18 أبريل,2024

الحكومة المهدوية والديمقراطية

اطبع المقالة اطبع المقالة

الحكومة المهدوية والديمقراطية

 

ذكر بعض الكتاب حال حديثه عن القضية المهدوية، أن الحكومة المهدوية، لن تخرج عن حالات:

الأولى: أنها لن تكون ذات جدوى في المجال السياسي، فلن تكون مصدراً لراحة الإنسان واستقراره.

الثانية: أنها سوف تؤدي إلى سفك الدماء، وخداع الناس، كما كان ذلك أيام الدولة الصفوية.

الثالثة: أنها تستلزم القول بالولاية المطلقة للفقيه.

الرابعة: أنها تؤدي إلى صناعة الأسلحة الإيديولوجية[1].

 

ولا يذهب عليك، أن الظاهر من المستشكل أخذه الديمقراطية أمراً مطلوباً لنفسه، وجعله الحرية هدفاً وغاية في نفسها، وليست وسيلة يمكن للإنسان أن يمارس خلالها ما يود ممارسته مما يكون محتاجاً إليه، بعدم سلبه حقوقه.

وتمامية الدعوى المذكورة تقوم على الوقوف على الأوضاع العامة التي سوف تكون في عصر الظهور المبارك، وأيام حكومة الإمام المهدي(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، حتى يتضح صدق ما ذكر، وعدمه.

ولا يخفى أن قيام الدولة المهدوية نتيجة حتمية لكونه(عج) الوارث الحقيقي لمن تقدمه من الأنبياء والأوصياء(ع).

 

الوراثة المهدوية:

إن المستفاد من النصوص الدينية، آيات وروايات، أن الإمام المهدي(عج)، هو وارث الأنبياء والأوصياء(ع)، بل إن هذا ما تقضي به الفطرة السليمة، ويدل عليه العقل أيضاً.

وهذه الوراثة مادية ومعنوية، فهو يرث الأرض بما فيها من الخيرات والبركات، فيحكمها وينشر العدل فيها بعدما ملئت ظلماً وجوراً، كما أنه يرث علوم الأنبياء والأوصياء(ع).

وقد أوجب هذا أن تكون مهمته(ع) هي الهداية في رتبتها العليا، وهي الإيصال إلى المطلوب، فهو(عج)، يوصل الخلق كله إلى كماله وهدفه الإلهي في الوجود، فليست هدايته لهم من باب إراءة الطريق، أو الحث والتشويق، كما كان ذلك في الحجج الإلهية السابقين عليه(ع)، بل هدايته من باب التحقيق والتطبيق.

وهذه سمة يمتاز بها(بأبي وأمي) على سائر الأنبياء والأوصياء(ع)، لأنهم كانوا مكلفين بالظاهر، وينفذون الأوامر الإلهية حسب معادلات الأسباب والمسببات والامتحان الإلهي الأعم من مطابقة الواقع. أما هو(روحي فداه)، فإنه ينفذ الأمر الإلهي والإرادة الإلهية بحسب الواقع.

 

ومما يشير لوراثته(ع) للأرض، قوله تعالى:- (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)[2]، وهي كما تدل على ثبوت الوراثة للأرض، فإنها تدل أيضاً على نوعية الحكومة التي سوف تقام عليها، ويستفاد ذلك من خلال لفظة الزبور المذكورة في الآية الشريفة، فإن للمفسرين فيها قولين:

 

الأول: أن المقصود منه معناه اللغوي، وهو يعني كل كتاب أو مقال.

الثاني: أن يكون التعبير بالزبور تعبيراً كنائياً، وليس تعبيراً حقيقياً، وهو يشير إلى كل كتاب سماوي كان لواحد من الأنبياء(ع)، وأشير إليه في بعض النصوص.

ووفقاً للمعنى الثاني، سوف تكون وراثة المصلح الغيبي للأرض من القوانين السماوية التي تضمنته كتب الأنبياء(ع)، بل يمكن البناء على ذلك أيضاً وفق القول الأول، بناء على أن الكتاب يشمل جميع كتبهم(ع).

وأما نوعية الحكومة التي سوف تكون للوارث للأرض، فيمكن معرفتها من خلال التعبير بالزبور في الآية الشريفة، فإنه يشير إلى كتاب نبي الله داوود(ع)، والغاية من ذلك الإشارة إلى نوعية حكومة داوود(ع)، وأنها نفس الحكومة التي سوف تكون للمصلح الذي يكون في آخر الزمان وهو الإمام المنتظر(روحي لتراب حافر جواده الفداء). وقد اتصفت حكومة نبي الله داوود(ع) بصفات:

منها: أنها حكومة إلهية، تحكم بما أراه الله سبحانه وتعالى.

ومنها: أن قانونها لم يكن قانوناً أرضياً، ولم يكن متضمناً لشيء يخالف الواقع، فهو لم يستند لشريعة محرفة.

ونفس هذه الصفات سوف تكون ثابتة في الحكومة المهدوية، لأنها حكومة إلهية، يحكم صاحبها بما أراه الله سبحانه وتعالى، لا يطلب البينة، كما ورد ذلك عن الإمام العسكري(ع)، وهذا يعني أن الأحكام الصادرة عنه(بأبي وأمي) تكون أحكاما واقعية مطابقة للوح الواقع.

 

ومقتضى ما تقدم، أن تكون الوراثة المهدوية وفقاً للآية الشريفة غير منحصرة في الوراثة المادية، بل سوف تكون متضمنة الوراثة المعنوية أيضاً، فإنه سوف يرث الحكم والعلم معاً، بملاحظة مناسبات الحكم والموضوع، والقرائن المقامية، وعليه سوف تكون الآية الشريفة دالة على أمرين:

أحدهما: سعة مفهوم الوراثة المهدوية للأرض، لتشمل الحكم والعلم.

ثانيهما: أن الخلافة المهدوية لله سبحانه وتعالى في الأرض، خلافة جعلية إلهية، نظير خلافة نبي الله داوود(ع)، فلا دخل للبشر فيها، من خلال استعمال القوة، ولا من خلال الانتخاب والاختيار.

ومقتضى أنه(ع) يحكم بالواقع كما كان نبي الله داوود، يستدعي أن تكون عنده الأمور التي كانت عند نبي الله داوود(ع)، ولهذا سوف يسخر الله سبحانه وتعالى له الكون فيلين له الحديد، كما أنه سيكون عارفاً بمنطق الطير، وغير ذلك من الكرامات الإلهية.

 

وسائل الوراثة المهدوية:

ولا ريب أنه لن يتسنى للإمام(ع) السيطرة على الكون وتحقيق الوراثة المهدوية، إلا من خلال وسائل سوف يزوده الله سبحانه بها، كما سمعت، وأهم ما يعطاه أمران:

الأول: العلم:

فإن الله سبحانه وتعالى قد خصه بعلوم ومعارف، تفوق طاقات البشر وقدراتهم، فتفتح له الخزائن، ليربي بها البشر ويرتقي بها إلى الكمال، وهذا بنفسه يكون دليلاً تاماً على صدقه(عج) وحجيته على الخلق.

ويتضح تفوقه(روحي لتراب حافر جواده الفداء) فيما عنده من العلم على بقية العنصر البشري من خلال ملاحظة الأمور التالية:

الأول: قصور الإنسان البشري عن بلوغ أسرار الوجود وطاقاته وقوانينه، فهو مهما بلغ من علم نظري أو عملي أو تجريبي، لا يخرج عن كونه قطرة في بحر المعرفة، وهذا ما يقرره جميع أهل العلم والمعرفة من أن ما يجهله الإنسان عن الوجود أكثر مما يعرفه ويعلمه، وكلما تطور العلم وأبدع لم يزال العلماء في مراحل العلم الأولى، ولذا نجد مجئ نظرية جديدة في كل يوم تخطئ النظرية السابقة عليها، هكذا.

الثاني: إن من المسلمات حصول الإنسان على العلم والمعرفة التي بنى عليهما حضارته الحديثة وفتح عينه وقلبه وعقله على الكثير من الحقائق المعرفية، وقد توصل الإنسان لذلك عبر تدخل الإرادة الإلهية في تعليمه من خلال الأنبياء والأولياء والإلهامات الربانية.

 

وكل ما وصل إليه الإنسان في مجال العلم، لا يساوي شيئاً قبال العلوم المودعة عند المعصومين(ع)، فهي نقطة صغيرة في بحر علومهم(ع)، ولم يظهر أهل البيت(ع) ما عندهم من علوم لما اقتضته المصلحة والحكمة، وهذه العلوم مذخرة عند ولي النعمة(عج)، يظهرها في آخر الزمان، ويعلّم البشر ويرتقي بهم إلى الكمالات الإلهية، ويشير إلى هذا قول الإمام أبي عبد الله الصادق(ع): العلم سبعة وعشرن حرفاً فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثها في الناس وضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة وعشرين حرفاً[3].

 

أسباب عدم إظهارهم المعصومين علومهم:

وقد يبرر عدم ظهور هذه العلوم إلا في عصر الإمام المنتظر(روح لتراب حافر جواده الفداء)، بوجهين:

أحدهما: قصور القابل، فقد كان البشر قبل عصره(عج) محدودين قاصرين لا يتحملون ثقل العلوم والمعارف الواقعية، فيكون إظهارها للناس موجباً لاتهام الأنبياء والأئمة في دينهم، أو المغالاة بهم، أو تعريض البشر للكفر والجحود، وهذا يتنافى والغرض والحكمة الإلهية.

ثانيهما: امتحان البشر في عالم الدنيا، فإن التمايز كما هو معلوم بين الأفراد يكون حسب العمل والجهد، فلو أظهر سبحانه وتعالى سائر العلوم والمعارف، لبطلت سنة الامتحان.

وقد يذكر من أسباب ذلك أيضاً ما قيل بملاحظة وظيفة المعصومين(ع) قبل الظهور المبارك، فقد كان الأنبياء والأوصياء(ع) مكلفين بهداية الخلق إلى التوحيد، وتعليم الشرائع، وإقامة الحجة لهم وعليهم، فهم مكلفون بالظواهر لا بالواقعيات، ومن المعلوم أن الظواهر محكومة بالقيود المادية الدنيوية، تابعة للأسباب والمسببات، وربما يبرر هذا عدم قيام جملة منهم بإقامة حكومات، وإنشاء دول، مع أنهم لو أرادوا ذلك لاستطاعوا، لكنها لم تكن وظيفتهم، لما عرفت من أنهم كانوا مكلفين بالأمور الظاهرية.

ويختلف الحال في عصر الظهور المبارك، فإنه سوف يرتفع قصور القابل، كما أنه يتعامل وفق الأمور الواقعية وليس الظاهرية، فلا تبقى حاجة عندها للامتحان والاختبار للعنصر البشري.

الثالث: إن الحضارة البشرية الحقيقية لا تحصل إلا في عصر الإمام صاحب الزمان(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، لأن عصر الظهور يمثل مرحلة سامية من مراحل التطور الانساني، ويتسم بالرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي، وهذا يعني أن الحضارة ليست هدفاً بذاتها، وإنما تلحظ بما هي عنصر كاشف عن كمال الانسان ورقيه.

ومن خلال ما تقدم، يتضح أن هناك امتيازاً سوف يتسم به زمان الإمام المهدي(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وعصره، وأن دولته المباركة سوف تكون متضمنة أموراً لم تكن موجودة ولا معروفة في أيام من سبقه من الأنبياء والأئمة(ع)، وهذه الامتيازات تختص به(عج)، ويؤيد هذا المعنى ما تضمنته بعض النصوص من تأويل قوله تعالى:- (والنهار إذا جلاها)[4]، به(بأبي هو وأمي)، فعن أبي عبد الله(ع) –في حديث-قال: سألته عن قول الله عز وجل:- (والشمس وضحاها)-إلى أن قال-(والنهار إذا جلاها)، قال: ذلك الإمام من ذرية فاطمة(ع) يسأل عن دين رسول الله(ص) فيجليه لمن سأله فحكى الله عز وجل قوله فقال:- (والنهار إذا جلاها)[5]. وهذا يتناسب وبعض النصوص التي تضمنت أنه(عج) يأتي بدين جديد، فإن ما وقع على الرسالة المحمدية من التضيـيع، يعمد هو(ع) إلى رفع ذلك عنها، وهذا يجعلا لناس يعتقدون أنه جاء بشيء لم يكن موجوداً من قبل.

 

الثاني: القـــدرة:

فإنه(عج) يتصرف وفق مقتضى ولايته الكلية على الكون فيسخر الأشياء فتطيعه. ومع أن الولاية التكوينية كانت موجودة عند من سبقه من المعصومين(ع)، إلا أنهم لم يعملوها إلا في موارد استثنائية، وعند الحاجة والضرورة. أما في عصره(روحي فداه)، فإن إعمال ولايته الكلية يمثل أصلاً موضوعياً، لحكم العقل بضرورية التسخير، فإن الكون مخلوق للإنسان لأنه أشرف مخلوق فيه، ولا يمكن للإنسان أن يستفيد منه دون تسخيره. ولا يكون التسخير الكامل إلا في وقت ظهوره(ع)، لأن الغاية الأصلية وهي بلوغ الإنسان مرتبة الكمال وتطابقه مع السنن الإلهية لن يكون إلا في عصره.

ومن المعلوم أن الكون يشتمل على حقائق مادية معنوية غيبية، وقد تمكن الإنسان وفق ما عنده من علم وعمل أن يصل إلى بعض الحقائق المادية، فحسّن حياته إلى الأفضل صناعياً وزراعياً، وصنع لنفسه حضارة مادية ظاهرة. لكنه لم يصل لشيء من الحقائق المعنوية الغيبية، لأنه يحتاج دليلاً متصلاً بالغيب، ومطلعاً على الأسرار، وهذا هو ولي النعمة مولانا صاحب الأمر(روحي لتراب حافر جواده الفداء). كما أن الإنسان يحتاج الإحاطة ببقية الأمور المادية التي لم يتمكن من الوصول إليها. وهذا يؤكد مدى الحاجة إلى هذا المصلح الغيبي الذي يظهر في آخر الزمان.

وقد تضمنت النصوص الحديث عن هذه القدرة التي تكون له من السيطرة على الكون، وتصرفه فيه، فعن سورة عن أبي جعفر(ع) قال: أما إن ذا القرنين قد خير السحابين فاختار الذلول وذخر لصاحبكم الصعب. قال: قلت: وما الصعب؟ قال: ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة أو برق فصاحبكم يركبه. أما إنه سيركب السحاب ويرقى في الأسباب أسباب السماوات السبع والأرضين السبع[6].

وقد يعد من مصاديق هذا التسخير ما تضمنته بعض النصوص مثل ما ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: وتزول بعد ذلك كل عاهة عن معتقدي الحق من شيعة المهدي[7]. وجاء أيضاً في الحديث عن أصحابه(روحي فداه): تطوى لهم الأرض، ويذلل لهم كل صعب[8].

وجاء عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: إن أصحاب القائم شباب لا كهول فيهم إلا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد[9].

وعن أبي جعفر(ع) قال: أنه لو كان ذلك-الظهور المبارك-أعطي الرجل منكم قوة أربعين رجلاً، وجعلت قلوبكم كزبر الحديد لو قذفتم بها الجبال فلقتها[10].

ويمكن تفسير هذه النصوص بما يكون منسجماً تماماً مع تسخير الكون له وتحت أمره، فيذكر لذلك محتملات:

منها: أن يكون منشأ ذلك هو نفس وجوده الشريف، لأنه أمان لأهل الأرض، وبه يرفع الله تعالى كل بلاء.

ومنها: أن يكون ذلك ناجماً من الحالة الطبيعية الراجعة للتطور في مجال العلم والمعرفة، كما سمعت قبل قليل، فيكون ذلك سبباً لعلاج كافة الأمراض، وعلاج الشيخوخة، ودفع حصولها، وهكذا. وهذا يعني أنه(عج) لا يستخدم الأمور الخارقة للعادة، ولا يعتمد على طاقته الروحانية، وإنما يكون ذلك من خلال الاعتماد على الحروف السبعة والعشرين الموجودة عنده، والتي يفتح من خلالها أبوباً جديدة للعلم والمعرفة.

ومنها: أن يكون ذلك أحد الآثار الوضعية التكوينية للعقيدة الحقة التي يتبعها الإنسان المؤمن، ولما كان عصره(بأبي وأمي) هو عصر الواقعيات فتنجلي البصائر والأبصار وتنكشف الحقائق، فيقف كل واحد على الأمور بحقيقتها، تكون هذه النتائج، وهذا نظير ما ورد في قوله تعالى:- (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء)[11]، لدلالتها على أن هناك مفاتيح للسماء لا يمكن للإنسان أن يحصل عليها دون المعرفة والدين.

وهذه المحتملات الثلاثة يمكن جعلها بياناً أيضاً لجملة من النصوص التي تضمنت أنه في عصر ظهوره المبارك(روحي فداه)، تظهر البركات وتعم الخيرات.

ولا يعتبر تسخير الكون بما فيه من وجودات لولي النعمة(عج) شيئاً مستنكراً، أو جديداً، بل قد أشير إليه في القرآن الكريم، في حديثه سبحانه وتعالى عن نبي الله سليمان(ع)، قال تعالى:- (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون)[12]، وقوله تعالى:- (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر)[13]، وقوله عز من قائل:- (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب)[14]. وعند المقارنة، فإن كل ما تحقق لنبي الله سليمان(ع) لا يعد شيئاً بالنسبة لما سيكون للمولى ولي النعمة(روحي فداه)، لما له(بأبي وأمي) من الامتيازات الخاصة، من الأشرفية، والسعة في الرسالة العالمية، والتفوق العلمي لامتلاكه سبعة وعشرون حرفاً في مقابل حرفين كانت عند سليمان(ع)، وغير ذلك[15].

وقد تحصل مما تقدم، أن المجتمع المهدوي، والذي سيكون موضوعاً للحكومة المهدوية يختلف عن بقية المجتمعات الأخرى، وأن فيه امتيازات لم توجد في غيره من المجتمعات، بل تعد من خصوصياته، وأن أحد أسباب هذه الخصوصية هو الوجود الشريف لولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وعند الإحاطة بهذا المعنى، يتضح أنه لا حاجة لما أورده صاحب الإشكال الذي أشير إليه في مطلع الحديث، ذلك أن المجتمع الذي يكون بهذه الكيفية، لا يتصور فيه خلوه من العدالة، والحرية، فضلاً عن الديمقراطية، بعد البناء على كون الديمقراطية مطلوبة لنفسها، إذ غايتها إعطاء الإنسان حريته في اتخاذ مصيره، ومن سوف يكون محتاجاً إلى تحديد المصير في مجتمع كله خيره وبركة؟!.

وحتى يتضح ما ذكرنا، نحتاج ذكر بعض الامتيازات التي تضمنتها النصوص للمجتمع المهدوي، ومنه يتضح أن الكاتب المذكور، لم يكلف نفسه ملاحظة هذه الأمور ليقف على عدم ورود إشكاله الذي ذكرناه.

 

خصائص المجتمع المهدوي:

لقد اشتملت النصوص الصادرة عن المعصومين(ع) ذكراً لمجموعة من الخصائص التي يمتاز بها المجتمع المهدوي، لولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، على بقية المجتمعات التي سبقته، كما يمكن استحصال جملة من الامتيازات والسمات الأخرى من خلال التأمل في الخصائص التي أعطيها(عج)، وعلى رأسها تسخير الكون وما فيه لأمره، وخضوعه لقدرته(بأبي وأمي)، فإن هذا يستدعي أن يكون هذا المجتمع مختلفاً عن بقية المجتمعات الأخرى.

وكيف ما كان، فلنشر لشيء من تلك الخصوصيات التي سوف تكون لهذا المجتمع المبارك:

 

منها: نمو الحالة الاقتصادية عند الناس:

وحصول الرخاء عندهم في الجانب المادي، فعن رسول الله(ص) أنه قال في حديثه عن المهدي(عج): فيجيئ الرجل، فيقول: يا مهدي أعطني فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله[16]. وفي حديث عن أبي جعفر(ع) أنه قال: فيعطي عطاء لم يعطه أحد قبله[17]. والمستفاد من هذين النصين وغيرهما بيان الحالة الاقتصادية التي سيكون عليها المجتمع المهدوي، وحالة الازدهار المالي الذي ستكون فيه، بحيث أنه لا يوجد فيه فقير، بل ينادى على الصدقات والزكوات، فلا يوجد من يأتي لأخذها. ويساعد على هذا المعنى أيضاً النصوص التي تضمنت أنه متى ظهر(بأبي وأمي)، فإن الأرض سوف تخرج لها خيراتها وبركاتها، فعن رسول الله(ص) أنه قال: إن المهدي من عترتي من أهل بيتي يخرج في آخر الزمان تنـزل له السماء قطرها وتخرج له الأرض بذرها فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً  كما ملأها القوم ظلماً وجوراً[18].

 

ومنها: كمال العقل البشري عند الناس:

كما أشير لذلك في ما تقدم، سواء كان ذلك نتيجة القدرة المعطاة لولي النعمة(عج)، أم لما لديه من علم، جراء وجود الحروف السبعة والعشرين عنده، ما يوجب تطبيق العدالة الفردية والاجتماعية، فيمتنع الإنسان تلقائياً من ارتكاب الذنوب والمعاصي والخطايا، وتسود العدالة الاجتماعية مختلف أصناف الناس وطبقاتهم.

 

ومنها: تطبيق القيم الأخلاق:

بل سمو الجانب المعنوي في مجتمعه، وعصره(عج)، فيتصف الناس بالأخلاق السامية، ويكون المجتمع بعيداً عن الأمراض الأخلاقية من الأحقاد والبغضاء والعداوات.

ومنها: استتباب الأمن والسلام والاستقرار بين أفراد المجتمع:

ومع أن هذا يعدّ من أجلى مصاديق العدالة والقسط الذي سوف يملأ به الأرض بعد ظهوره المبارك، إلا أنه قد أشير إليه في بعض النصوص بصورة كنائية، إذ عبر عنه بسفر الطاعنين في السن في الليالي البهيمة لمسافات طويلة دون أن يتعرض إليهم أحد.

كما أنه سوف تنتهي في حكومته المباركة(عج) كافة الحروب، ليحل محلها السلام، ويعيش الناس في صلح واستقرار.

 

ومنها: رضا الشعب، وقبولهم:

فلا يكون عندهم أي اعتراض أو سخط على الحاكم ولا على حكومته، وهذا أحد مميزات تلك الدولة المباركة، فقد جاء عن رسول الله(ص) أنه قال: يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض[19].

وقال(ص) أيضاً: ابشركم بالمهدي، يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلزال يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً وظلماً يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض[20].

ومنها: الصحة والسلامة:

فتختفي في حكومته المباركة الأمراض، وتعالج العاهات، وتنتشر الصحة والسلامة بين الأفراد، وقد سمعت بعض النصوص في ما تقدم.

ولا تنحصر الامتيازات في خصوص ما ذكرنا، بل يمكن لمن يتأمل النصوص الشريفة وكلمات الأعلام الذين عرضوا للحديث عن الصورة الناصعة للدولة المهدوية، أن يقف على غيرها.

ويتحصل مما تقدم، أن المجتمع المهدوي مجتمع نموذجي، يختلف عن سائر المجتمعات الأخرى، ومن الطبيعي أن أي مجتمع يكون بهذه الكيفية، لن يكون مورد رفض أو امتعاض واعتراض من أفراده، فكيف يقال بعد ذلك، أنه مجتمع يفتقر للعدالة، أو يخلو من الحرية.

 

الديمقراطية هدف وليس غاية:

ومع أنه قد اتضح من خلال ما تقدم، عدم الحاجة للوقوف عند هذا الجانب، والحديث عن مسألة الديمقراطية، خصوصاً على ما هو الصحيح من أن الديمقراطية ليست مطلوبة لنفسها، وإنما هي غاية يسعى من خلالها لأن يحصل الإنسان على حقوقه، ويكفل له حريته، وقدرته على التعبير عن رأيه، وقد عرفت عند الحديث عن الخصائص التي للدولة المهدوية، توفر هذه الأمور فلا حاجة لها بعد ذلك.

ومع أنه يكفي لرفع اليد عن هذه الدعوى، الإشارة إلى أنه إذا كانت الديمقراطية تكفل الاستقرار والسعادة للناس في ظل حكومة غير المعصوم، والتي تستند للأحكام الوضعية التي تكون مشرعة وفق بعض الأنظار القابلة للخطأ، والتي لا تكفل للإنسان السعادة الدائمة، لأنها قد تنطلق من بعض الأهواء والمصالح، فكيف لا يتحقق ذلك في دولة المعصوم(ع)، والذي تطبق فيها شريعة السماء كما أرادها الله سبحانه وتعالى، وتكون الأمور كلها على وفق الواقع، وأحكامها قد جعلها من خلق الإنسان وهو محيط ومطلع على كل ما فيه من غرائز وشهوات، وقد جعل هذه التشريعات منسجمة مع ذلك كله.

ولو كان تصور القائل بهذه المقالة أنه سوف يلغى وجود الأقليات من أصحاب الديانات الأخرى، وسوف يجبرون على الإسلام، فقد أجابت النصوص عن ذلك، وقد تضمنت أنه(عج)، يكفل لهم حقوقهم، وفق ما أراده الله سبحانه وتعالى، ولن يكون هناك أي ظلم أو تعدي عليهم أبداً[21].

 

[1] الكاتب الإيراني الدكتور سروش.

[2] سورة الآية رقم

[3]

[4] سورة الشمس الآية رقم 3.

[5] الكافي ج 8 ح 12 ص 43.

[6] بحار الأنوار ج 52 ح 27 ص 321.

[7] الإرشاد ج 2 ص 370.

[8] عصر الظهور ص 273.

[9] معجم أحاديث المهدي ج 3 ص 102 رقم 644.

[10] مكيال المكارم ج 2 ص 504.

[11] سورة الأعراف الآية رقم 40.

[12] سورة النمل الآية رقم 17.

[13] سورة سبأ الآية رقم 12.

[14] سورة ص الآية رقم 36.

[15] الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج 6 ص 231-258(بتصرف).

[16] بحار الأنوار ج 51 ص 104.

[17] المصدر السابق ج 52 باب سيره وأخلاقه وخصائص زمانه ح 212 ص 391.

[18] بحار الأنوار ج 51 باب ما ورد من الأخبار بالقائم(ع) ح 25 ص 74.

[19] بحار الأنوار ج 51 باب ما ورد من الأخبار بالقائم(ع) ح 39 ص 104.

[20] المصدر السابق ح 24 ص 74.

[21] أجوبة الشبهات الكلامية ج 4 الإمامة ص 145-150(بتصرف).