28 مارس,2024

الشباب طاقة ضائعة

اطبع المقالة اطبع المقالة

لمرحلة الشباب أثران مهمان، فمضافاً إلى تأثيرها في تكوين شخصية الفرد، فإنها تؤثر في نجاح المجتمع وتقدمه وازدهاره، وقد أوجب هذا اعتناء الشريعة الإسلامية بهذه المرحلة، لأن الشباب أكثر فئات المجتمع قابلية للتأثر بإيحاءات التربية السائدة في البيئة، وأكثرها قبولاً واستعداداً للتغيـير الجذري الشامل، ويظهر هذا من مواقف الشباب في تاريخ الإنسانية، فلاحظ إقبال أهل الكهف على التوحيد وانقلابهم على العبادة التي كان عليها قومهم.

وهذا يفسر أيضاً النصوص التي وجهت الخطاب للشباب، وجعلتهم محوراً للخطاب فيه، فقد ورد عن أبي الله الصادق(ع)، أنه قال: لست أحب أن أرى الشاب منكم إلا غادياً في حالين: إما عالماً، أو متعلماً، فإن لم يفعل فرط، فإن فرط ضيع، فإن ضيع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمداً بالحق[1].

تصنيف الشباب في المجتمع:

ولا خلاف في تأثير مرحلة الشباب في تكوين شخصية الفرد، إلا أن الأمر ينصب في تحديد الشباب الذين يكون بهم قوام المجتمع، ويتوقف نجاحه على وجودهم فيه، فإنه ليس المقصود به مطلق الشباب، لأن الشباب في المجتمعات ليسوا سواء، بل هم على أصناف وفئات:

الأولى: الشاب المتدين:

وهو الذي يحمل بين جنباته الالتزام بالتعاليم الدينية، ويعمد إلى إبرازها بصورة فاعلة، من خلال تطبيق تعاليم الشريعة وأحكامها.

وقد كان لانتصار الثورة الإسلامية في إيران أثر بارز في وجود هذه الفئة من الشباب في الأوساط الاجتماعية.

وتكمن مشكلة هذا الصنف من الشباب، في ما يملك هذا الصنف من فهم خاطئ للدين في كافة أبعاده، أو بعض منها، فنراه يعيش حالة من التزمت الديني، والنظرة السلبية لكثير من الأمور، ويفتقد في تعامله مع أمور عديدة إلى الصورة الحضارية المطلوبة.

وقد ساعد على مثل هذا، عنصران:

أحدهما: الفهم الخاطئ للدين، كما ذكرنا، فحصر رؤية الدين للمرأة مثلاً في بعد واحد، أوجب أن تكون رؤية الدين للمرأة رؤية سلبية، أو فهم المنع من الحرية بصورة معينة، جعل النظرة للإسلام نظرة سلبية، وهكذا كثير من الأمور.

ثانيهما: الجهات المسؤولة في المجتمع، والتي يلقى على عاتقها المسؤولية في إعداد الأفراد وتربيتهم تربية دينية صحيحة تتماشى وأصول الشريعة الإسلامية، وأسس العقيدة الحقة.

الثانية: الشاب المنفلت أخلاقياً:

وهو على عكس الصنف السابق، لأنه أبتعد عن الدين تماماً، وأخذ يستورد كل أفكاره وأساليبه في الحياة من الغرب وقيمه وأخلاقياته. وقد قصر رؤيته للغرب على البعد السلبي فيه، فأخذ منه الأمور المنافية للقيم والأخلاق، وأغفل العناصر الإيجابية الموجودة في تلك المجتمعات، من حضارة، وازدهار وتقدم، وتطور علمي، ورقي في مستوى التعامل، وأسلوب في حفظ الحقوق، ومراعاة القانون والأنظمة، وما شابه ذلك.

وقد ساعد على حصر النظرة للغرب في بعده السلبي دون الإيجابي منه، ضيق أفق الجهات المسؤولة في مجتمعاتنا، في رؤيتها إليه، وفهمها لتجربة الغرب فهماً خاطئاً.

الثالثة: الشاب فاقد الهوية:

وأما الصنف الثالث من الشباب، فهو الذي فقد هويته، فلم يعد يملك هوية دينية، كما أنه لا يملك أطروحة الغرب ولو في بعدها السلبي، لأنه حاول أن يتخذ طريقاً وسطاً بين الصنفين السابقين، وكأنه قد اقتنع بعدم تمامية كليهما، فلم يقبل التزمت الديني الذي يعيشه الصنف الأول، كما لم يقبل بالانفلات والانهيار الأخلاقي والقيمي، الذي يعيشه الصنف الثاني، ولهذا عمد إلى التوفيق بين الصنفين ليخرج بصنف ثالث، حاول فيه أن يستفيد شيئاً من الصنف الأول ،فيحافظ على الدين ولو في صورته وإن كانت مشوهة، وفي نفس الوقت لم يمتنع عن استيراد العديد من الأفكار الغربية وإن كانت سلبية في مفاهيمها وأطرها.

ومن الطبيعي أن تكون النتيجة سلبية، إذ أن المزاوجة بين هذين الأمرين وهما المتنافيان والمتنافران، توجب فقدان الهوية وضياعها، وهذا هو ما حصل فعلاً، فأدت عملية المزاوجة المذكورة إلى فقدان هذا الصنف لهويته، فلم يعد مالكاً لهوية دينية، ولا انفلاتية، فلاحظ.

وقد نجم عن هذه المزاوجة، شاباً ممسوخ الهوية تجمع صورته أجزاء مبعثرة من الدين المشوه ودعاوى مبسترة من العقل المغيب[2].

والرجوع للنصوص الشريفة، يفيد أن الشباب الذي يكون به قوام المجتمع ونجاحه وازدهاره، فئة أخرى غير هذه الفئات الأربع، الكاشف عن عدم القبول بشيء منها، حيث تضمنت ذكراً لمواصفات ومقومات لابد من توفرها فيه، وتلك المقومات:

الأول: عنصر المعرفة:

يمثل عنصر المعرفة مصدراً أساساً في تكوين الشخصية، ويلعب دوراً مهماً في ذلك، لهذا يلزم أن يكون الشاب الذي يمثل طاقة اجتماعية، ويرغب منه قيامه بدور أساس في مجتمعه، أن يملك سلاح المعرفة، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع)، أنه قال: لست أحب أن أرى الشاب منكم إلا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلماً، فإن لم يفعل فقد فرط، فإن فرط ضيع، فإن ضيع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمداً بالحق[3].

وللمعرفة دور مزدوج في تكوين شخصية الشاب، فمن جهة تعطيه الصورة الحقيقة والناصعة للدين، وتحميه من أن يقدم إليه بصورة مشوهة، كما أنها تجعله يعي ما هو النافع بحيث لو أراد أن يستفيد من الثقافات الأخرى، أمكنه أن ينتخب ما يكون نافعاً ومفيداً، فلاحظ.

الثاني: عنصر التفقه:

وهذا العنصر لا يقل أهمية ومطلوبية عن سابقه، فإن الإحاطة بالتعاليم الدينية كفيلة أن يؤدي الإنسان ما يطلب منه بصورته الصحيحة، كما أنها تكفل له تحقيق الخلافة الإلهية في الأرض، وهذا يفسر شيئاً من الاهتمام الذي تضمنته النصوص بهذا العنصر، فعن محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله وأبو جعفر(ع): لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه(في الدين) لأدبته[4].

وجاء عنه في حديث آخر عن الإمام الباقر(ع)، أنه قال: تفقهوا وإلا فأنتم أعراب.

وقد جاء في وصية الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) التي رواها المفضل بن عمر، أنه قال: تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعراباً، فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملاً[5].

الثالث: عنصر السعي والعمل:

وكما يعتبر في الشاب النموذج العنصر المعرفي، يلزمه امتلاك البعد العملي، ويتمثل ذلك في سعيه لكسب عيشه، وعدم كونه عيالاً على غيره، يقوم بشأنه، فقد روى العلاء قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: أيعجز أحدكم أن يكون مثل النملة، فإن النملة تجر إلى حجرها[6].

وهذا التشبيه منه(ع)، إشارة إلى أهمية السعي وطلب الرزق، ولزوم قيام الشاب بذلك.

ولهذا السعي آثاره الفعالة في بناء الشخصية وتكوينها، لأن في هذا السعي احتكاكاً وارتباطاً بالآخرين، وتعرف على ثقافات وتطبيق لأسس التعامل، وغير ذلك.

ويدخل رجل من أصحاب أبي عبد الله الصادق(ع) عليه، يطلب منه أن يدعو الله تعالى إليه بالرزق، لأن الأمور قد صعبت عليه، إلا أن الإمام(ع) لم يستجب إليه في طلبته، وإنما قدّم إليه درساً عملياً في أهمية السعي وطلب الرزق، فأجابه(ع) مسرعاً بقوله: لا، اخرج فاطلب[7].

فامتناعه(ع) من الدعاء إليه ليس بخلاً منه في قضاء حوائج أصحابه، وإنما كانت غايته(ع) أن يستفيد الشاب من عنصر القوة الموجود لديه، وأن يسعى لتحصيل رزقه، ولا يكون كلاً على أحد، فلاحظ.

ويظهر هذا بوضوح في تعليم الإمام الباقر(ع) لأحد أصحابه سبل تحصيل الرزق، والسعي، فعن الطيار قال: قال لي أبو جعفر(ع): أي شيء تعالج؟ أي شيء تصنع؟ فقلت: ما أنا في شيء، قال: فخذ بيتاً واكنس فناه ورشه وابسط فيه بساطاً فإذا فعلت ذلك فقد قضيت ما وجب عليك، قال: فقدمت ففعلت فرزقت[8].

ويزداد أمر السعي أهمية عندما يكون من أجل النفقة على العيال، فإنه يكشف عن وجود إحساس بالمسؤولية في شخصية، وبدأ تحمله لها، فقد مرّ رسول الله(ص) في غزوة تبوك بشاب جلد يسوق أبعرة سماناً، فقال له أصحابه: يا رسول الله لو كانت قوة هذا وجلده وسمن أبعرته في سبيل الله لكان أحسن، فدعاه رسول الله(ص) فقال: أرأيت أبعرتك هذه، أي شيء تعالج عليها؟ فقال: يا رسول الله، لي زوجة وعيال، فأنا أكسب عليها ما أنفقه على عيالي وأكفهم عن مسألة الناس وأقضي ديناً علي، قال: لعل غير ذلك، قال: لا، فلما انصرف قال رسول الله(ص): لئن كان صادقاً إن له لأجراً مثل أجر الغازي وأجر الحاج وأجر المعتمر.

الرابع: عنصر السيطرة على الغرائز وتحكيم العقل:

من المعلوم أن الإنسان مخلوق مركب من عنصرين عقل وشهوة، فأيهما غلب على الآخر كان سبباً لرسم شخصيته وبلورتها، فمن كانت الشهوة غالبة عنده، أوجب ذلك ضياع شخصيته، أما لو كان العقل هو الحكم والمقدم، فهذا يعني شخصية متزنة.

ولما كانت الشهوة أمراً جبلياً في العنصر البشري لا ينفك عنه، لم يمنع الشرع الشريف منها بصورة تامة، بل عمد إلى تهذيبها وتقنينها، فعرضت النصوص ما يوجب السيطرة عليها، والحدّ منها، فعن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: ما من شاب تزوج في حداثة سنه إلا عج شيطانه يا ويله يا ويله، عصم مني ثلثي دينه، فليتق الله العبد في الثلث الباقي.

وفي نصيحته(ص) إلى الصحابي الجليل أبي ذر(رض)، قال: يا أبا ذر، ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة الله، إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صديقاً[9].

دواعي الانحراف عند الشباب:

ومع أن الإسلام عمد إلى التركيز على أهمية الشباب، كونهم يمثلون ثروة وطنية وشعبية، وذكر السبل التي يمكن من خلالها الحفاظ عليهم، وتوجيه طاقاتهم بما يحقق النفع لهم، ومنهم، إلا أن ذلك لم يمنع من حصول بعض حالات الانحراف في أوساطهم، لأسباب عديدة:

منها: عدم مراعاة العنصر البيولوجي والفسيولوجي والنفسي:

لا يخفى أن هناك جملة من التغيـيرات البيولوجية والفسيولوجية والنفسية التي تحصل للشاب بحكم نموه، فتكون هناك حاجة لوجود منهجية محددة ومعلومة، في كيفية التعامل مع هذه التغيرات التي تصيبه وتطرأ عليه، من ثقافة اجتماعية توافق هذا التغيـير وتستجيب لمتطلباته بنحو إيجابي، وتملك الطريقة المثلى في التعامل معه بصورة صحيحة، لأن التعاطي مع هذه التغيرات بصورة سلبية تجعل الشباب خلال هذه المرحلة يعيش حالة من الاضطراب النفسي، يؤدي به إلى افتقاده للتوازن في المبدأ والواقع.

ومنها: غياب منهج التوجيه السلوكي السليم:

سواء على مستوى الفرد، أم على مستوى المجتمع، ويتضح هذا بالرجوع للأصناف الشبابية الثلاثة التي ذكرناها في مطلع البحث، فقد عرفت أن منشأ وجودها يعود لغياب المنهج السليم في تقويم السلوك، فإن الشباب المتدين بتـزمت، إنما وصل لذلك لأنه أفتقد إلى من يقوم بتوجيهه إلى الأسلوب الصحيح لأطروحة الدين، كما أن المنفلت أخلاقياً لم يخلق بهذه الصورة، وإنما لافتقاده من يضع رجله على الطريق السليم وصل به الأمر إلى ما وصل إليه، حتى من أراد المزاوجة بين الأمرين، كان يسعى إلى حلٍ يمكنه من خلاله التوفيق بين رغباته وشهواته، وبين ما يتبنى ويعتقد من أطروحة دينية.

وبالجملة، إن غياب المنهج، سبب رئيس في انحراف الشباب وابتعاده عن الطريق القويم كما لا يخفى.

ومنها: قلة الخبرة نقصاً وضعفاً:

وهذا أمر لا دخل للشباب فيه، خصوصاً وأن عقله بعدُ لم ينضج، كما أنه لم يعرف تجارب راشدة ناضجة يزيد من خلالها رصيده المعرفي في هذا المجال، وطبيعي أن يترك النقص في هذا الجانب دوره في سلوك الشاب وشخصيته، فلا يتوقع من شاب حديث التجربة والمعرفة أن يسيطر على نفسه عند مواجهته لما يحرك غريزته، ويستثير رغبته وشهوته.

ويؤدي وجود هذا النقص إلى اصابة بعض الشباب بمجموعة من الأمراض الأخلاقية، مثل الغرور، وداء الغفلة، وسكر الخطيئة، ويغلب على تصرفات بعضهم الحماقة والطيش، ولأنهم يفتقدون الخبرة، ولا يملكون رصيداً كاملاً منها، تصدر من بعضهم أفعالاً خاطئة، وتكثر الأوهام عندهم، والإغراق في أخطاء اليقظة.

وفي هذه المرحلة يلقى الدور الأكبر والمسؤولية على عاتق المربي، فهو الذي يمكنه أن يزيد رصيد الشاب المعرفي في التجارب، ويوقفه على ما يكون نافعاً ويزيده دراية بهذه الأمور.

ومن المعلوم أن دور التوجيه والإرشاد والتربية على الفضيلة والقيم والطاعة يبدأ في مراحل الطفولة، وقبل بدأ مرحلة لشباب، عندما يكون الإنسان قيد التربية والتهذيب والتوجيه، فإنه إذا وصل إلى مرحلة الشباب، لم يعد ذا قابلية لتلقي التوجيه من المربي عندها[10].

سكر الشباب[11]:

ونتيجة توفر الأسباب السابقة يصاب الشباب عادة بمرض سكر الشباب، وقد أشارت لذلك النصوص الشريفة، حتى أن النبي(ص) عبر عن هذه المرحلة بأنها شعبة من شعب الجنون، قال(ص): الشباب شعبة من الجنون[12].

وقد جاء عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: ينبغي للعاقل أن يحترس من سكر المال، وسكر القدرة، وسكر العلم، وسكر المدح، وسكر الشباب، فإن لكل ذلك رياحاً خبيثة تسلب العقل وتسخف الوقار[13].

وعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: أصناف السكر أربعة، سكر الشباب(الشراب)، وسكر المال، وسكر النوم، وسكر الملك[14].

وتعرف خطورة هذه المرحلة من خلال تشبيه النصوص لها بمرحلة السكر، فكما أن صاحب الشراب يفقد عقله، فتصدر منه تصرفات دون شعور منه أو احساس لما يفعل، فكذلك الشباب، ويؤكد ذلك ما أشرنا له قبل قليل من إصابته بمجموعة من الأمراض في هذه المرحلة ما لم يجد المربي الفاضل الذي يأخذ بيده منذ مراحلا لطفولة الأولى، فتدبر.

وتتجلى خطورتها وتبرز في النصوص التي تؤكد على ضرورة ابتعاد الشاب عن المعصية، فقد قال رسول الله(ص) لابن مسعود: يا بن مسعود احذر سكر الخطيئة، فإن للخطيئة سكراً كسكر الشراب، بل هي أشد سكراً منه، يقول الله تعالى:- (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، سكر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخمور[15].

توجيه الشباب:

والطريق إلى عدم ضياع الشباب، وانجرافهم نحو المعصية، والضياع، خصوصاً وأن لديهم القابلية لذلك، مع توفر العوامل المشجعة على ذلك، يتم من خلال التوجيه السليم لهم، والاستفادة من القدرات المخزونة عندهم، حتى يمكن الحفاظ على هذه الثروة الشعبية، والطاقة الوطنية. ويتم ذلك بملاحظة أمور:

الأول: الاعتناء بالجوانب الخيرة في الشباب:

وهذا المعنى يستفاد من نصوص عديدة تضمنت التأكيد على وجود هذه الحقيقة النفسية عند الشاب، فقد جاء عن رسول الله(ص)، أنه قال: أوصيكم بالشباب خيراً، فإنهم أرق أفئدة، إن الله بعثني بشراً ونذيراً، فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ، ثم قرأ قوله تعالى:- (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم)[16].

فإن هذا التعبير النبوي، منه(ص) بأرق أفئدة، يشير إلى وجود طبيعة خيرة في نفوس الشباب يمكن استغلالها والاستفادة منها في الوصول للمطلوب، ويشهد لذلك تعبيره(ص) في نهاية الحديث عن أن الذين استجابوا لدعوته هم الشباب، دون الشيوخ، على أساس أن للشباب قابلية للتغيـير والتمرد على العادات والتقاليد، وهذا ما لا يتوفر عادة في الشيوخ، فلاحظ.

وقد وصفهم في رواية أخرى بأنهم ألين قلوباً، قال(ص): استوصوا بالشباب خيراً، فإنهم أرق أفئدة، وألين قلوباً، وإني لما بعثت آمن بي الشباب وكفر بي الشيوخ[17].

وعلى أي حال، فإن للاعتناء بالطبيعة الخيرة للشباب مظاهر:

منها: نمو الحس الديني:

وقد اعتبرت النصوص نمو الحس الديني عند الشباب ميل فطري يكشف عن مساحة الخير الموجودة في طبيعتهم، ففي الحديث: يا معشر الفتيان حصنوا أعراضكم بالأدب، ودينكم بالعلم[18]. فقد ربط النص بين مرحلة الشباب وهي هذا السن، وبين التربية لتنمية خصائص السلوك الروحي والقيمي، والاجتماعي، مضافاً إلى تنمية قدرات العقل. وفي حديث آخر يقول: إن أحب الخلائق إلى الله عز وجل شاب حديث السن في صورة حسنة، جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته[19].

ولا يذهب عليك، أن وجود هذا الحس الديني يساعد على تحقيق أمور كثيرة، وهذا يعطي للمربي مساحة يمكنه التحرك فيها.

وقد يتصور أن ما يوجد عند بعض الشباب من تساؤلات واستفسارت تفسر على أنها نحو من أنحاء الشك الديني، تمنع من القبول بوجود هذا الحس المدعى.

ويدفع ذلك، بأن هذه التساؤلات، أو التشكيكات، تكشف عن وجود هذا الحس الفطري الخير عند الشاب، وهنا يبرز دور المربي في كيفية الاعتناء به والسيطرة عليه، قبل أن ينجرف إلى شيء آخر.

ومنها: قبول الشباب للفضيلة:

يملك الشاب قابلية فطرية لتقبل الفضيلة، كما يستفاد هذا من دعاء الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، قال: اللهم تفضل على الشباب بالتوبة والإنابة. فإنه لا يتصور حصول التفضل في موضع لا قابلية فيه للإفاضة.

وهذه القابلية للإفاضة تكشف عن وجود تدفق الشحن الروحية، لذا وجه الخطاب للشاب، لتحصين أعراضه بالأدب، ما يعني انبثاق المثل العليا والقيم في النفس في هذه المرحلة. نعم قد لا يستفاد من هذا التقبل الفطري في أول مراحل النمو النفسي للشاب، لكن هذا لا يعني انطفاء جذوته منه، بل يبقى موجوداً يمكن أن يشعل من جديد متى أريد له ذلك.

ومنها: نمو القدرات العقلية وتفتحها:

أكدت النصوص التربوية الإسلامية، والحقائق النفسية التكوينية على اضطراد وتزايد نسبة الذكاء عند الفرد وتفتح قدراته العقلية خصوصاً في مرحلة الشباب، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في بحث سابق[20]. نعم وقع الخلاف في النصوص في تحديد انتهاء مرحلة الذكاء، والتي يتوقف فيها الذكاء عند الإنسان. كما أن للتجارب التي يعيشها ويخوضها دوراً بارزاً في صقله.

الثاني: قابلية الشباب للتغيـير:

إن لمرحلة الطفولة والشباب قابلية خاصة في الانقلاب على العادات والتقاليد وحب التغيـير، ما يدعو لاستغلال الفرصة وانتهازها من قبل المتصدين للتوجيه والتربية، وهي فرصة سماوية تساعد على تربية الذات وتهذيبها بعد أن تكون ربما وقعت في شرك ما لا يحمد عقباه.

ويتفرع على هذه الطبيعة الانقلابية للشباب في هذه المرحلة، وجود عنصر آخر وهو القابلية الشديدة للإيحاء في هذه المرحلة عندهم، حيث يملك الشاب قابلية للتأثر بمن هم في عمره، أو من هم أكبر منه سناً، كما يملك التأثر أيضاً بالأفراد القادرين على التأثير في الآخرين.

وهنا يأتي دور المربي، ومدى استفادته من الفرص واستغلالها، ذلك أنه لو استفاد من وجود هذين العنصرين، أعني قابلية الشاب للتغيـير والانقلاب على العادات، وقابليته للإيحاءات، فإنه يفيد من ذلك فائدة عظمى، فتدبر.

وعلى أي حال، فإن القابلية للتغيـير والإيحاءات يمكن استخلاصها مما ورد عن الناحية المقدسة(عج)، في قوله(ع): اللهم تفضل على الشباب بالتوبة والإنابة، حيث أشرنا سابقاً أن هذا التفضل فرع القابلية، ومتى وجدت القابلية كان إمكان التغيـير موجوداً، فيثبت أن التعبير المذكور يكشف عن وجود قابلية وطبيعة للتغيـير.

الثالث: القابلية الشديدة للاستهواء:

إن الطبيعة الانقلابية للشاب في سيكولوجيته، تشير إلى وجود قابلية للاستهواء في عمق نفسه، كما عرفت أيضاً ميله الشديد للإيحاءات، فتجتذبه بعض الأمور، وتستهويه وتنال إعجابه، فيتعلم بتأثر هذه القابلية سلوكيات وعادات من الآخرين.

ولا تختص فاعلية قابلية الاستهواء عند الشاب بين كونه ملتـزماً أو منحرفاً، فهي موجودة عند كليهما، ويأتي دور المربي في كيفية تسيـيرها واستغلالها بالصورة الحسنة والمطلوبة. فإذا وجد المربي أرضية الالتـزام الديني موجودة عند الشاب، عليه أن يواصل ذلك ويستمر في تقوية القيم والمثل والأخلاقيات وتعميقها، ويزيد من قوة قواعد السلوك العبادي بنحو أقوى من مرحلة الطفولة مستغلاً فعالية القابلية والنشاط في تدعيم ذلك.

كما يمكنه أن يستغل مرحلة الخطأ التي عاشها الشباب، في تقويم السلوك وتصحيحه وجعله في الجادة المناسبة، فيحدث عنده انقلاب جذري يعينه على استئصال ما لم يكن صحيحاً عنده خلال ما مضى.

الرابع: القدرة على الاختيار العقلي:

بعدما يصل الشاب إلى مستوى تكامل الذكاء، فإنه يملك القدرة على الاختيار العقلي للمواقف في الحياة، ويرتبط هذا الاختيار بنمو الذكاء عنده وبدء تحسس المسؤولية نحو تغيـير ذاته، ونمو إرادته. فبعدما كان موضعاً لتلقى أنماط السلوك، وهو لا يجد لنفسه القدرة على اختيار ما يشاء ويترك ما يشاء، أصبح الآن في مرحلة تكفل له الاختيار، ليقرر مصير نفسه، بانتخاب ما يريده، ورفض ما لا يرغب فيه.

وبسبب هذا الاختيار الخاص يتغير واقع الذات عنده، فلو كان صاحبها متمرداً سوف نجد شخصية متمردة في أبعاد عديدة، وأما لو كان صاحبها صالحاً فسوف يكون منهجه الصلاح، وهكذا.

ولا يقتصر دور الانتخاب العقلي في حدود الأبعاد السلوكية والاجتماعية للشاب، بل يمكن أن يكون له دور أيضاً في توجيه بعض الصفات الوراثية المكتسبة، وإن لم يستطع إزالتها بالكامل.

ولا ريب في أن الاختيار العقلي يساعد الشاب وكذا المربي على توجيه الطاقة الفطرية للنفس منذ بداية هذه المرحلة، لأن الأوضاع تكون مؤاتية رغم ما أصاب الجهاز العصبي من مؤثرات التجربة الفاسدة في مرحلة الطفولة[21].

[1] ميـزان الحكمة ج 4 ص 1401 ح 9089.

[2] أصول المحاضرات ص 16-17(بتصرف)

[3] ميزان الحكمة ج 4 ص 1401 ح 9089.

[4] ميزان الحكمة ج 4 ص 1401 ح 9088.

[5] المحاسن ج 1 ص 337.

[6] الكافي ج 5 باب الحث على الطلب والتعرض للرزق ح 10 ص 79.

[7] المصدر السابق ح 11.

[8] الكافي ج 5 باب الإبلاء في طلب الرزق ح 2 ص 79.

[9] ميزان الحكمة ج 4 ص 1401 ح 9095.

[10] بناء الشخصية في خطاب الإمام المهدي(عج) ص 303-304(بشيء من التصرف)

[11] المصدر السابق ص 303(بتصرف)

[12] ميـزان الحكمة ج 4 ص 1400 ح 9075.

[13] ميـزان الحكمة ج 3 ص 1323 ح 8684.

[14] المصدر السابق ح 8683. وقد نقلناه في المتن عن كتاب الشاب بين العقل والعاطفة ج 1 ص 129.

[15] ميزان الحكمة ج 3 ص 1323 ح 8685.

[16] غرر الحكم ودرر الكلم ج 2 ص 248.

[17] الشاب بين العقل والعاطفة ص 90.

[18] الشاب بين العقل والعاطفة ص 179.

[19] المصدر السابق ص 9.

[20] ذكرنا ذلك في بحث التربية الصالحة.

[21] بناء الشخصية في خطاب الإمام المهدي(عج) ص 306-322(بتصرف).