصل إلى السعادة الحقيقية التي تمثل الغاية المطلوب لكل عاقل.

وهذا يعني أن الدين يمثل منهجاً في الحياة بجميع أبعادها الاعتقادية، والأخلاقية والسلوكية. ويساعد على ما ذكرناه، ما جاء في تفسير الشيخ الطبرسي(ره) لمفردة الدين، حيث قال(قده): إن المقصود من الدين في الآية هو الإسلام، ودين الله الذي ارتضاه[5].

 

وبناء على وجود مغايرة في حقيقة الدين بين ما تضمنته كتب اللغة والاستعمال القرآني، فيلزم من ذلك إما حصول عملية النقل لهذه المفردة عما كانت عليه، أو أنها مستعملة في المعنى المجازي، أو يكون المذكور في كلمات أهل اللغة بعض معانيها، فتكون المفردة من موارد المشترك اللفظي، وتفصيل ذلك يطلب من محله.

وأما تحديد المقصود من الآية الشريفة، وبيان دلالتها، فإنه لو بني على أن المقصود من الإكراه الوارد ذكره في الآية الشريفة هو المعنى الثاني، أمكن القول بدلالتها على المطلوب من حرية انتخاب ما يعتقد الإنسان بدواً. وهذا بخلاف ما لو كان المقصود من الإكراه في الآية الشريفة هو المعنى الأول.

 

ولا يذهب عليك أن انتخاب المعنى الثاني للإكراه يعتمد على توفر أمرين:

الأول: عدم وجود قرينة في المقام توجب التقيـيد، وأن المفهوم الوارد فيها مطلق.

الثاني: أن لا تكون الآية الشريفة منسوخة بآية جهاد أهل الكتاب، أو غيرها من الآيات، وسوف يأتي الحديث عن ذلك إن شاء الله تعالى.

ولو قيل، بأن التعليل الوارد ذكره في الآية الشريفة، وهو قوله تعالى:- (قد تبين الرشد من الغي)[6]، يشكل قرينة تساعد على أن المقصود هو الإكراه الذي بمعنى السخط والرفض. لم يكن ذلك بعيداً، وهذا يعني منع صلاحية الآية الشريفة للدلالة على مطلوب المدعي من حرية انتخاب العقيدة لكل فرد كما يشاء. بل سوف تكون أجنبية عن الدلالة على مطلوب أصحاب الدعوى.

 

الثالثة: نوع الحكم المستفاد من الآية:

ثم إن الحكم الوارد في الآية المباركة يحتمل فيها أمران:

أحدهما: أن يكون حكماً تكوينياً.

ثانيهما: أن يكون حكماً تشريعياً.

 

ولو بني على أنه حكم تشريعي، فهنا محتملات أربعة في ذلك:

أحدها: الالتـزام بعدم جواز الإكراه مطلقاً، بملاحظة التعليل الذي ورد في ذيل الآية وهو قوله تعالى:- (قد تبين الرشد من الغي)، وعليه فلا ينبغي إجبار الكافر أو المشرك على قبول مبدأ التوحيد ولا إكراه أهل الكتاب على قبول نبوة خاصة.

ثانيها: عكس الأول، فيجوز الإكراه مطلقاً، سواء قد تم بيان الرشد من الغي، أم لم يتم ذلك، استناداً للقول بأن آية نفي الإكراه منسوخة بآيات الجهاد.

ثالثها: القول بالتفصيل، فلا يجوز الإكراه قبل بيان الخطوط العريضة للدين، ويجوز بعد ذلك بملاحظة التعليل الوارد فيها، ولأن الآية قد نسخت بالآيات المتعلقة بالجهاد.

رابعها: البناء على جواز الإكراه قبل بيان الرشد من الغي، وأما بعد بيانه، فلا يجوز ذلك. وهذا وإن كان صحيحاً في نفسه، إلا أن ظاهر الآية الشريفة لا يساعد عليه، لأن موضوع نفي الإكراه الوارد فيها قائم على أساس بيان الرشد من الغي، وأما غير ذلك، فإنها ساكتة عنه[7].

 

 

 

 

—————————-

[1] سورة البقرة الآية رقم 255.

[2] سورة المائدة الآية رقم 55.

[3] سورة البقرة الآية رقم 216.

[4] سورة الأحقاف الآية رقم 15.

[5] منطق فهم القرآن ج 2 ص 194-197(بتصرف).

[6] سورة البقرة الآية رقم 255.

[7] تفسير تسنيم ج 12 ص 194-195.