28 مارس,2024

الدعوة بالأسماء الحسنى

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون)[1].

إن النظرة الأولى للآية الشريفة تكشف عن تضمنها أمرين صريحين مباشرين، وهما:

الأول: دعوة الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى.

الثاني: الإعراض عن الذين يلحدون في أسمائه.

كما يظهر منها أيضاً حصر الأسماء الحسنى في خصوص الذات المقدسة، فلا تطلق على غيره سبحانه وتعالى.

هذا ولا يذهب عليك أن تحقيق الأمرين الصريحين المشار إليهما في الآية المباركة يتوقف على إحاطة القارئ لها بجملة من الأمور:

منها: ما هو معنى دعوته سبحانه بأسمائه الحسنى، وكيف يتحقق ذلك.

ومنها: ما هو معنى الإلحاد في أسمائه تبارك وتعالى الحسنى، وما هي مصاديقه، وكيف يتحقق الإعراض عن الملحدين فيها وما هي الوسيلة التي يمكن للمكلف أن يتجنب ذلك؟

ومنها: هل هناك آثار مترتبة على دعوته سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى، وما هي آثار الحرمان من ذلك، بمعنى ماذا يصيب العبد لو لم يقم بدعوته تعالى بأسمائه الحسنى؟

ومنها: ما هي الآثار المترتبة على الإلحاد في أسمائه الحسنى، وما هي عواقبه، وما هي ثمار اجتنابه؟

ومنها: ما هو معنى الأسماء الحسنى، وما هو عددها، وما هي أقسامها؟

ولكي يتسنى للقارئ العزيز الإحاطة بالإجابة عن الأسئلة المذكورة، إما بصورة مباشرة أو في طيات الحديث، يلزم الحديث عن جهات:

الأولى: كيف تكون الدعوة بالأسماء الحسنى:

ولا يخفى أن الإجابة على هذا السؤال، رهينة الإحاطة بحقيقة الاسم، وبأسماء الله تعالى، والأسماء الحسنى، ومنشأ توصيفها بذلك.

تعريف الاسم، وأسماء الله:

لا يختلف أهل اللغة، وأهل التفسير، في بيان حقيقة الاسم، إذ يتفقون على أن المقصود منه: أنه علامة يوضع للشخص، أو للشيء، والغاية من ذلك أن يكون علامة للدلالة عليه، ومعرفاً له. نعم هناك خلاف بين اللغويـين في أن الاسم مأخوذ من السمو، وهو الارتفاع، أو مأخوذ من السمة، وهي العلامة، إلا أن ذلك ليس له كثير أثر في المقام.

ولا يختلف الحال في إطلاق الاسم على الذات المقدسة، ضرورة أن إطلاقه عليها غايته أن يكون علامة على ذاته المقدسة سبحانه وتعالى، فأسمائه تعالى علائم على ذاته المقدسة.

هذا وقد أختلف المتكلمون بشأن أسمائه سبحانه وتعالى، من حيث أن الاسم هو عين المسمى، أم أن الاسم غير المسمى.

والصحيح هو البناء على أن الاسم غير المسمى، لأنه يلزم من البناء على كون الاسم عين المسمى بعض المحاذير، والتي يمكن للقارئ العزيز متابعتها في البحوث الكلامية.

ثم إن أسماء الذات المقدسة، لا تنحصر في خصوص الأسماء اللفظية، بل للذات المقدسة نوعان من الأسماء، تؤدي الغرض المراد من الاسم، فنوع للتعريف بالذات المقدسة، ونوع آخر للدلالة عليه سبحانه وتعالى.

وعلى هذا يمكن تقسيم أسمائه تعالى إلى قسمين:

الأول: هو الأسماء اللفظية، وهي كلمات تشعر وتدل على صفات جلالية، وجمالية، ذاتية، وصفات فعلية.

والظاهر أنها المقصودة من النصوص التي تضمنت الدعوة إلى إحصاء أسمائه تعالى، وأنها سبيل إلى إجابة الدعاء، فقد روى الإمام الرضا(ع) بإسناده عن آبائه، عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً، من دعا بها استجاب الله له، ومن أحصاها دخل الجنة[2]. نعم تضمنت نصوص أخرى أن أسمائه تعالى لا تنحصر في التسعة والتسعين اسماً، فقد روي عن النبي(ص) أنه قال: إن لله أربعة آلاف اسم، ألف لا يعلمها إلا الله، وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة، وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة، والنبيون، وأما الألف الاربع، فالمؤمنون يعلمونه[3]. وجاء في رواية أخرى عن أبي عبد الله الصادق(ع) أن عدد أسمائه الحسنى سبحانه، هو ثلاثمائة وستون اسماً. وقد أشار السيد الطباطبائي(ره) في الميزان إلى أن أسمائه تعالى في القرآن الكريم مئة وسبعة وعشرين اسماً[4]، بل لا يبعد كون العدد أكثر من ذلك، ويساعد على ما ذكر أن بعض الأدعية المروية عنهم(ع) كدعاء الجوشن الكبير تضمنت ألفاً من أسمائه تعالى.

ويساعد على عدم حصر أسمائه تعالى في عدد معين، عدم محدودية الكمالات الإلهية، كماً وكيفاً، كما أن عدم ورود تحديد لها في الآيات الشريفة شاهد على ذلك أيضاً، ولهذا ذكر السيد العلامة(قده): أن كل اسم في الوجود هو أحسن الأسماء في معناها، فهو له تعالى، فلا تتحدد أسماؤه الحسنى بمحدد[5].

نعم ربما يتساءل: إذا لم تكن أسمائه تعالى محددة بعدد، فلماذا تضمنت النصوص تحديدها بتسع وتسعين اسماً؟

والجواب، بأن من المحتمل أن موجب التحديد في ذلك العدد من الأسماء، مرجعه إلى أنها تمثل أصول الأسماء الإلهية، وأقواها دلالة في معرفة الله تبارك وتعالى، وأشملها تأثيراً في الوجود، واستجابة لفقر الخلائق واحتياجاتهم[6].

الثاني: هو الأسماء التكوينية، ويراد بها: كل ما يكون طريقاً للدلالة على ذاته المقدسة، وعلامة للوصول إليها. ومن المعلوم أن كل ما في الوجود آيات تدل عليه بالدلالة على صفاته وأسمائه[7].

ولا يخفى أنه لن يكون حديثنا حول أسمائه تعالى التكوينية، بل سوف ينحصر في خصوص أسمائه اللفظية، وهذا يوجب طي الحديث سريعاً عن هذا القسم من أسمائه تعالى، إلا أنه يلزم الإشارة موجزاً لشيء مما جاء في النصوص الشريفة، فقد ورد في بعضها أن أهل البيت(ع) هم أسمائه تعالى الحسنى، فعن صادق آل محمد(ع) أنه قال: نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا[8].

ولعل وجه ذلك أن الإنسان يمثل أعلى الموجودات في الدلالة على الباري سبحانه وتعالى بالفعل في جانبه الخلقي التكويني، وبالفعل والقوة في جانبه الخلقي ومرتبته الكمالية المعنوية، وهذا يعني أنه ينطوي فيه جميع الصفات، ليكون جامعاً لمظاهر الأسماء الإلهية التكوينية الحسنى بالقوة، والذي ينقله من مرتبة القوة إلى مرتبة الفعلية ليصبح من الأسماء التكوينية الحسنة بالفعل، هو إيصال المعرفة بالأسماء الحسنى اللفظية وحقائقها إلى القلب، وترسيخها فيه، فيؤدي ذلك إلى العصمة من كل ما يناقض كونه مظهراً للأسماء الحسنى، ليصل إلى مرتبة الفناء، وهذا لا يكون إلا بالهجرة إلى الله تعالى من خلال جهاد النفس، الذي قد بلغه محمد وآله(ع)[9].

علة وصف الأسماء اللفظية بالحسنى:

هذا وقد يتساءل البعض عن الموجب لتوصيف بعض الأسماء الإلهية بأنها حسنى دون بقية الأسماء الأخرى، خصوصاً وقد عرفنا أن أسمائه تعالى اللفظية غير منحصرة في عدد محدد.

وقد تضمنت كلمات أهل التفسير ذكر إجابات لذلك، إلا أنها لا تصلح لتقديم تبرير وتعليل واضح يركن إليه في منشأ التوصيف:

فمنها: ما جاء في كلمات الزمخشري في الكشاف، من أن منشأ ذلك يعود لما تنطوي عليه من معاني حسنة، من تمجيد وتقديس، وغير ذلك[10].

ومنها: أن ذلك يعود لكونها متضمنة لأحسن المعاني، فلذلك وصفت بكونها حسنى[11].

ومنها: إن ذلك يرجع إلى أن هذه الأسماء تتضمن معانٍ حسنة، بعضها يرجع إلى صفات ذاته سبحانه وتعالى كالعالم، وبعضها الآخر يرجع إلى صفات فعله عز وجل كالخالق، وبعضها يفيد التمجيد والتقديس كالقدوس[12].

والموجب لعدم القبول بهذه التعليلات كونها تستوجب حصر التوصيف بالأسماء الحسنى في عدد معين، مع أن الآيات الشريفة لا تحصر ذلك في عدد معين، كما عرفت، بل إن المستفاد منها إثبات كل اسم حسن له سبحانه وتعالى، ويساعد على ذلك تقديم الخبر على المبتدأ في جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الأسماء الحسنى، وكون لفظ الأسماء معرفاً بالألف واللام والاتيان به بصيغة الجمع، يفيد العموم، فلا معنى للتخصيص بعد ذلك، فلاحظ[13].

ووفقاً لما تقدم، يتقرر أن توصيف أسم بالحسنى لن يكون بنحو الحقيقة، وإنما سوف يكون مجازاً، لأن مصدرها هو الباري سبحانه وتعالى.

هذا والسبب في كون الأسماء الحسنى مختصة به تعالى، لأنها تعبر عن معاني كمالية، وهذا يستوجب أن يكون ما يطلق عليه من الأسماء خالياً من جميع جهات النقص والحاجة كالجسمانية مثلاً، فلا يكفي أن يكون الاسم المطلق عليه مشتملاً على الكمال، بل لابد وأن يكون خالياً من جهات النقص، فيعتبر في ما يطلق عليه توفر الأمرين معاً حتى يصح إطلاق اسم منها عليه، فالشجاع مثلاً، من الأسماء التي تتضمن كمالاً، إلا أنه لما كان ينبئ عن خصوصية جسمانية لا يمكن سلبها عنه، فلا يصح إطلاقه عليه، ومثل ذلك العفيف أيضاً.

نعم لا يضر صحة إطلاق بعض الأسماء الحسنى على الإنسان، كالجواد، والحليم، والرحيم، وما شابهها، لأنها وإن أطلقت عليه إلا أنها تكون حسنة وليست حسنى، لما تتضمنه حينها من قيود المحدودية والحاجة، فالإنسان وإن كان سميعاً، إلا أنه يحتاج آلة السمع، وقدرته على السمع محدودة بحدود هذه الآلة. بخلاف إطلاقه على الذات المقدسة فإنها حسنى، لخلوها من كل قيود المحدودية والحاجة، فإنه سبحانه وتعالى سميع بأحسن ما في الوجود، فهو لا يحتاج آلة يسمع بها، وهو غني عمن يفيض عليه القدرة على السمع، ولا يعرض على سمعه الضعف والزوال[14].

وبالجملة، إن منشأ إطلاق الأسماء الحسنى عليه تعالى يعود لخلوها من أي نقص وحدّ، بل هي كمال مطلق، وعليه يلزم اشتمال أي اسم من الأسماء عند إطلاقه على الذات المقدسة لجميع الصفات والكمالات، وجامعاً لكافة الأسماء. كما أنها تنفي عنه تعالى أي محدودية أو حاجة، كما عرفت.

ووفقاً لما تقدم، يمكن القول بأن المقصود من دعوته تعالى بأسمائه الحسنى، تعني دعوته تعالى بجميع كمالاته وصفاته الجلالية والجمالية، لأن كل اسم دال عليه بكل كمالاته، فلاحظ[15].

توقيفية الأسماء الحسنى:

ومن خلال ما تقدم، يتضح لنا أنه لا وجه للقول بتوقيفية أسمائه تعالى، وأنها محصورة في عدد معين، بل يصح أن يطلق عليه كل اسم يخلو عن جهة من جهات النقص، ويتضمن كمالاً، فالعقل مثلاً يحكم بصحة إطلاق اسم الجوهر عليه، واسم واجب الوجود عليه، وأمثال ذلك من الأسماء، وإن لم ترد في القرآن الكريم، أو في النصوص ا لشريفة. وإلى هذا المعنى أشار السيد العلامة(ره)، حيث ذكر أنه لا يوجد دليل في إطار البحث التفسيري يدل على توقيفية أسماء الله تعالى، بل الأمر على العكس. نعم الاحتياط في الدين يقتضي الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق النصوص الشرعية[16].

وكأن السيد العلامة(ره)، لا يمانع من صحة الإطلاق، إلا أنه يرى أن في إطلاق ما لم يرد في القرآن والنصوص يخالف الأدب الشرعي مع الله تعالى.

ولوضوح ما ذكر نشير إلى أن إطلاق الاسماء بالنسبة للذات المقدسة على ثلاثة أقسام:

الأول: ما يكون ممنوعاً إطلاقه على الذات المقدسة، وهو كل اسم يدل على معنى يمنع العقل من نسبته لله سبحانه وتعالى، كالأسماء الدالة على الجسمانية، أو ما يكون مشتملاً على النقص والحاجة.

الثاني: ما لا يمنع العقل من إطلاقه على الذات المقدسة، وقد ورد أيضاً ذكره في الكتاب العزيز، أو في السنة المباركة، فيلزم إطلاقه على ذاته امتثالاً للأمر الشرعي في كيفية إطلاقه عليه بحسب الأحوال والأوقات والتعبدات، إما وجوباً أو ندباً.

الثالث: ما يحكم العقل بجواز إطلاقه على الذات المقدسة، إلا أنه لم يذكر في الكتاب الكريم، ولا في السنة المباركة، مثل لفظ الجوهر، فإن أحد معانيه كون الشيء قائماً بذاته غير مفتقر إلى غيره، ولا ريب في أن هذا المعنى ثابت له تعالى، فيجوز تسميته به، والعقل لا يمنع من ذلك.

نعم إطلاقه عليه سبحانه خلاف الأدب الشرعي، لأنه وإن أجاز العقل إطلاقه، إلا أنه قد تكون هناك جهة أخرى لا نعلمها تمنع من صحة إطلاقه عليه[17].

وطبقاً لما ذكر، فلا ينبغي أن يعبد الله سبحانه، أو يدعى ويخاطب إلا بالأسماء التي وردت في القرآن الكريم، أو في النصوص المعصومية، ولا يخاطب بما لم يرد فيهما، حتى وإن صح إطلاقها عليه سبحانه، لأن التعبد بالنصوص الشرعية والتعبد بها أمر أكدته الشريعة في باب العبادات والدعاء، كما أن التأثير المرجو من الأسماء الإلهية لا يضمن حصوله من الأسماء التي لم ترد على لسان الوحي، فلاحظ.

حاجة الخلق لأسمائه الحسنى:

قد اتضح مما تقدم أن العبادات والدعاء الذين يمثلان العلاقة الرابطة بين العبد وربه، يحصلان بالأسماء الحسنى، فهل ذلك يعني وجود حاجة وافتقار عند الخلق إلى أسماء الله تعالى الحسنى، وحاجة إليها، أم لا؟.

لا يخفى أن النصوص المباركة قد تضمنت أن الخلق لا غنى لهم عن أسماء الله تعالى الحسنى، فهذا أبو عبد الله الصادق(ع) بعدما يتحدث عن أسمائه تعالى الحسنى، ويعرض لبيان التوحيد، يقول: فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها، وحجب واحداً منها، وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت[18].

وكيف كان، فيمكن ذكر أمور تبين وجه الحاجة إليها:

منها: أن أسمائه سبحانه وتعالى وسيلة لمعرفته سبحانه، لأنه لو لم يدع العبد باسمه لن يعرفه، فالأسماء تعرف به لدلالتها عليه، وتبين صفاته.

ولا يخفى أن معرفة الله تعالى من خلال أسمائه لن تكون رتبة واحدة، بل هي على مراتب، كما أشير لذلك في كلمات الإمام الخميني(قده) في تفسير آية البسملة[19].

ومن الطبيعي أن إحاطة العبد بتعدد مراتب معرفة الله سبحانه من خلال أسمائه يكون سبباً مشوقاً له إلى عدم الاكتفاء بما يصل إليه في مجالا لمعرفة، بل الطموح للوصول لمرتبة أعلى وأرفع، خصوصاً مع الالتفات إلى أن كل مرتبة من تلك المراتب لها آثارها العملية. ولعل من أفضل الوسائل لطي مراتب المعرفة الإلهية من خلال أسمائه المباركة إكثار التأمل والتدبر في نصوص وأدعية المعصومين(ع)، فإنها تنطوي على الكثير في هذا المجال.

ومنها: إن أسمائه الحسنى تمثل وسيلة للخلق لا غنى لهم عنها في مقام عبادته، فهي وسيلة بينهم وبينه يتضرعون بها إليه، ويعبدونه، وعبادته إنما تكون بذكره، ولا يكون ذكره من دون أسمائه. وهذا يعني أن معرفة الأسماء الحسنى يعتبر عنصراً أساسياً في العبادات، بل قد أشير في كلمات بعض العرفاء أن الوجه في عدم سقوط الصلاة بحال من الأحوال مع أن غيرها من العبادات تسقط في بعض الموارد، لأنها تمثل ثناؤه بجميع الأسماء والصفات[20]. وهذا يكشف أيضاً سر كونها عمود الدين.

ومنها: إن الطريق لتحقيق رغبات العباد وإجابة طلباتهم لا يكون إلا من خلال الأسماء الحسنى، فالمريض يحتاج إلى الشفاء، فبأي اسم يدعو الله تعالى، إن عليه أن يختار دعائه باسم الشافي، والفقير لا يدعوه إلا باسم الغني، والمظلوم يكون دعائه له باسم المنتقم الجبار، وهكذا.

وهذا يعني أن كل عبد يدعو ربه بلسان حاله، فما هو الذي يسعى له ويرغب في تحقيقه يمثل حاله الذي يلزمه أن يكون من خلاله دعائه لله تعالى.

دعوته بأسمائه الحسنى:

بعد ما تعرفنا على شيء مما له ارتباط بأسمائه تعالى الحسنى، لابد وأن نعود لما كان أصلاً للحديث والبحث، وهو دعوته سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى، وكيف يكون ذلك، فإن المستفاد من كلمات المفسرين آراء:

الأول: أن يكون المقصود من دعوته تعالى بأسمائه، هو تسميته بها[21]، فيجب على المؤمنين أن يسموه بالأسماء الحسنى لا بغيرها. ومن المعلوم أن المقصود من تسميته تعالى بها، جعلها وسيلة للاستدلال بها عليه، فتكون طريقاً لمعرفته سبحانه، والظاهر أن هذا التفسير سيكون شاملاً لنوعي أسمائه سبحانه، اللفظية والتكوينية، بل الظاهر كون التكوينية منها أقوى دلالة على معرفته تعالى من اللفظية.

الثاني: أن يقصد من دعوته مخاطبته بها لا بغيرها، فينادى سبحانه بها دون غيرها من الأسماء، فيقول المنادي: يا رحمان، يا رحيم[22].

ولا يذهب عليك أن المقصود من مخاطبته تبارك وتقدس، التوجه إليه وذكره، وذلك بالاستشفاع إليه سبحانه بأسمائه الحسنى، كما هو المستفاد من كثير من الأدعية التي تضمنت تعداد أسمائه الحسنى لتكون وسيلة لدعائه وذكره تحقيقاً للاستشفاع إليه. والظاهر شمول هذا القول لكلا القسمين من أسمائه تعالى.

الثالث: إن المراد من دعوته تعالى بأسمائه الحسنى، أي عبادته بوسيلة هذه الأسماء الحسنى، لا بغيرها. فيكون المقصود حينئذٍ اعبدوه مذعنين أنه متصف بما يدل عليه هذه الأسماء من الصفات الحسنة والمعاني الجميلة[23].

وكلنا يعلم أن العبادة خضوع له جلت قدرته بتجلي أسمائه على العابد، ولا ريب أن جوهرها هو ذكر الله الذي يتمثل بذكر أسمائه وصفاته التي تدل عليه.

الرابع: إن دعوته تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى تعني اللجوء إليه في الحاجات المختلفة لرفع النقص بالتوسل إليه بهذه الأسماء، والتقرب إليه بالاتصاف بها، وذلك بأن يسعى العبد الذي يدعوه بها إلى أن يصبح مظهراً لها[24].

وقد أشرنا في ما مضى إلى أن ذلك يكون من خلال دعوته تعالى في كل حاجة بالاسم المناسب لها، ليكون العبد متوجهاً إلى الله تعالى في مختلف شؤونه مستعيناً به لرفع كل نقص، ساعياً للكمال.

هذا والمستفاد من النصوص الشريفة خصوصاً التي وردت في تفسير الآية المباركة، أن المقصود من دعوته بأسمائه الحسنى لا ينحصر بواحد من المعاني المذكورة، بل يشملها جميعاً، وهذا يعني أن كل ما ذكر من تفسير ليس هو المقصود من دعوته بنحو الحصر، وإنما هو مصداق من مصاديق دعوته تعالى بأسمائه الحسنى. نعم يمكن القول بأن كل تفسير من التفسيرات المذكورة يمثل مرتبة من مراتب تحقق الاستجابة لهذا الأمر القرآني، وهذا يعني أن لدعوته سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى مراتب أربع، يمثل كل واحد من التفسيرات المتقدمة مرتبة منها، فأول التفسيرات هو المرتبة الأولى، والثاني ثانيها، والثالث ثالثها، ورابعها هي المرتبة الرابعة[25].

الإلحاد في أسمائه الحسنى:

وهذا هو الأمر الصريح الثاني الذي ورد في الآية الشريفة، ولعله قد اتضح من خلال عرض وبيان الأمر الأول فيها، وهو دعوته تعالى بأسمائه الحسنى، إلا أنه لا بأس بزيادة ذلك بياناً لما فيه من الفائدة، خصوصاً وقد ذكر في ذلك أقوالاً بين المفسرين:

منها: ما ذكره الزمخشري في كشافه، حيث ذكر محتملين في المقصود من الإلحاد في أسمائه الحسنى:

1- أن المقصود من ذلك هو ترك تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى، بأن يسموه بما لا يجوز عليه، أو يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى.

2-إن المقصود هو ترك الذين يلحدون في أوصافه فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر، وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها.

ومنها: ما أختاره المشهدي في كنـز الدقائق، من أن المقصود بذلك هو تسميتهم الأصنام آلهة واشتقاقهم اللات من الله، والعزى من العزى.

ثم ذكر قولاً آخر في المقصود منها، وهو أتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه ويصفونه بما يوهم معنى فاسداً، أو لا تبالوا بإنكارهم ما يسمي به نفسه، أو ذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها[26].

ومنها: ما جاء في تفسير ابن العربي، من أن المقصود بذلك هم الذين يطلبون هذه الصفات من غيره، ويضيفونها إليه، فيشركون به[27].

ومنها: ما في مجمع البحرين، من أن المقصود بذلك الذين يميلون في صفاته إلى غير ما وصف به نفسه فيدعون له الشريك، والصاحب والولد، يقال ألحد، ولحد، إذا حاد عن الطريق[28].

ومنها: ما ذكره السيد العلامة(ره) من أن المقصود من الإلحاد هو التطرف والميل عن الوسط إلى أحد الجانبين، ومعنى يلحدون في أسمائه، الذين يسمون غيره باسمه أو يسمونه باسم غيره، وهؤلاء أصحاب الضلال الذين مسيرهم إلى النار حسب حالهم في الضلال وطباقتهم منه[29].

ولا يخفى أن الأقوال التفسيرية التي ذكرناها، وغيرها مما لم نذكره مما قد يظفر به القارئ العزيز، تؤول إلى أن القصود من الإلحاد في أسمائه تعالى يكون من خلال الانحراف عن نهج الحق والصواب في التعامل مع أسمائه سبحانه، ومن المعلوم أن هذا الانحراف يؤدي إلى الشرك.

ولا يخفى أن المقصود من الانحراف في التأمل مع أسمائه يكون بوضعها في غير مواضعها، بتسمية غيره بها، وإطلاقها على غيره.

هذا وكما ذكرنا أن دعوته تعالى بأسمائه الحسنى لها مراتب، لا يبعد القول بأن الالحاد في أسمائه الحسنى له مراتب أيضا،فتدبر[30].

هذا وبقي أن يشار إلى الحديث عن أمور ثلاثة:

أولها: الآثار المترتبة على دعوته سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى، والتي من أجلها جاء الأمر الإلهي الصريح بدعوته بها.

الثاني: بيان الآثار المترتبة على الإلحاد في أسمائه الحسنى.

الثالث: الحديث شيئاً ما حول الاسم الأعظم.

إلا أن إطلاق العنان للحديث عن الأمور الثلاثة المذكورة يستوجب خروج المقام عما هو محدد له، وبلوغه ما لم يكن مقصوداً فيه، لذا نأمل أن نوفق للحديث عن ذلك في مجال آخر إن شاء الله تعالى.

[1] سورة الأعراف الآية رقم 180.

[2] بحار الأنوار ج 4 ص 209.

[3] بحار الأنوار ج 4 ص 211.

[4] الميزان ج 8 ص 357.

[5] الميزان ج 8 ص 356.

[6] مجلة الفكر الإسلامي العدد رقم 26 ص 36

[7] الفكر الإسلامي العدد 26 ص 63.

[8] أصول الكافي ج 1 ص 143.

[9] مجلة الفكر الإسلامي العدد 26 ص 62-69.

[10] الكشاف ج 2 ص 180.

[11] تفسير كنـز الدقائق وبحر الغرائب ج 5 ص 215.

[12] مجمع البحرين ص 43.

[13] مجلة الفكر الإسلامي العدد 26 ص 37(بتصرف)

[14] لاحظ الميزان ج 8 ص 358 بشيء من التصرف.

[15] مجلة الفكر الإسلامي العدد 26 ص 41.

[16] الميزان ج 8 ص 358-359.

[17] مجمع البحرين ص 43-44(بتصرف).

[18] بحار الأنوار ج 4 ص 166-167.

[19] تفسير آية البسملة ص 17-18.

[20] الأربعون حديثاً ص 433.

[21] الكشاف ج 2 ص 180، كنـز الدقائق ج 5 ص 251، وقد جعله السيد العلامة(ره) في الميزان عند تفسير الآية المباركة أحد المحتملات في المقصود منها، وإن لم يقبله، فلاحظ.

[22] أحتمله السيد الطباطبائي(ره) في بيان المقصود من الدعوة بالأسماء الحسنى، الميزان ج 8 ص 344.

[23] أختاره السيد العلامة(ره) في الميزان، فلاحظ المصدر السابق.

[24] تفسير ابن العربي ج 1 ص 459-460.

[25] مجلة الفكر الإسلامي العدد 26 ص 74-76(بتصرف)

[26] كنز الدقائق ج 5 ص 252.

[27] تفسير القرآن الكريم ج 1 ص 460.

[28] مجمع البحرين ص 216.

[29] الميزان ج 8 ص 342-345.

[30] مجلة الفكر الإسلامي العدد 26 ص 77-82(بتصرف).