29 مارس,2024

المسئولية في الاسلام

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله و الرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) 1

تعرضت الآية المباركة إلى الحديث عن المسؤولية بأقسامها بمعنى بسيط ومختصر احتواه مضمونها ويتضح ذلك بملاحظة معنى الآية حيث أن النهي الوارد فيها عن الخيانة نهي واحد تعلق بنوع الخيانة.

وأما الأمانة الواردة فيها فهي أمانة الله عند البشرية ويراد بها الأحكام التكليفية الشرعية وأما أمانة الرسول فهي سيرته العطرة وأمانة الناس بعضهم عند بعض تكون في الأموال والأسرار والأعراض والأنفس.

والظاهر أن هذه الأمانات تمثل المسؤوليات الدينية والاجتماعية ومن المعلوم أن المسؤولية الدينية تتضمن المسؤولية الأخلاقية حيث أنها مندمجة فيها ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى اندماج المسؤولية الأخلاقية في المسؤولية الدينية لما تعرض إلى قضية الصوم ببيانه إلى أن البعض كان يخون نفسه سرا بمعصية الله من خلال ممارسته النكاح في شهر رمضان دون علم أحد ، قال تعالى (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) 2

وقد حدد سبحانه وتعالى مسؤولية الإنسان العامة من خلال تحديد الأمانة المعروضة على الإنسان وهي الولاية التي أبت المخلوقات الأخرى حملها لعدم اشتمالها على صلاحية التكليف وحملها الإنسان ، قال تعالى )إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض والجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ( 3

تعريف المسؤولية :

ثم إنه بعد ما تقدم من بيان إلى كون المكلف مسؤولاً وأن الله سبحانه وتعالى قد حمله المسؤولية نحتاج إلى معرفة ما هي المسؤولية ؟

المسؤولية عبارة عن الشعور بأداء الواجب والإخلاص في العمل ، فليست المسؤولية إذن مجرد الإقرار لأن الجزم بالشيء لا يعطي صفة المسؤولية ، وإنما يجد المتحسس بها أن هناك واجبات لا بد من الانقياد إليها دون ملاحظة منه إلى النتائج.

فهداية المنحرف وتقويم سلوكه وإرشاده إلى طريق الطاعة يشعر الشخص بالمسؤولية في ذلك إذا توفرت لديه القدرة على هذا العمل وهكذا.

فالمكلف مادام قادرا على تنفيذ هذا العمل فهو مسؤول عنه كما أنه مسؤول عن تركه إذا تخلف.

أقسام المسؤولية :

وقد قسم علماء الاجتماع المسؤولية إلى أقسام ثلاثة وقد لحظوا في ذلك اختلاف المسؤوليات بلحاظ الأفراد والمجتمعات ، والأقسام الثلاثة هي :

1-المسؤولية الأخلاقية .

2-المسؤولية الفردية.

3-المسؤولية الاجتماعية .

وتقع المسؤولية الأخلاقية في الأفعال الباطنة التي تكلل بالحياء والعفة والوفاء وعدم الخيانة.

أما المسؤولية الفردية فتكون عند شعور الفرد بوجود قرارات وأحكام يجب عليه الطاعة والانقياد لها سواء كانت أحكاما شرعية أم وضعية.

والمسؤولية الاجتماعية تعني تحسس المجتمع مسؤوليته لدفع حق مجتمع آخر كما لو كان المجتمع مضطهدا أو فقيرا وهو الذي يعبر عنه بالتكافل الاجتماعي.

وقد أشارت الآيات القرآنية إلى هذه الأقسام الثلاثة ففي معرض حديثه عن المسؤولية الدينية قال تعالى )واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا (.4

وقال تعالى حول المسؤولية أمام النفس وهي المسؤولية الأخلاقية (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( 5. والقسم الثالث وهو المسؤولية الاجتماعية أي المسؤولية أمام الناس ، قال تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ) 6 وقال أيضا (وتواصوا بالحق)7.

شروط المسؤولية :

اتضح مما تقدم أن المسؤولية والإحساس بها أمر إلزامي من الله سبحانه تجاه العباد في أقسامها الثلاثة ولا ريب في أن هذا الإلزام إنما يتنجز في حق المكلف متى ما توفرت شروطه المعتبرة فيه وهي كما يلي :

1-انتفاء المانع حين القيام بالمسؤولية ، فلو كان أداء الواجب مزاحما بمانع وجودي بالمصطلح الفلسفي أو عدمي بالمصطلح الأصولي بحيث يمنعه عن أداء الواجب لما تنجز الإلزام بالإتيان بها.

2-ثبوت الحرية له في تصرفاته بحيث لا يكون مجبورا أو مسلوب الاختيار وإلا ارتفعت موضوعية المسؤولية .
وبعبارة أخرى إن هذا الشرط إشارة لما عليه الفقهاء من أنه يشترط في حق التكليف كونه مقدورا فيسقط عنه حين العجز.

3-سلامة العقل :

وعلى هذا فالمجنون والطفل والمكره والمجبور لا يتحمل أي منهم مسؤولية لأن هذه الحالات لا تستوجب إلزاما يتجاوز حدود إمكانات الإنسان الطبيعية فإن الله (لا يكلف نفسا إلا وسعها( [8]، وفي الخبر عن أمير المؤمنين : ((فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله)) .

سقوط المسؤولية
والحاصل تسقط المسؤولية في حالة الجنون والطفولة والجهل ولذا تجد جميع الأحكام الشرعية والوضعية تقر بعدم الجناية في حال الجنون ، نعم لا تسقط المسؤولية في الأموال فيلزم الطفل الضمان بعد بلوغه لو أتلف مال غيره.

ثم إن الجاهل المعذور بسقوط المسؤولية عنه إنما هو الجاهل القاصر لا المقصر لأن الثاني بإمكانه السؤال والتعلم .

دور الإيمان في الشعور بالمسؤولية :

إن من أهم الأسس لسعادة الفرد والمجتمع الشعور بالمسؤولية والتعهد بالتكاليف التي تحيط بالشؤون الاجتماعية من كل جهة.

وقد وصف الإمام زين العابدين u تكاليف الإنسان في مختلف الشؤون فقال : ((اعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها ، أو منـزلة نزلتها أو جارحة قلبتها أو آلة تصرفت بها ، بعضها أكبر من بعض.[9]

ويرى الإسلام أن كل أحد مسؤول عن أعماله ولا يتحمل أي أحد حمل مسؤولية الآخرين ، قال تعالى )من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى([10]. وقال تعالى )وأن ليس للإنسان إلا ما سعى(.[11] وجاء في آية ثالثة )واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو حاز عن والده شيئا( .[12]

ومن الواضح أن هذا تحديد من القرآن الكريم لمسؤولية الإنسان أمام الله وهي مسؤولية فردية تخص الإنسان وحده.

نعم هناك بعض الموارد لا يتحمل المسؤولية خصوص الشخص التارك لها مثلا لو أعان زيد عمرا على الانحراف فإن المسؤولية تقع على عاتقيهما بل حتى الموارد والتي يترك فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقع المسؤولية على عاتق الجميع .

وعلى أي حال يوجد في داخل الإنسان قوة تدعو إلى أداء تكاليفه ومسؤولياته وهذه القوة يعبر عنها بالضمير فإذا كان حيا وساعده الإنسان نفسه أمكنه الوقوف أمام الصعاب وسار بالإنسان للإحساس بمسؤولياته وألزمه أدائها .

تطبيق المسؤولية :

تقدمت الإشارة إلى أن المسؤولية تنقسم إلى أقسام ثلاثة ولا بأس هنا بالحديث عن كل قسم منها ، ولنجعل المدار عندنا ما جاء في سورة لقمان ، قال تعالى في سورة لقمان(وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم . ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير . يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور . ولا تصعر حدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور . واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير( [13]

لقد تضمنت هذه الوصية المباركة من لقمان الحكيم لولده أمورا أربعة :

الأول : النهي عن الشرك ، وهو إشارة إلى موقع العقيدة.

الثاني : الدعوة إلى إقامة الصلاة ، وهو إشارة إلى موقع العقيدة.

الثالث : الدعوة إلى الثبات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو موقع المسؤولية الاجتماعية.

الرابع : الدعوة إلى التهذيب الاجتماعي في السلوك وهو داخل في المسؤولية الاجتماعية.

سوف نتحدث عن كل قسم منها بشيء من الاختصار ، فنقول :

المسؤولية الدينية :

وهي عبارة عن حق الله تعالى على الإنسان وقد أشار له لقمان الحكيم كما في قوله تعالى )يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم(.

وهذه دعوة صريحة لأداء مسؤولية المكلف تجاه خالقه والمنعم عليه وذلك من خلال توحيده في كل المجالات والأبعاد ، من خلال توحيده في كل شيء ، من خلال الالتزام بالتوحيد بجميع أقسامه ، التي تعتبر الرابط العملي بين الرب والمربوب والعبد والسيد وأود الإشارة هنا فقط إلى التوحيد في العبادة وكيفية ممارسة هذه الطقوس العبادية والذي يبدو أن العبادة لا تنحصر في الإسلام في تلك الفترات الزمنية واللحظات المحدودة التي يمارسها العبد حين اشتغاله بهذه الشعائر بل هي أجمع وأوسع لكونها تشمل جميع الشؤون وتستوعبها في البرنامج السلوكي في الحياة من العبادة الخاصة إلى الفكر والإدراك وسائر الأعمال اليومية فمادام الهدف والوجهة إلى الله كان العمل عبادة.

وأيضا ليست العبادة في الإسلام بمعنى الطهارة والتقوى حين أداء الفرائض فقط بحيث ما أن يتم أدائها حتى تستولي على نفسه الرذائل والأرجاس وتستلب منه كل خير وصلاح . بل الأصل الأساسي في التربية الإسلامية و الارتباط الديني بين العبد وربه وجود الاتصال الدائم بينهما الذي لا ينقطع وأن يكون خوف الإنسان وحبه وتفويضه أمره إلى الله فقط فهو المرجع وإليه ترجع الأمور.

وإلى هذا المعنى أشار الله سبحانه وتعالى )ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ( [14]

والمتأمل في النصوص الإسلامية يلاحظ أنها تخص أناسا من الناس فتسميهم الأحرار وذلك لأن علاقتهم بالله ومعرفتهم به على مستوى رفيع جدا وهم الذين بلغوا أسمى مراتب الإخلاص فقد ورد عن أمير المؤمنين u (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار ) [15]

فكلما كان مستوى إيمان الفرد بالله أسمى رأينا في أعماله آيات الإخلاص بنفس تلك النسبة العالية للحصول على رضا الله يسود على جميع مقاصد الإنسان ويغطي على سائر الميول والرغبات فهو يقوم بالعمل الصالح بعيدا عن خوف العقاب أو رجاء الثواب ، وقد جاء في مناجاة مولى الموحدين u (إلهي ما عبدتك حين عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكني وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) [16]

وبالجملة فلا بد من الالتفات والاهتمام إلى تقوية العلاقة بين العبد وربه وأن تكون في أعلى الدرجات لما لذلك من أكبر الأثر على النفس فضلا عن كونها أداء للمسؤولية الدينية.

المسؤولية الأخلاقية :

وقد أشار لها المقطع القرآني من خلال بيان حق الوالدين على الولد وما لذلك من أثر عليه سواء من الناحية الشرعية أم من الناحية الوضعية ، كما يمكن أن يجعل منها ما ورد في نصائح لقمان من إقامة الصلاة والصبر على ما أصابه وعدم تصعير خده وغير ذلك مما هو تهذيب اجتماعي.

المسؤولية الاجتماعية :

وهذه من أهم الموارد التي أولاها الدين الإسلامي أهمية خاصة وقد وردت الإشارة لها في وصية لقمان الحكيم .

ومن المعلوم أن المنظور في المسؤولية الاجتماعية هو تكليف الإنسان بالنسبة إلى سائر أفراد المجتمع فيشمل المجتمع الصغير وهو المجتمع العائلي كما يشمل المجتمع الكبير وهو ما يحوي المدرسة والشارع وغيرهما.

ونلاحظ بداية الاهتمام في أداء المسؤولية الاجتماعية في المجتمع الصغير في وصية لقمان الخالدة في أولها ومنشأ ذكرها إذ أن أصل الوصية يكشف عن الإحساس بالدور الملقى على عاتق المربي فيقدم العلاقة بين الآباء والأبناء من خلال إعطائهم تجاربهم السابقة خصوصا مع وجود الارتباط العاطفي بينهم فلذا جلس لقمان إلى ولده ليؤدي هذه المسؤولية.

وأما الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية في المجتمع الكبير فيتضح من خلال المقطع الثالث بقوله تعالى (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر… (.

لأن هذه مسؤولية الإنسان الرسالي الذي يؤمن بالمعروف ويرفض المنكر لأن الإيمان والرفض يتحركان كخط يحول الإنسان المؤمن إلى شخص رسالي في دوره فيحمل هدف الأنبياء الذين يسعون إلى تغيير واقع مجتمعاتهم .

ولقد أشار لقمان الحكيم إلى ما يلاقيه الرسالي من صعوبات وما يتضمنه طريقه من عقبات فقال تعالى (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) .

هذا ولا يخفى أن ما جاء في خاتمة هذه الوصية من ذكر آداب المشي وآداب الحديث وآداب المعاشرة كفيل ببناء مجتمع إسلامي متكامل خصوصا وأن ما ذكر هو أخلاق الأنبياء .

فإذن على كل مؤمن أن يتحمل أداء هذه المسؤولية وأن يقوم بها راجين من الله أن يغير سوء حالنا بحسن حاله إنه ولي التوفيق.

والحمد لله رب العالمين

——————————————————————————–

1 سورة الأنفال الآية رقم 27

2 سورة البقرة الآية 187.

3 سورة الأحزاب الآية 72 .

4 سورة البقرة الآية 123

5 سورة الإسراء الآية 14 .

6 سورة المائدة الآية 2 ،

7 سورة المائدة الآية 2

8 سورة العصر الآية رقم 3

[9] سورة البقرة الآية 286

[10]تحف العقول ص255 .

[11] سورة الإسراء الآية 14

[12] سورة النجم الآية 39

[13] سورة لقمان الآية رقم 33

[14] الآيات 12 – 18 .

[15] سورة البقرة الآيات 176 .

[16] نهج البلاغة.

[17] الحقائق ص202 .