25 أبريل,2024

العفة

اطبع المقالة اطبع المقالة

ذكر علماء الأخلاق القدماء أن الشهوة أول قوة يعرفها الإنسان في حياته، والغضب هو القوة الثانية، ويسمون الأولى قوة الجذب، والثانية قوة الدفع، وهم يؤسـسون على هذا الترتب الوجودي بين القوتين نتيجة علمية لها أثرها في تهذيب الملكات وإصلاحها. يقولون، إن الشهوة أول قوة يعرفها الإنسان، فيجب أن تكون هي أول قوة يباشر الإنسان في تهذيبها، ويقرورن أن إصلاح الملكات على هذا الترتيب أسرع في الأثر وأسهل في الإنتاج.

ونحن نجد الإمام الصادق(ع) في بعض أخلاقياته، يقدم ملكات قوة الغضب عند التعداد، فهذا هو يقول: إذا غض طرفه عن المحارم ولسانه عن المآثم وكفه عن المظالم. ويقول(ع): المؤمن من طاب مكسبه، وحسنت خليقته وصحت سريرته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من كلامه، وكفى الناس شره، وأنصف الناس من نفسه[العبيدان1] .

وقريب من هذه الكلمات نجدها صادرة عنه(ع)، وعليه هل يصح لنا أن نعد هذا تقريراً منه(ع) لهذه النتيجة؟…

ليس من الحق ذلك، لأن التقديم في التعداد غير وجوب التقديم في التهذيب. على أن الإمام (ع) قد يقدم فروع الغضب في بعض أخلاقياته الأخرى.

الرذائل الخلقية:

إن الرذائل الخلقية جراثيم فتاكة يجب دفعها عن النفس مهما أمكن الدفع، وهي سموم قاتلة، يلزم الحذر منها ما أمكن الحذر، وجميع النقائص الخلقية في هذا الحكم على السواء، ولا فرق بين القوي منها والضعيف، والأول والآخر، والحكمة في تقديم بعضها على البعض مختلفة جداً.

فمن الناس من يكون قوي الإرادة حازم النفس، ومن الخير لهذا الصنف من الناس أن يبتدئ بإصلاح ملكاته القوية، لأن تأخيرها مظنة للفساد الخلقي العام، هذا إذا لم يتمكن من إصلاح جميع ملكاته دفعة واحدة.

ومن الناس من يكون ضعيف الإرادة واهن النفس، ومن الصواب له أن يـبتدئ بإصلاح الضعيف من صفاته ليثمرّن به على جهاد القوي.

وهذا الرأي وإن لم نجد فيه قولاً صريحاً للإمام الصادق(ع)، إلا أن النظرة الفاحصة في أقواله تؤكد لنا أن هذا خلاصة مذهبه في تهذيب الأخلاق.

فقد تستبد الشهوة وتشذ وتـتمرد على حكم العقل، وتسيطر على قوة العمل، فتسمى هذه الشهوة المتمردة شراهة، ويكون تمردها هذا انحرافاً في الخلق، ويتكون من إهمال الغريزة وإعطائها الحرية الكاملة، فتصنع ما تريد.

وللسعي وراء الملذات التافهة والشهوات الرذيلة أثر بالغ في تنمية هذا الشذوذ وتربيته، فإن حرية الشهوات تجعل الحر عبداً مملوكاً، ومثل الدنيا كمثل ماء البحر، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله، كما في الحديث عنهم(ع)، ومن الواضح أن المراد من الدنيا في هذا الحديث، هي شهواتها وملذاتها.

ومن البهائم قسم يشبه الإنسان في الصورة، ويلحق به في التعداد، وهو ما يناقضه في العمل ويباينه في السلوك، يرتكب ما لا ترتكبه البهيمة، ويعمل ما يخجل الإنسانية، ويعلل أعماله بأن الإنسان خلق ليكون حراً، فليحطم كل قيد وليكسر كل غل، وليـثر في وجه كل عادة ودين، خصوصاً وأنه يدعي أن الدين يقف في وجه الحريات، ولذا فلينبذ. والعادات لما كانت تحدد سلوك الإنسان فلابد أن تسقط، وأخيراً هي عادات غريبة، يجب على المتدين أن يسايرها وفقاً للتطور ونبذاً للقديم.

حقيقة هؤلاء:

مساكين هؤلاء، قد سرى الاستعمار الغربي حتى إلى نزعاتهم، وأثرّ المستعمرون حتى في مجاري تـفكيرهم.

ولا يخفى على أحد دهاء المستعمرين ومكرهم، إذ أنهم يعرفون كيف يغزون عقول الضعفاء من طريق الشهوة، ومظاهر الحرية، ليأخذوا من عادات الغرب إلى الشرق، وأنى لهم أن يسايروا المتمدين في كل ما يعمل، وإذا كان في الغرب ساقطون يعملون مثل هذه الأعمال، فإن فيه عقلاء يترفعون عن الدنايا ويتـنـزهون عن الخسائس.

لقد خلق الإنسان ليكون حراً في الفكر، حراً في الحقوق، لا ليعبد الشهوات باسم الحرية، ويقلد البهائم باسم نزاع التقليد.

إفراط الشهوة:

هذا ويوجد لون من إفراط الشهوة، ولكنه لون أحمق، لأنه مشوه الغاية، مضطرب النتيجة، ولكنه رغم جميع ذلك شائع جداً، ولا سيما في الطبقة المترفة التي تدعي الرفعة، وتـتولى رعاية الأمور، وهذا اللون هو تعاطي المسكرات.

أرأيت الإنسان بشحمه ولحمه يدخل الحانة ليهب عقله بلا ثمن، ويشتري الجنون منها بالمال!!! أرأيت من يساوم على مقدساته ومقدراته بهلة من الكأس ورشفة من العقار؟ أرأيت الإنسان يتمعك كما يتمعك الحمار، وينبح كما ينبح الكلب، ويعربد كما يعربد المجنون، ثم يدعي بعد ساعة أنه من رؤوس العقلاء ومن قادة المفكرين، وقد يتصدى لمهمات الأشياء ويتسلم مقاليد الأمور؟…

تهتك الشاب:

ومن هذه الألوان الحمقاء التي تغلب الغاية، وتعكس النتيجة تظاهر الشباب بمظاهر الأنوثة، وتصنع الفتى كما تـتصنع الفتاة.

هذا هو الداء الفاتك وهذا هو السم القاتل، ولو كان مختصاً بالشباب الفارغ الذي تعده الأمة كلاً ثقيلاً لهان الأمر وسهل الخطب، لأن هذا النوع من الناس عار على المجتمع، ولكن….ولكن الداء استعضل، والنقص استفحل حتى عم بعض الشباب المثقف الذي تعده البلاد ليومها الآتي، وتدخره الأمة لسعادتها المرجوة.

ولا يخفى أن الداء استفحل لأنه يهدد مستقبل النهضة، ويزعزع كيان الأمة، وهل تنهض الأمة بالمساحيق والمعاجين؟… وهل ينهض بالأمة شباب قتل الترف ما فيه من طموح وأمات الإسراف ما فيه من جد، وأخمد التأنث ما في دمه من جذوة؟…

إيه أيها الشاب الناهض. إيه يا عدة اليوم القريب، غرة وطرة، وخد وقد، وسحر وفتون، كل هذه الأشياء خلقت لغيرك أيها الناشئ العزيز، وإذا كانت الطبيعة قد منحتك شيئاً منها فهي تؤهلك لمقام أسمى، ومحل أرفع، لا لتجعلك متعة وفتنة.

خلقت لتكون محل إعجاب وثقة، لا لتكون مثار عاطفة وحب، ولتكون موضع إطراء وثناء، لا موضع غزل وتشبيب….وأخيراً فقد خلقت لتكون رجلاً.

هل تعلم كم في العيون التي ترنو إليك من نظرة خائنة، وكم في الابتسامات التي تستقبلك من ابتسامة مريبة، وكم في الناس الذين يحومون حولك من قلب عابث. وأخيراً فهل تعلم أنك أنت الذي تجني بذلك على حاضرك الزاهي، ومستقبلك الباسم، والشباب زهرة العمر ومستهل الحياة، فهو أثمن من أن يقتل بتصفيف الطرة وصقل الغرة، وماذا يجنيه الشاب من تزجيج الحاجب وحلق الشارب غير إضاعة الوقت وتهديد المستقبل، فإلى السعي يا رجل الغد القريب، ويا أمل الأمة المنشود. إلى السعي فإن الرجل بثقافته وأعماله والرجل بسيرته وسريرته والرجل بجهاده في ميادين الحياة.

الحرية عند الإمام الصادق(ع):

لقد تعرض إمامنا أبو عد الله(ع) إلى مبدأ الحرية، لكنه عرضه بمعناه الصحيح الذي يخدم البشرية، ويجعل الإنسان حراً بالمعنى الحقيقي، لا أنه يكون عبداً لشيء من الأشياء كما يتصور العديد من الفتيان والفتيات، يقول(ع): …ورفض الشهوات فصار حراً.

توازن قوة الشهوة:

وإذا توازنت قوة الشهوة في ميولها، وخضعت للعقل فيما يحكم، واتبعت إرشاده في كل ما يشير كانت عفة وحرية، والإمام الصادق(ع) يسميها عفة، إذ يقول: أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج[العبيدان2] .

——————————————————————————–

[العبيدان1]أصول الكافي باب المؤمن وعلاماته ح 2.

[العبيدان2]جامع السعادات ص 311.