18 أبريل,2024

بحث في حقيقة (نسيان الأنبياء)

اطبع المقالة اطبع المقالة

تضمن القرآن الكريم آيات قد يظهر منها ما ينافي بعض القوانين الإسلامية العقدية، كقانون العصمة، حيث تمسك المخطئة ببعض آياته مدعين دلالتها على منافاة العصمة، وظهورها في صدور المعصية من الأنبياء، مما يمنع ثبوت مبدأ العصمة المطلق لهم.

ومن الآيات التي تمسك المخطئة بها أيضاً لنفي قانون العصمة المطلق، ما تضمنته آياته، من حديث حول صدور النسيان من الأنبياء(ع)، فلاحظ حديث القرآن الكريم عن نسيان آدم(ع)، حيث قال تعالى:- (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً)[1].

وأخبر عن نسيان يوسف(ع)-بناءً على أن الضمير في الآية يعود على النبي يوسف(ع)، أما لو قيل كما هو الظاهر أن الضمير فيها يعود على السجين الذي طلب منه النبي يوسف(ع) أن يذكره عند ربه، فلا ربط لها بالمقام، كما هو واضح[2]- فقال سبحانه:- (وقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين)[3]. كما تحدث عن نسيان الكليم موسى(ع)، عندما قال تعالى:- (لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً)[4]، فإن ملاحظة ما صدر من الكليم موسى(ع) من عهدٍ مسبقٍ مع العبد الصالح، في قوله تعالى:- (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً)[5]، تفيد أنه قد أصابه الذهول والغفلة عن ذلك العهد المسبق، فلاحظ.

ولاريب أن القارئ لآيات الكتاب العزيز عندما يقف على مثل هذه الآيات، ويستمع إلى مثل تلك الدعاوى فإنها تثير عنده تساؤلات عديدة، وما لم تتم معالجتها، قد تتحول إلى شبه، تسلب منه المعتقد الحق، وتجعله ينحرف عن الجادة القويمة، وهذا يستدعي أن يعمد إلى دراسة مثل هذه الآيات، أو لا أقل القيام بدراسة نموذج منها، حتى تتضح الرؤية الحقيقة حولها، ويمكن بعد ذلك تطبيق بقية الآيات على ذلك.

هذا ومن الآيات التي تضمنت الحديث حول النسيان ونسبة صدوره إلى الأنبياء، والأوصياء(ع)، قوله تعالى:- (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غذاءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً* قال أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسيناه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً)[6]، فقد تضمنت حكاية نسيان الأنبياء(ع)، وأن ذلك كان بفعل الشيطان، ذلك أن الفتى قد أحال صدور النسيان منه على الشيطان، عندما قال:- (وما أنسيناه إلا الشيطان)، فعندها سوف يخطر في الذهن السؤال التالي: هل للشيطان دور في حياة الأنبياء، حتى أنه كان سبباً لوقوع النسيان لفتى موسى(ع)؟ وكيف نتصور وجود هذا الدور، مع البناء على أن لهم عصمة مطلقة؟

مضافاً إلى خطور سؤال آخر لا يقل أهمية عن السؤال السابق، وهو ما هو المقصود من النسيان في مثل هذه الآيات، وهل هو فعلاً يتنافى وقانون العصمة الذي جعله الله سبحانه وتعالى للأنبياء والأوصياء(ع)، أم لا، فإن كان منافياً فيلزم من ذلك تحديد دائرة جريانه، وإن لم يكن منافياً، فلابد من بيان المقصود من هذه الآيات، وعرضها بما يكون رافعاً لمبدأ المنافاة ظاهراً.

هذا ويلزم قبل الإجابة عن هذين التساؤلين، وغيرهما، معرفة المقصود من فتى موسى(ع)، وهل أنه من أصحاب العصمة المطلقة، لكونه نبياً، أو كونه وصياً، وبالتالي يكون صدور النسيان منه منافياً لقانون العصمة، مما يجعل الآية الشريفة مقصداً للمخطئة في الاستدلال بها على ذلك.

فتى موسى:

لقد اتفق المفسرون، وعلماء الحديث من الفريقين على أن المقصود بفتى موسى(ع) في الآية الشريفة، هو وصيه يوشع بن نون، وقد تضمنت النصوص أنه كان مجمعاً لمقامي النبوة والوصاية، بمعنى أنه كان نبياً مرسلاً من قبل الله تعالى، وفي نفس الوقت كان وصياً لنبي الله الكليم موسى(ع)، وقائماً بشؤون القيادة والخلافة الدينية والسياسة في بني إسرائيل. فمن النصوص التي الدالة على كونه نبياً، ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) عندما كان في الجامع في الكوفة، فقام له رجل من أهل الشام وسأله عن مسائل، وكان مما سأله أن قال: أخبرني عن ستة من الأنبياء لهم إسمان؟ فقال(ع): يوشع بن نون، وهو ذو الكفل، ويعقوب، وهو إسرائيل، والخضر، وهو حلقيا، ويونس وهو ذو النون، وعيسى وهو المسيح، وهو أحمد صلوات الله عليهم أجمعين[7].

وعن أبي حمزة الثمالي-في حديث طويل-عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع)، أنه قال: ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل يوشع بن نون إلى بني إسرائيل من بعد موسى، فنبوته بدؤها في البرية التي تاه فيها بنو إسرائيل، ثم كانت أنبياء كثيرون منهم، من قصه الله عز وجل على محمد(ص)، ومنهم من لم يقصه على محمد(ص)[8].

ومثل ذلك ما ذكره غواص بحار الأنوار، العلامة المجلسي(قده)، في حديث طويل عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع) قال: ولما توفي موسى(ع) بعث الله يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبياً إلى بني إسرائيل[9].

ومن النصوص التي تدل على إمامته، ما أخرجه شيخنا الكليني(ره) عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: وكان وصي موسى يوشع بن نون(ع)، وهو فتاه الذي ذكره الله عز وجل في كتابه[10].

ومنها: ما عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، في كتاب بصائر الدرجات، أنه قال: وأوصى موسى إلى يوشع بن نون، وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون، ولم يوص إلى ولد موسى، لأن الله له الخيرة، ويختار من يشاء ممن يشاء[11].

والمتحصل مما تقدم من النصوص التي ذكرنا، وما لم يذكر أن يوشع بن نون كان مجمعاً لمنصبي النبوة، لكونه مرسلاً لبني إسرائيل، وإماماً ووصياً وخليفة لنبي الله موسى(ع)، والقائم بالأمر من بعده، وهو الذي ورد توصيفه في القرآن الكريم بفتى موسى(ع)، والظاهر أن منشأ هذا التوصيف يعود لملازمته للكليم(ع) في كافة تحركاته، في الحضر والسفر، والظاهر أن ذلك كان لإعداده لتحمل مسؤولية النبوة والإمامة، من خلال إفاضة علوم النبوات عليه، وإعطائه مواريث الرسالات، مضافاً إلى أنه كان موكلاً بخدمة الكليم موسى(ع).

سلطان الشيطان على البشر:

ثم إنه بعد الفراغ عن معرفة من هو الفتى الذي تحدث القرآن الكريم عنه، وأنه أحد الأنبياء والأوصياء، وهذا يستدعي ثبوت مقام العصمة المطلقة له، المنافي لوجود سلطة للشيطان عليه، كيف يمكن الجمع بين هذا القانون، وبين ما جاء في الآية المباركة؟

إن الإجابة على ذلك تستوجب أن نحيط في البداية بدور الشيطان في الحياة البشرية من خلال المعرفة بما له من سلطان عليهم، وفي ما تكون؟

عند العودة إلى الآيات القرآنية الشريفة، يمكن أن يتحدد دور الشيطان في الحياة الإنسانية في ثلاث مراحل، بينها ترابط أولي، بمعنى أنه لا يصل الشيطان للمرحلة الثانية إلا بعد استكماله عملية التسلط على الإنسان في المرحلة الأولى، فمتى فرغ منها انتقل للمرحلة التي تليها، وهكذا. وتلك المراحل الثلاثة هي:

الأولى: الوسوسة والمناجاة الخفية من إبليس للبشر، فقال تعالى:- (من شر الوسواس الخناس* الذي يوسوس في صدور الناس)[12]

وتتم عملية الوسوسة من خلال عرضه لما يود إغواء الإنسان به، ولهذا يأتيه فيقول له افعل كذا، أو اترك هذا الأمر، ويكون ذلك بعرضه صوراً خيالية توجب دخول الإنسان في الأوهام بمقدار مساحة عمله، فهو يستفيد كثيراً في هذا المجال من قوة الوهم والخيال عند الإنسان، فيحتل جانباً من النفس الانسانية ويؤثر عليها، وعندما نقول قوة الوهم والخيال، فنحن نشير إلى خروج قوة العقل عن تخصصه، وعدم قدرته للسيطرة عليها، لأنها من المجردات، والوسوسة مجرد عرض، فلاحظ.

ولا يذهب عليك أن هذه الوسوسة الصادرة منه تـتمثل في أشياء:

منها: الوعد، قال عز من قائل:- (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء)[13]، وقال سبحانه:- (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً)[14].

ومنها: التخويف، قال تعالى:- (إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه)[15]

ومنها: التـزيـين، قال تعالى:- (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين)[16].

ولا يخفى أن للتـزيـين صوراً، فقد يكون التـزيـــين من خلال ظهور الدنيا بصورة الاستقلال وجمال الغاية والمقصد، وقد يكون بتـزيـين الشهوات، قال تعالى:- (زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون)[17] ، وقد يكون بتـزيـين الأعمال، قال تعالى:- (زين لهم الشيطان أعمالهم)[18]

ومنها: النـزغ، ويقصد به الإغراء، قال تعالى:- (وإما ينـزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه سميع عليم)[19].

ومنها: الأمر بالفواحش والرذائل، قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطن فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر)[20]، ومنها: إيقاع العداوة والبغضاء، و الصد عن السبيل، وغيرها من سبل الشيطان، والوسوسة.

الثانية: الاتباع والتأثر بذلك التـزيـين والوسوسة، ويمكن أن يعبر عنها بتعبير آخر مفاده، مرحلة التلقي للأوامر الشيطانية، والذي عبرت عنه آيات القرآن باتباع خطوات الشيطان، وفي هذه المرحلة يصبح الإنسان مأموراً من الشيطان، نعم لا يبلغ الإنسان غالباً في هذه المرحلة حالة القنوط من الرحمة الإلهية، ولا يصل إلى مرحلة اليأس من روح الله سبحانه، بمعنى أن المأمور من قبل الشيطان قد يكون معترضاً عليه، ورافضاً لأمره، فلاحظ.

الثالثة: مرحلة الطاعة للشيطان وتنفيذ أوامره، وهي أشد خطورة من المرحلتين السابقتين، ذلك أن الإنسان عندما يبلغ إليها، فهذا يعني أن الشيطان قد نجح في تحقيق مراده، ووصل إلى حالة التسلط على الإنسان، وصار ولياً له.

عدم سلطة الشيطان على الأنبياء:

ثم إن هذا الذي ذكرناه من ثبوت السلطان للشيطان على البشر، هل يتصور شموله للأنبياء والأوصياء(ع) أيضاً، فيقال: بأن ما كان ثابتاً له من سلطة على البشر، ثابت له أيضاً على الأنبياء والأوصياء، أيضاً أم لا؟

الصحيح أنه لا مجال للالتـزام بثبوت ذلك له عليهم، وذلك لما زودهم الله سبحانه وتعالى به من العصمة المانعة من أن يتأثروا بوساوس إبليس وأن يستجيبوا لغوايته، ولهذا لا يتصور فيهم أن يتبعوه في ما يدعو له من الانحراف عن الصراط أبداً، فلا يصدر منهم الذنب، ولا يصدر منهم الخطأ والسهو والنسيان، ولا يصدر منهم كل ما يوجب الإخفاق عن إصابة الحق. فلاحظ. ويشير إلى ذلك قوله تعالى:- (إلا عبادك منهم المخلصين)[21].

دور الشيطان في حياة المعصومين:

وإذا لم يكن للشيطان دور في حياة المعصومين من خلال المراحل الثلاث التي تقدمت، فهل يعني ذلك أنه لا دور له في حياتهم أبداً، أم أن له دوراً إلا أنه يختلف عن ذلك الدور الذي يكون في حياة عامة الناس، وإذا كان له دور فما هو، وفي أي شيء يكون، وكيف نتصوره؟

إن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو القول بثبوت الدور الشيطاني في حياة المعصومين، بل قد يدعي البعض أنه لا يختلف دوره في حياتهم عن دوره في حياة بقية البشر، ويستشهدون لذلك بالآيات القرآنية التي يظهر منها تسلط الشيطان عليهم كتسلطه على بقية الناس، كما في آيات النسيان المنسوب إليهم.

لكن هذا التبادر غير صحيح، ذلك أننا وإن كنا نلتـزم بثبوت الدور للشيطان في حياة المعصومين، إلا أنه يختلف تماماً عن الدور الذي يكون له في حياة الناس، بل هو دور محدود وضيق جداً، ويتجلى ذلك واضحاً عندما يعود القارئ إلى آيات القرآن الكريم، فإنه يجد انحصار دوره في حياتهم في خصوص مفردة واحدة، وهي محاربته للأنبياء والأوصياء(ع) في إبلاغ الرسالات الإلهية.

محاربة الشيطان للمعصومين:

وهذا الدور يتجلى عندما يحيط الإنسان بما طلبه الشيطان من وعد من الباري سبحانه وتعالى، لما أخرجه من الجنة، وصرح حينها عن أهدافه التي سوف يعملها، من صد عن سبيل الله تعالى، وإغواء لذرية آدم(ع)، وإضلالهم عن طريق الحق، ولا يختلف أثنان في كون هذه الأهداف تتنافى والأهداف المقدسة التي بعث الأنبياء، وأقيم الأوصياء(ع) من أجلها.

وبالجملة، إن المستفاد من الآيات الشريفة أن هناك حرباً بين الشيطان والأنبياء، يسعى الشيطان من خلالها في إيجاد المعوقات والعراقيل التي تحول بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم التي ينشدونها، وفي نفس الوقت يحقق هو ما يصبو له من أهداف.

ويشهد لما ذكرناه، ما جاء في قصة نبي الله أيوب(ع)، في قوله تعالى:- (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب)[22]، إذ ليس المقصود وجود تسلط للشيطان حتى على نفسه الشريفة، وإنما كان للشيطان دور في إغواء قومه، إذ مضافاً إلى جعلهم كفاراً مفسدين في الأرض، وسوس لهم أن يجتنبوه، ويبتعدوا عنه، ويخرجوه من بلدهم، حتى بلغ بهم الأمر إلى التشكيك في نبوته، فقالوا بأنه لو كان نبياً ما ابتلى بما أصابه.

وكذا ما جاء في قصة نبي الله يوسف(ع)، في قوله تعالى:- (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي)[23]، فإن النـزغ هو الإغواء بالدخول في أمر لإفساده، وقد وسوس الشيطان لأخوة يوسف(ع) من اجل إيذائه، وإفساد الأمر بينهم.

دائرة ترك الأولى الإرشادي:

هذا وقد يجعل من ضمن أدوار الشيطان في حياة المعصومين ترك الأولى الإرشادي، ويمثل لذلك بما ورد في قصة نبي الله تعالى آدم(ع)، على أساس أن النهي الذي كان موجهاً إليه(ع)، لم يكن نهياً تحريمياً، وإنما كان نهياً إرشادياً غايته النصح، ومخالفة مثل هذا الأمر لا توجب مخالفة للعصمة، ذلك أنها تشبه مخالفة المريض قول الطبيب في شرب الدواء، ويشهد لكون المخالفة الصادرة منه(ع) لا تخالف قانون العصمة، كون الأولى الذي دعي إلى فعله، ومخالفته ليسا مخالفين للواقع، بل كلاهما صحيح، ومطابقان له، إلا أن الأوفق بمقام النبوة هو الاتيان بالأولى، وعدم مخالفته.

وبكلمة، إن ترك الأكل من الشجرة كان مباحاً، كما أن الأكل منها كان مباحاً، إلا أن تركها أكثر محبوبية لله سبحانه وتعالى، والأكل منها ليس مبغوضاً إليه، فلا يوجد في البين معصية أصلاً[24].

دائرة ترك الأولى المولوي:

وهو يختلف عن الأولى الإرشادي، في أنه صادر من الشارع المقدس من باب السيادة والولاية على العبد، إلا أن هذا الصادر ليس أمراً إلزامياً، بل هو أمر ندبي يثاب المكلف على فعله، ويتحصل على الأجر والثواب، إلا أنه لا يكون مستحقاً للعقاب متى خالفه وتركه. نعم لا إشكال في أن فعلها أولى من تركها كما هو واضح.

وعلى هذا لا تعد المخالفة الصادرة من الأنبياء في هذا المضمار منافية لقانون العصمة، ذلك أنك قد عرفت أن ذلك لا يعد مخالفة أصلاً، على أن القول بأن ذلك لا يتناسب ومقام النبوة، لا يخرج عن دائرة أن حسنات الأبرار، هي سيئات المقربين، لأن المقربين قد يؤمر بما لا يؤمر به الأبرار، فتدبر[25].

والإنصاف، أن البناء على ثبوت دور للشيطان في حياة المعصومين في هذين الموردين يعتمد على الالتزام بكون المخالفة الصادرة من النبي آدم(ع) مثلاً مخالفة للأولى، أما لو بني على أن هناك معنى آخر لها، فلا يكون المثال مصداقاً للمدعى، وتفصيل ذلك في غير هذا المقام.

ثم إنه بعد التسليم بمثل هذين الأمرين من دور الشيطان في حياة العصومين، إلا أن ما يلزم التوجه إليه أن وسوسته إليهم تختلف عن وسوسته إلى بقية العنصر البشري، فهو يتسلط على البشر، إلا أنه لا يكون كذلك بالنسبة للمعصومين، بل يكون الحديث بينهم مشافهة فيرونه ويرونهم ويبدي لهم النصح بحسب زعمه مباشرة[26].

النسيان في الآية الشريفة:

هذا وبعدما أتضح أنه لا دور للشيطان في حياة المعصومين(ع)، وأن دوره منحصر في إيجاد العقبات أمامهم في مقام تبليغ الرسالة الإلهية، كيف نتصور صدور النسيان من قبلهم، أو من بعضهم، والذي هو وسيلة من وسائل الشيطان التي يعمد من خلالها إلى تنفيذ مخططه في الأرض؟

إن الإجابة على ذلك تستدعي أن يحيط القارئ بالمقصود من النسيان في الآية الشريفة، وأود قبل ذلك الإشارة إلى نكتة مهمة في البين، وهي: إن القرآن الكريم قد استخدم في مقام حديثه عن أنبيائه عبارة النسيان، ولم يستعمل كلمة الإسهاء، فلم يذكر سهو النبي، وإنما ذكر نسيانه، فهل هذا يعني أن هناك فرقاً بين هاتين الكلمتين، أم أنهما من عين واحدة، ويشيران إلى حقيقة واحدة، ولو كانا بمعنى واحد، فلماذا استعمل القرآن كلمة النسيان، ولم يستعمل مكانها كلمة السهو، وهل يمكننا أن نستبدل هذه مكان هذه؟

إن الإجابة على كل هذه التساؤلات، وغيرها تتضح عندما نحيط خبراً بالمقصود بهاتين الكلمتين، وبيان حقيقتهما.

معنى النسيان والسهو:

جاء ذكر كلمة النسيان في كلمات أهل اللغة[27]، والمتحصل منها في بيان حقيقته أنه: ترك الشخص ما كان موجوداً وذاكراً له، إما عن غفلة وذهول، وإما عن قصد وعمد، وإهمال ملحوظ.

وهذا يعني أن الناسي لأمر ما لا يلزم أن يكون غافلاً عما نساه، بل قد يكون تاركاً إياه عن عمد وقصد وإرادة.

ووفقاً لهذا التعريف المذكور في كلماتهم، جعل النسيان على ثلاثة أقسام:

الأول: أن يترك الإنسان أمراً كان موجوداً وذاكراً له بسبب الغفلة والذهول.

الثاني: أن يكون ترك الإنسان للشيء الذي كان موجوداً وذاكراً له ناجماً من انشغاله بأمور أخرى تخالفه، فيكون ذلك سبباً في غفلته عن العمل بالوظيفة التي كان ذاكراً لها.

الثالث: أن يكون حصول النسيان باختيار وتعمد من الإنسان نفسه، من دون أن يكون هناك غفلة أو ذهول، ومن مصاديقه قوله تعالى:- (نسوا الله فنسيهم)[28]، إذ لا يتصور أن يكون نسيانه تعالى عن ذهول وغفلة، وهذا يعني أنه عن قصد وتعمد وإلتفات، ومعناه تركه تعالى لهم بالذكر والرحمة.

وأما السهو، فإن المستفاد من كلمات أهل اللغة كون المقصود منه الغفلة عن عمل يقصده من نفسه، ولم يقع منه بعد. وهذا يعني أن السهو لا يكون إلا عن غفلة وذهول حال الاتيان بالفعل، وعليه فلن تكون هناك إمكانية لتذكير الساهي أثناء سهوه[29].

ومن خلال ما ذكر بياناً لحقيقة كلا المفهومين يتضح مدى الفرق بينهما، وأنه لا مجال لأن يكون أحدهما مكان الآخر، بل إن كل واحد منهما يشير إلى حقيقة مختلفة، نعم حقيقة النسيان أوسع، وبالتالي تكون النسبة بينهما هي نسبة العموم المطلق، ذلك أن كل سهو نسيان، لكن ليس كل نسيان سهو، فتدبر.

والظاهر أنه ليس لهذين المفهومين في مقام الاصطلاح حقيقة أخرى غير ما جاء في كلمات أهل اللغة، وبالتالي فيكون المعنى المذكور في كلماتهم، هو المعنى المقصود أيضاً عند علماء الاصطلاح، فلا تغفل.

ولا يذهب عليك أنه وفقاً لما قدم من بيان لحقيقتي المفهومين، سوف يكون من الخطأ الاستناد للنصوص التي تضمنت حصول السهو من المعصوم-على فرض القبول بها-لجعلها شاهداً ودليلاً على حصول النسيان من الأنبياء بمعنى الخطأ، ذلك لأنه خلط بين موضوعين مختلفين، وحقيقتين متغايرتين، فلا تغفل.

النسيان في الآية الشريفة:

ولعمري أنه بعد بيان المقصود من النسيان، وأنه يمكن أن يصدر من الإنسان بإرادته واختياره، وليس من اللازم أن يكون حصوله من الإنسان نتيجة غفلة وذهول، فلن يكون في نسيان الأنبياء(ع) والذي ذكر في القرآن الكريم، ما يتنافى وقانون العصمة، بل أقصى ما يمكن أن يدرج تحت عنوان مخالفة الأولى الإرشادي-بناءً على القبول به- أو تحت عنوان مخالفة الأولى المولوي، فلاحظ. ومن ذلك النسيان الصادر من فتى موسى(ع)، فهو لما رأى الحوت يعود إلى الحياة، ويأخذ طريقه إلى البحر، كان من المنتظر منه أن يقوم بإخبار الكليم موسى(ع)، كونه كان يبحث عن العبد الصالح والمنطقة التي يعيش فيها، وفيها عين الحياة، وقد كانت تلك المنطقة هي المنطقة التي يبحث عنها، لكن يوشع بن نون ترك إخبار موسى(ع)، ما دعى إلى أن يسيرا مسافة طويلة أرهقتهما، وأتعبتهما كثيراً، فلو أنه أعلمه بذلك، لم يسيرا هذه المسافة، ولم يقطعاها. وليس في هذا تسلط للشيطان عليه من جهة، وليس فيه منافاة لقانون العصمة من جهة أخرى، إذ أقصى ما يتصور أنه ترك للأولى الإرشادي، الذي كان يحسن بيوشع مراعاته، والله العالم.

[1] سورة طه الآية رقم 115.

[2] أشار إلى أن الضمير راجع لصاحب الشراب، وليس راجعاً إلى نبي الله يوسف(ع) جملة من الأعلام، فراجع على سبيل المثال: العلامة المجلسي في البحار ج 68 ص 113، الشهيد السيد القاضي التستري في إحقاق الحق ج 2 ص 233.

[3] سورة يوسف الآية رقم 42.

[4] سورة الكهف الآية رقم 73.

[5] سورة الكهف الآية رقم 73.

[6] سورة الكهف الآية رقم

[7] الخصال ص 322.

[8] كمال الدين وتمام النعمة ص 220.

[9] بحار الأنوار ج 13 ص 273.

[10] الكافي ج 8 ص 117.

[11] بصائر الدرجات ص 489.

[12] سورة الناس الآيتان رقم 4-5.

[13] سورة البقرة الآية رقم 268.

[14] سورة الاسراء الآية رقم 64.

[15] سورة آل عمران الآية رقم 175.

[16] سورة الحجر الآيتان 39-40.

[17] سورة الأنعام الآية رقم 43.

[18] سورة الأنفال الآية رقم 48.

[19] سورة الأعراف الآية رقم 200.

[20] سورة النور الآية رقم 21.

[21] سورة الحجر الآية رقم 40.

[22] سورة ص الآية رقم 41.

[23] سورة يوسف الآية رقم 100.

[24] عصمة الأنبياء ص261 (بتصرف)

[25] عصمة الأنبياء ص 264. (بتصرف)

[26] عصمة الأنبياء ص 262. (بتصرف)

[27] لاحظ على سبيل المثال معجم مقايـيس اللغة ص 1025. النهاية في غريب الحديث ج 5 ص 50. مفردات ألفاظ القرآن ص 50.

[28] سورة التوبة الآية رقم 67.

[29] لاحظ المصباح المنير ج 1 ص 293. مفردات ألفاظ القرآن ص 431. معجم مقايـيس اللغة مادة(سهو).