28 مارس,2024

باقر العلوم (كلمة الجمعة)

اطبع المقالة اطبع المقالة

باقر العلوم

 

الخامس من أئمة أهل البيت(ع)، هو الإمام محمد بن علي(ع)، وقد عرف بالباقر، وصار يسمى به، لأن النبي(ص) قد أعطاه هذا اللقب وقد سئل جابر بن يزيد الجعفي، عن سبب تسميته بالباقر، فقال له السائل: لم سمي الباقر باقراً؟ قال: لأنه بقر العلم بقراً، أي شقه شقاً وأظهره إظهاراً. ولقد حدثني جابر بن عبد الله الأنصاري أنه سمع رسول الله(ص) يقول: يا جابر إنك ستبقى حتى تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف في التوراة بباقر، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، فلقيه جابر بن عبد الله الأنصاري في بعض سكك المدينة، فقال له: يا غلام من أنت؟ قال: أنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال له جابر يا بني أقبل فأقبل، ثم قال له: ادبر فأدبر، فقال: شمائل رسول الله ورب الكعبة، ثم قال: يا بني رسول الله يقرؤك السلام، فقال: على رسول الله(ص) السلام، ما دامت السماوات والأرض وعليك يا جابر بما بلغت السلام، فقال له جابر: يا باقر أنت الباقر حقاً أنت الذي تبقر العلم بقراً[1].

 

وفي التسمية المذكورة أعني بالباقر احتمالان:

 

الأول: أن يكون المقصود منها أنه(ع) سوف يتصدى لإظهار مكامن غير معروفة في العلوم التي كانت موجودة عند الأمة الإسلامية، من خلال توسعتها ببيانها وإيضاحها، فيعمد إلى إضافة جملة من الإيضاحات على ما كان متداولاً عند المسلمين من التفسير، ويزيد بياناً للموجود عندهم في الفقه والأحكام، وهكذا من دون أن يأتي بشيء جديد لم يكن موجوداً من ذي قبل.

 

الثاني: أن يكون منشأ تسميته بالباقر يعود إلى ما سوف يضيفه من علوم جديدة لم تكن معروفة ولا متداولة عند الأمة الإسلامية إلى حين وجوده(ع)، فيكون ذلك سبباً إلى توسعة العلوم، فيدخل مجموعة جديدة من المعارف التي لم تكن متداولة، ولو كانت موجودة فإن دائرة الإحاطة بها محدودة، ولو كانت إلا أنها لم تلق اهتماماً عند المجتمع. وقد عرف أنه(ع) قد أدخل علم الجغرافيا وعلم الهيئة، وسائر العلوم الغريبة على المجتمع العربي والإسلامي خلال تلك الفترة.

ومن المستبعد أن يكون منشأ تسميته بذلك يعود لحصر الأمر في إدخاله علم الجغرافيا وعلم الهيئة فقط، بل الذي نتصور أنه(ع) قد اكتشف علوماً غريبة لم تكن معروفة عند مجتمعه، أو يكون المجتمع قد أحاط بها، وقد تصدى(ع) إلى تدريسها والترويج إليها في مدرسته.

 

ومن المستبعد أن يكون منشأ التسمية هو خصوص الاحتمال الأول، وذلك لأنه يمكن للكثيرين أن يتحصلوا عليه، خصوصاً وأنه لا يعدّ أمراً متميزاً، بخلاف الاحتمال الثاني، فإنه شيء مميز كما لا يخفى.

وهذا يعني أن الأقرب في التصور أن يكون المقصود من وسمه بهذا اللقب، وإعطائه إياه من قبل النبي الكريم محمد(ص) يعود لما سيضيفه إلى المدرسة الإسلامية من علوم جديدة لم تكن موجودة عندها، بل وقيامه بعملية تدريسها، وتخريج من يملكون الإحاطة بها، والقدرة على تدريسها.

 

وكي لا يكون ما استظهرناه من معنى محتمل في تسميته(ع) بالباقر، خالياً عن البرهان، وداخلاً في دائرة الدعاوى، لابد من الوقوف على معالم مدرسته(ع)، وماذا كان يلقى فيها من معارف علوم.

 

معالم المدرسة الباقرية:

إن الحديث عن أي مدرسة من المدارس العلمية، يتم من خلال ملاحظة المقومات الأساسية التي تقوم عليها، ويمكن حصر ذلك في عناصر ثلاثة:

 

الأول: المناهج الدراسية التي تدرس فيها.

الثاني: طريقة العرض والتدريس.

الثالث: نوعية الطلاب الذين يحضرون الدروس التي تلقى فيها.

 

فإن توفر هذه الأمور مجتمعة تكشف عن قوة المدرسة، كما أنها تعطي تعريفاً واضحاً بالأساتذة المتصدين للتدريس فيها، وتكشف عما يملكونه من قدرات ومواهب علمية مميزة.

وعندما نود تطبيق ذلك على مدرسة الإمام الباقر(ع)، فإنه يقصد من المعرفة بمعالمها، المعرفة بما كان يتصدى(ع) لإلقائه فيها من دروس، وطريقة التدريس التي كان يتبعها خلال ذلك، ونوعية الطلاب الذين كانوا يحضرون تحت منبره، فإن لهذا أكبر الأثر في الإحاطة بقدرات الأستاذ التعليمية كما سمعت. وعليه، سوف نسلط الضوء على هذه العناصر الثلاثة في مدرسة الإمام(ع) بصورة موجزة:

 

العنصر الأول: المناهج الدراسية:

عندما نعمد إلى قراءة سيرة الإمام الباقر(ع) في بعدها العلمي، لنتعرف على الدروس التي كان يلقيها(ع) على تلامذته، في أحد أروقة المسجد النبوي، والذي كان مخصصاً له يجتمع فيه الطلاب ليستمعوا إلى دروسه، نجد تعدداً وتنوعاً في المواد الدراسية التي كان يلقيها(ع) على طلاب المعرفة في تلك الفترة. ويمكن تقسيمها إلى قسمين:

 

الأول: الدروس التي كانت متعارفة في تلك الحقبة الزمنية، وكانت تتضمن شيئاً من التاريخ، وعلم النحو، وعلم الرجال، والسنة، أو الفقه، والأدب.

ولم تكن هذه الدروس مختصة به(ع)، بل ربما كان يتحصل عليها الطلاب من خلال أساتذة آخرين يوجدون في المدينة المنورة.

الثاني: العلوم الجديدة التي لم يكن يتصدى لإلقائها أحد غيره. فقد كان يدرس الجغرافيا، وعلم الهيئة، والهندسة، والظاهر أن علمي الهيئة والهندسة، قد وصلا إلى المدينة عن طريق أقباط مصر، وقد وقف العرب عليهما من خلال رحلاتهم التي كانوا يقومون بها إلى مصر، فتعرفوا حينها على جغرافيا بطليموس. إلا أن ذلك لم يكن محط اهتمام أحد ولا عنايته أو رعايته، حتى عمد الإمام(ع) لتدريس ذلك.

وقد كان الإمام(ع) واقفاً على القواعد الهندسية التي وضعها إقليدس اليوناني، وهو القائل بكروية الأرض، ولم تكن عملية الترجمة للكتب اليونانية قد حصلت خلال تلك الفترة، ولم يطلع أحد من المسلمين في البلاد العربية على مثل هذه العلوم والنظريات.

 

ومن العلوم التي كانت تشتمل عليها دروسه(ع) علم الفيزياء، وقد كانت الدروس تدور حول فيزياء أرسطو، وهي تضم علوماً شتى، كالميكانيكا، وعلم الحيوان، وعلم النبات، والجيولوجيا.

ومن المحتمل أيضاً وصول علم الفيزياء للجزيرة العربية من خلال علاقتهم بأقباط مصر.

 

وقد طرح الإمام(ع) في علم الفيزياء رأي ارسطو في أصل الكون، وأن الكون يتألف من عناصر أربعة، وهي:

 

1-التراب.

2-الماء.

3-الهواء.

4-النار.

 

وقد أثر عنه(ع) قوله: إن الماء الذي يطفئ النار، يستطيع أن يوقدها بفضل العلم.

ومن الدروس التي كانت تلقى من قبل الباقر(ع) في مدرسته الباقرية، علوم العرفان، والعلاقة مع الله تعالى، والحب الإلهي.

واشتملت دروسه(ع) أيضاً على مجموعة من البحوث الاقتصادية، فتضمنت تعرضه لضرورة تحسين المعيشة، والتحذير من الكسل، وقد أبرز جملة من هذه الرؤى الاقتصادية من خلال بعض الممارسات العملية التي أثرت عنه، مثل مقته لتارك العمل.

وغير بعيد اشتمال مدرسته(ع) على مجموعة من الدروس في علم الطب، وإلى ذلك تشير رواية، وإن كان يحتمل جداً أن يكون أول من أدخل هذا العلم إلى المدرسة الإسلامية، هو رئيس المذهب الإمام الصادق(ع).

 

العنصر الثاني: طريقة الدرس:

لقد كانت طريقة التدريس المتبعة في ذلك العصر مختلفة تماماً في الجملة عن الطرق التدريسية اليومية، إذ لم يكن الاعتماد على الوسائل التعليمة كالسبورة مثلاً وما شابه موجوداً، بل كان الطريقة تعتمد بصورة أساسية على ما يملكه الطالب من نبوغ وقوة حافظة وقدرة على الاستيعاب، لأن الأستاذ كان يلقي الدرس على الطالب من دون أن يعتمد الأستاذ على كتاب عنده، كما أن الطالب ليس له كتاب يتابع الأستاذ من خلاله، فكان على الطالب أن يحفظ ما يلقى إليه من الأستاذ، ويستوعبه. نعم يعمد بعض الطلاب إلى الاستفادة من الألواح فيكتبون فيها ما يملى عليهم، وقد يقومون بعد ذلك باستنساخ ما دونوه في هذه الألواح على شيء من الجلد أو الورق، ويمحون ما دون في اللوح ليستفاد منه مرة أخرى وهكذا. وهذا أشبه بما يعرف اليوم بالمذكرات اليومية.

 

ومن الواضح، صعوبة هذه الطريقة في التعاطي مع الدروس، والقدرة على استيعابها، خصوصاً عندما تكون الدروس أموراً مستجدة غير معروفة، ولا متداولة، ما تجعل حضارها فئة خاصة من الناس، وليس كل أحد كما لا يخفى.

 

العنصر الثالث: طلاب المدرسة:

ولعله قد اتضح من خلال الإشارة الموجزة لطريقة الدرس، والأسلوب المتبع من قبل الأستاذ مع الطلاب، والمسؤولية التي تلقى على كواهلهم، نوعية الحضور في هذه الدروس، وأنه لن يكون الباب مفتوحاً على مصراعيه لكل أحد، ويكون شرعة لمن أراد الدخول، بل سوف يكون الطلاب نوعية خاصة لديها القدرة على الحضور في مثل هذه المحافل العلمية، وهذا ما ينص عليه المؤرخون عند حديثهم عن طلاب الإمام الباقر(ع) الذين كانوا يحضرون عنده في جامعته الباقرية، من أن معظم طلابه(ع) الذين كانوا يحضرون في مدرسته كانوا من الفقهاء والعلماء والباحثين. ويتضح ذلك من خلال مراجعة سريعة لما ذكر حولهم في كتب التراجم والرجال.

 

ولم يقتصر حضار جامعته على القائلين بإمامته، بل كانت جامعته مفتوحة لجميع التوجهات والانتماءات، فمن علماء الجمهور الذين حضروا عنده(ع): عمرو بن دينار الجمحي، وعبد الرحمن الأوزاعي، وعبد الملك بن عبد العزيز الأموي، وقرة بن خالد الدوسي، ومحمد بن المنكدر القرشي التميمي، ويحيى بن كثير الطائي، ومحمد بن مسلم الزاهري، وغيرهم.

 

وأما من القائلين بإماته، فكثير، نشير إلى بعضهم مع تعريف موجز بهم:

 

1-أبان بن تغلب: عاصر ثلاثة من الأئمة الأطهار(ع)، زين العابدين والباقر والصادق(ع)، والظاهر أن أطول مدة قضاها مع الإمام الباقر(ع)، وقد ذكر أنه روى عن الإمامين الباقرين(ع) أكثر من ثلاثين ألف حديث في مواضيع مختلفة أكثرها في الفقه.

وقد وثقه علماء الجمهور أيضاً، مع اعترافهم بتشيعه، ووصفه الذهبي مع ذلك أنه صاحب بدعة، يشير إلى تفضيله أمير المؤمنين(ع) على غيره من الصحابة.

2-زرارة بن أعين: يعدّ أحد مراجع علم الفقه والرواية وفقاً لمذهب أهل البيت(ع)، وقد ورد في حقه عن الإمام الصادق(ع) قوله: لولا زرارة لظننت أن أحاديث أبي ستذهب. وقد كان معظم المنـزلة والشأن عند الإمام الصادق(ع). وقد قال له في بعض مجالسه: إنك والله أحب الناس إلي وأحب أصحاب أبي إلي حياً وميتاً.

3-محمد بن مسلم الثقفي: وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم الإمام الصادق(ع): أربعة أحب الناس إلي أحياء وأمواتاً. وقد أرجع الإمام الصادق(ع) إليه ابن أبي يعفور، ليجيب عن مسائله، وقال له: فإنه قد سمع من أبي وكان عنده وجيهاً.

4-مؤمن الطاق: وهو محمد بن علي بن النعمان، وقد ذكر أنه أخذ عن ثلاثة من الأئمة الأطهار(ع)، زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق(ع)، ولقب بالطاق لأنه كان صرافاً في محل يدعى باب الطاق من محلات الكوفة، وهو أحد الأربعة الذين دعا لهم الإمام الصادق(ع)، وترحم عليهم أحياء وأمواتاً. ويظهر من ملاحظة أخباره، أنه كان قوي الحجة، كثير الجدل، ينهزم أمامه الخصم أياً كانت قوته العلمية[2].

 

 

وما ينبغي إلفات النظر إليه، والتأكيد عليه، أن جميع هذه العلوم التي كان يبثها الإمام الباقر(ع) في جامعته المباركة، لم يتلق تعليمها على يد أحد من الناس، بل هي من العلم اللدني الذي قد أعطاه الله سبحانه وتعالى إياه كبقية الأئمة المعصومين(ع)، وفقاً لما نعتقده نحن الشيعة الإمامية، وعلى ذلك قام الدليل والبرهان، من أن العلم بالغيب من الأمور المعتبر توفرها في الإمام كتوفرها في النبي(ص)، ويشهد لما ذكرناه، أنه لم ينقل التأريخ تلمذ الإمام الباقر(ع) على يد أحد من الأساتذة، بل لم ينقل المؤرخون أنه(ع) قد غادر المدينة المنورة إلى أي جهة من الجهات ليتلقى فيها تعليمه.

 

بعض القواعد العلمية المأثورة عنه:

ومن الخدمات الجليلة التي قدمها الإمام الباقر(ع) من خلال جامعته المباركة للأمة الإسلامية، تأسيسه لمدرسة فقهية نموذجية، فقد كان الأمة الإسلامية في زمانه منشغلة بالأحداث السياسية، والاضطرابات، وقد أدى هذا إلى إهمال العناية بالشؤون الدينية إهمالاً تاماً حتى لم تعدّ الشعوب تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير، حتى قيل أنه كان في الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة، ونسب إلى بعضهم جهله بالمواقيت الصلاتية، وهكذا. وقد كان دور الإمام الباقر(ع) المشرق في نشر الفقه وبيان أحكام الشريعة من أعظم الخدمات التي قدمها للعالم الإسلامي.

 

ويعتبر هذا أحد الأسباب الرئيسة في صدور العديد من النصوص عنه(ع) وعن ولده الإمام الصادق(ع) في هذا المجال.

 

ولقد كان ما عرضه(ع) في مدرسته الباقرية من بيان للفقه، يبرز الميز التي يتميز بها فقه أهل البيت(ع)، ما جعله في قمة الفقه الإسلامي، ومن تلك المميزات:

 

1-اتصاله بالنبي محمد(ص):

فإن طريقه إليه هو أئمة أهل البيت(ع)، وهم ألصق الناس بالنبي(ص)، وأدرى بشؤون شريعته وأحكامه من غيرهم، وتكون روايتهم عن جدهم مع صحة سندها، من أصح الروايات وأقربها للواقعية، وبراءة الذمة، ولهذا اقتصر فقهاء الشيعة على رواياتهم دون روايات غيرهم.

 

2-المرونة:

فهو يساير الحياة ويواكب التطور، دون أن يشذ عن الفطرة، كما أنه يتمشى مع جميع متطلبات الحياة، فلا تجد فيه ضيق ولا حرج، ولا ضرر ولا ضرار، وإنما فيه الصالح العام، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته. وقد كان هذا سبباً لأن ينال إعجاب علماء القانون، ويعترفوا أنه من أثرى ما قنن في عالم التشريع عمقاً وأصالة وإبداعاً.

 

3-فتح باب الاجتهاد:

وعدّ هذا أحد المميزات التي أمتاز بها، وكشف عن وجود حيوية فيه، وأنه يتفاعل مع الحياة، ويستمر في العطاء ليشمل جميع جوانب شؤن الإنسان، وأنه لا يقف مكتوفاً أمام الأحداث المستجدة التي يبتلى بها الناس خصوصاً في العصر الحديث، فقدم علاجات علمية رصينة في الموضوعات المستجدة التي لم تكن معروفة من قبل، كالتفليح الصناعي، وزراعة الأعضاء في مجال الطب مثلاً، وهكذا.

 

4-الرجوع إلى حكم العقل:

وهذا مما انفرد به أتباع مذهب أهل البيت(ع) دون بقية المذاهب الأخرى، عندما جعلوا العقل أحد المصادر التي يعتمد عليها في استنباط الحكم الشرعي، وجعلوه الرسول الباطني، وأنه مما يعبد به الرحمن، ويكتسب به الجنان.

ولا يخفى أن الرجوع لحكم العقل ليس مطلقاً، بل يقيد بما إذا لم يكن في المسألة نص خاص، أو عام، ووجودهما يمنع من وصول النوبة لحكم العقل.

وللعقل دور كبير في علم الأصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد، وعلى ضوئه حكموا بوجوب مقدمة الواجب، وغيرها من المطالب الأصولية الدخيلة في عملية الاستنباط[3].

وعلى أي حال، فقد أثرت عن الإمام الباقر(ع) مجموعة من القواعد العلمية وفي مجالات مختلفة، بسبب سعة رقعة جامعته العلمية، وقد كان له في كل علم قواعد مأصلة تختص به(ع) قد أبدعها، وابتكرها ولم يسبقه إليها غيره. إلا أننا نسلط الضوء على بعض القواعد المأثورة عنه في مجالي الفقه والحديث، طلباً للاختصار.

 

القواعد الفقهية:

وسوف نسلط الضوء على أربع من القواعد المأثورة عنه(ع)، والتي لها دور كبير في الابتلاء للمكلفين:

 

قاعدة لا تنقض السنة الفريضة:

ومصدرها ما رواه زرارة في الصحيح عن الإمام أبي جعفر(ع) أنه قال: لا تعاد الصلاة إلا من خمسة:

الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود، ثم قال(ع): القراءة سنة، والتشهد سنة، والتكبير سنة، ولا تنقض السنة الفريضة[4].

وتقسم القاعدة المذكورة عناصر الأحكام الشرعية إلى قسمين:

 

 أحدهما الفرائض: وهو ما كان مصدر جعله وتشريعه هو الله سبحانه وتعالى، ولو أبرز على لسان النبي الكريم محمد(ص).

ثانيهما: السنن: وهو ما كان جعله من قبل النبي(ص)، ولم يكن من قبل الله تعالى، فلم ترد الإشارة إليه في القرآن الكريم، وهكذا.

وتعتبر القاعدة المذكورة بهذا المعنى الذي أشرنا إليه فتحاً في علم الفقه، لأنها لم تحصر الاستفادة منها في خصوص باب الصلاة، بل هي جارية في سائر الأبواب الفقهية ابتداء من كتاب الطهارة، وانتهاء باب الديات، وهذا واحد من إبداعات المرجع الديني الأعلى للطائفة الإمام السيستاني(دامت أيام بركاته)، فقد خالف المشهور في فهمهم للصحيحة، حيث قصروا دلالتها على خصوص كتاب الصلاة، وقد عمد إلى توسعة دائرة الاستفادة منها كما سمعت.

 

ولهذه القاعدة من الآثار المهمة في حياة المكلفين مجال واسع، فمن العلاجات التي تستفاد منها، ما لو تم الإخلال بكيفية الغسل، كما لو بلغت الفتاة سن التكليف، وطرقها الدم، وكانت على علم بوجوب الغسل عليها، إلا أنها لم تكن تعرف طريقته، فكانت تدخل الحمام قاصدة الغسل، لكنها لم تعمد إلى الترتيب في أدائها، ولم تلتفت إلى ذلك إلا بعد مضي حقبة من الزمن، فإن القاعدة المذكورة تصحح غسلها الذي أخلت فيه بالترتيب ما دام قد تحققت منها النية، لأن الترتيب سنة، وأصل الغسل فريضة، وقد عرفت أن السنة لا تنقض الفريضة، وهكذا.

 

قاعدة الفراغ:

ومصدرها ما رواه محمد بن مسلم في المعتبر عن أبي جعفر(ع)، قال: كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو.

والمقصود منها أنه إذا أتم الإنسان العمل العبادي مثلاً، وبعد فراغه منه حصل عنده شك في صحة ما أتى به من عمل، كإتيانه بالقراءة في الصلاة صحيحة، فإنه لا يعتني بهذا الشك، ولا يرتب عليه أثراً، بل يحكم بصحة العمل الصادر منه، وهذا ما يعرف بالشك في صحة الموجود، ولهذا يقال: إن موضوع القاعدة المذكورة الشك في صحة الموجود.

 

قاعدة التجاوز:

والمقصود منها أنه إذا شك المكلف في الإتيان بجزء من أجزاء العمل، وقد تجاوز موضعه ودخل في غيره، فإنه لا يعتني بذلك الشك، ويبني على أنه قد جاء به، فلو شك المكلف بعدما ركع في أنه قرأ الفاتحة والسورة أو لا، فإنه يبني على قراءته لهما، ويكمل صلاته، وهذا يعني أن موضوع القاعدة المذكورة هو الشك في الوجود، وبهذا تختلف عن قاعدة الفراغ، لأن موضوع الأولى الشك في صحة الموجود[5].

 

قاعدة لا ضرر:

وقد روى زارة عن الإمام الباقر(ع) أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منـزل الأنصاري بباب البستان، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى رسول الله(ص) فشكى إليه، وأخبره بالخبر، فأرسل رسول الله(ص إليه وأخبره بقول الأنصاري، وما شكاه، فقال(ص): إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيعه، فقال(ص): لك بها عذق في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله(ص) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار.

وللأعلام في مفاد الحديث نظريات أربع، نشير إليها بصورة موجزة، والتفصيل في البحوث التخصصية المطولة:

 

الأول: ما أختاره الإمام الخميني(ره)، من أن مدلول الحديث هو حكم ولائي، قد أعمل النبي(ص) فيه سلطته كحاكم، وقائد للدولة، ولهذا لا يستفاد من الحديث أكثر من وجود سلطة للحاكم الموجود على رأس الدولة، يمكنه أن يستخدمها لإدارة شؤونها، وتنظيم ما يرتبط بها.

الثاني: ما أختاره الشيخ الأعظم الأنصاري(ره)، وكثير من الأعلام، كالسيد الخوئي(قده)، من أن مفاد القاعدة المذكورة هو نفي كل حكم ضرري في الإسلام، فليس في الإسلام حكم يضر بالمكلف، ولذا متى كان التكليف مضراً بالمكلف، فإن القاعدة المذكورة ترفعه، فلو كان استعمال الماء للوضوء ضررياً، فإن القاعدة المذكورة، ترفع لزوم استعماله، وتقضي بالانتقال للتيمم.

الثالث: أن المقصود منها نفي الإضرار بالآخرين، وهذا مختار شيخ الشريعة(ره).

الرابع: ما أختاره المرجع الديني الأعلى الإمام السيستاني(دامت أيام بركاته)، من أن للحديث المذكور مدلولين:

الأول: وهو قوله: لا ضرر، فإنه يفيد نفي كل حكم ضرري في الإسلام.

الثاني: وهو قوله: لا ضرار، فإنه يدل على منع الإضرار بالآخرين.

 

وليست خافية الفوائد والآثار العملية المترتبة على القاعدة المذكورة، والتي تعود بالنفع على المكلفين.

 

القواعد الحديثية:

وسوف نقصر الأمر على ما ورد عنه(ع) في خصوص علاج المعارضة الحاصلة بين الخبرين الصادرين عن المعصوم(ع)، وبيان كيفية علاجهما، فقد وضع(ع) قواعد لمعالجة ذلك، وهي:

منها: الموافقة للكتاب والسنة:

 

ونقصد بالسنة القطعية منها، فيعرض الخبران المتعارضان عليهما، فما كان منهما موافقاً للكتاب والسنة، قُدم، وسقط الآخر عن الاعتبار والحجية، ويكفي في حصول الموافقة عدم مخالفة النص لما تضمناها، بتفصيل يذكر في محله.

 

ومنها: تقديم المشهور على الشاذ:

وقد أشير لذلك في ما رواه زرارة عنه(ع)، قال: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. وقد فهم من هذا التعبير أن الخبر الموافق لما عليه الفقهاء، يعتمد ويقبل، دون الخبر الذي يكون مخالفاً لما هم عليه، فإنه يطرح.

 

ومنها: الترجيح بصفات الراوي:

وقد أشير لذلك في حديثه مع زرارة، حيث يقول له: خذ بما يقوله أعدلهما عندك، وأوثقهما. فيستفاد منها أن أحد موجبات الترجيح والتقديم، وجود بعض الصفات المميزة للراوي، مثل كونه أوثق، وأعدل من الراوي الآخر، وهكذا.

 

 

 

 

[1] علل الشرائع ج 1 ص 274 باب العلة التي من أجلها سمي أبو جعفر محمد بن علي(ع) الباقر.

[2] سيرة الأئمة الاثني عشر ج 2 ص 196-199(بتصرف)

[3] حياة الإمام الباقر ج 1 ص 218-221، اعلام الهداية الإمام محمد بن علي الباقر ص 116-117.

[4] وسائل الشيعة ب 1 من أبواب أفعال الصلاة ح 14.

[5] بين علماءنا كلام طويل في أنهما قاعدتان، أو قاعدة واحدة، يمكن ملاحظته في الكتب التخصصية.