19 أبريل,2024

تأملات في الخطبة الشعبانية(9)-الخصائص الرمضانية

اطبع المقالة اطبع المقالة

بعدما فرغ(ص) من تعداد العطاءات الإلهية في هذا الشهر الشريف، أخذ(ص) في تعداد الخصائص التي يمتاز بها هذا الشهر على بقية الشهور، فذكر(ص) أنه يمتاز بالتالي:

1-أن أنفاسكم فيه تسبيح.

2-أن نومكم فيه عبادة.

3-أن عملكم فيه مقبول.

4-أن دعائكم فيه مستجاب.

هذا وسوف نتحدث عن كل ميزة من هذه الميز حتى يتضح لنا المقصود منها. أنفاسكم فيه تسبيح

أنفاسكم فيه تسبيح(1)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1) هذا منه(ص) إشارة إلى ما جاء في القرآن الكريم في غير واحدة من الآيات الشريفة من أن كل شيء يسبح بحمده، قال تعالى:- (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض)[1]، وقال سبحانه:- (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم)[2]وقوله عز من قائل:- (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه)[3] وقال أيضاً:- (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

ولا يخفى أن التسبيح لغة: هو التنـزيه، وفي الاصطلاح: يعني تنـزيه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه.

وقد وقع خلاف بين المفسرين في حقيقة التسبيح الثابت لكافة الموجودات، وقد بنى بعضهم على اختصاص التسبيح بخصوص الموجودات العاقلة المدركة الشاعرة، كالإنسان والملائكة.

لكن هذا الرأي لم يلقَ قبولاً عند المفسرين، خصوصاً إذا لاحظنا أن التعبير القرآني قد اشتمل على كلمة(ما)، وهي تشير إلى مطلق الموجودات العاقلة وغير العاقلة، المدركة وغير المدركة.

على أنه لو أردنا الاستقصاء، فإن القرآن الكريم يصرح في جملة من آياته الشريفة بتسبيح غير ما ذكر، فذكر تسبيح الطير، والجبال والرعد.

ثم إنه لما لم يقبل التفسير المذكور للتسبيح، اختلف المفسرون في بيان حقيقته على نظريات:

منها: إن المقصود من التسبيح في هذه الآيات المباركة هو التسبيح التكويني، بمعنى أن وجود كل موجود حادث يشهد بحدوثه أن له صانعاً خالقاً، حتى المادي الملحد المنكر لله سبحانه وتعالى بلسانه، فإن وجوده يشهد بوجود الخالق الصانع.

وهذا المعنى وإن كان حسناً، لكنه معنى مجازي للتسبيح، لأن هذا التفسير له لا ينطوي على التنـزيه من العيوب والنقائص والتقديس، خصوصاً وأن وجود المخلوقات لا دلالة له على تنـزيه الخالق عن العيب والنقص.

ومنها: أن المقصود من التسبيح هو الخضوع التكويني الذي يـبديه كل واحد من الموجودات الكونية تجاه الباري سبحانه وتعالى ومشيئته وأمره، لأن جميع الموجودات خاضعة أمام الإرادة الإلهية، سواء أكان في تقبل الوجود، أم في إتباع السنن الطبيعية التي قررها الباري سبحانه وأرساها في عالم الكون. فالطاعة المطلقة إزاء تلك الإرادة الإلهية العليا، وهذا الانصياع للسنن الإلهية، هو تسبيح الموجودات.

وهذا الرأي اعتمد على مسألة وهي خضوع الوجود بأسره للباري سبحانه وتعالى، وهذا أمر غير منكور، لكن المشكلة أن هناك فرقاً بين الموضوعين، بين موضوع الخضوع المقرر في هذه النظرية، وبين ما نحن بصدده وهو التسبيح، إذ لا نجد نقطة التقاء بينهما، لأن التسبيح الذي هو التنـزيه كما عرفت لا ربط له بالخضوع.

ومنها: لا يخفى أن النظام العجيب المستخدم في تكوين كل واحد من هذه الموجودات والدقة المتناهية فيه، دليل على قدرة عليا وحكمة وعلم مطلقين لصانعها وخالقها، فالكيان المعقد والعجيب لكل واحد من هذه الموجودات والمتضمن للكثير من الأسرار شاهد صدق على وجود صانع لها، ويشهد بلسان التكوين أيضاً على أنه واحد، عالم قدير حكيم، فتسبيح الموجودات هو تنـزيه لهذا الصانع عن كل نقص وعيب، فتسبيحها تنـزيه له عن الشريك، وتسبيحها تنـزيه له عن الولد والصاحبة، وهكذا.

وبالجملة، إن المقصود من تسبيح الموجودات وفقاً لهذه النظرية، دلالتها على كمال المؤثر الملازم لدفع العيب عنه.

ولا يخفى أن لازم هذه النظرية أن يفقهها جميع الناس، ويدركونها، ولا أقل من أن أكثرهم يحصل لهم، وهذا يتنافى وما جاء في القرآن الكريم في حديثه عن تسبيح الموجودات، حيث ذكر سبحانه:- (ولكن لا تفقهون تسبيحهم)[4]، فإن نفي فقه تسبيحهم يمنع من القبول بهذه النظرية، لأنها كما عرفت تفيد الإحاطة بالتسبيح من الكل، أو لا أقل من الكثير.

لا يقال: إن المقصود من: – (لا تفقهون) ليس عدم الإحاطة والإدراك، بل المقصود الغفلة وعدم التوجه للتسبيح المذكور، لأن أكثر الناس مشغولون بأمور الدنيا فلا يتوجهون لهذا الأمر؟

فإنه يقال: يكفي لرد مثل هذا التوجيه أنه حمل للفظ على خلاف ظاهره، والمقرر في محله أنه ما لم يكن هناك ما يوجب حمل اللفظ على خلاف ظاهره، فإنه لا يصار إلى ذلك.

كما أن القرآن الكريم اشتمل على ما يمنع من القبول بهذه النظرية، قال تعالى في حديثه عن تسبيح بعض الحيوانات كالطير:- (كل قد علم صلاته وتسبيحه)[5]، فإن نسبة العلم بالتسبيح للطير ينافي هذه النظرية، لأن مقتضاه أنه لا يعلم تسبيحه ولا يشعر به ولا يدركه، بل الذي يشعر به ويدركه هو خصوص الإنسان، ويحصل العلم بذلك من خلال التدبر في خلقتها وعظيم صنعتها، لنعلم بتسبيحها التكويني.

وأخيراً، إن تحديد وقت خاص لهذا التسبيح يتنافى وهذه النظرية أيضاً، لأن المفروض وطبقاً لهذه النظرية أن لا يحدد التسبيح بزمان خاص أو وقت محدد، بينما نجد أنه سبحانه وتعالى حدد التسبيح، فقال تعالى:- (يسبحن بالعشي والإشراق)[6]

ومنها: نظرية صدر المتألهين، وحاصلها حمل التسبيح على التسبيح الحقيقي، قال(ره): إن الكون بجميع أجزائه يسبح الله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور وإدراك، فلكل موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب. وعلى هذا الشعور تسبح الموجودات كلها، خالقها وبارئها ، وربها سبحانه وتنـزهه عن كل نقص وعيب.

ثم أشار إلى أن العلم والشعور والإدراك موجود في جميع الموجودات، قال:

إن العلم والشعور والإدراك، كل ذلك متحقق في جميع مراتب الوجود، ابتداءً من واجب الوجود إلى النباتات والجمادات، وأن لكل موجود يتحلى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة…..ولا يخلو موجود من ذلك ابداً، غاية ما في الأمر أن هذه الصفات قد تخفى علينا-بعض الأحيان-لضعفها وضآلتها[7].

ثم إنه(ره) أشار إلى أن هناك ما يؤدي إلى القرب من التجرد، أو تحققه فعلاً، وهو الابتعاد عن المادية والمادة، وعلى العكس تماماً كلما ازداد اقتراب الإنسان منها، وتعمق فيها، ضعفت قدرته على التجرد وضئلت حتى تكاد أن تغيب.

وقد وافق السيد العلامة الطباطبائي(قده) صدر المتألهين في هذه النظرية، إلا أنه أشار إلى أمر لم يتضمنه كلام صدر المتألهين، وهو أن التسبيح في هذه الموجودات جميعاً العاقلة، وغير العاقلة، كلها يكون بالنطق، بمعنى كما أن الملائكة والجن والإنسان يسبحون الله سبحانه وتعالى بالنطق، فكذلك الجمادات تتحدث وتتكلم وتنطق بهذا التسبيح الإلهي، واستشهد لما ذكره(ره) بقوله تعالى:- (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)[8]. مضافاً إلى أن الباري سبحانه وتعالى هو الذي انطق كل شيء، وذلك عندما يحدثنا سبحانه عن شهادة الجلود على سيئات وجرائم وخطايا الإنسان، قال تعالى:- (لم شهدتم علينا) فتجيب الجلود:- (أنطقنا الله الذي انطق كل شيء)[9].

والحاصل، إن ما ذكرناه يثبت أن لكل شيء نطقاً وتكلماً، ومن خلال هذا النطق والتكلم، تسبح هذه الموجودات الله سبحانه وتعالى[10].

هذا ولا نرى موجباً لحصر العلامة الطباطبائي(قده) التسبيح في خصوص النطق، بمعنى أننا نوافقه(ره) في القبول بكون التسبيح حقيقاً وفقاً لنظرية صدر المتألهين، لكن حقيقة التسبيح التي هي التنـزيه لا تنحصر بخصوص النطق، إذ كما يمكن أن يكون التسبيح من خلال القول والنطق، فإنه يمكن أن يكون بالفعل، أم بالحال، أم بغير ذلك.

وأول ما قد يوجب رفض هذه النظرية والإشكال عليها، ما أشرنا له من الإشكال على النظرية السابقة، من أن مقتضى ما ذكره هذا العلم(ره)، أن الكل له القابلية على إدراك التسبيح الحقيقي الصادر من الموجودات، مع أن هذا الأمر يتنافى والقرآن الكريم، ذلك لأنه سبحانه وتعالى يقرر أنكم لا تفقهون تسبيحهم.

وهذا الإشكال لا يرد على نظرية صدر المتألهين، لأنه(ره) أشار إلى أن المقصود في الآية أغلب الناس، وليس الجميع، فلا مانع من أن يفقهه بعض العارفين الذين ارتبطت أرواحهم بحقائق الموجودات، فلمسوا تسبيح الكائنات عامة بعين القلب الخالي من الوساوس الشيطانية.

هذا والإنصاف تمامية هذه النظرية، خصوصاً وأن الأدلة قائمة على إثبات الشعور في كل ذرات الكون، نشير لبعض:

منها: قوله تعالى:- (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده)[11]، فهذا نداء حقيقي من النملة لأخواتها.

ومنها: قصة الهدهد التي وردت في القرآن الكريم.

ومنها: عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وإبائهن حملها خوفاً وإشفاقاً.

ومنها: ما جاء في الدعاء: تسبح لك الدواب في مراعيها، والسباع في فلواتها، والطير في وكورها، وتسبح لك البحار بأمواجها، والحيتان في مياهها.

ومن الجميل جداً أن نشير إلى أن هذه الحقيقة القرآنية وهي ثبوت الشعور والإدراك عند كافة الموجودات، قد توصل لها القرآن الكريم قبل أن يثبتها اليوم العلم الحديث، فإن العلم الحديث تمكن من إثباتها متأخراً، لكنها قد أشير لها في القرآن قبل مئات السنين.

ومن خلال هذه النظرية التي ذكرناها اتضح لنا حقيقة ما جاء في كلامه(ص) من أن نفس الناس فيه تسبيح، فإن النفس يسبح الله سبحانه وتعالى ويقدسه تسبيحاً حقيقاً كما بينا.

يـبقى الكلام في أن هذا التسبيح يختص بخصوص المسلمين، أم أن مطلق الناس في شهر رمضان نفسهم تسبيح.

وفقاً لما بنينا عليه في مطلع هذا الشرح من أن الخطاب فيها عام للإنسان، وأن جميع ما جاء فيها شامل للكل، فإن ذلك يستدعي الالتـزام بأن نفس كل إنسان في شهر رمضان المبارك تسبيح.

نعم يستثنى من ذلك من كان على معصية، فإنه لا يمكن أن يعطى هذه الهبة الربانية، والله العالم.

ثواب التسبيح:

هذا ولنختم بالإشارة إلى أمر مهم، وهو وفقاً لما تقدم من أن للنفس تسبيحاً حقيقياً، فهل أن هذا التسبيح يعود ثوابه لمن يتنفس أم أن النفس يمتـثل تكليفاً إلهياً، توضيح ذلك:

تارة يصدر الفعل من موجود من الموجودات، لكن العمل الصادر يكون ثوابه لشخص آخر، مثلاً في صلاة الفريضة، ورد أن من صلى بأذان وإقامة صلى خلفه صفين من الملائكة، وكان ثواب صلاتهما للمصلي. ومثل ذلك ما ورد في أن الإنسان متى كانت في يده سبحة من طين قبر المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، فإنها مادامت في يده تسبح، ويكون ثواب تسبيحها لمن كانت في يده، فقد ورد عن الإمام موسى(ع) أنه دخل عليه أحد أصحابه، فقال له: لا تستغني شيعتنا أربع، خمرة يصلي عليها، وخاتم يتختم به، وسواك يستاك به، وسبحة من طين قبر أبي عبد الله(ع) فيها ثلاث وثلاثون حبة، متى قلبها ذاكراً الله كتب له بكل حبة أربعين حسنة، وإذا قلبها ساهياً يعبث بها كتب له عشرون حسنة[12].

وكذا ما ورد في أن بكاء الطفل يثاب عليه أبويه، فقد روي أنه نزل الأمين جبرئيل(ع) ورسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع) يأنان، فقال جبرئيل(ع): يا حبيب الله فإني أراك تأن، فقال رسول الله(ص): من أجل الطفلين لنا تأذينا ببكائهما، فقال جبرائيل: مه يا محمد، فإنه سيـبعث لهؤلاء شيعة إذا بكا أحدهم فبكاؤه: لا إله إلا الله إلى أن يأتي عليه سبع سنين، فإذا جاز السبع فبكاؤه استغفار لوالديه إلى أن يأتي على الحد، فإذا جاز الحد فما أتى من حسنة فلوالديه وما أتى من سيئة فلا عليهما[13]. وهكذا.

وتارة أخرى يكون الفعل صادراً من الموجود، ويكون ما صدر منه امتثال لتكليف إلهي موجه له بحسب تكليفه، فيكون ما يترتب على ذلك العمل من ثواب-على فرض ثبوته-يعود لنفس ذلك الموجود، وهذا مثل تسبيح الموجودات في صفحة الوجود، فإن تسبيحها يعود ثوابه لله سبحانه وتعالى، لأنه امتثال لأمره، وكذا عبادة الإنسان أيضاً.

والكلام الآن في أن تسبيح النفس المشار إليه في هذه الكلمة النبوية، هل هو من قبيل الأمر الأول، بحيث يكون تسبيح النفس يعود ثوابه للإنسان المتنفس، أم أن تسبيح النفس يعود أمره لامتثال النفس تكليفاً إلهياً موجهاً إليه.

مقتضى ظهور اللفظ هو البناء على الاحتمال الثاني، لأن المستفاد من العبارة أن النفس يسبح، وهذا يعني أنه يمتثل تكليفاً إلهياً.

لكن المشكلة في البناء على هذا الظهور، أنه ووفقاً لما ذكر لن يكون في البين امتياز لهذا الشهر الشريف، وذلك لأن مقتضى ما تقدم من الآيات الشريفة أن مطلق الموجودات دائماً وأبداً في تسبيح، والنفس واحد من موجودات صفحة الوجود فلا امتياز حينئذٍ.

ولهذا لما كان الحديث عن استعراض جملة من الخصوصيات التي يمتاز بها الشهر الشريف عن بقية الشهور، يمكن البناء على أن هذا بمثابة القرينة الموجبة لصرف اللفظ عن ظاهره، وبالتالي حمله على الاحتمال الأول، والمسألة بحاجة إلى تأمل أكثر، والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

——————————————————————————–

[1] سورة الجمعة الآية رقم 1.

[2] سورة الحديد الآية رقم 1.

[3] سورة النور الآية رقم 41.

[4] سورة الإسراء الآية رقم 44.

[5] سورة النور الآية رقم 14.

[6] سورة ص الآية رقم 18.

[7] الأسفار ج 1 ص 18، ج6 ص 139.

[8] سورة الإسراء الآية رقم 44.

[9] سورة فصلت الآية رقم 21.

[10] الميزان في تفسير القرآن ج 19 ص 144، و ج 17 ص 381.

[11] سورة النمل الآية رقم 18.

[12] التهذيب ج 6 ص 57.

[13] الكافي ج 6 ص 52.