28 مارس,2024

بدء التناسل البشري

اطبع المقالة اطبع المقالة

من الأسئلة التي تخطر في الأذهان، الحديث عن كيفية ابتداء النسل البشري، وبدايته، وينحل التساؤل المذكور في حقيقته إلى سؤالين:

الأول: كيف كان خلق حواء(ع).
الثاني: كيف كان تناسل الطبقة الثانية من ذرية آدم(ع) ليوجد البشر من نسل آدم(ع).

وقد طرح جوابان عن السؤال الأول: أحدهما: أنها قد خلقت من جزء من أجزاء آدم(ع)، وقد حدد ذلك أنه أحد أضلاعه.

ثانيهما: أن خلقها كان من نفس الطينة التي خلق منها آدم(ع)، فخلقت من فاضل الطينة التي خلق منها آدم(ع).

كما وجد اتجاهان في الإجابة عن السؤال الثاني:

أحدهما: الاتجاه القرآني.
ثانيهما: الاتجاه الروائي.

الاتجاه القرآني في بداية التناسل البشري:

وقد تبناه جمع من المفسرين، كالسيد العلامة الطباطبائي(ره)، فقد ألتـزم بأن التناسل البشري في طبقته الثانية من ذرية آدم(ع)، نتجت من الازدواج بين الأخوة والأخوات. اعتماداً على الإطلاق المستفاد من قوله تعالى:- (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً) على أساس أن(من) في الآية بيانية، وليست تبعيضية، وهذا يقضي أن يكون النسل البشري مبثوثاً من آدم وحواء(ع)، ولا يكون ذلك إلا أن يكون الأبوان يرجعان إليهما، فلاحظ.

ثم عمد إلى دفع الإشكال المتصور في المقام، بحرمة نكاح الأخوة والأخوات، بلزوم التفريق بين الأحكام التكوينية التي لا يمكن تخصيصها، والأحكام التشريعية التي تخضع لثبوت المصالح والمفاسد، وأن تحريم نكاح الأخوات من الأحكام التشريعية فإذا اقتضت الضرورة والمصلحة، فإنه سبحانه وتعالى يبيحه، ومع انتفاء المصلحة والحاجة، فإنه يحكم بالحرمة، فلاحظ.
ولا يعتبر نكاح الأخوة للأخوات أمراً مخالفاً للفطرة، لأنها لا تنفيه من جهة تنفرها عنه. نعم الفطرة تنفيه وتبغضه من جهة شيوع الفحشاء والمنكر وبطلان غريزة العفة بذلك[1].

الاتجاه الروائي في كيفية التناسل البشري:

وأما كيفية بداية التناسل البشري وفقاً لما يستفاد من النصوص، فإن هناك طائفتين:

الأولى: ما تضمن الموافقة للمنهج القرآني: وهي نصوص:

منها: ما جاء في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن الثمالي، قال: سمعت علي بن الحسين(ع) يحدّث رجلاً من قريش قال: لما تاب الله على آدم، واقع حواء ولم يكن غشيها منذ خلق وخلقت إلا في الأرض وذلك بعدما تاب الله عليه، قال: وكان آدم يعظم البيت وما حوله من حرمة البيت، وكان إذا أراد أن يغشى حواء خرج من الحرم وأخرجها معه، فإذا جاز الحرم غشيها في الحل ثم يغتسلان إعظاماً منه للحرم، ثم يرجع إلى فناء البيت، قال: فولد لآدم من حواء عشرون ولداً ذكراً، وعشرون انثى، فولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فأول بطن ولدت جاء هابيل معه جارية يقال لها: إقليما، قال: وولدت في البطن الثاني قابيل ومعه جارية يقال لها لوزا، وكانت لوزا أجمل بنات آدم، قال: فلما أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة فدعاهم إليه، وقال: اريد أن أنكحك يا هابيل لوزا، وانكحك يا قابيل إقليما، وقال قابيل: ما أرضى بهذا، أتنكحني اخت هابيل القبيحة وتنكح هابيل اختي الجميلة؟ قال آدم: فأنا اقرع بينكما فإن خرج سهمك يا قابيل على لوزا وخرج سهمك يا هابيل على إقليما زوجت كل واحد منكما التي خرج سهمه عليها، قال: فرضيا بذلك فاقترعا، قال: فخرج سهم هابيل على لوزا اخت قابيل وخرج سهم قابيل على إقليما اخت هابيل، قال: فزوجهما على ما خرج لهما من عند الله، قال: ثم حرم الله نكاح الأخوات بعد ذلك. فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال: نعم. قال فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم، قال فقال علي بن الحسين(ع): إن المجوس إنما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله. ثم قال علي بن الحسين(ع): لا تنكر هذا أليس الله قد خلق آدم منه ثم أحلها له؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم، ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك[2].

والرواية المذكورة ضعيفة بسبب إرسالها، لعدم ذكر الطبرسي(ره) طريقه لأبي حمزة الثمالي، ومجرد حذفه الأسناد، رغبة في التخفيف والاختصار لا يوجب الحكم بالحجية، كما لا يخفى.
وبالجملة، إن الخبر المذكور يفتقر إلى مقومات الحجية، إلا أن يحرز أنه محط اعتماد الأصحاب، بناء على أن عمل المشهور يوجب الحجية، فتأمل.

ومنها: ما جاء في كتاب قرب الإسناد للحميري عن ابن عيسى، عن البزنطي قال: سألت الرضا(ع) عن الناس كيف تناسلوا من آدم(ع)؟ فقال: حملت حواء هابيل وأختاً له في بطن، ثم حملت في البطن الثاني قابيل وأختاً له في بطن، فزوج هابيل التي مع قابيل، وتزوج قابيل التي مع هابيل، ثم حدث التحريم بعد ذلك[3].
وليس في سند الرواية المذكورة ما يوجب التوقف فيه، نعم ربما يدعى التشكيك في صحة نسبة الكتاب الواصل إلينا للحميري(ره)، فلاحظ.

ومنها: ما ذكره الفيض الكاشاني(ره)، عن الإمام الباقر(ع): إن حواء كانت تلد في كل بطن غلاماً وجارية، فولدت في أول بطن قابيل، وقيل: قابين، وتوأمته اقليميا بنت آدم، والبطن الثاني هابيل وتوأمته لبوذا، فلما أدركوا جميعاً أمر الله تعالى أن ينكح آدم(ع) قابيل اخت هابيل، وهابيل اخت قابيل، فرضى هابيل وأبى قابيل، لأن أخته كانت أحسنهما، وقال: ما أمر الله بهذا ولكن هذا من رأيك، فأمرهما أن يقربا قرباناً فرضيا بذلك، فعمد هابيل وكان صاحب ماشية فأخذ من خير غنمه زبداً ولبناً، وكان قابيل صاحب زرع فأخذ من شر زرعه، ثم صعدا فوضعا القربانين على الجبل فأتت النار فأكلت قربان هابيل وتجنبت قربان قابيل[4].

وقد كان مصدر الفيض(ره)، هو كتاب مجمع البيان لأمين الإسلام الطبرسي(ره)، فقد حكى رواية ذلك عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع)، فلاحظ[5].

هذا وقد ذكر بعض الأساتذة(حفظه الله)، أنه لا توجد رواية عن الإمام الباقر(ع) في المقام، وإنما هو اشتباه وقع فيه صاحب المجمع، على أساس أنه اعتمد على ما ذكره الشيخ(ره) في كتابه التفسير التبيان، فإن شيخ الطائفة(ره) قد حكى قول أبي جعفر الطبري، وتوهم صاحب المجمع،، فظنه قول الإمام الباقر(ع)، فنسبه إليه على أنه رواية، وجاء الفيض(ره)، وأخطأ الخطأ ذاته، فعد كلام أبي جعفر الطبري خبراً مروياً عن الإمام الباقر(ع).

وعند تحليل الدعوى السابقة، نجد أنها اشتملت على التالي:

أولاً: أن الشيخ الطبرسي، قد حكى هذا الرواية عن كتاب التبيان لشيخ الطائفة(ره).

ثانياً: إن شيخ الإسلام الطبرسي(ره) لم يفرق بين مقول الطبري، المحكي في كلام الشيخ الطوسي، وبين المروي عن الإمام الباقر(ع)، بحيث أنه أختلط الأمر عليه، فنسب كلام الطبري للإمام(ع).

ثالثاً : أن الفيض الكاشاني(ره)، وقع في عين الخطأ الذي وقع فيه الشيخ الطبرسي(ره).

وقد خلا كلام الأستاذ(وفقه الله) مما يثبت دعواه السابقة، ومن الطبيعي أن هذا يجعلها دعوى عهدتها على مدعيها، لأنه لم يقم شاهداً على أن صاحب المجمع(ره)، اعتمد على كتاب التبيان، وأنه لم يكن في يده كتاب التفسير للطبري، حتى يجزم بأن مصدر الرواية في المجمع هو التبيان، وليس تفسير الطبري، ومع أن هذا ليس أمراً ذا أهمية في لب البحث، وإنما هو شيء جانبي أراد من خلاله الأستاذ(دام موفقاً) أن يثبت دعواه دون أن يبرهن عليها.

وعلى أي حال، إن لبّ الدعوى التي وردت في كلامه(حفظه الله)، أن الرواية التي نقلها صاحب تفسير الصافي الملا محسن الفيض(ره)، وقد ذكر أن مصدرها هو كتاب المجمع، مأخوذة من تفسير الطبري، وهو من الاسرائيليات، وأنها ليست مما روي عن الإمام الباقر(ع).

ومما يؤسف له أيضاً، أنه(زيد في توفيقه) لم يقم لنا دليله على هذا الجزم، وإن كان المستفاد من كلامه، أنه قد جعل المناط في ذلك اتحاد متن الرواية التي تضمنها تفسير الطبري، ومتن الرواية التي ورددت في المجمع، وحكاها الفيض.

وقد فاته(حفظه الله) أن الرواية المشار إليها في كلام شيخنا أمين الإسلام الطبرسي(قده)، قد ذكرها ثقة الإسلام الكليني(ره)، في كتابه الكافي، بسند معتبر، فقد جاء فيه، عن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر(ع) قال: إن الله تبارك وتعالى عهد إلى آدم(ع) أن لا يقرب هذه الشجرة، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها-إلى أن يقول-أهبط إلى الأرض فولد له هابيل واخته توأم وولد له قابيل واخته توأم، ثم إن آدم(ع) أمر هابيل وقابيل أن يقربا قرباناً وكان هابيل صاحب غنم وكان قابيل صاحب زرع فقرب هابيل كبشاً من أفاضل غنمه وقرب قابيل من زرعه ما لم ينق فتقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل وهو قول الله عز وجل:- (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) وكان القربان تأكله النار فعمد قابيل إلى النار فبنى لها بيتاً[6].

وتوهم أن رواية الكافي، أجنبية عن المقام، لعدم تضمنها قضية بدأ التناسل البشري، فاسد، لأن مورد البحث هو سبب قتل قابيل أخاه هابيل، كما يلحظ ذلك المتأمل في الآية التي ذكرت الرواية ذيلها، وهذا ما عناه شيخ الإسلام الطبرسي(ره)، وأنه المروي عن الباقر(ع)، فتدبر.

وكيف ما كان، فإن الرواية التي رواها الشيخ الطبرسي(ره) عن الإمام الباقر(ع)، لم تتعرض للحديث عن كيفية ابتداء النسل البشري، لما عرفت أن موضوعها سبب قتل قابيل لهابيل، فلا تكون أجنبية عن المقام، فلاحظ.

وقد نقل الرواية الباقرية التي أشير إليها في كلام الشيخ الطبرسي(ره) شيخنا الصدوق(ره) أيضاً في كتابه كمال الدين وتمام النعمة، بسنده عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: لما أكل آدم من الشجرة أهبط إلى الأرض فولد له هابيل وأخته توأم وولد له قابيل وأخته توأم، ثم إن آدم أمر قابيل وهابيل أن يقربا قرباناً وكان هابيل صاحب غنم، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب هابيل كبشاً وقرب قابيل من زرعه ما لم ينق، وكان كبش هابيل من فضل غنمه، وكان زرع قابيل غير منقى، فتقبل قربان هابيل، ولم يتقبل قربان قابيل، وهو قول الله عز وجل:- (واتل عليهم)[7]. ويجري في النص المذكور، ما قدمنا ذكره في نص الكافي من حيث الدلالة، فلا نعيد.

ووفقاً لما تقدم، سوف تنحصر نصوص هذه الطائفة في خصوص النصين الأول والثاني، فلاحظ.

الثانية: ما تضمن أن التناسل البشري ابتدأ بطريقة أخرى:

منها: ما رواه الصدوق(ره) في علل الشرائع مسنداً عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله(ع) كيف بدأ النسل من ذرية آدم(ع) فإن عندنا اناساً يقولون: إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم(ع): أن يزوج بناته من بنيه، وأن هذه الخلق كلهم من أصله من الأخوة والأخوات، قال: أبو عبد الله(ع) سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً يقول من يقول هذا: إن الله عز وجل جعل أصل صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال، وقد أخذ ميثاقهم على الحلال والطهر الطيب؟[8].

ومع أن الرواية المذكورة تضمنت نفي بدء التناسل من خلال الازدواج بين الأخوة والأخوات، إلا أنها على طولها لم تعرض لكيفية بدء التناسل البشري في طبقته الثانية، فلاحظ.

ومنها: ما نقله أيضاً في المصدر المذكور، عن زرارة يقول: سئل أبو عبد الله(ع) عن بدء النسل من آدم على نبينا آله وعليه السلام، كيف كان؟ وعن بدء النسل من ذرية آدم فإن اناساً عندنا يقولون: إن الله تعالى أوحى إلى آدم أن يزوج بناته بنيه، وأن هذا الخلق كله أصله من الإخوة والأخوات، فقال أبو عبد الله(ع): تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً يقول من قال هذا: بأن الله عز وجل خلق صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال، وقد أخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب-إلى أن قال-ثم أخذ يحدثنا كيف بدء النسل من آدم، وكيف كان بدء النسل من ذريته، فقال: إن آدم(ع) ولد له سبعون بطناً في كل بطن غلام وجارية إلى أن قتل هابيل، فلما قتل قابيل هابيل جزع آدم على هابيل جزعاً قطعه عن إتيان النساء، فبقي لا يستطيع أن يغشى حواء خمسمائة عام، ثم تخلى ما به من الجزع عليه فغشي حواء فوهب الله له شيثاً وحده ثم ولد له من بعد شيث يافث ليس معه ثاني، فلما أدركا وأراد الله عز وجل أن يبلغ بالنسل ما ترون وأن يكون ما قد جرى به القلم من تحريم ما حرم الله عز وجل من الأخوات على الإخوة أنزل الله بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنة اسمها بركة فأمر الله عز وجل آدم أن يزوجها من شيث فزوجها منه، ثم نزل بعد العصر من الغد حوراء من الجنة اسمها منزلة فأمر الله آدم أن يزوجها من يافث فزوجها منه، فولد لشيث غلام، ولد ليافث جارية، فأمر الله عز وجل آدم حين أدركا أن يزوج بنت يافث من ابن شيث، ففعل ذلك فولد الصفوة من النبيـين والمرسلين من نسلهما، ومعاذ الله أن ذلك على ما قالوا من الإخوة والأخوات[9].

وقد تضمن الخبر المذكور بياناً لكيفية بدء التناسل بين أولاد آدم(ع)، إلا أنه عليل سنداً، ويكفي أنه مرسل. نعم من المحتمل قوياً جداً اتحاده مع الخبر السابق، فلاحظ.

ومنها: ما ذكره صاحب كتاب المحتضر نقلاً من كتاب الشفاء والجلاء بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن آدم أبي البشر أكان زوج ابنته من ابنه؟ فقال: معاذ الله، والله لو فعل ذلك آدم(ع) لما رغب عنه رسول الله(ص) وما كان آدم إلا على دين رسول الله(ص)، فقلت: هذا الخلق من ولد من هم ولم يكن إلا آدم وحواء؟ لأن الله تعالى يقول:- (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) فأخبرنا أن هذا الخلق من آدم وحواء(ع). فقال(ع): صدق الله وبلغت رسله وأنا على ذلك من الشاهدين، فقلت: ففسر لي يا ابن رسول الله-إلى أن قال- ثم ولد له أثر عناق قابيلَ بن آدم، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجل أظهر الله عز وجل جنية من ولد الجان يقال لها جهانة في صورة إنسية، فلما رآها قابيل ومقها[10] فأوحى الله إلى آدم: أن زوج جهانة من قابيل فزوجها من قابيل، ثم ولد لآدم هابيل فلما أدرك ما يدرك الرجل أهبط الله إلى آدم حوراء واسمها ترك الحوراء، فلما رآها هابيل ومقها فأوحى الله إلى آدم أن زوج تركاً من هابيل ففعل ذلك، فكانت ترك الحوراء زوجة هابيل بن آدم،-إلى أن قال-وإن هابيل يوم قتل كانت امرأته ترك الحوراء حبلى فولدت غلاماً فسماه آدم باسم ابنه هابيل، وإن الله عز وجل وهب لآدم بعد هابيل ابناً فسماه شيثاً، ثم قال: ابني هذا هبة الله، فلما أدرك شيث ما يدرك الرجال أهبط الله على آدم حوراء يقال لها ناعمة في صورة إنسية، فلما رآها شيث ومقها فأوحى الله إلى آدم أن زوج ناعمة من شيث ففعل ذلك آدم فكانت ناعمة الحوراء زوجة شيث فولدت له جارية فسماها آدم حورية فلما أدركت أوحى الله إلى آدم أن زوج حورية من هابيل بن هابيل ففعل آدم فهذا الخلق الذي ترى من هذا النسل[11].

ومنها: ما جاء في تفسير العياشي عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر(ع) قال: ما يقول الناس في تزويج آدم ولده؟ قال: قلت يقولون: إن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاماً وجارية فتزوج الغلام الجارية التي من البطن الآخر الثاني، وتزوج الجارية الغلام الذي من البطن الآخر الثاني حتى توالدوا، فقال أبو جعفر(ع): ليس هذا كذلك، ولكنه لما ولد آدم هبة الله وكبر سأل الله أن يزوجه، فأنزل الله له حوراء من الجنة فزوجها إياه فولد له أربعة بنين، ثم ولد لآدم ابن آخر فلما كبر أمره فتزوج إلى الجان فولد له أربع بنات فتزوج بنو هذا بنات هذا، فما كان من جمال فمن قبل الحوراء، وما كان من حلم فمن قبل آدم، وما كان من خفة فمن قبل الجان، فلما توالدوا صعدت الحوراء إلى السماء[12].

ومنها: ما جاء فيه أيضاً عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر(ع) قال: إن آدم ولد أربعة ذكور فأهبط الله إليهم أربعة من الحور العين، فزوج كل واحد منهم واحدة فتوالدوا ثم إن الله رفعهن وزوج هؤلاء الأربعة من الجن فصار النسل فيهم، فما كان من حلم فمن آدم، وما كان من جمال فمن قبل الحور العين، وما كان من قبح أو سوء خلق فمن الجن[13].

ومنها: ما جاء في تفسير العياشي أيضاً عن سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): جعلت فداك إن الناس يزعمون أن آدم زوج ابنته من ابنه، فقال أبو عبد الله(ع): قد قال الناس ذلك، ولك يا سليمان أما علمت أن رسول الله(ص) قال: لو علمت أن آدم زوج ابنته من ابنه لزوجت زينب من القاسم، وما كنت لأرغب عن دين آدم؟ فقلت جعلت فداك إنهم يزعمون أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على اختهما، فقال له: يا سليمان تقول هذا؟! أما تستحي أن تروي هذا على نبي الله آدم؟ فقلت جعلت فداك ففي ما قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية.-إلى أن قال- فقلت له جعلت فداك فممن تناسل ولد آدم؟ هل كانت أنثى غير حواء؟ وهل كان ذكر غير آدم؟ فقال: يا سليمان إن الله تبارك وتعالى رزق آدم من حواء قابيل، وكان ذكر ولده من بعده هابيل، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له جنية وأوحى إلى آدم أن يزوجها قابيل، ففعل ذلك آدم ورضى بها قابيل وقنع، فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له حوراء وأوحى الله إلى آدم أن يزوجها من هابيل، ففعل ذلك، فقتل هابيل والحوراء حامل، فولدت حوراء غلاماً فسماه آدم هبة الله، فأوحى الله إلى آدم أن ادفع إليه الوصية واسم الله الأعظم، وولدت حواء غلاماً فسماه آدم شيث بن آدم، فلما أدرك ما يدرك الرجال أهبط الله له حوراء وأوحى إلى آدم أن يزوجها من شيث بن آدم ففعل، فولدت الحوراء جارية فسماهها آدم حورة، فلما أدركت الجارية زج آدم حورة بنت شيث من هبة الله بن هابيل فنسل آدم منهما[14].

وتعاني النصوص السابقة خللاً سندياً، لعدم معرفة الطريق بين العياشي صاحب التفسير وبين الرواة، فلاحظ.

ومنها: ما جاء في علل الشرائع، بإسناده إلى القاسم بن عروة عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر(ع) قال: إن الله عز وجل أنزل حوراء من الجنة إلى آدم(ع) فزوجها أحد بنيه، وتزوج الآخر إلى الجن فولدتا جميعاً فما كان من الناس من جمال وحسن خلق فهو من الحوراء، وما كان فيهم من سوء الخلق فمن بنت الجان،، وأنكر أن يكون زوج بنيه من بناته[15].

ومنها: خبر خالد بن إسماعيل عن رجل من أصحابنا من أهل الجبل عن أبي جعفر(ع)، قال: ذكرت له المجوس وإنهم يقولون: نكاح كنكاح ولد آدم فإنهن يحاجنا بذلك، فقال: أما أنتم فلا يحاجونكم به لما أدرك هبة الله قال آدم: يا رب زوج هبة الله، فأهبط الله عز وجل حوراء فولدت له أربعة غلمة، ثم رفعها الله فلما أدرك ولد هبة الله، قال: يا رب زوج ولد هبة الله، فأوحى الله عز وجل إليه أن يخطب إلى رجل من الجن وكان مسلماً أربع بنات له على ولد هبة الله فزوجهن، فما كان من جمال وحلم فمن قبل الحوراء، وما كان من سفه أو حدة فمن الجن[16].

ولا يخفى أن نصوص هذه الطائفة متعارضة في ما بينها، فقد تضمن بعضها أن التناسل كان من خلال التزويج بحوريتين، بينما تضمن بعضها أنه كان من خلال الازدواج بحورية وجنية، نعم هي متفقة على أن بداية النسل لم يكن من خلال اقتران الأخوة بالأخوات، كما تضمنته الطائفة الأولى، فلاحظ.

ثم إنه بعد البناء على حجية كلتا الطائفتين، تقع المعارضة بينهما، فإما أن يمكن الجمع العرفي بالتوفيق بينهما، أو يعمد إلى ترجيح إحداهما على الأخرى.

والظاهر من غواص بحار الأنوار(ره)، أنه لا يمكن الجمع العرفي بينهما، لهذا عمد إلى الترجيح، من خلال حمل الطائفة الأولى منهما على التقية، لكونها موافقة للعامة[17].

إلا أن الإنصاف، صعوبة القبول بذلك خصوصاً في معتبر البزنطي، لأن المقرر في محله، أن الحمل على التقية لابد وأن يكون لنكتة عقلائية، على أساس أن المقصود من ذلك هو الاتقاء من السلطة الحاكمة المتمثلة في السلطة الدينية، وهذا لا يتصور في عصر الإمام الرضا(ع)، فإن السلطة الحاكمة، لم تكن لتختار ما يخالف الإمام(ع)، بل لم يكن ما عليه الجهاز الحاكم مخالفاً لما عليه الإمام(ع)، ولو ظاهراً، وهذا يمنع أن تكون هناك نكتة عقلائية، لأن يتحدث(ع) تقية، فتدبر.

وقد يبنى علىالعمل وفقاً للطائفة الثانية، بعد البناء على حجيتها لكون مضمونها مشتهراً بين الأصحاب، ما يوجب الوثوق بصدورها. وترفع اليد عن الطائفة الأولى لعدم تمامية أسنادها، خصوصاً مع التوقف في صحة نسبة الكتاب الواصل إلينا للحميري، فلا معارض عندها للطائفة الثانية.

الترجيح السندي:

هذا وقد حكى بعض الأساتذة(حفظه الله) قولاً بتقديم الطائفة الثانية على الأولى، من باب الترجيح بالسند، لأن كتاب علل الشرائع، وتفسير العياشي أهم من كتاب الاحتجاج وقرب الإسناد، فيكون التقديم لما تضمناه على روايتي الطائفة الأولى.

وقد مَنعَ الجواب المذكور على أساس أن هناك تسرباً للنصوص الإسرائيلية في التراث الشيعي، وإن وجود هذا الاحتمال يمنع من القبول بهكذا علاج، ذلك أن الدّس والوضع لم يكن منحصراً على المتون فقط، بل قد كانت عملية الدّس تطال الأسناد أيضاً، واستشهد لذلك بطائفتين من النصوص:

الأولى: النصوص التي تضمنت وجود كذابين على الأئمة الأطهار(ع)، مثل ما رواه هشام أنه سمع أبا عبد الله الصادق(ع)يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى، وسنة نبينا(ص)، فإنا إذا حدثنا قلنا قال الله عز وجل وقال رسول الله(ص)[18].

الثانية: النصوص التي تضمنت العرض على الأئمة الأطهار(ع)، كمعتبرة يونس بن عبد الرحمن، التي يرويها محمد بن عيسى بن عبيد، قال: إن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر، فقال: يا أبا محمد، ما أشدك في الحديث واكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا! فما الذي يحملك على رد الأحاديث؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله(ع) يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى، وسنة نبينا(ص)، فإنا إذا حدثنا قلنا قال الله عز وجل وقال رسول الله(ص).

قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر(ع) ووجدت أصحاب أبي عبد الله(ع) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا(ع)، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله(ع)، وقال لي: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله(ع) لعن الله أبا الخطاب! وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله(ع)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنا إن تحدثنا حدّثنا بموافقة القرآن، وموافقة السنة، إنّا عن الله وعن رسوله نحدث، ولا نقول قال فلان، وفلان، فيتناقض كلامنا، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا، وكلام أولنا مصادق لكلام آخرنا، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك، فردوه عليه، وقولا أنت أعلم ما جئت بهّ فإن مع كل قول منا حقيقة، وعليه نوراً، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان[19].

ومقتضى كلامه، عدم ترجيح الطائفة الثانية على الأولى بلحاظ مصادرها واعتبارها، لأن الدّس قد جرى في النصوص بصورة عامة.

ولا يذهب عليك، أن كلامه(حفظه الله) اشتمل على دعويـين، إحداهما كبرى والأخرى صغرى:

أما الكبرى، فهي الجزم باشتمال الموروث الروائي الشيعي على العديد من النصوص الاسرائيلية التي دست فيه، ولم تتم عملية تنقيته منها، وهو(حفظه الله) بصدد القيام بهذا الدور.
وأما الصغرى، إن نصوص تزاوج أولاد آدم(ع) بعضهم من بعض، من مصاديق هذه النصوص الاسرائيلية التي وجدت في مصادرنا الحديثية.

ومن الطبيعي أنه يلزم الوقوف عند كلتا الدعويـين، والنظر في مدى تماميتهما من عدمه، مع أن هدم الدعوى الأولى، وهي الكبرى يغني عن النظر في الصغرى عندها، كما هو واضح.

تعريف الإسرائيليات:

وحتى يكون الحديث حول الكبرى واضحاً، يلزم أن يعمد إلى بيان المقصود من الاسرائيليات، وتحديد حقيقتها، وهذا ما لم يقم به الأستاذ(دام موفقاً)، فإنه قد اكتفى بعرض كلام حكاه(حفظه الله) عن بعض الباحثين[20]، ولم يظهر أنه يلتـزم به أم لا.

والموجب للحاجة في تحديد حقيقتها، وجود محتملات ثلاثة فيها، وهي:

1-أن يكون المدار على وسم رواية من الروايات بأنها اسرائيلية، هو سندها، كما سيتضح.

2-أن يكون المعيار هو ملاحظة متنها، وما تضمنه من مادة، تتوافق والأطروحة الاسرائيلية، وهذا يمكن إحرازه بالرجوع للكتاب المقدس، سواء التوراة، أم الإنجيل.

3-أن يلحظ الأمران معاً، فلا ينطبق عنوان الرواية الإسرائيلية على رواية إلا إذا توفر الأمران المذكوران فيها.
وكيف ما كان، فقد عرفت النصوص الاسرائيلية بأنها المرويات القصصية المتصلة تاريخياً بالمصادر اليهودية الاسرائيلية.

وعليه، سوف يكون الأمر منحصراً في خصوص ما جاء عن طريق بني اسرائيل، وكان مصدره اليهود. إلا أنهم وسعوا دائرتها لتشمل ما جاء عن طريق النصارى أيضاً وغيرهم، فأصبح مفهوم الرواية الإسرائيلية هو: كل ما تضمنته كتب التفسير والحديث من أساطير سواء كان مصدرها يهودياً أم نصرانياً، أو غيرهما.

وطبقاً للتعريف المذكور سوف يكون البناء في صدق عنوان الرواية الاسرائيلية على ملاحظة سندها، لأن التعريف قد ركز على أخذها من المصادر اليهودية، أو النصرانية توسعاً كما سمعت، وهذا يعني انتهاء طريقها إلى واحد من هؤلاء، فتدبر.

ويساعد على هذا ما ذكروه من أسباب وجود الروايات الاسرائيلية في التراث الروائي الإسلامي، من أن العرب كانت ترجع إلى أهل الكتاب لقناعتهم بمعرفتهم بشؤون الحياة، وقد استمروا على ذلك حتى بعد مجئ الاسلام، وقد نهاهم رسول الله(ص) عن مراجعتهم.

وقد عدّ رجوع الروايات الاسرائيلية إلى أقطاب سبعة، وهم: عبد الله بن سلام، وتميم بن أوس الداري، وكعب الأحبار، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وأبو هريرة، ووهب بن منبه، ومحمد بن كعب القرظي، وأضافوا ثامناً هو ابن جريج[21].

وعليه، لو وجدنا رواية وردت من طرقنا، ولم يقع في سندها، واحداً من الرواة الذين ينقلون عن المصادر الاسرائيلية، إلا أنها قد وافقت بعض النصوص التي ترمى بكونها اسرائيلية من حيث المتن، فهل يكفي ذلك لوصفها بكونها رواية إسرائيلية، أم لا؟

إن المستفاد من كلام بعض الاساتذة، هو البناء على ذلك، كما يشهد له رميه النصوص التي تضمنت تزاوج أولاد آدم(ع) بعضهم من بعض بذلك، مع أنها مروية إما عن الإمام الصادق(ع)، أو عن الإمام الرضا(ع)، ولو أمكن التوقف في الخبر المروي عن الإمام الصادق(ع)، لوقوع مقاتل في سنده، ما يوجب شبهة في البين، إلا أن ذلك لا يتصور في معتبر البزنطي، لأنه لم يقع في سنده من يتوهم كونه كذلك، مضافاً إلى أنه متأخر زماناً عن تلك المصادر كثيراً.

وقد يدفع الجواب المذكور، بما أصرّ عليه(زيد في توفيقه)، بأن القضية لم تنحصر في خصوص من ذكر من الرواة الذين ينقلون الاسرائيليات، بل قد تعدّ الأمر إلى الوضع والدس في الأسناد، ما يعني أن السند قد يكون شيعياً مركباً من رواة الشيعة، وهو في حقيقته موضوع، ليس صادراً عن المعصوم(ع).

ولا يذهب عليك، ضعف هذا الإشكال جداً، كما سيتضح، ونجيب موجزاً، بأن هذا الاحتمال إنما يتصور في خصوص من لا يمتلك خبرة ودراية بالنقل عن الآخرين، وهذا لا يجري في شأن من عرف بشيخوخة الإجازة، الذين يتولون عملية التمحيص والتدقيق في المصادر، وعرض النصوص على القواعد العامة للمذهب، ودراستها ومدى موافقتها للقرآن الكريم، وملاحظة موانع القبول فيها لو وجدت، قبل القبول بها، وبعد إحراز ذلك كله، يعمد إلى إجازتها إلى تلامذته ليقوموا بروايتها عنه، وهذا المعنى يلحظه كل من قرأ في تراجم مشائخ الإجازة، ولذا ألتـزم بعض الأعلام بأن شيخوخة الإجازة، أمارة من أمارات التوثيق، فلاحظ.

مع أنه هو نفسه(حفظه الله)، له كلام يدين فيه من يعمد إلى رمي النصوص المعتبرة لمجرد دعوى كونها من الإسرائيليات، قال(دام ظله): كثيراً ما ترد هذه الكلمة(الروايات الاسرائيلية) ليشار بها إلى ضعف الروايات، وكأنها سيف قاطع توأد به الروايات غير المرغوب بها، ومن سوء الطالع أنها اقترنت بالروايات التفسيرية، فاغترّ بها من أغتر من أعلام الفريقين معاً، حتى أنك تجد البعض يتحرج كثيراً من رواية حديث صحيح لأن الخصوم وصموه بالإسرائيلية، ففرّ من تهمة باطلة وصمت بها تلك الرواية زوراً ليدخل في باطل آخر، رغم أن بدايات ظهور الاسرائيليات كانت تدور حول سِير الأنبياء السابقين(ع)، وقد كانت المادة الأولى لبث السموم في تلك السِير ما جاء في تزييفات التوراة والتعاليم التلمودية التي وضعها الكهنة الحاخامات من بني إسرائيل، وغير ذلك من تزييفات الكتب الأخرى المنسوبة للسماء.

-إلى أن قال- وبالتالي فإن عنوان الاسرائيليات يصطلح به على المرويات القصصية، سواء كان موضوعها عقيدة أم تفسيراً أم سِيَراً، ومن الواضح بأن هذه الصفة أطلقت للتغليب، وذلك لأن المعروف عن اليهود هو الدس والتزيـيف، وإلا فإن هناك وضاع حديث معروفين، وسمت رواياتهم بالإسرائيليات أيضاً.

ثم قال(حفظه الله): وعليه، فصفة الإسرائيلية لا تصلح أن تكون مناطاً في رفض الرواية، وإنما للقبول والرفض مناطات أخرى، فما خالف منها القرآن أو السنة الصحيحة أو الضرورات الدينية، أو البراهين العقلية يضرب بها عرض الجدار، وهذا ضابط عام تقاس به الروايات الاسرائيلية وغيرها.

إن هذا الضابط التحقيقي لم يلتـزم به كثير من الأعلام، فصار الرفض عنده ووصف بعض المرويات بالإسرائيليات لأجل عدم مطابقة ما فيها مع معتقداته الشخصية، فليس المعيار قرآناً أو سنة أو ضرورة دينية، وإنما لأغراض ثانوية تدعوه للرفض بقوة لكي لا يتآكل بنيانه وينهدم صرحه العقدي[22].

وهذا الكلام منه(حفظه الله) يناقض تماماً ما قاله في المورد، حيث أنه من مصاديق من عمد إلى عدم التطبيق للمنهج التحقيقي في التعاطي مع النصوص، وقام بإسقاطها لمجرد توهم وجود شبهة الإسرائيلية فيها، وأترك الحكم والمقارنة بين الكلامين، كي ما تتضح الصورة جلية واضحة في كلام الأستاذ(حفظه الله) للقارئ العزيز[23].

مناشئ وجود الإسرائيليات في مصادرنا:

ووفقاً لما تقدم تعريفاً للإسرائيليات يأتي السؤال التالي، ما هو سبب وجود الاسرائيليات في مصادرنا، أو قل ما هو مناشئ وجودها؟

هناك محتملات ثلاثة يمكن ذكرها لتكون منشئاً لوجود الاسرائيليات في مصادرنا:

الأول: أن يلتـزم أن أعلامنا، قد عمدوا إلى رواية مرويات كعب الأحبار وأصحابه في كتبهم.
الثاني: أن يبنى على فقدان أعلامنا للخبروية في علم الحديث والدراية، ما أوجب حصول التدليس عليهم، فنجم عن ذلك نقلهم لمرويات كعب الأحبار وصحبه من الروايات الاسرائيلية.
الثالث: أن يكون أعلامنا من المدلسين، ولهذا قاموا بوضع الروايات غير المقبولة من الاسرائيليات في المصادر الحديثية.

ولا يمكن الالتزام بأي واحد من المحتملات الثلاثة، فإن أولها، يمنعه الطريقة المتبعة عند أعلامنا في كيفية النقل والرواية عن الراوي، وهذا يمنع أن يروي عن كعب كما لا يخفى، نعم قد يحكون في كتبهم بعض مروياته التي يطمأن بصدورها وفق مجموعة من القرائن والشواهد المساعدة على ذلك، ولوجود مؤيد لها.

وأضعف منه الاحتمال الثاني، فإنه لا يتفوه به الخصم قبل الصاحب، فإن من يقرأ سيرة أعلامنا، يجد أنهم من خريتي هذا الفن، وأصحاب سبق في هذا المجال، ولهم فيه ابداعات وامتيازات، فكيف يقال بعدم خبرويتهم.

وأضعف الثلاثة الاحتمال الثالث، فإنه يقتضي عدم تصديقهم، والوثوق بما ضمنوه كتبهم الحديثية.

ومن خلال بيان المقصود من الاسرائيليات والمحتملات الثلاثة التي يتصور من خلال أحدها وجدت الإسرائيليات في مصادرنا، يتضح عدم صحة الكبرى الموجود في كلام الأستاذ(دام علاه)، وأن مجرد وجود بعض النصوص التي لا تقبل من قبل البعض، أو أنها توافق ما جاء في مصادر القوم لا يوجب رميها بالإسرائيلية، هذا أولاً.

ثانياً: إن المتابع لسيرة أعلامنا الأبرار، يطمأن أنهم قد عمدوا إلى تنقية كتب الحديث من النصوص الدخيلة، بل النصوص التي لا يطمأن بصدورها عن المعصوم(ع)، فالمدة الزمنية التي استغرقها شيخنا الكليني(رض) في تأليف كتابه، لم تكن منصبة فقط على عملية جمع الروايات، وإحصائها، بل كان ذلك يتضمن أيضاً تنقيتها، وفق قواعد متبعة. بل قد حكي عن بعض علمائنا، توقفه في حمل النصوص الواردة في الكتب الأربعة مثلاً على التقية لنفس النكتة، أعني قيام الأعلام بتنقية المصادر الروائية عن النصوص التي لا يحرز صدورها عن المعصومين(ع).

كما أن الإحاطة بمسلك شيخوخة الإجازة المتبع في نقل الحديث يساعد على أن العلمية ليست مجرد نقل للنصوص، بل لابد من القيام بعملية التقية والتصحيح بنقل ما يقبل ورد ما لا يقبل، وهكذا.

وبالجملة، إن المتابع لسيرتهم(رض) لا يكاد يتوقف في أن ما وصل إلينا، إنما هو خصوصا لتراث النقي الذي قد جرد من كل ما يحرز صدوره عن المعصوم(ع).
ويؤيد ذلك بل يساعد عليه اختلافهم في منهجية القبول بالرواية.

نعم ما لا ينكر أن هذا الاختلاف في مناشئ القبول، أوجب وجود بعض النصوص الضعيفة على بعض المباني، لكن ضعف السند لا يعني أن الخبر مكذوب، وفرق بين الموردين، كما لا يخفى.

ومن خلال ما قدمنا جواباً، يتضح الحديث عن الصغرى، إذ أن مجرد موافقة الرواية المتضمنة لتزويج أبناء آدم(ع)، لما جاء في كتب القوم، لا يوجب رميها بالإسرائيليات، أو أن مجرد وجود رواية قريبة منها، أو تماثلها رواها كعب الأحبار توجب رميها بذلك. على أن هناك ما يمنع من حملها على الاسرائيليات وهو موافقتها للكتاب العزيز، لأن المفروض أن الاسرائيليات كما عرفت ما وضعه هؤلاء من أجل تمرير ما يودون تمريره في الثقافة الاسلامية مما لا يكون منها، وهذا يستوجب أن يكون منافياً للقرآن الكريم، لا أن يكون موافقاً له، وهذا ما لا ينسجم مع هذه النصوص، فإنها كما سمعت موافقة للقرآن، فكيف ترمى بأنها اسرائيلية.

ثم إنه لو لم يتم شيء من النصوص، فإنه قد يلتـزم بأن التزواج بينهما كان من خلال خلق الله تعالى مخلوقتين من فاضل الطينة، خصوصاً مع البناء على حرمة نكاح الأخوة من التشريعات الثابتة في كافة الشرائع منذ خلق آدم(ع).

خاتمة:

ثم إن مقتضى ما ذكر تعريفاً للإسرائيليات يستوجب أن تنحصر في خصوص النصوص التي ترتبط بالكلام، وقصص الأنبياء، والقضايا التاريخية، ولا علاقة لشيء منها بالأحكام الشرعية، وهنا يأتي سؤال، مفاده: إذا كان موضوع الروايات الإسرائيلية، هو ما ذكر، فأي علاقة للمجتهد بها؟

وإن شئت قل: هل هناك مسؤولية تلقى على عاتق المجتهد، مع كون موضوع الروايات الإسرائيلية، هو ما عرفت؟

لا يختلف اثنان أن الفقيه يرتبط بجميع النصوص ولا ينحصر دوره في خصوص النصوص المرتبطة بالأحكام الشرعية، إلا أن ذلك لا يعني أن يكون مسؤولاً عن تنقيح جميع الروايات، لأن النصوص تختلف من حيث الأهمية وفق موضوعاتها، فالنصوص المشتملة على الأحكام الشرعية لما كانت ترتبط بفراغ ذمة المكلفين، تلقى أهمية أكثر من النصوص التي تكون لمجرد عرض قصص الأقدمين، أو قصص الأنبياء، أو حتى بعض المطالب العقدية التي لا تعدّ من أصول الدين، وهكذا. وعليه، فليس الفقيه مسؤولاً عن ملاحظة هذه النصوص، وتسليط الضوء عليها والبحث فيها، وإن كان فقهاؤنا لم يتركوا ذلك، وقاموا بالتأمل في كثير من هذه النصوص، ويمكن للمكلف مراجعتهم لمعرفة رأيهم فيها.

[1] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 144.
[2] بحار الأنوار ج 11 باب تزويج آدم حواء وكيفية بدء النسل ح 4 ص 225-226.
[3] المصدر السابق ح 5 ص 226.
[4] الصافي في تفسير القرآن ج 2 ص 405.
[5] مجمع البيان ج 2 ص 73 تفسير سورة المائدة الآية 27.
[6]الكافي كتاب الروضة حديث آدم(ع) مع الشجرة ح 92 ص 97.
[7] كمال الدين باب اتصال الوصية ، تفسير نور الثقلين ج 2 ص 12 ح 22.
[8] بحار الأنوار ج 11 باب تزويج آدم حواء وكيفية بدء النسل ح 1.
[9] بحار الأنوار ج 11 باب تزويج آدم حواء وكيفية بدء النسل ح 2 ص 223-224.
[10] ذكر غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره) أن المقصود من كلمة ومقها، أي أحبها، فلاحظ.
[11] بحار الأنوار ج 11 باب تزويج آدم حواء وكيفية بدء النسل ح 6 ص 226-228.
[12] المصدر السابق ح 40 ص 244.
[13] تفسير نور الثقلين ج 2 ص 9 ح 12 تفسير سورة النساء الآية رقم 1.
[14] بحار الأنوار ج 11 باب تزويج آدم حواء وكيفية بدء النسل ح 44 ص 245-246.
[15] تفسير نور الثقلين ج 2 ص 9 ح 1 سورة النساء الآية رقم 1.
[16] المصدر السابق ح 18، فروع الكافي ج 5 ح 58 ص 569.
[17] بحار الأنوار ج 11 ص 226.
[18] رجال الكشي رواية رقم 401 ص 297-298.
[19] رجال الكشي رواية رقم 401 ص 297-298.
[20] في كتابه منطق فهم القرآن يبدو منه القبول بالتعريف الذي ذكره الشيخ محمد هادي معرفة في كتابه التمهيد، فراجع.
[21] التمهيد ج 10 ص 78-92(بتصرف).
[22] منطق فهم القرآن ج 1 ص 373-375.
[23] قد يدافع عن السيد الأستاذ(حفظه الله)، فيقال، بأن الكلام الذي حكيته عنه، كان مختاره سابقاً، وقد عدل عنه، وتغير رأيه، فصار يلتـزم بما ذكره أيضاً في محاضراته، وهو الذي يتبناه. وللتأمل في مثل هذا التبرير مجال واسع، لا يسعه هذا المختصر.