19 مارس,2024

النصوص بين الرد والقبول

اطبع المقالة اطبع المقالة

النصوص بين الرد والقبول

يتوقف الكثيرون في قبول بعض النصوص، بدعوى عدم قبول عقلهم البشرية لها، لتضمنها ما لا يقبل العقل بتصديقه، وتعقله، بل قد يعمد آخرون إلى رفضها، وردها، ودعوى كذبها، وعدم صدورها عن المعصومين(ع)، لنفس النكتة، ولذلك في النصوص نماذج متعددة:

منها: ما روي عن الإمام الصادق(ع) أنه لما ولد الحسين(ع) أمر الله تعالى جبرئيل أن يهبط في ملأ من الملائكة فيهنئ محمداً(ص)، فهبط فمر بجزيرة فيها ملك، يقال له فطرس، وكان من حملة العرش، بعثه الله في شيء فأبطأ، فكسر جناحه، فألقاه في تلك الجزيرة، فعبد الله سبعمائة عام، حتى ولد الحسين(ع). فإن مقتضى أن الملائكة معصومون لا يتصور حصول المعصية من أحدهم، يمنع من القبول بالنص المذكور كونه مخالفاً لظاهر القرآن الكريم، وهذا يوجب رفضه وعدم القبول بصدوره عن المعصوم(ع).

ومنها: ما ورد في قضية ولادة الإمام الحسين(ع)، من رفض السيدة الزهراء(ع) لحمله لما أبلغت أنه سوف تقتله الأمة.

فإنه لا يتصور أن تعترض السيدة الزهراء(ع) على أمر الله سبحانه وتعالى، وإنما دورها هو دور التسليم والانقياد، لعلمها بأن ما يصدر منه سبحانه وتعالى لابد وأن يكون لمصلحة فيه.

ومنها: ما ورد من أن الإمام زين العابدين(ع) كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، على أساس أن هذا المقدار من العبادة يستغرق ما لا يقل عن ثمانية عشر ساعة، ولا يكفي الوقت الباقي للقيام بالشؤون العامة المرتبطة به(ع).

ولا ينحصر الأمر في نحو من أنحاء النصوص المذكورة، بل لا فرق عندهم بين أن يكون موضوع النص مطلباً فرعياً، أم كان موضوعه مطلباً عقدياً، أم كان مطلباً معرفياً، أم كان حدثاً تاريخيا.

والحاصل، إن اشتمال بعض النصوص على ما لا يمكن للعقل البشري إدراكه، والتصديق به بسهولة صار سبباً عند كثيرين للعمد إلى رد النصوص ورفضها مباشرة من دون أي ملاحظة. نعم قد يتوقف بعضهم شيئاً ما فيدعو لملاحظة اسنادها، فإن كانت ضعيفة صار ذلك سبباً مساعداً لرفضها وعدم القبول بها، كيف ومضمونها في تصوره ما لا يمكن قبوله والتصديق به، وهكذا.

ولا ريب أن هناك ضوابطاً مرعية يعتمد عليها في التعاطي مع النصوص، توجب عدم فسح المجال لكل أحد بقبول ما يود قبوله من النصوص، ورد ما يريد رده، بل لابد وأن يكون ذلك وفق ضوابط وأسس معينة. وهذا يعني عدم صحة ما يقوم به الكثير في التعاطي مع النصوص، لأن لذلك مختصين هم المرجع الذي يعتمد عليه في مورد التقيـيم للقبول وعدمه، وليس لكل أحد القيام بذلك.

حرمة رد الأحاديث:

ويدل على ذلك وجود جملة من النصوص يستفاد منها حرمة رد الأحاديث، ما دام يحتمل صدورها عن المعصوم(ع)، وكان مضمونها صحيحاً، بمعنى أنه لم يتضمن شيئاً يخالف الكتاب الكريم، أو السنة الشريفة القطعية، أو لم يكن موافقاً للعمومات. فمن تلك النصوص صحيحة أبي عبيدة الحذاء، قال: سمعت أبا جعفر(ع) يقول: والله إني أحب أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا، وإن أسوأهم عندي حالاً وأمقتهم إذا سمع الحديث ينسب إلينا، ويروى عنا فلم يقبله، اشمأز منه وجحده، وكفر من دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج، وإلينا اسند، فيكون بذلك خارجاً من ولايتنا[1].  فإن المستفاد منها المنع من رد الحديث لمجرد عدم تقبل الإنسان إياه، وعدم قدرته على استيعاب المعنى المقصود منه، لأنه ليس لكل أحد القدرة على الإحاطة بالمعنى المقصود في النص دائماً وأبداً.

ومنها: ما رواه جابر، عن أبي جعفر(ع)-في حديث-قال: انظروا أمرنا وما جاءكم عنا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردوه إلينا، حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا[2]. ودلالته على المدعى من خلال أمره(ع) بلزوم رد الحديث إليهم(ع) عند عدم المعرفة بالمقصود منه، وفقدان الإحاطة بالمراد به، وهذ يعني المنع من رده ورفضه لمجرد ذلك.

معنى رد الأحاديث:

والمقصود من رد الأحاديث المنهي عنه أحد أمرين:

الأول: انكار مضمونها، وعدم القبول به، بل الحكم ببطلانه.

الثاني: الإعراض عنها، وعدم الاعتناء بما تضمنته، وعدم العناية بمضمونها.

والثاني أضيق دائرة من الأول، لأنه لا يستوجب تكذيبها، وهذا بخلافه في الأول، فإن مقتضاها نسبتها للكذب على المعصوم(ع)، ونفي صدورها عنه.

معيار قبول الحديث:

ثم إن مقتضى المنع من ردّ النصوص من كل أحد، يدعو لمعرفة المعيار الذي يتبع في قبول النص، حتى يعمل على وفقه، ومعرفة ما يوجب رفع اليد عنه ورده.

ومن المعلوم أن أي نص أو حديث يتركب من عنصرين، وهما:

1-السند، ويقصد منه السلسلة الناقلة للخبر، فلو كان الخبر منقولاً عن المعصوم، فيكون المقصود من السند، تلك السلسلة التي نقلت إلينا ما ينسب إليه من قول أو فعل أو إقرار.

2-المتن، وقد يعبر عنه عادة بالمضمون، ويقصد منه ما حكي عن المخبر عنه، ونسب إليه صدوره منه، سواء كان قولاً، أو فعلاً أو إقراراً.

وربما اعتقد الكثيرون أن معيار حجيته والقبول به أن يكون صحيح السند[3] فقط، فيكون التركيز على إحراز ذلك، بحيث يعدّ ضعفه السندي مانعاً من القبول به، والعمل على وفقه.

ومقتضى ما ذكر أنه لا علاقة للمضمون بحجية الخبر وقبوله من قريب أو بعيد، فلا يؤثر ذلك أصلاً في ثبوت الحجية، ولا في سلبها.

ولا يخفى أن مجرد التعويل على السند دون عناية أو نظر للمتن والمضمون ودخالته في الحجية هي طريقة الحشوية، فقد كان جلّ اهتمامهم ينصب على معرفة طرق الحديث وضبط الرواة، ولم يعتنوا بالمضمون أصلاً. وهذه طريقة مرفوضة جداً في علم الحديث.

والصحيح، أن حجية الخبر تدور مدار العنصرين الذين يتركب الخبر منهما، فكما أن لملاحظة السند دخالة في حجيته، فإن متنه ومضمونه الذي جاء يخبر عنه، لا يقل أهمية عن ذلك في الحجية. بل إن البحث عن المضمون مقدم على البحث عن الصدور، نعم لا يتوهم أحد أن ذلك يشير إلى إلغاء البحث عن الصدور، وعدم الحاجة إلى ملاحظة السند، أو يكشف عن عدم أهميته. بل لكليهما دوره في الحجية، عمدة ما كان أن ملاحظة المضمون يعدّ أكثر أهمية من ملاحظة الصدور، لأنه قد يتم البحث السندي، إلا أن البحث المضموني، يوجب رفع اليد عن الخبر حتى مع تمامية البحث السندي.

ومن الواضح عدم قدرة كل أحد على الإحاطة بالبحث المضموني، لأنه من الموارد التي تحتاج تخصصاً ومعرفة ومزيد إحاطة وإطلاع على قواعد القبول الموجبة للقبول بالمضمون نتيجة إعمال القاعدتين المعتبر توفرهما في حجيته، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك إن شاء الله.

ومن الطبيعي أن لا تكون جميع الموارد في مستوى واحد، بل يختلف الحال من مورد لآخر، وإن كان الجميع يتفق في أصل الكبرى، إلا أن ملاحظة الصغريات التطبيقية، سوف تكون مختلفة من مورد لآخر، فلا يتصور أن يكون المعتبر في قبول النص العقدي، وما يدخل في قبول المضمون هو عين ما يكون موجباً للقبول في النص الفرعي الفقهي، أو النص التاريخي، وهكذا.

وما ذكرناه من تقدم المنهج المضموني في مقام الحجية على المنهج السندي في مقام الحجية، موضع اتفاق عند الأعلام جميعاً، من دون فرق بين القدماء والمتأخرين منهم، فإن الجميع منهم يلتـزم بهذا، وتوهم أن هناك من يعنى بخصوص المنهج السندي، دون نظر منه للمضمون، كما قد ينسب ذلك لبعض الأعاظم(ره)، في غير  محله، إذ أن المراجعة السريعة لموسوعته الفقهية على سبيل المثال، كاشف عن بناءه على دخالة المنهج المضموني في الحجية، ويساعد على ذلك أنه مع بناءه(رض) على وثاقة جميع من وقع في أسناد التفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم القمي(رض)، إلا أنه لا يتصور منه البناء على القبول بجميع ما جاء فيه من النصوص، خصوصاً وأن بعضها لا ينسجم وما يعتقده أبناء الطائفة المحقة، كما هو مفصل في محله. ويشهد لما ذكرناه رده للنصوص التي تضمنت سهو النبي(ص) في الصلاة مع اعتبار أسناد بعضها، لمخالفة مضمونها لما يلزم الاعتقاد به.

نعم بين الأعلام خلاف بلحاظ حجية الصدور، إذ يكتفي بعض الأعاظم(ره) باعتبار الخبر سنداً، وذلك بوثاقة الرواة الواقعين فيه، ولا يكفي ذلك عند المشهور من الأعلام قدماء ومتأخرين، إذ يشترطون حصول الوثوق والاطمئنان في مقام الحجية، ويعتبرون صفات الراوي أحد الأسباب الموجبة لذلك.

وقد أوجب هذا وجود مسلكين في الحجية، وهما:

1-مسلك الوثوق، وهو الذي أختاره قدماء الأعلام، وعليه كثير من المتأخرين، بل الظاهر أنه المسلك المشهور بين الفقهاء.

2-مسلك الوثاقة، وقد تبناه الشهيد الثاني(ره)، وتبعه عليه بعض الأعاظم(ره)، وشيخنا التبريزي(قده).

ولا يخفى أنه وفقاً للبناء على دخالة البعد المضموني، وملاحظة متن النص في الحجية، تظهر ثمرة كبيرة جداً، إذ سوف تعتبر نصوص كثيرة ويستند إليها في مقام الاستدلال والاحتجاج، ولن يعدّ الضعف السندي مانعاً منها، لأن قوة المضمون ستكون سبباً رئيساً للبناء على الحجية، خصوصاً النصوص الواردة في التفسير، وكذا النصوص الواردة في القضية المهدوية، وما يرتبط بعلامات الظهور وما شابه، وهذا يشير إلى التفات الأعلام(رض) لهذه النصوص وبنائهم على حجيتها من هذه الجهة، لا ما توهمه البعض من أن هذه النصوص لم يعمد لتنقيحها سنداً، ولم تعرض على الملاحظة السندية، وأن ملاحظتها توجب رفع اليد عن الكثير منها، لأن أكثر وراتها من المجاهيل، حيث لم يذكروا في المصادر الرجالية.

لأنه غلط واضح، فإن من له دراية بالمصادر الرجالية الموجودة عند الأعلام، يعلم أنها لم تعدّ ككتب رجالية غايتها الجرح والتعديل، فإن كتابي الفهرست للشيخ والنجاشي(ره) كتب الغاية استعراض المؤلفين من أصحابنا، وهذا يوجب أن من لم يكن له مؤلف لا يذكر.

ومن الواضح جداً أن هذا يوجب رفع اليد عن عدد غير قليل من الرواة، إذ ليس كل راوٍ له مؤلف أو أصل، وأما بقية الكتب كرجال الشيخ(ره)، أو رجال الكشي(ره)، أو غيرهما، فإن هناك موانع تمنع من التعويل عليهما بنحو الموجبة الكلية، فرجال الشيخ(ره) على سبيل المثال لم يخرج عن كونه مسودات لم يتمها مؤلفه، كما هو المعروف والمشهور، وكتاب الكشي(ره) لم تصلنا نسخته الأصل، وهكذا.

الراوي المجهول:

على أنه يلزم التفريق بين نحوين من المجهولية في الرواة:

النحو الأول: من يكون مجهولاً نتيجة حصول معارضة التوثيق مع التضعيف، فيتساقطان بعد عدم مرجحية أحدهما على الآخر، لتكون النتيجة مجهولية الراوي.

النحو الثاني: أن تكون جهالته ناشئة من عدم تعرض الرجاليـين له بشيء من قريب أو بعيد.

فإن النحو الثاني يمكن احراز وثاقته والاعتماد عليه من جوانب متعددة، إحداها ملاحظة النصوص الصادرة عنه، ومدى موافقتها لأصول المذهب وقواعده، فإن هذا يعدّ من موجبات الوثوق بمروياته لو كانت منسجمة مع ذلك، بخلاف النحو الأول، لأن كل ما يذكر سوف يكون معارضاً بما دل على التضعيف.

والحاصل، إن هذا كله من ثمرات البناء على ملاحظة ناحية المضمون، والعناية بقوة المتن للخبر. وللسيد العلامة الطباطبائي(ره) في البين كلام مهم، قال: لا موجب لطرح رواية أو روايات إلا إذا خالفت الكتاب أو السنة القطعية-إلى أن قال-وأما عدم صحة أسانيدها، فإن ذلك لا يوجب الطرح، ما لم يخالف العقل والنقل الصحيح[4].

وقال بعض الأعيان(قده)، في كتابه الأربعون حديثاً عند التعليق على الحديث العاشر منه: وهذا الحديث الشريف من محكمات الأحاديث التي يدل مضمونها على أنه ينبع من علم الله تعالى الرائق، حتى وإن كان مطعوناً عليه بضعف السند[5].

تصحيح المضمون:

ثم إن الطريق للبناء على اعتبار المضمون واعتماده تحصل جراء عرض الخبر على قاعدتين أساسيتين، وهما:

1-القاعدة الشرعية.

2-القاعدة العقلائية.

ويقصد من القاعدة الشرعية: عرض أخبار الآحاد وهو مظنون الصدور، على ما هو معلوم الصدور عن الشارع المقدس، سواء  كان على الكتاب الكريم زاده الله عزة وشرفاً، أم على السنة القطعية، فيرد كل ما كان مخالفاً لهما، ويقبل ما دون ذلك.

وهذا يعني أنه لا يعتبر في الخبر المعروض على القاعدة الشرعية أن يكون موافقاً، وإنما يكفي إحراز عدم مخالفته لترتيب الأثر.

ويمكننا تقريب ذلك بمثالين:

الأول: مخالفة النص المروي للآيات القرآنية، فمن ذلك ما نسبه الرجل الأول للنبي(ص) أنه قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة[6]. فقد تمسك به لإثبات مشروعية ما قام به من أخذ لفدك من السيدة الصديقة الزهراء(ع)، بدعوى أن الأنبياء لا يُورِثون، وإنما يكون جميع ما تحت أيديهم عاماً للمسلمين، على تفصيل يطلب من محله.

إلا أن النص المذكور مخالف لما جاء في القرآن الكريم، حيث قال تعالى:- (وورث سليمان داوود)[7]، وكذا قوله تعالى:- (فهب لي من لدنك ولياً* يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً)[8].

وليس المورد من صغريات التوفيق من باب التخصيص ليكون خبر الرجل الأول مخصصاً للآيات القرآنية، كما فصل ذلك في محله.

وعليه، فإن مقتضى كون الخبر المذكور مخالفاً للقرآن، يستوجب عدم حجيته، ولو كان مروياً بأصح الأسناد، وأعلاها.

الثاني: مخالفة الخبر للسنة القطعية، وهو مثال فقهي، فقد وردت نصوص في الكافي أن التقصير يكون بقطع أربعة فراسخ، ولذا نسب للشيخ الكليني(ره)، قوله بكفاية قطع أربعة فراسخ، استناداً لتلك النصوص، وهي معارضة للنصوص التي تضمنت أن المسافة الموجبة للتقصير قطع ثمانية فراسخ ولو تلفيقاً، وقد عولج ذلك بأن نصوص الأربعة فارسخ، مخالف للسنة القطعية، وذلك لأن نصوص الثمانية فراسخ على كثرتها توجب الجزم بصدورها لتمثل السنة القطعية ،فيرفع اليد عن نصوص الأربعة لذلك.

وأما القاعدة العقلائية، فإن المقصود منها: إن مقتضى الطبع العقلائي الثابت للعقلاء بما هم عقلاء، قائم على عدم التسليم والقبول بكل قضية قضية، بل رفض كل قضية تكون منافية لما هو الثابت عندهم مما هو الثابت لديهم من العلم واليقين.

ولا يخفى أن المتشرعة ليسوا مخالفين للعقلاء في ما يلتـزمون به، لأن المتشرعة عقلاء أيضاً، لذا نجدهم يطبقون هذه القاعدة بما هم عقلاء، ويستفيدون منها في نقد النصوص.

ومحصل ما تقدم، أن المقصود من القاعدة المذكورة، عرض مضمون الخبر على ما هو المعلوم ثبوته علماً ويقيناً من الأمور الموجودة لدى العقلاء، ويدخل فيها حتى القضايا التاريخية، وغيرها كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

والفرق بين القاعدتين، هو أن مخالفة خبر ما للقاعدة العقلائية يوجب العلم بعدم صدوره، إلا أن عدم مخالفته لها لا يوجب إثبات الصدور، بل يبقى صدوره محتملاً ومظنوناً. وهذا بخلافه في القاعدة الشرعية، إذ أن عدم مخالفته لها موجب لإثبات صدوره، كما أن مخالفته لها موجب للبناء على نفي الصدور عنه.

وقد أشير لدور القاعدتين في الحجية في كلمات أعيان الطائفة، وعلمائها، فقد قال الشيخ المفيد(ره) في تصحيح عقائد الإمامية:  ومتى وجدنا حديثاً يخالفه الكتاب، ولا يصح وفاقه له، اطرحناه لقضاء الكتاب بذلك، وإجماع الأئمة(ع) عليه، وكذلك إن وجدنا حديثاً يخالف العقول اطرحناه، لقضية العقل بفساده[9].

وأوضح من ذلك ما جاء في كلام السيد المرتضى(ره) في الذريعة، قال: كل خبر دل ظاهره على إجبار أو تشبيه أو ما جرى مجرى ذلك، مما علمنا استحالته، من غير قرينة، ولا على وجه الحكاية، وكان احتماله للصواب بعيداً متعسفاً، وجب الحكم ببطلانه، لأن الحكمة والدين يمنعان من الخطاب بما يحتاج إلى تكلف وتعسف شديد حتى يحتمل الصواب[10].

القاعدة الشرعية:

ويستدل لهذه القاعدة بالنصوص التي تضمنت عرض الأخبار على الكتاب، مثل ما ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله، أو من قول رسول الله(ص)، وإلا فالذي جاءكم به أولى به[11]. ولا يكون وجدان الشاهد له من كتاب الله سبحانه وتعالى، إلا بعرض الخبر على الكتاب، إذ لو لا عرضه عليه، لن يتضح وجود الشاهد من عدمه.

وعن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رسول الله(ص) في خطبة بمنى-أو بمكة-: يا أيها الناس، ما جاءكم عني يوافق القرآن، فأنا ما قلته، وما جاءكم عني لا يوافق القرآن، فلم أقله[12]. وهو أوضح دلالة في أن منشأ الحجية للخير يكون بعرضه على الكتاب الكريم، فما كان موافقاً للكتاب الكريم، فهو حجة معتبرة، وإلا فلا.

وفي رواية أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف[13].

ومقتضى ما تقدم من النصوص، أنه يعتبر في حجية الخبر وفقاً للقاعدة الشرعية أن يكون الخبر موافقاً للكتاب والسنة القطعية، ورفض ما كان مخالفاً لهما.

معنى الموافقة والمخالفة:

وليس المقصود من الموافقة لهما، المطابقة التامة كلياً لمضمون الآيات الشريفة، والنصوص القطعية الصدور، بل المقصود عدم المعارضة المستقرة لهما، بوجود منافاة لهما. لأنه لو أريد الموافقة الكلية المطابقية تماماً، لأستلزم رفع اليد عن حجية السنة الشريفة، فإن الكثير من الأمور لم يشر إليها في القرآن الكريم، وقد جاء تفصيله في السنة الشريفة، وهذا يقضي عدم مطابقتها له تماماً، وعليه تسقط عن الحجية والاعتبار، لعنوان المخالفة، وهذا اللازم باطل، فيكون الملزوم مثله، فلا يعتبر أخذ المطابقة والموافقة التامة.

ومن خلال ما ذكرناه في تحديد المقصود بالموافقة، يتضح أن المقصود من نفي المخالفة الموجبة لسلب الحجية، حصول المعارضة المستقرة بين الآيات القرآنية، والنصوص  القطعية الصدور، وخبر الآحاد المراد إثبات حجيته، بحيث لا يمكن التوفيق بينهما بنحو الجمع العرفي، سواء بالتخصيص، أم التقيـيد، أو غير ذلك مما يذكر في محله في باب تعارض الأدلة.

والنكتة في عدم حجية الخبر المخالف، هو أن القرآن الكريم، والسنة القطعية، قطعية الصدور، وخبر الواحد ظنيه، ولا يمكن أن يعارض ما هو ظني الصدور ما هو قطعيه، فيلزم رفع اليد عن الخبر، حال المعارضة المستقرة.

القاعدة العقلائية:

قد عرفت في ما تقدم، المقصود من القاعدة، وأن نكتة حجيتها أنها أمر عقلائي، قد جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أمضاه الشارع المقدس، لقيام المتشرعة بذلك بما هم عقلاء أيضاً.

ويستكشف مخالفة النص للقاعدة العقلائية من خلال موارد نشير لبعضها:

منها: منافاة النص لما هو معلوم ومتيقن الثبوت في الدين الإسلامي والشريعة السمحاء، ولهذا مصاديق متعددة:

أحدها: منافاته لعقيدة التوحيد:

وذلك مثل ما ورد: أن رسول الله(ص) قد سئل، مم ربنا؟ فقال: لا من الأرض ولا من السماء، خلق خيلاً فأجراها، فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق[14].

والمانع من قبول هذه الرواية، دلالتها على أنه تعالى موجود معدوم في نفس الوقت، فإن مقتضى خلقه سبحان من عرق الخيل، أنه لم يكن موجوداً، وأنه ليس قديماً بل هو حادث، لأن هناك من سبقه، مع أن خلقه للخيل التي وجد من عرقها يقضي أنه موجود قبل وجودها، وأنه قديم.

وبالجملة، فإن النص المذكور مضافاً لمنافاته لعقيدة التوحيد، يعاني اضطراباً في متنه من حيث الوجود والعدم، والقدم والحدوث، وهذا يكفي لرفع اليد عنه ورده.

ومن ذلك أيضاً الحديث المروي عن أبي هريرة، أنه يقال لجهنم: هل أمتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها، فتقول: قط قط[15]. لدلالته على التجسيم، وهو منفي عنه سبحانه وتعالى.

ثانيها: منافاته لعقيدة النبوة:

وكما أن النصوص المنافية لعقيدة التوحيد متعددة بحسب موضوعاته، فبعضها يشير إلى منافاة شيء من الصفات الثبوتية له سبحانه وتعالى، أو بعضها يثبت له خلاف الصفات السلبية المنزه عز وجل عنها، كذلك أيضاً ما يكون متربطاً بعقيدة النبوة، ، إذ بعضها يرتبط بأصل الصفات والملكات الخاصة بالنبي(ص)، أو بعضها يتعلق بموضوع العصمة، وهكذا.

فمن النصوص المنافية لعقيدة النبوة الرواية التي تتحدث عن فرار الحجر عن موسى(ع) بملابسه ليركض موسى(ع) خلفه عارياً ليراه بنو إسرائيل سليماً ليس به أي عيب.

فإن هذا النص يمس كرامة النبي(ص)، ويضعف مكانته وهيبته في وسط المجتمع الذي قد بعث إليه.

ومن ذلك أيضاً ما جاء أن نبي الله داوود(ع) قد أرسل أوريا للحرب كي ما يقتل، ويتـزوج من زوجته بعدما رآها عارية، وهام بحبها، وقد ولدت له نبي الله سليمان(ع).

ثالثها: منافاته لما هو معلوم بالضرورة من التشريع:

ومن ذلك ما رواه ابن عمر أن رسول الله(ص) قال: لا بأس بأكل كل طير ما خلا البوم والرخم. فإنه ينافي ما عليه المسلمون من تحريم كل ذي مخلب من الطيور، وبه قد وردت نصوص من الفريقين.

ومثل ذلك ما روي أن من أكل مع مغفور له، فقد غفر له، وهي باطلة كسابقتها أيضاً، لأن للمغفرة أسباباً كالعمل الصالح، وليس منها الأكل مع المغفور له.

ومنها: اشتمال الخبر على ما يكون مخالفاً لما هو الثابت تاريخياً بالعلم واليقين:

فمن ذلك ما روي في قضية الإسراء والمعراج عن عائشة، وأنها قالت: ما فقدت جسد رسول الله(ص)، ولكنه أسري بروحه[16].

وقد عقب عليها السيد العلامة(ره) بقوله: إنه يكفي في سقوط الرواية اتفاق كلمة الرواة وأرباب السير على أن الإسراء كان قبل الهجرة بزمان، وأنه(ص) بنى بعائشة في المدينة بعد الهجرة، لم يتخلف في ذلك اثنان[17].

ومن ذلك أيضاً الرواية التي تذكر أن أسماء بنت عميس(رض) قد حضرت ولادة الإمام الحسن الزكي(ع)، فإنها منافية للثابت تاريخياً، فإن المعروف أنها كانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب(ض) في الحبشة، ولم يحضرا إلا يوم فتح خيبر، وقد مضى على ولادة الإمام الحسن(ع) زماناً، وهكذا نصوص أخرى.

ومنها: مخالفة مضمون الخبر للحقائق الكونية، والقوانين العلمية، وبديهيات العقل:

فمن ذلك صحيحة محمد بن مسلم، والتي يظهر منها أن الأرض مسطحة وليست كروية، فقد روى عن أبي جعفر(ع) قال: يصلى على الجنازة في كل ساعة، إنها ليست بصلاة ركوع وسجود، وإنما يكره الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها التي فيها الخشوع والركوع والسجود، لأنها تغرب بين قرني شيطان وتطلع بين قرني شيطان[18].

وقد عقب عليها بعض الأعاظم(ره) بقوله: أنها في نفسها غير قابلة للتصديق، لما فيها من التعليل بأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان، فان هذا مما لا تساعده الأذهان ولا يصدّقه الوجدان ولا البرهان ، فلا سبيل إلى الاذعان به ، ضرورة أنه إنما يكون معقولاً فيما إذا كان للشمس طلوع وغروب معيّن، وليس كذلك قطعاً، بل هي لا تزال في طلوع وغروب وزوال في مختلف الأقطار ونقاط الأرض بمقتضى كرويتها، ومقتضى ذلك الالتزام بكراهة النافلة في جميع الأوقات والساعات، وهو كما ترى. فهذا التعليل أشبه بمجعولات المخالفين ومفتعلاتهم المستنكرين للصلاة في هذه الأوقات، فعلّلوا ما يرتأونه من الكراهة بهذا التعليل العليل. ولأجله لم يكن بدّ من حمل الصحيحة وما بمعناها على التقية ، فلا موقع للاستدلال بها بوجه[19].

فإن صريح كلامه(ره) أن اشتمال الصحيح على مخالفة الثابت علمياً من كروية الأرض صار موجباً لرفع اليد عنه، ولو بحمله على التقية.

ومنها: أن يشتمل الخبر على ما ينافي الثابت بالحس والتجربة لما هو مقتضى طبيعة الأشياء:

ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعضهم من رفض رواية نوم النبي(ص) وجيشه الذي كان معه في تلك الغزوة، بعيداً عن المخالفة الصريحة فيها لمقام النبوة، بل بلحاظ مخالفتها لمقتضى الطبع البشري، لأن من المستبعد أن ينام جيش مكون من ألف ومائتين فارس بأكملهم، وهم خارجون لحرب وقتال، فإن مقتضى الأمر الطبيعي أن ينام جمع ويبقى آخرون للحراسة، وهذا يساعد على كذب الرواية واختلاقها.

خاتمة:

وقد تحصل من جميع ما تقدم، أنه لابد للبناء على قبول خبر أو رده ملاحظة الجانب الصدوري ونقصد به السند، والجانب المضموني، وأن الثاني منهما هو الأصل والعمدة في القبول، وعليه التعويل ولا يعني ذلك عدم الحاجة للجانب الأول، وأن احراز توفر الجانب الثاني ليس متسنياً لكل أحد كما لا يخفى.

ومنه يتضح المنع من رد كل رواية لمجرد عدم قبول الإنسان بها، أو عدم استسحانها لمضمونها، إذ قد عرفت أن هناك معياراً متبعاً للرد، من خلال العرض على القاعدتين اللتين قد سمعت.

[1] وسائل الشيعة ج 27 ب 8 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به ح 39 ص 87.

[2] المصدر السابق ب 9 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به ح 37 ص 120.

[3] ليس المقصود من الصحة في المقام الصحة الاصطلاحية، وإنما يقصد بها الصحة العرفية، وهي التي تعني كونه حجة.

[4] الميزان في تفسير القرآن ج 1 ص 288.

[5] الأربعون حديثاً ص 166.

[6] صحيح البخاري كتاب الفرائض ج 8 ص 185. ورد هذا النص بأساليب مختلفة ما بين الزيادة والنقيصة.

[7] سورة النمل الآية رقم 16.

[8] سورة مريم الآيتان رقم 5-6.

[9] تصحيح عقائد الإمامية ص 49.

[10] الذريعة إلى أصول الشريعة ج 2 ص 516.

[11] الكافي ج 1 ح 2 ص 69.

[12] المصدر السابق ح 5 ص 69.

[13] المصدر السابق ح 3 ص 69.

[14] كتاب الموضوعات لابن الجوزي ج 1 ص 105.

[15] صحيح البخاري تفسير سورة ق ح 4849.

[16] الدر المنثور ج 5 ص 200.

[17] الميزان في تفسير القرآن ج 13 ص 24.

[18] وسائل الشيعة ج 3 ب 20 من أبواب صلاة الجنازة ح 2 ص 108.

[19] موسوعة الإمام الخوئي ج 11 ص 363-364.